-
حركة الاستشراق الروسي
حركة الاستشراق الروسي
وترجمة معاني ألفاظ القرآن الكريم
م.م. محمد عبد علي حسين القزاز
جامعة الكوفة ـ مركز دراسات الكوفة
· الملخّص:
يظنّ البعض أنّ الاهتمام الروسي بترجمة معاني ألفاظ القرآن الكريم يفتقد جذوره في الماضي وأنه أتى كما أتت أشياء أخرى، نتيجة لانهيار الدولة السوفييتية فقط. غير أن تاريخ هذه المنطقة من العالم يؤكد أنّ المسلمين بها كانوا على مر العصور مجندين لنسخ القرآن الكريم وترجمته من قبل المستشرقين الروس بمقدار لايستهان به في ترجمة معانيه.
قام الباحث بدراسة موجزة لتاريخ تطوّر ترجمات معاني القرآن الكريم في روسيا وما تتبعها، كما قام بتقييم الوضع الحالي لهذه الترجمات. فكرة هذا البحث مبنية على تتبع جهود المستشرقين الروس ورصد آثارهم في مجال ترجمة معاني ألفاظ القرآن الكريم .
المقدّمة
الحمد لله والحمد كما يستحقه حمداً كثيراً والصلاة والسلام على أشرف أنبياء الله أبي القاسم محمد صلّى الله عليه وآله الأخيار المصطفين الأبرار .
مما لا شكّ فيه أنّ ترجمة معاني القرآن الكريم تعدّ من أصعب المحاولات التي تمّت في مجال الترجمة على الإطلاق؛ وذلك لأنّ نقل معنى الآيات القدسية المحكمة إلى لغة أخرى غير العربية ليس بالأمر السهل، إلى جانب عجز لغة الترجمة عن نقل التركيب البلاغي للآيات وما تحمله من معانٍ ومدلولات لا تظهرها إلا لغةُ القرآن التي نزل بها .
الإسلام كرسالة والقرآن ككتاب، جاء ليتحدّی استكبار وجبروت وظلم وغطرسة وعنصرية ومادية الإنسان، ويلقي في وجه الظلم حقيقة العدل الإلهي ويصارعه ليغلبه وينتصر عليه، ومن ثم يُظهر ضعفه وقلّة شأنه وإن تظاهر بالقوة والبطش. من هنا جاء الاهتمام بهذا البحث المتواضع، ليعكس مدى أهمية هذا الموضوع. حيث إنّ معظم الدراسات في علوم القرآن الكريم في روسيا حالياً، متأثرة إلى حدّ بعيد بتقاليد مدرسة الاستشراق، إلا إن النشاط الدعوي التعليمي للعلماء المسلمين يجبر المستشرقين على الاهتمام بكتب الحديث والتاريخ، والامتناع ولو أحياناً عن التأويلات الفاسدة لنصوص القرآن الكريم. قد لاقت تلك الترجمات قبولاً ملحوظًا لدى الشعوب الإسلامية الناطقة بالروسية، والتي كانت متعطشة إلى معرفة معاني ألفاظ القرآن الكريم.
كانت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم للّغة الروسية هي ترجمة الدكتورة (سمية عفيفي) أستاذة اللغة الروسية بقسم اللغات السلافية بكلية الألسن جامعة عين شمس بالقاهرة، حيث بدأت الترجمة عام 1995م وانتهت منها عام 2000م بإشراف لجنة من الأزهر الشريف. وقد لاقت تلك الترجمة قبولاً ملحوظًا لدى الشعوب الإسلامية الناطقة بالروسية والتي كانت متعطشة إلى معرفة معاني القرآن الكريم. إنّ البداية العلمية النظامية للاستشراق هناك ترجع إلى ما قبل قرنين من الزمان تقريباً.
وتتأكّد أهمية موضوع هذا البحث إذا أخذنا في الاعتبار جِدّته ومحدودية انتشار الاستشراق الروسي خارج حدوده، بسبب عوامل عدة حدَّت من انتشاره، وعدم وجود دراسات كثيرة في هذا الشأن.
تطوّر نشوء حركة الاستشراق الروسي
ودورها في تطوّر ترجمة معاني ألفاظ القرآن الكريم
تعتبر اللغة الروسية واحدة من اللغات الحية التي ترجم إليها القرآن الكريم حيث ارتبطت تطور مراحل ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الروسية بتطور مراحل الاستشراق الروسي، ولعب الدين الإسلامي والمسلمين دوراً كبيراً وبالغاً في تاريخ روسيا، وذلك منذ نشأتها مروراً بالإمارات السلافية الأولى، ثم بالإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي، ثم المؤثرات الحضارية العربية الإسلامية الأولى على حياة الروس .
