• إسرائيل من قوة الردع إلى صراع البقاء

    إسرائيل من قوة الردع إلى صراع البقاء
    بالرغم من الغموض الذى يكتنف عملية أم الرشراش (إيلات) الأخيرة إلا أنها تعد معركة فاصلة فى عمر الدولة الصهيونية القصير. رغم أن الجهة التى تقف وراء هذه العملية مازالت مجهولة وبالرغم من أن العملية لم تلق الترحيب المعهود كعمليات المقاومة الأخرى إلا أن النتائج السياسية للعملية مذهلة. وصدق على ذلك تصريح موفاز من حزب كاديما المعارض إن إسرائيل هى من طلبت التهدئة مع الفصائل وأكدت الأمر أيضا صحيفة هاآرتس فى تغطيتها لإجتماع المجلس الوزارى. فإسرائيل إضطرت لأن تكون هى من تسعى للتهدئة مدفوعة بإيقاف تدهور العلاقات مع مصر أكثر من ذلك.هذه العملية التى جاءت بعد سقوط الأنظمة العربية قد دشنت مرحلة جديدة من عمر الدولة الصهيونية "صراع البقاء".
    منذ إعلان ولادة الدولة الصهيونية فى العام 1948 والدولة الصهيونية تمر بعدة مراحل يمكن تصنيفها كالتالى:
    مرحلة الإعلان والإعتراف : بدأت هذه المرحلة بصدور وعد بلفور للإعتراف بالوطن القومى لليهود. إتسمت هذه المرحلة بالإرهاب الدموى اللامحدود من قتل وطرد وتشريد للفلسطينين والإستيلاء على الأراضى. حتى تكللت الجهود بإصدار الأمم المتحدة لقرار التقسيم وبعدها تم إعلان دولة إسرائيل والإعتراف بها.
    مرحلة التوسع والإنتصارات : بعد الإنتصار فى حرب ال 48 إكتسبت دولة إسرائيل ثقة بالنفس وإنشغلت فى بناء جيش قوى وتثبيت دعائم الدولة. ثم واتتها الفرصة الذهبية للتحالف مع بريطانيا العظمى فى ذلك الوقت و فرنسا للمشاركة فى حرب ال 1956. فقد فازت بدعم تسليحى ضخم من بريطانيا وفرنسا للمشاركة فى الحرب. ولم تفوت الدولة الصهيونية هذه الفرصة للحصول على المفاعل النووى الشهير. وإنتهت الحرب بالإنسحاب المهين لإنجلترا وفرنسا تحت الضغط الأمريكى قبل السوفياتى وخروج عبدالناصر بهزيمة مخزية بعد الإستيلاء على سيناء بالكامل. إلا أن إسرائيل خرجت أفضلها على الإطلاق المفاعل النووى فى ديمونة.
    مرحلة قمة القوة و بقاء الدولة : وصلت إسرائيل لقمة القوة فى العام 1967 بعد تفوقها الساحق على دول الجوار جميعا وغنمت أراضى تعادل ثلاث مرات ماغنمته فى حرب ال 1948. بالرغم من التفوق الساحق إلا أن إسرائيل لم تبنى قوة ردع فى ذلك الوقت بل عملت جيوش مصر وسوريا ليل نهار للإستعداد للحرب القادمة. وواصلت مصر الحرب ضد إسرائيل فيما سميت بحرب الإستنزاف حتى تكللت بالنجاح بالتوقيع على معاهدة روجرز وزير الخارجية الأمريكى فى ذلك الوقت.
    مرحلة الهزيمة وبداية الإنكماش : كانت اللحظة الحاسمة وبداية الهزائم للدولة الصهيونية مع حرب 1973 التى حقق فيها الجيش المصرى نجاحا ساحقا وأذاق الإسرائيلين مرارة الهزيمة. خلفت هذه الحرب فى الوعى الجمعى الإسرائيلى والصهيونى إحساس بالهزيمة لم تنقضى مرارته إلى اليوم. وساهمت أيضا فى إفاقتهم من سمادير الحلم الصهيونى ولو مؤقتا على الأقل بنتيجة مفادها صعوبة التوسع غربا للوصول لمياه النيل. وبدأ التفكير فى طرق أخرى غير عسكرية لتثبيت الدولة وتحقيق التفوق. فتوجت هذه الإستراتيجية بتوقيع السادات على معاهدة السلام وإخراج مصر من الصراع.
