الموقف السياسى المصرى – النزول من فوق الشجرة
مازال الإتفاق الموقع من بعض رؤساء الأحزاب والمجلس العسكرى المسمى "وثيقة تسليم السلطة" هو الحل الوحيد المطروح حاليا بالرغم من تراجع بعض الموقعين عليه. وحتى لو إنسحبت منه جميع الأحزاب التى وقعته فسيبقى خارطة طريق للجيش لتسليم السلطة. وبالرغم من محاولة البعض الإفتئات على بيان "التحالف الديمقراطي من أجل مصر" ثم بيان حزب الحرية والعدالة ومن بعده البيان المنفصل لجماعة الإخوان المسلمين لإستنباط سحب حزب الحرية والعدالة لتوقيعه و سحب الجماعة تأييدها للبيان إلا أن هذا غير صحيح وهذه البيانات من باب البناء على الإتفاق للضغط على المجلس العسكرى للموافقة على البنود قيد الدراسة.
موقف المجلس الأعلى منذ توقيع الإتفاق إن دل على شئ فإنما يدل على مدى جديته فى تسليم السلطة لما إتخذه من قرارات وظهر ذلك أيضا واضحا جليا فى طريقة تعامله مع الأحداث خصوصا أحداث ماسبيرو:
· أكد المجلس الأعلى فى بيانه المتعلق بأحداث ماسبيرو إصراره على إجراء الإنتخابات فى موعدها وأكد على إلتزامه بالجدول الزمنى المعتمد لتسليم السلطة إلى هيئات مدنية منتخبة. ولو أن المجلس العسكرى لديه نية على خرق الإتفاق لكانت أحداث ماسبيرو فرصة لاتضيع خصوصا و أنها أول مرة يتم فيها قتل جنود الجيش بهذه الوحشية وأول مرة يتجرؤ فيها بعض أفراد الشعب على ذلك. ولكنه عض على آلامه وتكتم على خسائره ولم يحاول حتى الثأر لكرامته وهيبته.
· أصدر المجلس الأعلى القرارات المثبتة لما جاء فى الإتفاق بخصوص الجدول الزمنى و إلغاء المادة الخامسة من قانون الإنتخابات التى كانت تمنع الأحزاب من المنافسة على المقاعد المخصصة للأفراد خارج القوائم كما أصدر قانونا بوقف تحويل المدنيين للمحاكم العسكرية إلا فى الجرائم المشمولة فى قانون المحاكم العسكرية أى الجرائم الموجهة لمعدات أو أفراد القوات المسلحة. ولذلك تم إحالة المتهمين فى أحداث ماسبيرو لمحاكمات عسكرية لأنهم إعتدو على معدات القوات المسلحة وأفرادها .
· كما يتم دراسة قانون العزل السياسى وغنى عن الذكر مهما حاول المجلس العسكرى إرضاء كافة القوى السياسية فلن يستطيع. وفى رأى القانون الوافى لابد أن يصدر فى أول جلسة لمجلس الشعب فى منتصف يناير إن شاء الله.
· أما قانون الطوارئ فلا تغيير فى موقف المجلس العسكرى لأن المجلس يرى أن الحالة الأمنية مازالت تستلزم وجوده وهذا موقف نهائى ولكن ماوعدوا به أنه سيتم تحديد قضايا معينة لنظرها وكما قال الدستوريون والقانونيون أنها قضية سهلة أمام القضاء الإدارى.
فى الجملة المجلس العسكرى يسير بخطوات حثيثة لتطبيق النقاط الخمسة التى هى أصلا مطلب جميع القوى السياسية فى جمعة "إسترداد الثورة" وغير مفهوم مواقف القوى السياسية المقاطعة للإتفاق بالرغم من إستيفائه أربع من خمس نقاط عليها إجماع.
ولكن من الواضح أن القوى السياسية والأحزاب التى عارضت الإتفاق جملة وتفصيلا أصبحت اليوم فى مأزق كبير. فهذه خصوصا من شارك منها بقوة فى جمعة (عودوا لثكناتكم) ولم تستطع أن تجمع سوى عدة مئات (راجع عناوين الصحف). أى فقدوا عنصر الضغط على المجلس العسكرى بفشلهم فى حشد عدد كافى من الجماهير المؤيدة لموقفهم.
فقد صعدت هذه الأحزاب والقوى السياسية بموقفها هذا شجرة عاليه لاتستطيع أن تنزل منها .والمجلس العسكرى غير معنى بتقديم مايساعدها على النزول لأنها فى الأصل هى التى رفضت الحوار وحتى لم ترحب به بعد توقيعه وراحت تفتش عن سلبياته و تبحث فى كهف المؤامرات عما يسند موقفها.
ولكن القاسم المشترك الأعظم بين الأحزاب والقوى السياسية هو عدم الخبرة بالعمل السياسى وهم معذورون فى هذا فلا الأحزاب والقوى السياسية التى كانت تعمل فى ظل النظام السابق كانت تمارس عمل سياسى حقيقى سواءا التى كانت تحت سيطرة النظام أو التى كانت تتحرك فى هامش الحرية الضيق ولا الأحزاب التى تم تأسيسها بعد الثورة لأنها لم تمارس السياسة حتى بالقدر الذى كان يمارسه الفريق الأول.