وبداية الاستشراق الروسي في عهد (بطرس الأول) وعهد (كاترين الثانية) الذي عرف بداية الاهتمام الفعلي بالثقافة العربية، حين ظهرت العديد من المجلات الثقافية الروسية متضمنة أخبار العلوم والفلسفة والحِكَم والطرائف العربية وقواميس لغوية، حيث أدرجت اللغة العربية كإحدى اللغات الرئيسية إلى جانب الفرنسية والانجليزية والألمانية في روسيا، كان هذا في الربع الأول من القرن الثامن عشر الميلادي، في عهد (بطرس الأول) (1725م)، الذي تمّ في عهده عدد من الإصلاحات والخطوات الجذرية، وكان لها أثر كبير في مستقبل روسيا وبنائها من جديد، وهذا النوع من الاهتمام الاستشراقي لـ(بطرس) نابع من سياسته الشرقية، وما اقتضته مصالح روسيا، وحاجاتها المتزايدة إلى التعرف على جيرانها الذين دخلت معهم في صراعات مريرة (1) .
تذكر المصادر التاريخية بعد قرن كامل من ظهور الإمارات الروسية في النصف الأخير من القرن العاشرالميلادي، بدأت هذه الدولة الجديدة تبحث لنفسها عن دين من بين الديانات السماوية التي اعتنقتها جل الشعوب المجاورة. وهكذا طلب أميرها فلاديمير (Vladimir) ملوك عدد من البلدان وأمرائها أن يبعثوا إليه برسل ليحدثوه عن دينهم حتى يتمكن مع باقي الأمراء الروس من اختيار أحد هذه الأديان؛ ليتخذه ديناً رسمياً للبلاد قصد توحيدها أكثر وتعزيز شرعية الحكم بها. إلاّ أنّ الروس والسافيين الشرقيين عموماً لم يكونوا يجهلون تماماً أهم تعاليم هذه الديانات. فهم كانوا على اتصال مستمر مع الخزر اليهود، كما أنّهم كانوا على اطلاع على مضمون الدين المسيحي الأرثودوكسي في بيزنطة، والكاثوليكي عند جيرانهم في الغرب. أما الدين الإسلامي فقد تعرفوا بعض تعاليمه، وربما سمعوا بكتاب يسمّى (القرآن) من خلال البلغار المسلمين الذين كانوا يقطنون الأراضي الممتدة على طول ضفتي نهر (الفولكا) (Volga) والتي تشكل حاليا موطن أحفادهم التتار المعروف الآن تحت اسم (جمهورية تتارستان) ذات الاستقلال الذاتي الموجودة ضمن الجمهورية الفيدرالية الروسية(2).
لفهم جوهر التصور العام للإسلام السائد آنذاك عند الروسيين، لابدّ من التذكير بأنّ هناك مصدراً أساسياً مدوناً كان الروس يستقون منه معلوماتهم. ويتعلّق الأمر باللاهوت والمراجع التاريخية اليونانية ـ البيزنطية التي بدأت تظهر في روسيا منذ القرن الحادي عشر. وهكذا تكوّنت عند الروسيين صورة خيالية عن الإسلام والمسلمين لا علاقة لها بتاتاً بالواقع. وهذه الصورة المشوّهة هي الصورة نفسها التي نجدها عند باقي الشعوب المسيحية في بلدان أوربا الغربية في ذلك العصر(3).
يجب الاعتراف بأنّه ظهر في مرحلة لاحقة نوع أخر من الكتابات التي حاولت الاقتراب شيئا ما من الحقيقة وسعت إلى تغليب المنطق في تناولها لهذه الموضوعات. وكان ينتمي بعض مؤلفيها إلى فئة قليلة من المفكرين الروس الذين سبق لهم أن عاشوا فترة من الزمن داخل العالم الإسلامي. ونذكر من بين هؤلاء المفكرين (بيريسفييتوف) (Ivachko Peresvetov) وكذلك (كوسوي) (Feodosi Kosoy) الذي عاش في القرن السادس عشر والذي دافع في كتاباته عن المساواة بين جميع الناس وبين جميع الديانات واللغات. ولقد لقيت أفكاره إقبالا في بعض الأوساط الروسية المثقفة.