    مرحلة قوة الردع وإختراق العرب : بداية هذه المرحلة هى ضرب المفاعل النووى العراقى ثم بعدها مباشرة الإجتياح الإسرائيلى للبنان الذى تم بذريعة الإنتقام للإعتداء على السفير الإسرائيلى فى لندن فى ذلك الوقت. فإنطلقت إسرائيل فى لبنان حتى وصلت إلى أول عاصمة عربية ووقفت مصر مكتوفة الأيدى بمعاهدة السلام ووقف العرب عاجزون بدون مصر وتواطئت سوريا بالحياد السلبى. حققت إسرائيل الكثير من هذه الحرب فردعت الفصائل الفلسطينية من المساس بأى من بعثاتها فى الخارج وتخلصت من التواجد الفلسطينى المسلح فى لبنان .
    ثم جاءت الفرصة الذهبية للدولة الصهيونية حرب العراق وتبعتها إتفاقية أوسلو التى عطلت المقاطعة العربية وهرولت الدول العربية لتطبيع العلاقات وتبادل البعثات الديبلوماسية.ووصل التعاون المخابراتى مع كافة الدول العربية حتى الخليجية منها إلى قمته أثناء ماسمى بالحرب على الإرهاب. وتسابقت الدول العربية فى تقديم المبادرات حتى وصلت إلى ذروتها فى المبادرة السعودية التى تبنتها الدول العربية بعد ذلك. وساعدت مايوصف بدول الإعتدال ببناء قوة الردع الإسرائيلية والخضوع إلى الإملاءات الأمريكية المجحفة. وتسابقت المشاريع التى تكرس الإندماج الإسرائيلى فى المنطقة.
    مرحلة تآكل قوة الردع والإنكماش: فى تقاطع مع مرحلة بناء قوة الردع بدأت مرحلة جديدة للصراع وهى مرحلة تآكل قوة الردع والإنكماش. بدأت هذه المرحلة بالإنسحاب الإسرائيلى الذاتى تحت ضربات حزب الله الموجعة بدون معاهدة سلام. ثم الإنسحاب الذاتى الثانى من غزة. وهذان الإنسحابان مثلا أيضا هزيمة للمشروع الصهيونى التوسعى لأن الدولة باتت غير قادرة حتى على الحفاظ حتى على الأراضى التى غنمتها. ثم تآكلت أغلب قوة الردع الإسرائيلى بعد العجز عن إختراق الجنوب اللبنانى رغم الدعم الأمريكى وأيضا العربى اللامسبوق. ثم جاءت بعدها حرب الفرقان أو ماسمته إسرائيل بالرصاص المصبوب لتكرس العجز الإسرائيلى فى إنجاز النصر وفرض الإرادة فأتى على البقية الباقية من قوة الردع.
    المرحلة الحالية "صراع البقاء" : بدأت هذه المرحلة رسميا بعد نفاذ الكنز الإستراتيجى الإسرائيلى بخلع مبارك. أفاقت إسرائيل على واقع جديد فلن تجد من يغطى على جرائمها فلم تعد تفكر بشن حرب على غزة أو حتى تهدد إيران. فرياح التغيير التى تعصف بالكنوز الإسرائيلية تجوب المنطقة من حولها كأنها فى قلب دوامة مياه. حتى نظام الأسد صاحب كذبة الصمود سحب جيشه من الحدود الإسرائيلية لإجتياح المدن السورية وتحصين الحدود التركية.
    فالطعنة هذه المرة جاءت من الحدود المصرية الآمنة التى لم تتكلف إسرائيل عناء حمايتها بنفسها طوال ال 30 سنة الماضية. وللعلم فقط لم تقصر القوات المصرية على الحدود فى واجبها. لكن العملية مخطط لها جيدا ومركبة وفى أكثر من مكان. وإختراق حدود بطول 250 كم ليس بالأمر الصعب هذا مع إفتراض أن القوة المهاجمة جاءت من الحدود المصرية.
