الشيخ أبو الحسن علي بن علي البسطي
الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن علي ، القرشي ، البسطي ، الشهير بالقلصادي(٢) ـ بفتحات ـ كما قال السخاوي
الصالح ، الرحلة ، المؤلف ، الفرضي ، آخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس ، وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض ، كشرحيه العجيبين على تلخيص ابن البناء والحوفي ، وكفاه فخرا أن الإمام السنوسي صاحب العقائد أخذ عنه جملة من الفرائض والحساب ، وأجازه جميع مروياته ، وأصله من بسطة ، ثم انتقل إلى غرناطة ، فاستوطنها ، وأخذ بها عن جماعة كابن فتوح والسرقسطي وغيرهما ، ثم ارتحل إلى المشرق ومر بتلمسان فأخذ بها عن الإمام عالم الدنيا ابن مرزوق والقاضي أبي الفضل قاسم العقباني وأبي العباس بن زاغ وغيرهم ، ثم ارتحل فلقي بتونس تلامذة ابن عرفة كابن عقاب والقلشاني وحلول وغيرهم ، ثم حج ولقي أعلاما ، وعاد فاستوطن غرناطة إلى أن حل بوطنه ما حل ، فتحيل في خلاصه من الشرك وارتحل ، ومر بتلمسان فنزل بها على الكفيف ابن مرزوق ابن شيخه ، ثم جدت به الرحلة إلى أن وافته منيته بباجة إفريقية منتصف ذي الحجة سنة ٨٩١ ، وكان كثير المواظبة على الدرس والكتابة والتأليف ، ومن تآليفه «أشرف المسالك ، إلى مذهب مالك» وشرح مختصر خليل ، وشرح الرسالة ، وشرح التلقين و «هداية الأنام ، في شرح مختصر قواعد الإسلام» وهو شرح مفيد ، وشرح رجز القرطبي ، و «تنبيه الإنسان ، إلى علم الميزان» و «المدخل الضروري» وشرح إيساغوجي في المنطق ، وله شرح الأنوار السنية لابن جزى ، وشرح رجز الشراز في الفرائض الذي أوله : [بحر الرجز]
__________________
(١) في ه : «خدم والده الصالح» وهو تحريف.
(٢) انظر ترجمته في الأعلام للزركلي ج ٥ ص ١٦٣. وقد جاء فيه أن القلصادي ولد سنة ٨١٥ ه وتوفي سنة ٨٩١ ه.
٢٧٧
بحمد خير الوارثين أبتدي |
|
وبالسراج النبويّ أهتدي |
وشرح حكم ابن عطاء الله ، ورجز أبي عمرو بن منظور في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، وشرح البردة ، ورجز ابن بري ، ورجز شيخه أبي إسحاق بن فتوح في النجوم الذي أوله : [بحر الرجز]
سبحان رافع السماء سقفا |
|
ناصبها دلالة لا تخفى |
وشرح رجز أبي مقرعة (١) ، وله «النصيحة ، في السياسة العامة والخاصة» و «هداية النظّار ، في تحفة الأحكام والأسرار» و «كشف الجلباب ، عن علم الحساب» و «كشف الأسرار ، عن علم الغبار» و «التبصرة» و «قانون الحساب» في قدر التلخيص ، وشرحه ، وشرحان على التلخيص كبير وصغير ، وشرح ابن الياسمين في الجبر والمقابلة ، ومختصره ، وكليات الفرائض ، وشرحها ، وشرحان للتلمسانية كبير وصغير ، وشرح فرائض صالح بن شريف وابن الشاط وفرائض مختصر خليل والتلقين وابن الحاجب ، وله كتاب «الغنية ، في الفرائض» و «غنية النحاة» ، وشرحاها الكبير والصغير ، و «تقريب المواريث» و «منتهى العقول البواحث» وشرح مختصر العقباني ، ولم يتم ، و «مدخل الطالبين» ومختصر مفيد في النحو ، شرح رجز ابن مالك ، والجرومية ، وجمل الزجاجي ، وملحة الحريري (٢) ، والخزرجية ، ومختصر في العروض ، وغير ذلك ، وأخذ بمصر عن الحافظ ابن حجر والزين طاهر النويري وأبي القاسم النويري والعلامة الجلال المحلّي والتقى الشمني وأبي الفتح المراغي وغيرهم ، حسبما ذكر ذلك في رحلته الشهيرة ، وهي حاوية لشيوخه بالمغرب والمشرق وجملة من أحوالهم ، رحم الله تعالى الجميع!.
