الذروة شبه الوجودية عند فيصل الزوايدي
الاغتراب و الذروة الشبه وجودية عند القاص فيصل الزوايدي
بقلم علاء الدين حسو
الذروة في القصة تعني قمة التعقيد ولحظة الحل .
والوجودية كمذهب فلسفي تعتبر الإنسان جوهر الوجود، وانه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج الى موجه ، وترى العالم يمضي لغير غاية، والحياة عبث تورث الضجر والضيق ..
فترى أصحابها يعانون الألم، والضيق، والقلق، والياس، والشعور بالسقوط، والإحباط .
و النصوص الخمسة للقاص فيصل الزوايدي تظهر بوضوح حالات الألم والعزلة والوحدة والقلق واليأس والموت إلا انك لا ترى ذلك عبث كافكا او تمرد كامو ولا حتى شذوذ سارتر لذا قلنا عنها شبه وجودية .
يمكن اعتبار هذه المقدمة كفرضية رياضية، ستسعى السطور القادمة على إثباتها أو نفيها .
الجدار الأحمر، بعوض في المدنية، الغروب، الرحيل، بيني وبينك..هي النصوص الخمسة، التي نشرها نتيا القاص لحد الآن وهي قصص مختارة من مجموعته الورقية وأتوقع أنها تشكل نموذجا جيدا عن المجموعة نفسها .النصوص الخمسة، وان تنوعت في طريقة السرد، إلا أنها اختارت نفس الأسلوب باعتماد تيار الوعي أو النموذج الداخلي.وان اهتمت بالمقدمات على عكس القصص الحديثة التي تدخل مباشرة في صلب الموضوع فان النهايات المفتوحة سمة مميزة التي تركت القارئ رهبن الأسئلة التي طرحتها النصوص من خلال شخصيات رسمت بدقة مدهشة وعناية فطرحت مشاكلها النفسية وقلقها بشكل مدهش بعيد عن التوتر المتسارع او الإدهاش المخادع او التشويق المزيف او المصطنع ..فالنصوص الخمسة الوتيرة فيها هادئ رزين كأنك تقرأ لحنا كلاسيكيا تتلقى فيها بعض الضربات النحاسية التي تسمعها عند بتهوفن لتنبهك ولتجديد نشاطك ..
وبمعنى أخر هل هناك عنوان مشترك للنصوص الخمسة؟
والجواب: نعم.. إنه الاغتراب.
القاص فيوكيف شممت الاغتراب ؟
فأقول: من العطر المركب من مزيج الهجرة والعزلة والشوق والحنين والقلق التي نثرها القاص في نصوصه
فالنصوص تلتقي مع الوجودية في طرح الاغتراب إلا أنها تختلف معها في الحلول التي تركها مفتوحة قابلة للوجهين النقيضين..
هذه هي الفرضية إذا. ولنبدأ البرهان ..
يمكن تقسيم الاغتراب إلى قسمين غربة مكانية من خلال قصتي الجدار الأحمر وبعوض في المدينة وغربة روحية من خلال قصتي الغروب والرحيل وغربة هجينة مثيرة جدا في قصة بيني وبينك وهي التي تمثل أعلى قصصه وأكثرها حضورا لأفكار الكاتب والتي سنتحدث عنها في حينها وبالتفصيل.
ولا يعني هذا التقسيم او التنصيف إلا لتسهيل الفرز لان الغربة كلها في الأساس تصيب الروح وإنما المراد التنبيه لتنويع القاص طرح فكرة الاغتراب من جميع الزوايا ..
الغربة المكانية
ففي قصة الجدار الأحمر ، تستيقظ القرية على حدث غير عادي ، وقد تلون جدار برجها التاريخي بلون احمر ،يجتمع أهالي القرية ، مستغربة ، تختلف درجات التأويل والتكهن بالفاعل ولنكتشف في النهاية ان الفاعل هو الجدار نفسه الذي يفرح لمقدرته على جذب انتباه أهالي القرية ولكن هذا الفرح نسبي إذ سرعان ما تبتعد القرية عنه فيقرر تغير لونه مرة أخرى .