إتخذت القوى السياسية من أحزاب وجماعات ومرشحى رئاسة مواقف متباينة من الإتفاق يمكن تلخيصها فى التالى:
· أحزاب رفضت الدعوة للإجتماع ورفضت نتائجه : كيف لحزب سياسى أن يرفض دعوة للتفاوض. هل يمكن تخيل حزب فى السلطة تواجه دولته مشكلة مع ألد أعدائها فيرفض التفاوض وقد يدفع البلاد دفعا إلى صدام سواء عسكرى أو إقتصادى أو سياسى كان يمكن تجنبه لو إستجاب الحزب الحاكم لدعوة التفاوض. الحقيقة هذا الموقف سيؤثر فى نظرة رجل الشارع لطريقة تعامل الحزب مع المشاكل. فليس بهكذا مواقف يمكن أن ينال الحزب شعبيته.
· أحزاب وقعت ثم سحبت توقيعها : لعمرك هذا موقف عجيب. المفترض أن من يشارك فى مفاوضات ممثلا لحزب لابد أن يكون لديه تفويض وفى هذا التفويض سقف محدد لايتجاوزه. أما إذا رأى فى الإتفاق المعروض فرص لاتعوض فعليه إما أن يتخذ قراره أو يطلب مهلة للرجوع إلى من يمثلهم. ولكن أن يوقع ثم يسحب توقيعه فى اليوم التالى فهذا موقف لوحدث فى دولة ديمقراطية لإستقال السياسى وإنزوى عن الأضواء للأبد. بل الغريب هو موقف أحد الأحزاب السياسية الذى إنسحب من الإتفاق لا لشئ إلا أنهم الوحيدين الذين فهموا أن الإتفاق يدعم صياغة مواد فوق دستورية. كيف ذلك والوثيقة تقتل فكرة المواد فوق الدستورية. كيف سيجلس هذا الشخص الذى سحب توقيعه مفوضا عن حزبه بعد ذلك؟ ولماذا يجب على الطرف الآخر أن يجلس مرة أخرى مع ذات الشخص غير مضمون التوقيع؟
· أحزاب وقعت و لم تسحب التوقيع : بالرغم من أنه موقف بناء من هذه الأحزاب.و تدرك قيمة هذا الإتفاق لكنها لم تحاول الدفاع عنه كثيرا أمام التغول والإفتئات الإعلامى. وأنا أدعو هذه الأحزاب على البناء على هذا الإتفاق والعودة للمجلس العسكرى لمتابعة ماتم تنفيذه ومناقشة قانون الغدر قبل أن يصدر. أى بإختصار إبقاء هذه القناة مفتوحة. بل يمكن لهذه الأحزاب لملمة الموقف السياسى ودعوة الأحزاب الأخرى للإنضمام ومناقشة ماتم إنجازه والبناء عليه.
· موقف مرشحى الرئاسة : الحقيقة مواقف غير مبررة وتصعيد لاطائل منه وطبعا هم يدفعون نحو التعجيل بالإنتخابات الرئاسية ويسلطون الضوء على أن سلطة رئاسة الجمهورية هى وهى فقط التى تعنى تسليم السلطة. فى الحقيقة السلطة التشريعية والرقابية هى السلطة الحقيقية أى مجلس الشعب. بل إن تأجيل إنتخابات الرئاسة لما بعد كتابة الدستور هو أسلم الحلول. ومفيد للتيارات الإسلامية ويرفع الحرج عنها خصوصا لو تم تقليص سلطات رئيس الجمهورية وإقرار النظام البرلمانى.
· أخيرا موقف حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمون : بدون مجاملة هو موقف ينم عن وعى سياسى بناء وفيه حرفية عالية. فقد طبقا الإثنان سياسة "خذ وطالب" فالمتأمل لبيان الإثنين (وقلما أن يكون هناك متأمل) لايجد تراجعا أو سحبا للتوقيع. إنما تجد الضغط والتركيز لتحقيق المطلبين المعلقين الذين طلب المجلس العسكرى مهلة لدراستهما. والتناول الإعلامى والسياسى يحتاج إلى دراسة بحق. فعند صدور بيان الحزب إنطلقت التعليقات بأن الحزب سحب توقيعه ولكن الحزب أطلق تصريحات إعلانية للتأكيد على إلتزامه بالتوقيع. وعند صدور بيان الجماعة إنطلقت التعليقات السياسية والإعلامية بإنشقاق الحزب عن الجماعة. وياليتهم يتمسكون بهذا التحليل والكف بمناداة حزب الحرية والعدالة بإسمه بدلا من "حزب الجماعة" من باب التحقير والتصغير.
المشكلة أن ردات الفعل العنيفة قد أصابت رؤساء الأحزاب الموقعة بالهلع وصبت حولها اللعنات والتخوينات ودفعت بعض أعضائها لسحب الثقة . وقد أثر هذا كثيرا على الإتفاق من جهة عدم متابعة اللقاءات والمناقشات مع المجلس العسكرى .
إن العمل السياسى يقتضى من الجميع مراجعة مواقفه فليس فى السياسة مواقف متحجرة فعلى الأحزاب التى رفضت الجلوس أو التى لم تدعى للتفاوض إتخاذ موقف بناء وأخذ زمام المبادرة وفتح قنوات إتصال وإستخدام الأحزاب الموقعة كسلم للنزول من على الشجرة العالية التى لا تستطيع النزول وحدها.وعلى الأحزاب التى وقعت وسحبت التوقيع أيضا مراجعة هذا الموقف العجيب الذى يقوم فيه الحزب بسحب تفويضه لممثله.
أما الأحزاب التى وقعت ومازالت متمسكة بالإتفاق فعليها مسؤولية كبيرة تبدأ من متابعة الإتفاق مع المجلس الأعلى ومواصلة الحوار وتنتهى بالدعوة لمبادرة لمساعدة الأحزاب الأخرى للإنضمام إلى الإتفاق.
محمد أبو راشد المرصفى mohamed.aborashed@gmail.com
كاتب مصرى
رسالة إدارية
حدثت الأخطاء التالية عند الإرسال