٣٠٧ ـ ومنهم أبو عبد الله الراعي ، وهو شمس الدين محمد بن إسماعيل ، الأندلسي ، الغرناطي (٣).
ولد بها سنة ٧٨٢ تقريبا ، ونشأ بها ، وأخذ الفقه والأصول والعربية عن جماعة منهم أبو جعفر أحمد بن إدريس بن سعيد الأندلسي ، وسمع على أبي بكر عبد الله بن محمد بن محمد المعافري بن الدب ، ويعرف بابن أبي عامر ، والخطيب أبي عبد الله محمد بن علي بن الحفار ومحمد بن عبد الملك بن علي القيسي المنتوري ، صاحب الفهرسة الكبيرة الشهيرة ، ومما أخذ
__________________
(١) في أ : «ابن مقرعة».
(٢) ملحة الأعراب لأبي محمد القاسم بن علي الحريري البصري مؤلف المقامات.
(٣) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن إسماعيل الأندلسي المالكي ، نزيل القاهرة ، المشهور بالراعي النحوي ، كان إماما عالما ، توفي سنة ٨٥٣. (انظر بغية الوعاة ١ / ٢٣٣). وشذرات الذهب ٧ / ٢٧٩).
٢٧٨
عنه الجرومية بأخذه لها عن الخطيب أبي جعفر أحمد بن محمد بن سالم الجذامي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحضرمي عن مؤلفها أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي عرف بابن آجروم ، وجميع «خلاصة الباحثين ، في حصر حال الوارثين» للقاضي أبي بكر عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري بأخذه لها عن مؤلفها ، وأجاز له أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي ، والقاضي أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني ، والعلامة أبو الفضل محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الإمام (١) ، وعالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني ، وغيرهم من المغاربة ، ومن أشياخه من أهل المشرق الكمال بن خير السكندري ، والزين أبو بكر المراغي ، والزين محمد الطبري ، وأبو إسحاق إبراهيم بن العفيف النابلسي ، في آخرين ، ودخل القاهرة سنة ٨٢٥ فحج واستوطنها ، وسمع بها من الشهاب المتبولي وابن الجزري والحافظ ابن حجر وطائفة ، وأمّ بالمؤيدية وقتا ، وتصدى للاشتغال ، فانتفع به الناس طبقة بعد أخرى ، لا سيما في العربية ، بل هي كانت فنه الذي اشتهر به وبجودة الإرشاد لها ، وشرح كلا من الجرومية والألفية والقواعد وغيرها مما حمله عنه الفضلاء ، وله نظم وسط ، قال السخاوي : كتبت عنه منه الكثير ، ومما لم أسمعه منه ما أودعه في مقدمة كتاب صنفه في نصرة مذهبه وأثبته دفعا لشيء نسب إليه ، فقال : [بحر الطويل]
عليك بتقوى الله ما شئت واتّبع |
|
أئمة دين الحق تهدى وتسعد (٢) |
فمالكهم والشافعي وأحمد |
|
ونعمانهم كل إلى الخير يرشد (٣) |
فتابع لمن أحببت منهم ولا تمل |
|
لذي الجهل والتعصيب إن شئت تحمد |
فكل سواء في وجيبة الاقتدا |
|
متابعهم جنات عدن يخلد |
وحبهم دين يزين وبغضهم |
|
خروج عن الإسلام والحق يبعد |
فلعنة رب العرش والخلق كلهم |
|
على من قلاهم والتعصب يقصد (٤) |
وكان حادّ اللسان والخلق ، شديد النفرة من الشيخ يحيى العجيسي ، أضر بأخرة ، ومات بسكنه بالصالحية يوم الثلاثاء ٢٧ ذي الحجة سنة ٨٥٣ ، بعد أن أنشد قبيل موته بشهر في حال صحته الشيخ جمال الدين بن الأمانة من نظمه قوله : [بحر الطويل]
__________________
(١) في ب : «ابن الإمام».
