التداولية بين المنهج والطريقة
التداولية بين المنهج والطريقة
بقلم:الأستاذ رخرور أمحمد
باحث من الجزائر
ما يجب أن نقر به ابتداء ، هو أن ما تشهده الساحة النقدية اليوم من تطورات ، والمتجلية في الكم الهائل من المفاهيم والنظريات والمصطلحات والطرق الإجرائية في تحليل النصوص الأدبية بأنواعها ؛ مرده بالأساس إلى ما جادت به الدراسات اللسانية من قبل ، ومن مكتشفات نظرياتها ، التي لا يخفى دورها الهام في تطوير النقد الغربي ثم النقد العربي على حد سواء .
وعلى العموم فإن مجيء التداولية أحدث تغييرًا كبيرًا في ميدان النقد الأدبي . ذلك أن التداولية تدعو إلى تغيير النظرة إلى النصوص . أي تحويل نظرة البنيوية التي ترى النص بنية مبتورة عن الفعل الملفوظي ، إلى نظرتها التي تدعو إلى دراسة النص في علاقته مع النشاط الملفوظي(الكلام).الأمر الذي يفرض ـ في مذهب التداولية ـ أن نجدّد نحن أيضا نظرتنا إلى النصوص الأدبية . فما هي هذه التداولية إذن ؟.
تسعىالتداولية إلى أن تتجاوز حدود الخطاب ، لتصير نظرية عامة للفعل والنشاط الإنساني ، شغلها الشاغل هو دراسة اللغة في المقام (الاستعمال) ، الذي يهتم بما يفعله المستعملون بالألفاظ .
وتشيرالدراسات إلى أن أول من ابتكر كلمة "البراجماتية" هو "شارل سندرس بورس 1914 / 1839"·في مقالته الشهيرة "كيف نجعل أفكارنا واضحة ؟ ." فقد جاء فيها أنه » : لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا من موضوع ما ، فإننا لا نحتاج إلاّ إلى اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي ، قد يتضمنها الشيء أو الموضوع ... وكلمة البراجماتية مشتقة من اللغة اليونانية والتي تعني "العمل النافع" أو"المزاولة المجدية" ، ويصبح المقصود منها هو "المذهب العملي" أو"المذهبالنفعي«" ([1]) .
كمايعد "شارلموريس" (··) أولمنبادرإلىوضعتعريفمقصودلمصطلح"التداولية " ،وخلاصةتعريفه لهاهيأنهادراسةعلاقةالدلائلبمستعمليها؛أي دراسة اللغة أثناء ممارستها إحدى وظائفها الإنجازية أي الحوارية والتواصلية . وقد عدّها جزءً من السيميائيات .
أماالتداولية عند "غرين " 1989 Green و"بليكومور Blikmore "1990 فهي فهم اللغة الطبيعية. ولدى "فارسشيرن 1987 " Werschueeren أن تمعن الفكر أكثر في استعمالات اللغة من كل جوانبها. في حين يصرح "رودوف كارناب " بأن التداولية هي قاعدة اللسانيات . وهي لدى " فرانسواز ريكانتي "فرع من دراسة استعمال اللغة في الخطاب .
وفينظر المؤسس الأول لـ " التداولية ـ " أو " تداولية أفعال الكلام " كما يسميها البعض"ـ ج. أوستين"· أن وظيفة اللغة لا تقتصر على نقل وإيصال المعلومات وإرسالها ، أو التعبير عمّا يجول في أذهاننا من أفكار ومشاعر وإظهارها ؛ وإنما يجب أن تضطلع اللغة ـ وهو أمر موافق لطبيعتها ـ بتحويل ما يبدر عنها من أقوال، في إطار ظروف سياقية معينة إلى أفعال ذات سمات اجتماعية . وينبغي أ ن تهتم التداولية عند كلّ من "أ. م .ديلر" و "ف . ريكاناتي" بدراسة اللغة في الخطاب ، وتنظر في الوسميات الخاصة به لتأكيد طابعه التخاطبي .
ومايمكن أن نخرج به من هذه التعريفات ، هو ملاحظة تكرار ألفاظ ) اللغة ، المستعملين ، السياقات ، الخطاب ، التخاطب ، أفعال الكلام (.... وبتجميع هذه الكلمات تتكون لدينا فكرة شمولية عن معنى التداولية ووظيفتها؛ فهي مبحث لساني يدرس الكيفية التي يصدر ويعي بها الناس فعلاً تواصليا ، أو فعلاً كلاميًا غالبًا ما يأتي في شكل محادثة . كما تبحث عن الأسباب التي تتضافر، لتؤدي إلى نجاح المتحاورين أثناء إجراء المحادثة .