إذا هنا الجدار (وبغض النظر عن دلالاته) يشعر بالوحدة والعزلة فيقرر جذب انتباه أهل القرية الخاوية أصلا من العناصر الفاعلة، حيث تبدأ القصة منبهة على ذلك (ارتقى الديكُ صخرةً صغيرةً و أطلقَ صيحةً قصيرةً كـأنـه يؤدِّي واجبا ثقيلا ثـمّ همس لنـفسه قــائـلا : مــنذ أن نَقُصَت دجاجاتُ القريةِ أصبح العملُ مُـمِلا ..يـخرجُ شـيخٌ ببطءٍ من داره و يتخذُ سبيلا يـعرفُها جيدًا نـحو الجامعِ و الظلمةُ لا تزال تُلَملمُ بقايـاها بتثاقلٍ عائدةً إلـى خدرِها .. يقترب الشيخ من ساحةٍ حذوَ البُرجِ القَديـمِ ، برجٌ ترابـيُّ اللونِ قديـمٌ جـدًّا و لا يعرف أحدٌ تاريخَ بنائه و قد نال منه الإهمال منذ سنوات فتصدعت جـوانبه و تساقطت بعض حجارته و نبتـت عليه أعشابٌ ..و يلحـظُ شيخُنا وقوف جَارٍ له فـي الـمكان مبهوتًا فارتفعَ بِبَصَرِهِ إلـى حيث ينظرُ فـهَالَه ما رأى: كان جدارُ البُرجِ الـمواجِه للساحةِ أحـمرَ اللونِ .. نعم أحــمر اللون .. )
وحين تجتمع القرية لهذا الحدث غير العادي كان الجمع من شيوخ وصبيان ونساء وشبان مستهترون وبعد جملة من الحوارات التي تبحث عن الفاعل والتكهنات بمن قام بها وإخبار السلطة كان النهاية تقول لنا ان الجدار هو الفاعل وانه يخيب ظنه حين يتفرق الحشد عنه فيقرر تغير لونه ثانية وليبقى السؤال والى متى يغير لونه ؟
(عند الـظهيرةِ فرغ الـمكانُ من النـاسِ إلا صبِيَّيْنِ كان أحدهـما يشدُّ قطعَ خيوطٍ قصيرةٍ إلــى بعضِها فيصنعُ بـها خيطًا طويلًا يضعُهُ لـجامًا فـي فَمِ صديقِهِ و ينصرفان ضَاحِكَيْنِ ..
عندئذ ارتفعَ صوتٌ جذلانُ عن الـجدارِ يقولُ : لقد نَـجحت حيلَتي ، لقد جلبتُ انتباهَهم إلـيَّ ، غدًا سأُغَيِّرُ لونـي إلى الأُرجُوانِـيِّ ..)
الجدار او البرج القديم هنا له أكثر من دلالة فهو يدل على القيم والتراث والثورة والحرية والمهم هو شعور هذا الجدار بالإهمال وخلوا القرية من العناصر الفاعلة التي لم نشهدها في الساحة كما ذكرنا.
الجميل في النهاية المفتوحة قبولها النمطين المتناقضين فإصرار الجدار يمكن ان يكون ان هناك أمل وبنفس القوة التي تدل على من المستحيل لفتهم إليه لانشغالهم بأمور أخرى .
الجدار هنا مختلف عن جدار سارتر فذلك جدار يشهد قتل البشر من اجل بشر ويتمنى البعد عنه وهنا جدار يطلب البشر ويتمنى جلوسهم معه والالتفات إليه ..كلاهما يشكو قسوة القلوب ولكن كل على طريقته.
وبكلمة أخرى يذكرنا هنا بكتاب الله الكريم حين يصف لنا قلوب الكفار بأنها أقسى من الحجارة التي تنبهت والبشر تجاهلت.