    أصعب مافى الموضوع على إسرائيل هو رد الفعل الشعبى الضخم والمستمر والذى حاول أن يجاريه الرد الحكومى الرسمى ثم تم فرملته فى آخر لحظة. إستيقظت إسرائيل على كابوس ممارساتها المهينة فى حق قادة ماسمى بدول الإعتدال فلم تقدم لهم ورقة توت ليستروا بها سوءاتهم. وأتت الثورة الشعبية على ماسمى أيضا بدول الصمود. فطوال هذه السنوات لم تحاول مد التطبيع للمستوى الشعبى إعتمادا على قمع الأنظمة العربية لشعوبها. فخسر عَرابى التطبيع معركتهم. بل إتخذت الشعوب العداء لإسرائيل كسلاح فى معركتها مع النظام. حتى وصل الأمر بعد الثورة إلى التراجع عن تعيين وزير لمجرد إجراء مقابلة مع مندوب شركة إسرائيلية. فكيف سيكون حال العلاقة مع وزراء فى حكومة منتخبة مدعومة بإسلاميين؟
    لكن قمة الذل الإسرائيلى هى التوصل إلى هدنة مع الفصائل الفلسطينية فى فترة قصيرة جدا وتخلى إسرائيل عن أمرين كانت تصر عليهما دائما فى جميع إتفاقيات الهدنة غير المباشرة :
    · أولا : أن لاتعترف بأن هناك إتفاق هدنة بمعنى تخرج تصريحات تقول نحن لم نتفق مع أحد وإذا إختارت الفصائل وقف إطلاق النار فهذا شأنهم. طبعا كان الوزير السابق عمر سليمان كان هو من ينتزع التهدئة المطلوبة بأقل خسائر إسرائيلية
    · ثانيا : كان لابد أن تكون صاحبة آخر عملية عسكرية قبل الإتفاق وأول عملية بعد الإتفاق
    حتى الآن يجد القادة الإسرائيليون صعوبة فى تخيل شكل المنطقة حين تأتى حكومة منتخبة فى مصر مدعومة من الإسلاميين. وبعدها بقليل سيكون هناك أخرى مماثلة فى سوريا والتوقعات تشير إلى أن الأردن لن يتخلف عن السباق. ستصبع إسرائيل محاصرة بمنطقة طاردة لها. فإسرائيل التى تعودت على التعامل مع أمثال مبارك والأسد والقذافى وبن على لن تستطيع التعامل مع أنظمة وطنية منتخبة همها الأول مصالح شعوبها وأحلامهم. بل مدعومين بمن يؤمن بأن الدولة الفلسطينية من البحر إلى النهر ولامكان على الخريطة للدولة الصهيونية. ومن نافلة القول أن المبادرة العربية لم تعد مطروحة على الطاولة وحتى الأنظمة التى لم تسقط بعد ستتمرد على الضغوط الأمريكية مخافة إثارة شعوبها.
    إنهم يدركون جيدا أن بقاء الدولة الصهيونية على المحك والكل بدأ يفتش فى كتابه السماوى عما سيحدث فى الأيام القادمة. فهل ستستلم الدولة الصهيونية لتيار التحرر العربى وتقف مكتوفة الأيدى حتى تبنى الشعوب العربية نفسها وتستعد للمعركة الكبرى؟
    فهل ستلجأ إسرائيل إلى تفجير المنطقة بحرب غير مسبوقة تأكل الأخضر واليابس خصوصا إذا نجحت فى إقناع الولايات المتحدة وأوروبا أن تحرر الشعوب العربية وقياداتها الإسلامية لايمثل خطرا على إسرائيل وحدها بل على العالم كله؟ هل تستطيع أن تقنع المسيحيين الصهاينة بالإستعداد لمعركة هرمجدون والتمهيد لنزول المسيح؟ هل سيتم إستخدام الترسانة النووية التى تم تخزينها لعشرات السنين لخوض المعركة الأخيرة؟
    هذا ماستكشف عنه السنوات القليلة القادمة...
    محمد أبو راشد المرصفى
    كاتب مصرى
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.