وبعد حوالي مائة سنة تقريباً، أي في القرن السابع عشر، كتب (بوسوشكوف) (Posochkov) مؤلفه (الفقر والثراء) الذي سار فيه على نهج (بيريسفييتوف) وأوصى بأن يؤخذ من التشريع الإسلامي ما قد يفيد المجتمع الروسي. وللمفكر (أندري كوربسكي) (Andriey Kurbskiy) مكانة خاصة في معالجة هذه المواضيع. فهو بالرغم من معارضته للإسلام، يضع عدداً من تعاليمه في مرتبة أعلى من الكثير من تعاليم المسيحية (4) .
قوى الاهتمام بالاستشراق في روسيا في بداية القرن التاسع عشر حينما أنشأت بعض الجامعات الروسية كراس باللغة العربية عن الإسلام، ومن هذه الجامعات جامعة قازان، وجامعة موسكو، وجامعة بطرس برغ، وكلية لازاريف وغيرها، حيث شجّعت الحكومات الروسية في العهود المختلفة دراسة التراث العربي الإسلامي، وخاصة ذلك الذي يتعلّق بالأقاليم الإسلامية الواقعة تحت سيطرة روسيا لتوسيع المعرفة بالشعوب الإسلامية.
إنّ بدء العمل الرسمي والمنظم في الدراسات الاستشراقية العربية الإسلامية، كان قد بدأ مع عهد القيصر بطرس الأكبر، عندما تمّت أول ترجمة للقرآن الكريم عام 1716م إلى اللغة الروسية، وقد قام بها الدكتور )بيتر بوستينكوف) عن الترجمة الفرنسية للمستشرق الفرنسي (ديوري) عام 1643م، تلا ذلك ترجمة أخرى عام 1776م، ولكن أول ترجمة للقرآن من اللغة العربية مباشرة إلى اللغة الروسية كانت في عام 1878م، والتي قام بها المستعرب (سابلوكوف) 1854م -1880م، والذي كان يتقن العربية إتقاناً جيداً، وقد تكررت طباعة هذه الترجمة في أعوام 1879م-1898م. وقام المستعرب (موخلينسكي) 1808م - 1877م بترجمة وتفسير القرآن إلى اللغة البيلاروسية والبولندية من أجل التتار المسلمين الذين كانوا على حدود بيلاروسيا وبولندا وليتوانيا. ومع نهاية القرن الثامن عشر، وبتشجيع من (كاتيرنا) الثانية التي كانت (تود نشر القرآن الكريم بين السكان المسلمين في روسيا، وتأمل في الاعتماد عليه في أهدافها السياسية وحروبها مع تركيا). ومن المعلوم أنه عندما تتدخل مصالح الدولة في شأن الترجمة، وفي مجال الاستشراق، تصبح التوجهات والأهداف والنتائج منوطة بالسياسيين لا بالمترجمين أو المستشرقين (5) .
في عام 1778م تم إدخال الحرف العربي بشكل واسع في الطباعة. وطبع في السنة نفسها في العاصمة (سان بيترسبورغ) المصحف الكريم بحروف عربية جميلة. ويقول (كراتشكوفسكي) إن هذه الحروف انتقلت فيما بعد إلى مدينة قازان التتارية، ثم إلى القرم وتركيا فمصر. وقد تكون بعض النسخ من هذه الطبعة دخلت المغرب. ونعتمد في هذا الافتراض على العلاقات الجيدة التي كانت تربط السلطان (سيدي محمد بن عبدالله) بالإمبراطورة (كاتيرينا الثانية ). ومعلوم أنه جرى بينهما تبادل هدايا ورسائل ودية جداً؛ وأي هدية أغلى من الطبعة الروسية للقرآن الكريم ستجد الإمبراطورة لإرسالها إلى السلطان المغربي المسلم (6).
لقد أعيد طبع المصحف الكريم بهذه الحروف الخمس مرات في الفترة ما بين 1789م، 1798م وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى الدور الكبير الذي لعبته فيما بعد مطبعة (قازان) الإسلامية التي أحدثت عام 1802م، والتي طبعت، خلال القرن التاسع عشر، عشرات الآلف من نسخ القرآن، وعدداً كبيراً من المؤلفات الإسلامية الأخرى(7).
