حض الغزالي على الأخذ بالعلم في الأمور القطعية وتأويل النص
حض الغزالي على الأخذ بالعلم في الأمور القطعية وتأويل النص
من كتاب تهافت الفلاسفة
القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر، عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس، وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة.
وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في ابطال هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل.
فإن قيل : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشمس والقمر لآيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة " فكيف يلائم هذا ما قالوه ؟
قلنا : وليس في هذا ما يناقض ما قالوه ، إذ ليس فيه إلا نفي وقوع الكسوف لموت أحد أو لحياته ، والأمر بالصلاة عنده ، والشرع الذي يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع ، من أين يبتعد منه أن يأمر عند الكسوف بها استحباباً ؟
فإذن قيل : فقد روي أنه قال في آخر الحديث : " ولكن الله إذا تجلى لشىء خضع له "
فيدل على أن الكسوف خضوع بسبب التجلي ، قلنا هذه الزيادة لم يصح نقلها ، فيجب تكذيب ناقلها ، وإنما المروي ما ذكرناه ولو كان صحيحاً . لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية ، فكم من ظواهر أولت بالأدلة العقلية التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد.
وأعظم ما يفرح به الملاحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع، ان كان شرطه امثال ذلك. وهذا: لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً، ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات، وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه الى البحث الالهىّ كنسبة النظر الى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان. فالمقصود: كونه من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كان.