فالتداولية ـعلى ما يبدوـ علم يهتم بعلاقة اللغة بمستعمليها ، هدفه إرساء مبادئ للحوار، في علاقته الوثيقة مع المقام أو السياق الذي تنتج فيه اللغة . ومن هذه التحديدات يعنّ لنا أن التداولية تخصّص لساني يتحدّد موضوعه في المجال الاستعمالي أو الإنجازي لما نتكلم به ؛ ويدرس كيفية استعمال المتكلمين للأدلة اللغوية أثناء حواراتهم ، وفي صلب أحاديثهم ، وفي خضم خطاباتهم . ويُعنى هذا التخصص أيضًا بكيفية تأويل مستعملي اللغة لتلك الخطابات والأحاديث ، كما يهتم بمنشئ الكلام) المتكلم (،وكذا السياق .
ويقدمد /" م .صحراوي " تعريفاً واضحًا للتداولية في كتابه "التداولية عند العلماء العرب "بعد أن يلفت الانتباه إلى أن الدراسات اللسانية لم تصبح حكرًا على التيارين البنيوي والتوليدي ، بل إن الساحة النقدية صارت تعجّ بالنظريات والمفاهيم اللغوية المتباينة ، والتي تمخّض عنها ميلاد عدد من التيارات اللسانية . ثم يُعوّج على التيار التداولي ، ليقول عنه بأنه : »مذهب لساني يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه، وطرق وكيفيات استخدام العلامات اللغوية بنجاح ، والسياقات والطبقات المقامية المختلفة التي ينجز ضمنها " الخطاب "، والبحث عن العوامل التي تجعل من "الخطاب " رسالة تواصلية "واضحة" و" ناجحة. " والبحث في أسباب الفشل في التواصل باللغات الطبيعية.([2]) «...
وفي معرض حديث ) الدكتور) عن الفرق الجلي بين المنهج البنيوي والمنهج التداولي ، يوصّف التداولية بأنها ...»ليست علمًا لغويًا محضًا بالمعنى التقليدي ، علمًا يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية ويتوقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، ولكنها علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال؛ ويدمج من ثمّ ، مشاريع معرفية متعددة في دراسة ظاهرة "التواصل اللغوي وتفسيره.( [3]) «"
واستنادًالهذه التعريفات تغدو التداولية العلم الذي يدرس الأفكار والمعاني والألفاظ والمفاهيم والإشارات ، وكل ما له علاقة بالاستعمال اللغوي . فهي أداة للتفسير والنقد معًا، تبدو قيمتها في أنها وسيلة معرفية نلجأ إليها لتعيننا على فهم ومعرفة وتمييزِ هل أن ّما نبحث عنه في هذه الأداة المعرفية له قيمة ومعنى ، أم لا ؟. وهل نتمكن بواسطتها من قياس درجة الصحة والخطإ في المواضيع التي ندرسها ؟. وبالتالي هل هي جديرة بأن تأخذ منا الجهد والوقت في البحث عن خصائصها ومقوماتها؟... .
إن التيار التداولي حقل لساني تبلور في سبعينيات القرن الماضي ، وهو العلم اللغوي الأحدث بين بقية العلوم اللغوية الأخرى . فهو نظرية نقدية ّلمّا يكتمل بناؤها بعد ، استمدّ قوته من ميدان اهتمامه ، بحيث اهتم بدراسة أفعال النطق ، التي ظلت ردحًا من الزمن مغيبة عن الدراسة والتحليل ، بداعي وجود حواجز) وهمية) بين اللغة والكلام ، وبين الدلالة والاستعمال . لذلك فإنّ أساس التداولية قائم على رفض ثنائية "دي سوسير"الشهيرة ، اللغة/ الكلام Langue/Parole ، والتي مفادها أن اللغة وحدها دون الكلام جديرة بالدراسة العلمية ، وباهتمام اللسانيين .
ولماكانت التداولية تهدف إلى دراسة العلاقات الموجودة بين اللغة ومتداوليها من الناطقين بها ، فكان أن حملت على عاتقها مهمة تحليل عمليات الكلام ، و وصف وظائف الألفاظ اللغوية وبيان خصائصها عند التواصل اللغوي؛ ففي »الطرح اللساني ، ركزت الذرائعية على ما أهملته اللسانيات . فإذا ركّزت اللسانيات على علم التركيب وعلم المعاني ، فإن الذرائعية ركّزت على الجانب الاتصالي ، أي علاقة الإشارة بمستخدميها . هذا الجانب ظل مستبعدًا دائمًا من قِبل اللسانيين الذين ركّزوا أبدًا على جوانب القواعد الشكلية وميزوها عن الاستخدام اليومي العادي ... لكن ّردود الفعل توالت حديثا ضد هذا الاستبعاد ، إذ يرى أصحاب الذرائعية أو )التبادلية ( أن اللغة لا يمكن أن تنعزل عن استخدامها وتنحصر في علمي النحو والمعاني ، بل إن الاتصال يلعب دورًا فاعلاً إذا أردنا أن نفهم حقيقة اللغة« ([4]).