(٢) في ب : «تهتد وتسعد».
(٣) في البيت ذكر لأئمة مذاهب السنة وهم مالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة النعمان.
(٤) قلى : أبغض.
٢٧٩
أفكر في موتي وبعد فضيحتي |
|
فيحزن قلبي من عظيم خطيئتي |
وتبكي دما عيني وحقّ لها البكا |
|
على سوء أفعالي وقلة حيلتي |
وقد ذابت اكبادي عناء وحسرة |
|
على بعد أوطاني وفقد أحبتي |
فما لي إلا الله أرجوه دائما |
|
ولا سيما عند اقتراب منيّتي |
فنسأل ربي في وفاتي مؤمنا |
|
بجاه رسول الله خير البرية |
قال السخاوي : ومما كتبته عنه : [بحر الكامل]
ألفيته حول المعلم باكيا |
|
ودموعه قد صاغها من كوثر |
نثر الدموع على الخدود فخلتها |
|
درا تناثر في عقيق أحمر (١) |
وقوله : [بحر المتقارب]
عليك بنعمة رب العلا |
|
وراع الملوك لرعي الذمم |
وذو العلم فارع له حقّه |
|
وإلا تفارق وتلق الندم |
فهذا مقالي فلتسمعوا |
|
نصيحة حبر من اهل الحكم (٢) |
إذا كنت في نعمة فارعها |
|
فإن المعاصي تزيل النعم |
وقال : [بحر الكامل]
للغرب فضل شائع لا يجهل |
|
ولأهله شرف ودين يكمل |
ظهرت به أعلام حقّ حقّقت |
|
ما قاله خيرالأنام المرسل |
من أنهم حتى القيامة لن يزا |
|
لوا ظاهرين على الهدى لن يخذلوا |
وممن حدث عن الراعي (٣) الحافظ ابن فهد والبرهان البقاعي ، ومن تأليفه «شرح القواعد» وكتاب «انتصار الفقير السالك ، لمذهب الإمام الكبير مالك» في كراريس أربعة حسن في موضوعة ، وله «النوازل النحوية» في عشرة كراريس أو أكثر وفيها فوائد حسنة وأبحاث رائقة ، تكلم معه في بعضها أبو عبد الله بن العباس التلمساني.
وذكر بعضهم أنه اختصر شرح شيخه ابن مرزوق على مختصر الشيخ خليل من باب القضاء إلى آخر الكتاب ، انتهى.
__________________
(١) خلتها : حسبتها.
(٢) الحبر : العالم.
(٣) في ج : «وممن حدث عنه الراعي الحافظ ابن فهد والبرهان البقاعي» وقد أثبتنا ما في بقية النسخ وأهمها أ ، ب ، ه.
٢٨٠
وجرت له في صغره حكاية دلت على نبله ، وهي أنه دخل على الطلبة رجل وهم بجامع غرناطة فسألهم عمن كان وراء إمام ، فحدث للإمام عذر ذهب لأجله ، مثل الرعاف مثلا ، فصلوا بعض الصلاة لأنفسهم ، ثم اقتدوا بإمام منهم قدموه فيما بقي ، فهل تصح صلاتهم أم لا؟ فلم يكن عند أحد من الحاضرين فيها علم ، فقال هو : إن الصلاة باطلة ، لأن النحاة يقولون : الإتباع بعد القطع لا يجوز.
وقد حكى ذلك في شرحه للجروميّة الذي سماه بعنوان الإفادة في باب النعت إذ قال ما نصه : كنت جالسا بمسجد قيسارية غرناطة أنتظر سيدنا وشيخنا أبا الحسن علي بن سمعة رحمه الله تعالى مع جماعة من كبار طلبته ، وكنت إذ ذاك أصغرهم سنا وأقلهم علما ، فدخل سائل سأل عن مسألة فقهية نصها : إن إماما صلى بجماعة جزءا من صلاة ، ثم غلب عليه الحدث ، فخرج ولم يستخلف عليهم (١) ، فقام كل واحد من الجماعة وصلى وحده جزءا من الصلاة ، ثم بعد (٢) ذلك استخلفوا من أتم بهم الصلاة ، فهل تصح تلك الصلاة أم لا؟ فلم يكن فيها عند الحاضرين جواب ، فقلت : أنا أجاوب فيها بجواب نحوي ، فقال : هات الجواب ، فقلت : هذا إتباع بعد القطع ، وهو ممتنع عند النحويين ، فصلاة هؤلاء باطلة ، فاستظرفها مني من حضر لصغر سني ، ثم طلبنا النص فيها فلم نلقه في ذلك التاريخ ، ولو لقيناه لكان حسنا ، انتهى.