وان كانت القرية تشكوا أهلها فان المدنية في قصة بعوض في المدنية تشكوا غياب أهلها نتيجة الجشع والطمع فأكلت أهلها وأفقرت المدنية..ومثلما استيقظ أهالي القرية على الجدار ، يستيقظ بطل المدنية أخر المحاربين ، يستيقظ( العبيدي) على الألم، نكتشف ان مصدر الألم هو معركة مع البعوض ، حيث يقف أمام المرآة يتفقد الخسائر التي تعرض لها ،
(مثقلا بالـوَهَنِ و الصمتِ وَقَـــف "العُبَــــيْدي" بإعيــاءٍ أمــامَ مرآته ، ككل يــومٍ يعــاينُ آثــارَ مرضٍ جَــديدٍ و ذُبولٍ يَشتَـدُّ ، يسـأل واقفًا أمـــامَه :" مــتى ينتهي كل هذا ؟" لـم يـُـجِــبْهُ بـل واصَـلَ معايـــنةَ شحوبٍ يـــزدادُ زحفًا عــلى وجـــهٍ هزيلٍ .. اقترب من النافذة الصغيرة الوحيدة فـي غرفته مطاردًا لشعاعِ شـمــــسٍ بسيط يدخل بـمشقـــــــة إليها فانــتبهَ إلـى عبوة مبيدِ الـحشراتِ فتـــذكَّر أنه استوفاها البارحةَ فـي مـعركةٍ فاشلةٍ مع البعوض)
ليتفاجأ ونتفاجأ معه بحضور البعوضة لاستئناف المعركة فتكبر من خلال مص دمه ولا ينتهي الصراع إلا بخسارة البطل الذي لا يقدر على المقاومة فيموت ، فتغادر البعوضة بحثا عن صيدا أخر وقد أفرغت المدينة من البشر..
لـمح وراءَه البعــوضةَ و قد انتفـــخت قليلا فتملكَهُ الـخوفُ ..ربـــــاه كيفَ صار حجمُها كبيرًا ؟ و لكـــنَّ مصيـــبةَ" العُبَـيْــدي" لـم تَـكُن إلا فــي بدايــــتِها فقــد كانـــت البعوضةُ كلــما امتصت قليلا من دمِه ازداد تضــخُّمُ حجـــــمِها .. حــتى أصبَحَت بِـحـجمِ قطٍ ........و جثمت على صدرِه فأصـبحَ يتـــنفَّسُ بعُــسرٍ شديدٍ ،..... و أحسَّ بقوائِمِها تُطبِقُ ضاغطةً على رقبتِهِ بـحقدٍٍ غريبٍ ، ثمَّ أوقعت أجنحـتَها على فــمِهِ فلم يعُد قـادراً حتى على الصُّراخِ و على عينَــيهِ فمــنعَته مــن الرؤيةِ و على أذنَيْهِ فلم يَعُد يسمَع .. ثم وَقَــعَ عــلى الأرض و لـم يَصدُر عـنه صوتٌ ..
يذكرنا هنا بحشرة كافكا ، ولكن الفرق ، كافكا حول بطله الى حشرة ، وهنا حول القاص الحشرة الى بشر معادي شر لا يهمه سوى مص الدماء واستغلال الناس فزاد كبرا مع نقصان المحاربين ، كلاهما حاول التنبيه الى الحيوان الموجود فينا ولكن كل على طريقته أيضا . هنا لا نجد رؤية كافكا الى اعتبار الإنسان حشرة في نظر الآخرين بل نجد شراسة النفس البشرية الطماعة القاتلة.
و تأتي النهاية قابلة للتأويل من نهاية انتصار للجشع ممثلا بالبعوض والأمل بوجود مدنية تقدر على الوقوف في وجه البعوض.
(فــي تلك الليلةِ غادَرَ البعوضُ مكامِنَه بـحثًــا عن ولائمَ كـــعادتِهِ .. طال بـــحثُه فــي الأزقةِ و الدورِ و حتى القصورِ و لكن دونَ جدوى .. كان البعوضُ الـمتضخِّمُ قد استنفدَ مــا فـي الأنـحاءِ من بشرٍ .. )
الغربة الروحية
قصتي الغروب والرحيل تلعبان على نفس الوتر ، وتبدأن بمقدمات اقرب الى أطلال معلقات الجاهلية ، وتتحدث بوضوح على الاغتراب الفردي .
في قصة الغروب ،
تبدأ بهذه الكلمات العذبة
أَنا مَن هَدَّه الشوقُ إليَّ ، و أَخَذَه الـهمُّ بعيدًا بعيدًا عَني .. و أَلزَمَني زَمَني ما لا أُطيق ..