صدرت ترجمتان اثنتان للمصحف الكريم إلى اللغة الروسية أنجزتا انطلاقا من الفرنسية والإنكليزية. قام بالأولى (فيريو فكين) (Veryovkin) سنة 1790م عن الترجمة الفرنسية القديمة ل (دي رييي) (A. Du Ruyer) وأنجز الثانية سنة 1792م (كولماكوف) (Kolmakov. Sal) عن ترجمة (سالي) (G e) الإنكليزية .وكانت هاتان الترجمتان في مستوى حسن بالمقارنة مع ما سبقتها من ترجمات. وقد ألهمت إحداهن، فيما بعد، أمير الشعر الروسي (بوشكن (A. puchkin) لنظم سلسلة قصائده المشهورة (قبسات من القرآن) التي عالج فيها شعريا نصوصا مقتبسة من ثلاث وثلاثين سورة قرآنية. ويعترف الشاعر «بأن القرآن كان الكتاب الديني الأول الذي أذهل مخيلته، وقد أفلح (بوشكن) في إعطاء صورة دقيقة المعالم عن مضمون القرآن الفلسفي والديني؛ كما أن هذه القصائد أعطت لأول مرة في الأدب الروسي مفتاح الفهم الصحيح للقرآن الكريم، وساعدت إلى درجة كبيرة على استمرار نموّ الاهتمام به عند أوسع أوساط القراء الروس»(8) .
إنّ اهتمام الشاعر الروسي الكبير (بوشكن) بالإسلام وبالقرآن الكريم، لم ينبع من «فراغ أو كنتيجة لشطحات الخيال الإبداعية؛ بل أتى كثمرة لقراءاته المتعمقة في تاريخ الشرق العربي وحضارته وآثاره الأدبية والقرآنية، فضلاً عن الجذور الشرقية الإسلامية التي ربطت بين الشاعر والشرق الإسلامي. تجدر الإشارة إلى أن أحد أجداد (بوشكن) لأمه، وهو إبراهيم (المشهور) في مختلف الكتابات الأدبية الروسية، كان ينتمي إلى أسرة إفريقية مسلمة. هذا ما جعل الشاعر يبحث عن جذوره المسلمة، ويحاول التعمّق في معرفة دين أجداده وكتابهم المقدس القرآن الكريم»(9).
مثّلت الترجمة أهمّ جسور تواصل الاستشراق الروسي، وشكّلت ترجمة معاني القرآن الكريم مكان الصدارة من بين صنوف الترجمات الروسية. وكانت الترجمات الأولية لمعاني القرآن الكريم تتمّ من خلال لغات أوربية وسيطة، ومن ثم أمكن ترجمة معانيه من الأصل العربي بعد تكوين مترجمين روس درسوا العربية، فأصبح القرآن الكريم عاملاً حيوياً هاماً لفَهْم مراحل العلاقات بين روسيا والإتحاد السوفيتي، والعالم الإسلامي(10).
ظهرت ترجمتان جديدتان لمعاني القرآن الكريم بالروسية، وحازتا تقدير (كراتشكوفسكي) الذي رأي فيهما حدثاً تاريخياً بالغ الأهمية في تاريخ الثقافة الروسية، ومستوى أعلى من الترجمات السابقة. ولقد حفزت الترجمات الروسية لمعاني القرآن الكريم في صدور مؤلفات تتناول شرح القرآن الكريم، ومن أبرزها كتاب المترجم (بوجدانيفيتش) بعنوان (محمد والقرآن) وقد لاقى نجاحا كبيرا، وأعيد طبعه مرات عديدة (11).
شيخ المستشرقين ( كراتشكوفسكي) 1883م ـ 1951م الذي اقترن اسمه الروسي طوال النصف الأول من القرن العشرين، حيث اعتبر بحق شيخ المدرسة الاستعرابية الروسية خلال هذه الفترة، وذلك للمجهودات التي بذلها في ميداني التعليم والبحث العلمي، امتازت كتاباته بالموضوعية في إنصافه لشخصية الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام والقرآن الكريم. إنّ (كراتشكوفسكي) يعكس صورة الشرق المعاصر المهتم بالفكر والأدب والثقافة اهتماماً رسمياً ودينياً وشخصياً، وصورة الشرقي المنفتح على الآخر، ذو الاهتمامات العلمية. (إنّ النهضة الحديثة للشرق العربي المسلم تظهر بوادرها في كل مكان، وفي الصيف عندما غادرت بيروت ورحلت إلى أماكن أخرى، فهناك كان معلّمو القرى وصحفيو المدن الصغيرة، ومراسلو الجرائد، وأطباء القرى، كل هؤلاء قابلوني هناك بود وترحاب، وكان الحوار بيننا يستغرق عدة ساعات بعد أول لقاء بهم، وكانوا جميعاً يتأججون والثورة تتقد في نفوسهم، وفي خيالهم حلم بالتحرر الوطني) (12).