إن التداولية منهج للتحليل ينشد "الحقيقة الفعلية" في تناول الظواهر اللغوية ، أي يحلل الوقائع ضمن صلتها بسياقاتها الفعلية التي ولدت في حضنها . فنشدان "الحقيقة" هو مبدأ علمي يتوسل به الدارس ويستأنس به الباحث كحقل للاشتغال يتمحور حول فعل التواصل . ذلك أن التواصل هو أهم العناصر الذي يختزل مجموع الفعاليات ، ويجمع بين التناقضات القائمة بين المناهج الكلاسيكية السابقة .
ونظرًاإلى شساعة دائرة اهتمامات التداولية ، صارت نظرية صعبة التقنين ، وعصية الضبط . فلا يمكن النظر إليها على أنها مذهب نقدي مختص ؛ فقد تأكد للباحثين في هذا المجال أن الإحاطة بتعريف التداولية صعب ، وأن ضبط مناهجها عناء ، وأن حصر أهدافها مشقة ؛ خاصة إذا ما علمنا أن التداولية تخضع لهيمنة طائفة من التيارات العلمية المختلفة ، تمسّ أسسها المنهجية ، بل وقد يتعدى الأمر إلى التشكيك في هويتها كاختصاص لساني محض .
يقول د/"حسن يوسفي» : " إن التداولية حقل لساني ملتبس...)وتبدو( التباساته بحيث يصعب على المتتبع لتطور اللسانيات المعاصرة أن يعرف الحدود الفاصلة بين المجالات اللسانية المعروفة، وبين التداولية. و يستعصي عليه بالتالي تحديد موضوع هذه الأخيرة ، وإبراز نماذجها النظرية وأجهزتها الإجرائية« ([5]) .
ومن جهتها تعترف الباحثة " أوركيوني"· بهذا الغموض الذي يعتري حدود التداولية بقولها »: هل يمكن القول أولا : التداولية أو التداوليات ؟. هل هي تخصص أو ملتقى تخصصات مختلفة ؟ ([6]) .« ومن جانبه يقر "دومنيك مانجينو " في كتابه "التداولية للخطاب الأدبي Pragmatique pour le discours littéraireبأن التداولية تستعصيعلىالتحديد .
وعلى الرغم ممّا يسَجل من تداخلات والتباسات الناجمة عن علاقة التداولية بشتى العلوم ،فقد أمكن تعيين مجموعة من القضايا اللغوية التي هي محلّ اهتمام التداولية، وتدخل في نطاق تخصّصها ، كما تمّ أيضا معرفة جملة من المسائل التي تشكّل موضوعاً لها . ومن ذلك محاولة التداولية إيجاد الإجابة للأسئلة التي كانت مصدر قلق وإزعاج للمباحث اللسانية السابقة ، ومن هنا تبدو قيمة البحث التداولي في كونه يسعى إلى الإجابة عن بعض الطروحات اللسانية السابقة من قبيل »:من يتكلم ؟ من هو المتلقي ؟. ما هي مقصديتنا أثناء الكلام ؟. كيف نتكلم بشيء ، ونسعى لقول شيء آخر؟.ماذا علينا أن نفعل حتى نتجنب الإبهام والغموض في عملية التواصل ؟. هل المعنى الضمني كاف لتحديد المقصود«؟([7]) .
وتقرّالبحوث بأن دراسة المعنى وعلاقته بموقف الكلام توجه جديد ، وهو يحتلّ قمة اهتمامات التداولية .وللكلام جوانب كثيرة طالها مجال الدرس التداولي نجملها في : المخاطَبين والمخاطِبين، وسياق التفوه ،وهدف التفوه ، والفعل الإنجازي ، والتفوه بوصفه نتاجًا . وقد نجم عن هذا الاهتمام العام أن تفرعت عنه موضوعات كثيرة هامة ، تجتهد التداولية في معالجتها والبحث فيها ، منها : المفردات التأشيرية،
والتضمينات المحادثية، والاقتضاء ، والمعاني الحرفية ، والمعاني السياقية ، وأفعال الكلام تصنيفاتها ، وتحليل الخطاب ، وتحليل المحادثة ... وغيرها .
وبالنظرإلى مباحثها ، تغدو التداولية بحق» نظرية استعمالية ، حيث تدرس اللغة في استعمال الناطقين بها ، ونظرية تخاطبية تعالج شروط التبليغ والتواصل الذي يقصد إليه الناطقون من وراء الاستعمال للغة « ([8]) .