فَلَيْتَ أَنسى .. وكيفَ أنسى وذا فَحيحُ ذِكرى أَطلَقَت سُـمومَها فـي دِمائي فَلا تُـجدي مَعَها الأمصالُ و إِنْ جَرَّبتُها ..و ذا هُم أَحِبَّةٌ صَدَقوا ولَكِن رَحَلوا ، بِالـمَوتِ اعتَذَروا ، و ما تُـجدي ، عِنْدَ الرحيلِ ، الـمعاذيرُ..
يستيقظ الراحل وتفيق معه الذكرى ويقف أمام المرآة، ليكتشف الشيب وحفر السنون، ويعود الى غرفته ليكشف وجود الفقيد بآثاره وأفكاره ولتنهي القصة باكتشاف انه يبحث عن نفسه
..
أُفيقُ و تُفيقُ مَعي الذكرى موجِعَةً كالقَهرِ أَو كَالـمَوتِ نَفسِهِ ،..... كانت الشعراتُ البيضاءُ بَيارِقَ الرحيلِ يَومَ اِلتَمَعَت فـي رأسِهِ تُؤذِنُ بِوَداعٍ مَـحتومٍ .. .....أَسيرُ وَجِلا إلـى الـمغسَلِ فأَغسِلُ وَجهي عَجٍلا ، مُتَجَنِّبًا النظَرَ إلى الـمِرآةِ الـمُواجِهَةِ خِشيَةَ أَنْ أَجِدَهُ قبالتي لَكِن يَدي تَـجَمَّدَت على مِقبَضِ الـحَنَفِيَّةِ ، فَقَد كانَت يَدُهُ الـمَعروقَةُ هِيَ التي تُـحكِمُ إِغلاقَ الـمِقبَضَ بِـحِرصِهِ الشديدِ على الـماءِ ، أَقتَلِعُني بِعُنفٍ و أَتَـحَرَّكُ مُتَعَثِّرًا أو مُتَبَعثِرًا..
الشخصية هنا رسمت بدقة ، تعبر عن قلقلها وشوقها وحنينها فتذكرها بغربتها وتثيرك في طرح أسئلتها عن حقيقة الزمن واستحالة السيطرة عليه فهو يمضي دون رجعة مخلفا خلفه الذكريات حلوها ومرها مخلفا الحسرة التي يفشل البطل من الخلاص منها
وتبدأ الأفكار الوجودية تنتشر من خلال البحث عن الماهية والوجود والتطرق هنا الى طرح الأسئلة وما الساعة واللوحة إلا حقيقة موجودة ولكنها تطرح الأسئلة عن مصير الزمن الذاهب ومصير صاحب اللوحة ..
أُحاوِلُ الفكاكَ مِن هذه الـمتاهةِ فَأُغادِرُ الـمكانَ نَـحوَ آخر.. إِذَا كانَ الزمانُ يَأْبـى الثبات فالأماكِنُ تَأبـى الـحَرَكَةَ .. أَسيرُ نَـحوَ غرفةِ نَومي مـرةً أخرى و أَنا أَتَوقَّعُ أَن أَجِدَها فـي مَكانِـها ، لا أَدري كَيفَ وَجدتُ نفسي في غُرفَةِ الـجلوسِ أُجيلُ البَصَرَ في أَشيائِها الـمُبَعثَرَةِ كأَحاسيسي ،الـمُشوَّشَةِ كَأََفكاري .. على صَدرِ الـحائطِ لَوحةٌ كبيرةٌ مَارَسَ الزمنُ نزواتِهِ العجيبةَ على إِطارِها الـمُذَهَّبِ فَأَحالَهُ باهِتًا .. كانتِ اللوحةُ صورةَ الفَقيدِ .. الـجاذبيةُ عنيفةٌ اِقتادَتْنـي إلـى تَأَمُّلِها بِشَغَفٍ كأنـي لا أَعرِفُ صاحبَها ..
لتأتي النهاية هنا مفتوحة، فما اللوحة التي تضم الصورة إلا هي صورة للشخص نفسه الذي تغير بفعل الزمن..فهو موجود وغير موجود ..هو الآن ككيان موجود، ولكن ليس الذي كان قبل هذا الزمان..