في سنة (1859م) ظهر كتابه الفهرس الكامل للقرآن أو مدخل إلى كلماته وعباراته، وهو عبارة عن دليل لدراسة مبادئ القرآن الكريم الدينية والشرعية والتاريخية والأدبية. وكان من أهم عيوبه أنّه لم يعتمد نص القرآن الكريم، بل اعتمد على مصحف المستشرق الألماني (جوستاف فليوجل). أشرف المترجم (نيقولاييف) عام 1864م، على ترجمة معاني القرآن، وكانت مأخوذة عن الترجمة الفرنسية للمستشرق (بيبيرشتين كازميرسكي). وقد تكررت طباعة ترجمة (نيقولاييف) في موسكو خمس مرات، وفي سنة 2001م أعيدت طباعتها في دار (إليبرون كلاسيكس). يعتقد بعض النقّاد أنّ وضع النقد الترجمي سيّئ، لاسيما إذا عرفنا انّه لايوجد اتفاق مشترك عام على معايير النقد الترجمي والتقويم وأنّ للنقد الترجمي علاقة واضحة بالأدب (13).
كثيراً من المختصين والمستشرقين الروس قد انتقدوا منـهجَ (سابلوكوف) وترجمته لمعاني القرآن، فقد أشار المستشرق ( كريمسكي) في كتابه (تاريخ الإسلام) إن ترجمة (سابلوكوف) ترجمة حرفية ميتة، ولا يمكن فهمها في كثير من المواضع؛ إلا بعد الرجوع إلى الأصل العربي، فضلاً عن أنّها تحتوي على عدد كبير من الأخطاء التي لا مراء فيها. انتقدها أيضاً المستشرقان (بيلايف وجريزنيفيتش) ومع مرور الزمن تظهر سلبيات هذه الترجمة لكل من يرجع إليها، فأمّا المستشرق المتخصص في اللغة العربية فيجد فيها أخطاء كثيرة، وأما غير المتخصص فلا يفهم أحياناً خصائص نص الترجمة المليئة بالكلمات القديمة والعبارات المبهمة، التي منعت من فهم المعنى الظاهر لها. كما يسأل القارئ نفسه: هل فهم المترجم ماذا أراد بهذا الكلام؟ كما وُجِد في ترجمته كلمات خاصة تستخدم عند ترجمة التوراة والإنجيل إلى اللغة الروسية، وبسبب هذه الكلمات يكون القارئ العامي قد أخذ فكرة خاطئة عن العقيدة الإسلامية والمعنى الحقيقي لهذا الأثر.
وعلى الرغم من ذلك فقد أشبعت ترجمة (سابلوكوف) لمعاني القرآن حاجة الكثيرين في المجتمع الروسي على مدى مائة عام، وعُدت من أهم المراجع عن الدين الإسلامي. واستحق صاحبها مدح كثيرين منهم (كراتشكوفسكي) بقوله: «لم يتمكن أحد في أكاديمية قازان من تأسيس منهج للاستعراب ودراسة الإسلام إلا (جوردي سابلوكوف)». من الجدير بالذكر يجب الإشارة إلى أنّ بدايات الترجمة تعود إلى العصر البابلي القديم، حيث كان لديهم جهاز مركزي مثابر من النُسَاخ المتخصصين بعدد من اللغات الذين يبثون الرسائل الرسمية المبلغة على الرقم الطينية، بخطوط مسمارية إلى الأرجاء البعيدة من المملكة (14) .
إنّ الأخطاء في ترجمة المعاني لدى (سابلكوف) أقلّ مما في التراجم المذكورة بالإضافة إلى دقة الترجمة وسلاسة اللغة بغية تقريبها إلى القارئ غير المسلم. وفي عام 1879م أصدر (سابلوكوف) ملاحق للترجمة، وأعقبها بإصدار دراستين كبيرتين بعنوان (معلومات حول القرآن الكريم1884م). كما أصدر دراسة بعنوان (مقارنة أسماء الله الحسنى في الإسلام وفي الديانة المسيحية ) 1873م. وكان الهدف من الترجمة والدراسات أكاديمياً محضاً ولم يتطرّق المؤلف إلى الجوانب العقائدية في الإسلام.