ومن ألغازه قوله : [بحر الرجز]
حاجيتكم نحاتنا المصرية |
|
أولي الذكا والعلم والطعميه (٣) |
ما كلمات أربع نحويه |
|
جمعن في حرفين للأحجيه |
يعني فعل الأمر للواحد من «وأى يئي» إذا أضمر ، فإنك تقول فيه : إيا زيد على حرف واحد ، وهو الهمزة المقطوعة ، فإذا قلت «قل إ» ونقلت حركته على لغة النقل إلى الساكن صار هكذا «قل» فذهب فعل الأمر وفاعله ، فهي كلمات أربع فعلا أمر وفاعلاهما جمعن في حرفين القاف واللام ، فافهم.
وأحسن من هذا قوله ملغزا في ذلك أيضا : [بحر الرجز]
في أي لفظ يا نحاة الملة |
|
حركة قامت مقام الجملة |
__________________
(١) في ه : «فخرج ولم يستخلف لهم».
(٢) في ه : «ثم من بعد ذلك استخلفوا».
(٣) حاجى : طرح الأحاجي ، أي الألغاز.
٢٨١
وبالجملة فمحاسنه كثيرة ، رحمه الله تعالى ورضي عنه!.
ومن فوائده قوله : حكى لي بعض علماء المالكية قال : كنا نقرأ المدوّنة على الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي ، فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي فقال الشيخ في مسألة «مذهبنا كذا» في مسألة لم يقل فيها الشافعي بما قال ، وإنما نسبها البلقيني لنفسه ، ثم فطن وخاف أن ينتقد عليه المالكية ويقولون له : أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي ، فقال : فإن قلتم يا مالكية لسنا بمالكية ، وإنما أنتم شافعية ، قلنا : كذلك أنتم قاسمية ، وقد اجتمعنا الكل في مالك ، قال : وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ.
قال : ولما قرىء عليه كتاب «الشفاء» مدحه وأثنى عليه إلى الغاية ، وكان يحضره جماعة من المالكية فقال القاضي جمال الدين ابنه : ما لكم يا مالكية لا تكونون مثل القاضي عياض؟
فقال له أبوه الشيخ سراج الدين المذكور : وما لك لا تقول للشافعية ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض؟.
ومن فوائد الراعي في باب العلم من شرحه على الألفية : في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي أن تكون في كل فقير ، لا يزال جائعا ، وهو من دأب الصالحين ، ولا يكون له موضع يعرف به ، وذلك من علامة المتوكلين ، ولا ينام من الليل إلا القليل ، وذلك من صفات المحبين ، وإذا مات لا يكون له ميراث ، وذلك من أخلاق الزاهدين ، ولا يهجر صاحبه وإن جفاه وطرده ، وذلك من شيم المريدين ، ويرضى من الدنيا بأدنى يسير ، وذلك من إشارة القانعين ، وإذا غلب عن مكانه تركه وانصرف إلى غيره ، وذلك من علامة المتواضعين ، وإذا ضرب وطرد ثم دعي أجاب ، وذلك من أخلاق الخاشعين ، وإذا حضر شيء من الأكل وقف ينظر من بعيد (١) ، وذلك من أخلاق المساكين ، وإذا رحل لم يرحل معه بشيء ، وذلك من علامة (٢) المتجردين ، انتهى بمعناه.
وقد نسبه للحسن البصري رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنه.
ومن تصانيفه رحمه الله تعالى كتاب «الفتح المنير ، في بعض ما يحتاج إليه الفقير» في غاية الإفادة ، ملكته بالمغرب ولم أره بهذه البلاد المشرقية ، وحفظت منه فوائد ممتعة.
ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق بعد أخذ جميع بلاد الأندلس ـ أعادها
__________________
(١) في أ : «من بعد».