أَقِفُ أمامَ صورَتِهِ و لَكِنّـي أَنظُرُ إليه بِإِشفاقٍ وَ حَسرَةٍ كَأَنـي أَعرِفُهُ .. أَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ العَميقَتَيْنِ بِتِلكَ النظرَةِ الغائِمَةِ ... أَنظُر في الصورَةِ طَويلا و أَرحَلُ بَعيدًا بَعيدًا عَنّـي، إذ أَنسى العالـمَ مِن حَولـي و أَنسى كثيرًا مـما ظَنَنْتُ أَنـي لا أَنساه ..و لكننـي أعودُ بَغتَةً لأُفيقَ فَإذا بـالصورةِ لَـم تَكُن إلا صورَتـي أَنـا ..
إنها من أقسى نصوص القاص لاتحد فيها حبكة حدث بل تداعيات شخص هي الحدث نفسه وأكثرها طرقا لفلسفة الوجودية من خلال الصراع بين التصور الذهني والوجود الخارجي فتبرز الذروة من خلال الغموض وإثارة الفضول لمعرفة لوعة البطل وهوسه ،فكانت أكثر تعمقا بالبعد الداخلي للشخصية وتقترب كثيرا من شخصيات كامو إلا انك لا تلمح ذلك التمرد او الانتحار او اللامبالاة وإنما هنا طرح أسئلة عن الذي مضى والذي سيأتي ..وهذا ما يبعدها عن الوجودية الى الشبه وجودية
وكذلك قصة الرحيل التي تبدأ بمقدمة مشابهة لقصة الغروب
(يا الصابرونَ على الـهمِّ ، ضاقَت عِندَ العُمر أُمنِياتـي ، و ذاقَت نَفسي وَجَعَ الفَجائِعِ ..
من جَنوبٍ كان الرحيلُ يومًا ..)
إنها قصة الأكثر لصقا بالشاب العربي وهمومه وبمهارة رسم لنا شخصية البطل ذلك إليها،لطامح الى الهجرة من الجنوب الغارق في الفقر والجهل الى الشمال حيث الثراء والرفاهية وتناقش احلام الشباب العربي وتمس مشاكلهم ويختار لحظة حساسة جدا يقف فيها البطل على مفترق الطرق ، بين ترك الوالد المريض والأخت والأخ الصغير وبين أحلامه في الثراء والمجد
(، تقفُ أُمي عند عتبةِ البابِ و بيدها إناءُ ماءٍ لِتَصبه ورائي حتـى أعودَ إليها ، و فـي عَيْنَيْها بريقُ ماءٍ آخر .. ... .. أخي الصغير واقـفٌ حذوها بقميصهِ الـمتهدلِ و إصبعه تعبثُ بِأنفِهِ ، ينظرُ بغرابةٍ إلينا ، فهو لا يَـعلم بعدُ معنـى الرحيلِ .. ...... تُطل أختي و هـي تُلقي بيـن الـحين و الآخر بنظراتٍ جزعةٍ إلى داخلِ الغرفة ، هنالك أبـي على فراشٍ سقيمًا ، مرضٌ داهـمَه فلازَمَهُ فأقعَدَهُ .. تـحسَّنت حالُــه قبلَ يومين فأخبرتُه بـموعدِ الرحيل ، لَـم يقُل شيئًا لكني أحسستُ في صمتهِ الرهيبِ توسلا بالبقاءِ .. ...... و لكن أنّى لـي ذلكَ و لَـم أبلُغ فرصة َ السـفرِ هَذِهِ إلا بعناءٍ قد لا أستطيعُه ثانيةً.. كذلك الـحصولُ على تأشيرةِ سفرٍ إلـى البلاد التي أقصدُ ليس متيسرًا دومًـا ..
الذروة هنا مختلفة عن قصة الغروب التي اعتمدت عنصر الغموض كما قلنا فهنا الذروة اعتمد على مجموعة من الظروف التي وضعت البطل في مأزق الاختيار بين احد الطريقين أحلاهما مر ، و تصل الى أقصى حد عند حضور السيارة وإلحاح السائق ..إنها لحظة اتخاذ القرار
ارتفع صوتُ مُـحَرِّكِ السيارةِ الـمتوقفةِ أمامَ البـيت ، فقد ضغطَ السائقُ على دَواسةِ البنزين لِيَستَحِثَّني ، بابُ العربةِ مفتوحٌ يطلُبُني إلـى حياةٍ جديدةٍ .. حياة رسـمَتها أحلامٌ و أوهامٌ .. هنالك بعيدًا خلفَ سفرٍ طويلٍ إلـى أرضِ الوُجوهِ الشقراء و الـمالِ الوفير و الـمباهجِ ..