كانت آخر ترجمة تنجز عن طريق لغة وسيطة هي ترجمة (نيكولاييف). حيث بدأ المستعربون الروس يعدون لنقل المصحف الكريم مباشرة من الأصل العربي. وهكذا أنجزت في الوقت نفسه تقريباً ترجمتان: كانت الأولى عام 1871م للجنرال (بوكوسلافسكي) (D.N. Boguslavski) الذي نال تحصيلاً جيداً في علم الاستعراب في الكلية الشرقية بجامعة بطرسبورغ، وقضى سنوات طويلة في العمل مترجماً للسفارة الروسية في الآستانة. وكانت ترجمته التي أتمها خلال فترة مكوثه في الشرق تمتاز بالدقة العالية وبالمزايا الأدبية الفريدة، مما جعلها وقتذاك تحظى بتقدير نقاد مرهفي الحس والقلم، أمثال (روزين) و(كراتشكوفسكي)، لكن هذه الترجمة بقيت مجرد مخطوطة، لأنّ صاحبها لما رجع من الشرق علم بصدور ترجمة أخرى نقلت عن النص العربي كذلك في مدينة (قازان). فتخلّى (بوكوسلافيسكي) عن طبع عمله(15).
بعد الازدهار الكبير الذي عرفته الدراسات الاستعرابية في بداية القرن العشرين، لم تعد ترجمة (سابلوكوف) تتجاوب ومتطلبات العلوم العصرية. لذا بدأ التفكير في إنجاز عمل جديد يكون في مستوى طموحات المدرسة الاستشراقية الروسية الجديدة. فقام العالم الأوكراني (كريمسكي) (Krymski) في مطلع القرن بإصدار ترجمة لعدد من السور القرآنية مصحوبة بالشروح ضمن سلسلته المشهورة (محاضرات حول القرآن). غير أنّ هذه المحاولة توقّفت ولم يتمم صاحبها مشروعه هذا. فأخذ العالم (كراتشكوفسكي) على عاتقه هذه المهمة التي تطلّبت منه وقتاً طويلاً وجهداً جباراً. وبما أننا نعتبر أن مستوى العمل الذي قام به هذا العالم الكبير يفوق جميع الترجمات الروسية من جهة، والعديد من الترجمات الأوربية من جهة أخرى، فإننا سوف نتوقف قليلاً عند مميزات هذا العمل وبعض المراحل التي مر منها. فيمكن القول بأنّ اهتمام (كراتشكوفسكي) بهذا الموضوع ظهر مع بداية خطواته الأولى في عالم الاستشراق، ولم ينصرف عنه طوال حياته كلها. غير أنّ العالم لم يتمكن من رؤية عمله مطبوعاً، إذ توفي عام 1951م، ولم تصدر ترجمته إلا سنة 1963م . إنّ العمل الذي استغرق أربعين سنة كاملة، مرّ بعدة مراحل. فقد كان الاهتمام بموضوعه أولاً، والتمهيد للخوض في غماره، ثم البحث المستمر لإنجازه تدريجياً(16).
إنّ (كراتشكوفسكي)، وهو العالم المتمكن من اللغة العربية، والعارف بأسرارها وكنوزها، أدرك تمام الإدراك، وذلك منذ شروعه في عمله، أنّ أسلوب القرآن الكريم هو أسلوب خاص فريد من نوعه، ولا نجد له مثيلاً في الكتابات العربية الأخرى. لذلك حاول جهد المستطاع الاقتراب من هذا الأسلوب العربي في النص الروسي لترجمته حتى يمكن القارئ من الاقتراب أكثر من كتاب الله شكلاً ومضموناً. وقد جاء أسلوبه سهلاً في متناول مختلف شرائح القراء. غير أنّ بعض النقّاد لم يفهموا مغزى هذه المقاربة، واعتقدوا أن العالم اعتمد النقل الحرفي في عمله.
ويعلم المختصّون في فنون الترجمة أنّ نقل المعنى والأسلوب معاً إلى لغة أخرى يشكّل المبتغى الأسمى لكل مترجم، غير أنّ مثل هذا الإنجاز لا يتأتّى إلا نادراً ولاينجح في تحقيقه إلاّ ذووا الباع الطويل في علوم اللغة وفنونها من جهة، وعلوم الترجمة من جهة أخرى. ويمكن القول: إنّ (كراتشكوفسكي) قد وفّق إلى حد بعيد في مهمته، وإنّ عمله يعتبر حالياً أجود ترجمة روسية لمعاني القرآن الكريم وإحدى أجود الترجمات العالمية. وبالرغم من هذا كله، فإنّ عمله لا يخلو بالطبع من الهفوات المتفاوتة(17).