(٢) كذا في أ ، ب ، وفي ه : «وذلك علامة المتجردين».
٢٨٢
الله تعالى! ـ قاضي الجماعة بغرناطة أبو عبد الله محمد (١) بن علي بن محمد بن الأزرق.
قال السخاوي : إنه لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد بن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق ، بحيث كان جل انتفاعه به ، وحضر مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السّرقسطي العالم الزاهد مفتيها أيضا في الفقه ، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني ، والشهاب قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس أحمد بن أبي يحيى بن شرف (٢) التلمساني ، انتهى.
وله رحمه الله تعالى تآليف : منها «بدائع السلك ، في طبائع الملك» كتاب حسن مفيد في موضوعه ، لخص فيه كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخه وغيره مع زوائد كثيرة ، ومنها «روضة الأعلام ، بمنزلة العربية من علوم الإسلام» مجلد ضخم فيه فوائد وحكايات لم يؤلف في فنه مثله ، وقفت عليه بتلمسان وحفظت منه ما أنشده لبعض أهل عصره مما يكتب في سيف : [بحر البسيط]
إن عمت الأفق من نقع الوغى سحب |
|
فشم بها بارقا من لمع إيماضي (٣) |
وإن نوت حركات النصر أرض عدى |
|
فليس للفتح إلا فعلي الماضي (٤) |
ومن إنشائه في التأليف المذكور ما صورته : قلت : ولقد كان شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فتوح قدّس الله تعالى روحه يفسح لصاحب البحث مجالا رحبا ، ويوسع المراجع له قبولا ورحبا ، بل يطالب بذلك ويقتضيه ، ويختار طريق التعليم به ويرتضيه ، وتوقيفا على ما خلص له تحقيقه ، ووضح له في معيار الاختيار تدقيقه ، وإلا فقد كان ما يلقيه غاية ما يتحصل ، ويتمهد به مختار ما يحفظ ويتأصّل ، انتهى.
وهو يدل على ملكته في الإنشاء ، ويحقق ما يحصله ، إلا أن ذلك إذا طال حتى وقع الملل والضجر أو كاد فينبغي الإمساك عن البحث ، لئلا يفضي الحال إلى ما ينهى عنه.
قال : ومخالفة التلميذ الشيخ في بعض المسائل إذا كان لها وجه وعليها دليل قائم يقبله غير الشيخ من العلماء ليس من سوء أدب التلميذ مع الشيخ ، ولكن مع ملازمة التوقير الدائم ،
__________________
(١) انظر ترجمته في أزهار الرياض ج ٣ ص ٣١٧.
(٢) كذا في أ ، ب ، ج. وفي ه : ابن الشريف.
(٣) النقع : الغبار المتطاير في المعركة.
(٤) فعلي الماضي : هنا فعلي القاطع.
٢٨٣
والإجلال الملائم ، فقد خالف ابن عباس عمر وعليا وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم ، وكان قد أخذ عنهم ، وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة ، وإنما أخذوا العلم عنهم ، وخالف مالك كثيرا من أشياخه ، وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكا في كثير من المسائل ، وكان مالك أكبر أساتيذ (١) الشافعي ، وقال : لا أحد أمنّ عليّ من مالك ، وكاد كل من أخذ العلم أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل ، ولم يزل ذلك دأب التلاميذ مع الأساتيذ إلى زماننا هذا ، وقال : وشاهدنا ذلك في أشياخنا مع أشياخهم رحمهم الله تعالى! قال : ولا ينبغي للشيخ أن يتبرّم (٢) من هذه المخالفة إذا كانت على الوجه الذي وصفناه ، والله تعالى أعلم ، انتهى.