في هذه اللحظة التي يستعين بها البطل بأحلامهم واللحم الأبيض لأخذ قراره تظهر ابنة خاله خطيبته لتقصم ظهر البعير ولتنسف أحلامه وترجح كفة البقاء على الهجر ، كفة المحبة الروحية على المحبة المادية إنها ذروة درامية يصورها ببراعة القاص فيصل فنحتار معه في التعاطف مع البطل ونحتار الى أين نحث الى السفر أم البقاء
ينفتحُ بـهدوءٍ بابُ منزلٍ مُـجاورٍ تـخرجُ مِنه فتاةٌ اتفقَت عائلتان يومًا على تزويـجي مِنها فهي ابنةُ خالـي .. لـم تَكُن الفتاةُ قبيحةً حتى أرفضَها زوجـةً ....... لكني كُنتُ أرفُضُ ذلكَ الارتباطَ الذي يَشُدُّنـي إلى حياةِ البُؤس هنـا،
عند هذه الذروة تبدأ الأسئلة الشاغلة بال القاص كالزمن والحياة والموت
...، تذَكَّرتُ كلامَ أبـي الكثير عن كَونـي رجلَ الدارِ بعدَه فكنت أُجيبُه بأن أدعوَ له بطولِ العُمرِ فيُجيبُنـي : يَطولُ العُمرُ أو يَقصُر فلابد للإنسانِ أن يُقبَـر .. ...، لـم يَكُن للحظةِ و لا للزمنِ غـير معنى واحدٍ مُـختَلفٍ لا يعرِفُهُ الساعاتِِيّون ..
صورة تراجيدية يضعنا القاص أمامها تظهر لنا هذا الاغتراب الروحي لدى البطل والغارق في صراعه مع قدره في البقاء او الرحيل مؤكدا على لعبة الاختيار وقدرة الاختيار الوجودي فالإنسان يقدر على الاختيار وكان من الممكن أن لا تكون قصة مثيرة لولا النهاية الجميلة والقابلة للتأويل
...يسقُطُ إناءُ مـاءِ على الأرض فقد كان ولدي الصغيرُ قد أوقع قدحًـا من يَدَيْهِ .. تـمامًا مثلما سَقَطَ إناءُ الـماءِ من يَدَيْ أمي يومَها عندما ارتفَعَ صوتُ أختي مِن النافذةِ الخشبيةِ الـزرقاء بصيحةٍ مـجروحَةٍ تُعلِنُ وقوعَ الفادحةِ ..
تنحنـي زوجتي تُلَمْلِمُ شظايا القَدَحِ و تبتَسِمُ بطيبةٍ ساذجةٍ تُذَكِّرُنـي بـخالـي الطيب.
النهاية كانت كما قال الأب هي الموت ولكن بقي السؤال أين ؟ هل في بلاد الغربة فتذكر دورة الحياة أم عند أهله وقد اختار البقاء مع ابنة خاله.. فترك للقارئ يختار النهاية التي يريدها مؤكدا على لعبة الاختيار
قد تكون القصص الأربع السابقة غير كافية لإثبات ما حاولنا فرضه وقد أكون تجرأت وشحطت في خيالي وانطباعي إلا ان قصة بيني وبنيك لا يمكن تجاهل الأسئلة الوجودية التي يطرحها النص بكثافة شديدة جدا تكاد تكون قصة على شكل جملة من الأسئلة عن الحياة والموت والوجود .كما إنها تأتي كحجة قوية لنفي تبني القاص للأفكار الوجودية كما هي معروفة في وسط مبدعي الوجودية، إلا أنها حاضرة وبقوة أسئلة الموت والغربة والوحدة والحياة بمعنى أخر جدوى وجود البشر.إلا أنها تثبت بقوة هو عدم امتلاك الإنسان لخيار الحياة او الموت مبتعدا بذلك عن فلسفة من يزعم انه يملك مصيره بيده .في هذه القصة نحن أمام أب ينتظر ولادة مولود بعد سنوات من الحرمان ممزوجا بالخوف من مخاطر الحمل وقلق فقدان الأم الذي كان الحمل خطرا يهدد حياتها.. فبصور لنا قلق الأب وحالته
.. أجلسُ وحيدًا فـي زاويةِ غرفةٍ باردةٍ، أجلــسُ على مقعدٍ قاسية أطرافُه، و تفوحُ رائحةُ الـخَدَرِ ،و أنينٌ حادٌّ بينَ أُذنَـيَّ......باحتدادٍ حدَّثَــــنا الطبيبُ قبلَ أشــهرٍ و هـو يـحذِّرُنا مِن خَطَرِ الحَملِ
ويصبح الممر الفاصل بين غرفة الانتظار وغرفة الولادة، نموذجا مصغرا عن رحلة الكائن، من الحياة إلى الموت، كأنه طريق الحياة الفعلي لإنسان، وهو يواجه مصيراً، لا يملك خيارا فيه...