السيدة الروسية ( السفيراتشكو فسكايا) ط ١٨٨٤م، زوجة المستشرق الروسي (كراتشكوفسكي)، بحثت بأصالة عن نوادر مخطوطات القرآن من القرن السادس عشر. كتب الأستاذ (أمين الخولي) عن هذا الجهد: «قدمت السيدة (كراتشكوفسكي) بحثاً عن نوادر مخطوطات القرآن الكريم في القرن السادس عشر الميلادي، وإنّي أشكّ في أن كثيرين من أئمة المسلمين يعرفون شيئاً عن هذه المخطوطات، وأظن أن هذه مسألة لا يمكن التساهل في تقديرها»(18).
بعد زوال الدولة السوفييتية، زاد الاهتمام بشكل كبير بموضوع ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل جمهوريات الاتحاد السوفييتي عموماً وجمهورية روسيا الفدرالية خصوصاً. وقد أدّى هذا الإقبال الكبير على قراءة كتاب الله والتأمّل في معانيه إلى إعادة طبع ترجمتي كلّ من (سابلوكوف) و (كراتشكوفسكي) عدة مرات، كما طبعت ترجمة (بوكوسلافسكي) التي سبق أن أشرنا إليها، والتي بقيت مخطوطة حتى هذا العهد. وظهرت في السنوات القليلة الأخيرة بعد 1991م ترجمتان جديدتان: الأولى للأستاذة (بوروخافو) (V.OPorokhova)، والثانية للأستاذ (عصمانوف) المعروف في ساحة الدراسات الشرقية بصفته اختصاصياً في اللغة الفارسية(19).
يمكن القول بأنّ ترجمة معاني القرآن الكريم علم قائم بذاته، له قواعده وأحكامه، وهو يستوجب من المترجم الصدق والأمانة والإلمام الواسع بلغتين على الأقل ـ المترجم منها والمترجم إليها ـ ويستحب أن تكون له دراية بلغات أخرى وعلومها حتى يتمكّن من الاستفادة من ترجمات أخرى بمقارنة عمله بها. وعلى المترجم، إذا تعلّق الأمر بالقرآن الكريم، أن يكون على اطلاع بعلوم القرآن والحديث، وأن يكون على صلة مستمرة بعلماء الدين، على اختلاف مذاهبهم، قصد استشارتهم والاستفادة من عملهم، وفضلاً عن هذا وذاك، فهو ملزم بأن يكون على علم كامل بالأخطاء الواردة في الترجمات السابقة، وذلك لتجنّب الوقوع فيها من جديد.
الخاتمة
كان هدفنا في هذه الصفحات البحثية القليلة التعريف ببعض مراحل تطوّر ترجمة معاني القرآن الكريم في روسيا وانتشاره بها، وكذلك إبراز مسيرة عملية ترجمة معانيه في هذا البلد. لذا فقد توصّل الباحث إلى عدة استنتاجات هي:
◘ إنّ الترجمات الأوروبية للقرآن الكريم، سواء الروسية منها أو غيرها كانت من قبل مترجمين يحسنون اللغة التي ترجموا إليها أكثر من اللغة العربية أو العكس، ولذلك كانت تلك الترجمات الأوروبية معرضة للخلل والنواقص الكثيرة .
◘ على المترجم إذا تعلّق الأمر بالقرآن الكريم، أن يكون على اطلاع بعلوم القرآن والحديث، وأن يكون على صلة مستمرة بعلماء الدين، على اختلاف مشاربهم، قصد استشارتهم والاستفادة من عملهم، وفضلاً عن هذا وذاك، فهو ملزم بأن يكون على علم كامل بالأخطاء الواردة في الترجمات السابقة، وذلك لتجنّب الوقوع فيها من جديد.
◘ إنّ ترجمة القرآن من اللغة العربية إلى الروسية ترجمة حرفية مستحيلة. فإنّه يستحيل أن يترجم القرآن بألفاظ أخرى غير عربية تقوم مقام ألفاظه، وتعبّر عن نفس معانيه ومقاصده.
◘ ظلّ القرآن الكريم مثار دهشة الغربيين من مستعربين ومستشرقين، بما أحدثه من تغيير شامل في المجتمع العربي والإسلامي، وما أضافه إلى الحضارات الإنسانية من زخم وحياة، وما قدّمه للثقافة من تطوّر وتجديد. فحدبوا على دراسته بمثابرة، وتتبعوا نصوصه بإمعان، فرآه البعض مادّة للأبحاث الموضوعية فدرسه بهذا المنظور، واشتد على البعض الآخر وقعه فأثار عنده الحقد الدفين، ومن هذا وذاك طغت على السطح الأكاديمي دراسات الاستشراق القرآنية.