ولما أنشد ابن الأزرق المذكور في كتابه «روضة الأعلام» قول القائل في مدح ابن عصفور : [الرمل]
نقل النحو إلينا الدّؤلي |
|
عن أمير المؤمنين البطل (٣) |
بدأ النحو عليّ وكذا |
|
ختم النحو ابن عصفور علي |
قال بعده ما نصه : على أن صاحبنا الكاتب الأديب الأبرع أبا عبد الله محمد بن الأزرق الوادي آشي رحمه الله تعالى قد قال فيما يدافع ابن عصفور عما اقتضاه هذا المدح له بتفضيل الأستاذ المحقق أبي الحسن بن (٤) الضائع عليه ، ولقد أبدع في ذلك ما شاء لما تضمن من التورية : [بحر الطويل]
بضائعك ابن الضائع النّدب قد أتت |
|
بحظ من التحقيق والعلم موفور |
فطرت عقابا كاسرا أو ما ترى |
|
مطارك قد أعيا جناح ابن عصفور |
انتهى.
وقد نقل عن ابن الأزرق صاحب المعيار في جامعه ، وأثنى عليه غير واحد ، ومن أعظم تآليفه شرحه الحافل على مختصر خليل المسمى «بشفاء الغليل ، في شرح مختصر خليل» وقد توارد معه الشيخ ابن غازي على هذه التسمية ، وكان مولانا العم الإمام شيخ الإسلام سيدي
__________________
(١) أساتيذ أحد جموع أستاذ.
(٢) تبرم : ضجر.
(٣) الدؤلي : هو أبو الأسود الدؤلي. وأمير المؤمنين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(٤) في ب : «أبي الحسن ابن الضائع».
٢٨٤
سعيد بن أحمد المقري رضي الله تعالى عنه قال لي حين سألته عن هذا التوارد : لعل تسمية ابن الأزرق «شفاء العليل» بالعين ، قلت : يبعد ذلك أن جماعة من تلامذته الأكابر كالوادي آشي وغيره كتبوه بخطوطهم بالغين المعجمة ، فبان أنه من توارد الخواطر ، وأن كلا منهما لم يقف على تسمية الآخر ، والله تعالى أعلم ، وقد رأيت جملة من هذا الشرح بتلمسان وذلك نحو ثلاث مجلدات ، ولا أدري هل أكمله أم لا ، لأن تقديره بحسب ما رأيت يكون عشرين مجلدا ، إذ المجلد الأول ما أتم مسائل الصلاة ، ورأيت الخطبة وحدها في أكثر من كراسة أبان فيها عن علوم ، ولم أر في شروح خليل مع كثرتها مثله ، ودخل تلمسان لما استولى العدو على بلاد الأندلس ، ثم ارتحل إلى المشرق ، فدخل مصر ، واستنهض عزائم السلطان قايتباي لاسترجاع الأندلس ، فكان كمن يطلب بيض الأنوق ، أو الأبيض العقوق (١) ، ثم حج ورجع إلى مصر فجدّد الكلام في غرضه ، فدافعوه عن مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس ، فتولاه بنزاهة وصيانة وطهارة ، ولم تطل مدته هنالك حتى توفي به بعد سنة خمس وتسعين وثمانمائة ، حسبما ذكره صاحب «الأنس الجليل ، في تاريخ القدس والخليل» فليراجع فإنه طال عهدي به.
ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله في المجبّنات : [بحر مخلع البسيط]
ورب محبوبة تبدت |
|
كأنها الشمس في حلاها |
فأعجب لحال الأنام من قد |
|
أحبها منهم قلاها (٢) |
ومنه قوله رحمه الله تعالى : [بحر السريع]
عذري في هذا الدخان الذي |
|
جاور داري واضح في البيان (٣) |
قد قلتم إن بها زخرفا |
|
ولا يلي الزخرف إلا الدخان (٤) |
وقوله : [بحر الطويل]
تأملت من حسن الربيع نضارة |
|
وقد غرّدت فوق الغصون البلابل |
__________________
(١) أخذ هذا المعنى من قول الشاعر :
طلب الأبيض العقوق فلما |
|
لم يجده أراد بيض الأنوق |
(٢) قلاها : وضعها في الزيت المغلي وقلاها.
(٣) كذا في أ ، ب ، وفي ه : «عذري عن هذا الدخان».
(٤) الزخرف ، والدخان : سورتان في القرآن الكريم ، وقد جاءت الدخان بعد الزخرف في ترتيب المصحف الشريف.