فأَشَارَ إلى مَمَرٍّ مُظلمٍ بعضَ الشَّيء : إنّهم يريدونَ رُؤيتَكَ .. أَزَّ في الرأسِ صوتٌ مُوجِعٌ و اضطربَت دقاتُ القـلبِ بتسارُعِها نحوَ ..آخرِ الـمَمَرِّ..
فيترك وحيدا ليواجه قدره في معرفة ولادة الصبي المنتظر لسنوات طويلة وإبعاد هاجس موت الأم..
أحسـستُ أنَّ آخرَ المـمرِّ هو آخر الكَونِ .. و أنا لم أَعُد أعلمُ أَيْـني .. لا أدري كيفَ
ببراعة اقتنص محمد فيصل الزوايدي اللحظة الحاسمة، عندما اختار تلك اللحظة المصيرية بين الحياة والموت، تلك اللحظة التي تشهد ولادة حي، مع تهديد ممكن لاختفاء حياة، هي الوسيط لإعطاء الحياة لجديد..إنها من أقسى اللحظات التي يقف فيها المرء عاجزاً، لا يملك فيها القرار، بل الانتظار، لما يخبئه له القدر ..
و تَزاحَـمت الهواجسُ ثقيلةً كالهزيمةِ .. هل وُلَدَ الصبيُّ المنتَظَرُ منذ السِّنين أم ماتَت الأمُّ ؟
هل يـمكِنُ أن يغتالَ ذاك الصـــبيُّ أمَّهُ ؟ هل تنطلقُ حياتُه بـمَوتِها ؟ أم يـموتُ لتَحيا
وما بين غرفة الانتظار وغرفة الولادة، وعلى الممر ، تنهمر الأسئلة، كشظايا قنبلة، فجرتها النفس لتعبر عن حالة الاغتراب الروحي، فكانت الشظايا هي أحاسيس الموت، والتيه، والفراغ،
كيف اقتربَ الموتُ مِنَ الحياةِ ذلك الاقترابَ ؟
أيُّ معنى لأيِّ قولٍ أمامَ الولادةِ أو الـموتِ ؟؟
وتبدأ الذروة لحظة اقترابه من غرفة الولادة
التــقطت عينَاي الكليلتانِ لافتةً تشيرُ إلى غرفَةِ الوِفَياتِ .. حائطٌ بـناه عاملٌ لا يُدرِكُ ...مــا يفعلُ .. يفصلُ به بينَ الحياةِ و الموتِ
خشيتُ أن أدفعَ البابَ .. بابٌ
صَنَعَهُ نَـجَّارٌ و هو يتابعُ بِبَصَرِهِ النَّهِمِ فتياتِ الحَيِّ .. صنَعَهُ يومـًا و لم يُدرِك أبدًا ما الذي ...يُـمكِنُ أن يُخفي وراءَهُ ..
هنا قمة في طرح الأسئلة وقمة في إبراز الهواجس وقمة التأكيد على عجز الاختيار المصيري
لتأتي النهاية المحببة للقاص، النهاية المفتوحة، الغامضة، فلا ندرك هل الوليد اغتال الأم أم لا..