* مصادر البحث *
1- بوشكن، الكسندر، قصائد شرقية، دمشق، ، ترجمة : طارق مردود، دار علاء الدين، 1999م .
2- الخولي، أمين، الإسلام والمسلمين، مجلة الشبان المسلمين، القاهرة، عدد ديسمبر ١٩٦٠ م.
3- ريكول، بول، فن الترجمة ، ترجمة حسين خمري، الجزائر، ط1، مطابع الدار العربية للعلوم (منشورات الاختلاف)، 2008م.
4- العطاوي، عبد الرحيم، نفض غبار النسيان عن بعض أمجاد تتارستان، مجلة التاريخ العربي، عدد2، ربيع 1417 هجرية / 1997م.
5- العطاوي، عبد الرحيم، حول الجمهوريات الإسلامية ذات الاستقلال الذاتي في روسيا، 218- 21، 1997م.
6- عبد الواحد، محمد، اتجاهات الترجمة المعاصرة، النقد الترجمي المقارن، بغداد، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة، 2009م .
7- غغريزنييفتش، بافل، القرآن في روسيا، ضمن: أبحاث جديدة للمستعربين السوفييت (الكتاب الأول)، موسكو، 1986م .
8- الغمري، مكارم، مؤثرات عربية إسلامية في الأدب الروسي، سلسلة المعرفة، عدد 155، الكويت، نوفمبر 1991م .
9- فرحات، علاء الدين، حول الترجمات الروسية للقرآن، مجلة فييستنك (مجلة الجمعية الدولية لأساتذة اللغة الروسية وأدبها)، عدد 13، موسكو، 1996م .
10- كراتشكوفسكي، إغناطيوس، دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي، منشورات أكاديمية العلوم للاتحاد السوفييتي، موسكو / ليننغراد، 1950م .
11- كراتشكوفسكي، إغناطيوس، معاني القرآن الكريم دار النشر (ناووكا)، موسكو، الطبعة الثانية، 1990م .
12- كراتشكوفسكي، إغناطيوس، القرآن في ترجمة بوكوسلافيسكي، مجلة الاستشراق الروسي،، موسكو - ليننغراد العدد 3 ،1945م .
13- محمد الجار الله، سليمان، جهود الاستشراق الروسي في مجال السنة والسيرة (دراسة ببليوغرافية)، 1996م .
14 - موساتوفا، ت، (العلاقات الروسية المغربية في القرن التاسع عشر)، تعريب عبد الرحيم العطاوي، مجلة دار النيابة، عدد 18، 1988م .
* هوامش البحث *
1- جهود الاستشراق الروسي في مجال السنة والسيرة (دراسة ببليوغرافية)، د. سليمان بن محمد الجار الله : 4.
2- حول الجمهوريات الإسلامية ذات الاستقلال الذاتي في روسيا، عبد الرحيم العطاوي : 218- 219.
3- دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي، إغناطيوس. كراتشكوفسكي:20.
4-المصدر نفسه : 25.
5- المصدر نفسه : 26.
6- العلاقات الروسية المغربية في القرن التاسع عشر، ت. موساتوفا، تعريب عبد الرحيم العطاوي : 25 - 31.
7- ترجمة معاني القرآن الكريم، اغناطيوس كراتشكوفسكي : 16.
8- القرآن في روسيا، بافل. غغريزنييفتش : 249 – 259 .
9- مؤثرات عربية إسلامية في الأدب الروسي، مكارم الغمري ،: 170.
10- قصائد شرقية، الكسندر بوشكن، ترجمة : طارق مردود :77.
11- مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي، مكارم الغمري: 148.
12- مع المخطوطات العربية، اغناطيوس كراتشكوفسكي : 32.
13- اتجاهات الترجمة المعاصرة، النقد الترجمي المقارن، محمد عبد الواحد :7.
14- فن الترجمة ، ريكول بول: 19- 37.
15- القرآن في ترجمة بوكوسلافيسكي، اغناطيوس كراتشكوفسكي: 293- 301.
16- الدراسات العربية في روسيا، عبد الرحيم العطاوي : 131 - 140.
17- حول الترجمات الروسية للقرآن، علاء الدين فرحات : 67.
18- الإسلام والمسلمين، أمين الخولي: 16.
19- حول الترجمات الروسية للقرآن، علاء الدين فرحات :29 - 30.