٢٨٥
حكت في غصون الدّوح قسّا فصاحة |
|
لتعلم أن النبت في الروض باقل (١) |
وقوله : [بحر الطويل]
وقائلة صف للربيع محاسنا |
|
فقلت وعندي للكلام بدار |
همي ببطاح الأرض صوب من الحيا |
|
فللنبت في وجه الزمان عذار (٢) |
وقوله : [بحر المتقارب]
تعجّبت من يانع الورد في |
|
سنى وجنة نبتها بارض (٣) |
ولم لا يرى وردها يانعا |
|
وقد سال من فوقها العارض |
وقوله رحمه الله تعالى عند وفاة والدته : [بحر البسيط]
تقول لي ودموع العين واكفة |
|
ما أفظع البيت والتّرحال يا ولدي |
فقلت أين السّرى قالت لرحمة من |
|
قد عزّ في الملك لم يولد ولم يلد |
قال تلميذه الحافظ ابن داود : مما ألفيته بخط قاضي الجماعة أبي عبد الله بن الأزرق عن علي رضي الله تعالى عنه : من أراد أن يطوّل الله عمره ، ويظفر بعدوّه ، ويصان من فتن الدنيا ، ويوسّع عليه باب رزقه ، فليقل هذا التسبيح إذا أصبح ثلاثا ، وإذا أمسى ثلاثا : سبحان الله ملء الميزان ، ومنتهى العلم ، ومبلغ الرضا ، وعدد النعم ، وزنة العرش ، والحمد لله ملء الميزان ، ومنتهى العلم ، ومبلغ الرضا ، وعدد النعم ، وزنة العرش ، وو لا إله إلا الله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضا وعدد النعم وزنة العرش ، والله أكبر ملء الميزان ومنتهى العلم وبلغ الرضا وعدد النعم وزنة العرش ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم مثل ذلك ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله مثل ذلك.
قال : وبخطه أيضا لنيل الرزق وما يراد : يا باسط ، يا جواد ، يا علي في عرشك ، بحق حقك على جميع خلقك ، ابسط لي رزقك ، وسخر لي خلقك.
وبخطه أيضا : بسم الله الرحمن الرحيم الدافع المانع الحافظ الحي القيوم القوي القادر
__________________
(١) قس : هو قس بن ساعدة الإيادي ، مضرب المثل بالفصاحة. وباقل : علم على رجل من العرب اشتهر بالفهاهة والعي.
(٢) الصوب : المطر الذي لا يؤذي. والحيا : المطر.
(٣) البارض : أول ما يظهر من نبات الأرض.
٢٨٦
الولي الناصر الغالب الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
وبخطه أيضا : يا فتاح ، يا عليم ، يا نور ، يا هادي ، يا حق ، يا مبين ، افتح لي فتحا تنّور به قلبي ، وتشرح به صدري ، واهدني إلى طريق ترضاه ، وبين لي أمري ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، انتهى.
وقال رحمه الله تعالى مورّيا (١) : [بحر الرمل]
من تكن صنعته الإنشاء لا |
|
ينكر الرزق لأقصى العمر |
ولو استعلى على السبع الدرا |
|
ري بما في فمه من درر |
فأنا الكاتب لكن لو يبا |
|
ع لي العتق لكنت المشتري |
هكذا رأيت نسبتها إليه.
ولنختم ترجمته ـ بل والباب جميعا ـ بقوله رحمه الله تعالى! ـ عند نزول طاغية النصارى بمرج غرناطة أعادها الله تعالى للإسلام بجاه النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : [بحر الطويل]
مشوق بخيمات الأحبة مولع |
|
تذكّره نجد وتغريه لعلع (٢) |
مواضعكم يا لائمين على الهوى |
|
فلم يبق للسّلوان في القلب موضع (٣) |
ومن لي بقلب تلتظي فيه زفرة |
|
ومن لي بجفن تنهمي منه أدمع (٤) |
رويدك فارقب للطّائف موضعا |
|
وخلّ الذي من شره يتوقّع |
وصبرا فإن الصبر خير غنيمة |
|
ويا فوز من قد كان للصبر يرجع |
وبت واثقا باللطف من خير راحم |
|
فألطافه من لمحة العين أسرع |
وإن جاء خطب فانتظر فرجا له |
|
فسوف تراه في غد عنك يرفع (٥) |
وكن راجعا لله في كل حالة |
|
فليس لنا ، إلا إلى الله ، مرجع |