فكلا النهايتين ممكنة .
..أحسـستُ حركاتٍ فـي الأجسادِ تلتفتُ تستطلع مَنِ القادمُ .. بِبَقيـةٍ مِن قُدرَةٍ و عزمٍ تقــدَّمتُ خُطوتَينِ داخلَ الغرفَةِ و تضخُّمٌ مـخيفٌ بصَدري كأنّـي سأنفجرُ .. توسطتُ الـمكانَ و نظرتُ أمامي : أذهَلَني كلُّ ذلكَ البياضُ .. بياضٌ شديدٌ ناصعٌ ، تـمامًا مثلَ السَّوادِ .
هنا لا يترك القارئ يختار النهاية التي تعجبه بل يورطه في البحث عن أجوبة للأسئلة الممكنة والكف عن الأسئلة المستحيلة..
ان عدم مبالاة غريب كامو من موت امه او قتله لشخص لا يهمهه او عشقه للسجن يقابلها القاص فيصل الزوايدي بشدة على النقيض بالاهتمام بالفرد والحرص على حماية الأحبة وحتى الموت في سبيلها ...
ومثلما تُطلق على الأرض التي لا يحدها البحر من الجهات الأربع شبه جزيرة. كانت قصص القاص بطرحها أسئلة وجودية دون تبني العبث او التمرد ،كانت إثباتا على أنها شبه وجودية ونفيا على كونها وجودية.
وتبقى في النهاية كلمة ان هذه القراءة لم تهدف الى تلمس الخصائص اللغوية والأسلوبية وان تحرشت بالخصائص الدلالية التي هي محور التفاعل في قراءتي ولم تتابع التنميط الداخلي للنص إلا بقدر يهم هذه الدراسة و أنا متأكد ان لهذين المحورين محور التنميط والخصائص لها متخصصون أكفأ وأجدر
وإنما هذه محاولة أخرى من محاولات لقراءة تفاعلية قد تخطئ وقد تصيب ولكن المهم للمجتهد اجر ان أصاب او أخطا ..
علاء الدين حسو
قاص سوري
رد: الذروة شبه الوجودية عند فيصل الزوايد
الأستاذالقاص المتمرس
فيصل الزوايدي
شكرا على نقل هذه الدراسة الجميلة
والقراءة الطيبة لقلم بارع مثل قلمك
استمتعنا كثيرا بالتفاعل مع هذه الومضات
وأعدنا قراءة قصصك في المربد من جديد
ترافقنا هذه الومضات البديعة
تقبل خالص الاحترام لقلمك المجدد
رد: الذروة شبه الوجودية عند فيصل الزوايد
Quote:
Originally Posted by
روان يوسف
الأستاذالقاص المتمرس
فيصل الزوايدي
شكرا على نقل هذه الدراسة الجميلة
والقراءة الطيبة لقلم بارع مثل قلمك
استمتعنا كثيرا بالتفاعل مع هذه الومضات
وأعدنا قراءة قصصك في المربد من جديد
ترافقنا هذه الومضات البديعة
تقبل خالص الاحترام لقلمك المجدد
أخي روان اعتز برأيك في الدراسة وفي نصوصي و قد اسعدني اطلاعك عليها و تفاعلك الراقي و انا ممتن لدعمك العفوي
دمت في الخير
مع الود الممتد
رد: الذروة شبه الوجودية عند فيصل الزوايد
Quote:
Originally Posted by
فيصل محمد الزوايدي
أخي روان اعتز برأيك في الدراسة وفي نصوصي و قد اسعدني اطلاعك عليها و تفاعلك الراقي و انا ممتن لدعمك العفوي
دمت في الخير
مع الود الممتد
رد: الذروة شبه الوجودية عند فيصل الزوايد
Quote:
Originally Posted by
روان يوسف
اخت روان اعتذر للالتباس و بالنسبة لسؤالك فأعتقد ان اللجوء الى ناقد سيكون أجدى للاطلاع الدقيق على الاصطلاحات النقدية الحديثة و حسب رأيي فكل ما يقدم للكاتب من قراءات انطباعية أو اكاديمية تفيده من حيث يدري أو لا يدري ..
اسعدني التواصل معك كثيرا
دمت في الخير