وبفضلتوجهات التداولية الجديدة ، تحوّلت الدراسات اللسانية من مجال اللغة إلى مجال الأدب . ولهذا صارت تنعت بالتداولية الأدبية أو "الذرائعية الأدبية" التي موضوعهادراسةالنصوصوتحليلها . وبذلكنقلت التداوليةالنصمنالدراسات التي كانت منصبّة على المستوى النحوي والدلالي والمعجمي ، إلى المستوى التداولي ، حيث صارت جهود المنشغلين بحقل النصوص الأدبية تركّز على مفهوم "التواصل " القائم على أساس الفهم والتأويل . هذا التواصل الذي كان محل اهتمام القراءة باعتبارها »تواصلاً يتحقق بين القارئ وموضوع القراءة ، فالوصفية النقدية في إطار عملية القراءة ، وظيفة تقوم على أساس السّعي إلى تحقيق تواصل فعّال بين القارئ و موضوع القراءة . وكأي تواصل تحتاج عملية القراءة إلى أسباب لعناصر الموضوع المقروء ، وإحاطة بالعوامل الفاعلة فيه ، مثل السياق ، ومقاصد المتكلم « ([9]).
هذا التوجّه حدا بالدراسات النقدية الحديثة إلى إحداث تحول في مضامينها أيضًا ، فانتقلت بموجب ذلك من الاهتمام بمستويات الصياغة اللفظية والنصية إلى إيلاء الاهتمام بالحدث الأدبي وما يرتبط به من الاتصال الاجتماعي ، أي التحول إلى العناية بالمستوى التواصلي ، وما يتعلق به من سياقات أو تحديدات سياقية ، في حين كانت هذه الدراسات تهتم باللغة في مستوى النص كنظام. وتعتبر بهذا بديلاً نقديا للنظريات الأدبية السابقة ، كلسانيات الجملة ، واللسانيات النسقية ، والأسلوبية، والبنيوية .
إنّهذا العلم الفتي ما فتئ يتطور منذ ظهوره إلى الآن ، حتى أضحى رافدًا هامًا من روافد الدراسات اللسانية المعاصرة ، التي اهتمت بالتحليل التداولي الذي يتميز بالتداخل في الاختصاصات . وعليه فقد جاءت التداولية لتناقض مفهوم الشكل الواحد للمعنى ، وتدعو إلى تقويض مبدإ الاعتداد بالملفوظ اللساني كدليل وحيد ، وعامل فريد لبناء جمالية النص ، وتحليل بنيته وِفقها من قبل المتلقي . وإنما يمكن لهذاالقارئ أن يعيدإنتاجالنصبواسطةفعلالفهموالإدراكوالاستنتاج.
فجماليةالتلقي لم تكتف بالاعتماد على الذاتية ومعطياتها ، ولا على قراءة الحدس وتخميناتها ، وإنما عمدت إلى إشراك فعل الفهم ، والمقدرة العقلية الواعية ، واستثمار مرجعيات كثيرة ومتنوعة ، والتي من شأنها أن تساهم في إ ذكاء عملية التفاعل مع بنية النصوص ، وعبر علاقة حوارية معه ، غرضها إمعان النظر في ما يعتري القارئ من ردود فعل وقت التلقي ، واستقراء كيفية وصوله بنفسه إلى حلقات المعرفة ومستوياتها .
وبهذافإنّ جمالية القراءة تهدف إلى دراسة ميكانيزمات التلقي، بواسطة استثمار مقولات الحقول الإجرائية الجديدة في تأسيس علم النص . هذا النص الذي من مميزاته أنه يقاوم فكرة المعنى الوحيد ، بقطع النظر على أنه سطحي أو عميق ؛ إنما النص في تكوينه منذ البداية ينشأ على تعددية المعنى ، وأن تحليله هو نشاط نقدي يستند إلى مفاهيم نظرية متنوعة . أما قواعده الإجرائية فتتسم بتنوع الركائز المنهجية التي يتبناها الدارس، وهو يؤمن بهذه التعددية، ويعترف بهذا الانفتاح، ليتحاشى بذلك الزعم بالقول الفصل .أضف إلى هذا كله ، الانفتاح على مداخل أخرى تداولية ، من نفسية واجتماعية وسياقية ...إلخ .
إنالذين كانوا من السبّاقين إلى إرساء قواعد هذا العلم الجديد ، أمثال "ج. أوستين" وتلميذ ه "سير ل"· ، و"غوفمان" عالم الاجتماع ، و"غمبرز" المتخصص في دراسة الأعرا ق ، و"فيتغنشتاين " ، ومدرسة "بالوألتو "ذات التوجه النفسي .يؤكدون على أن موضوع التداولية هو دراسة الظواهر اللغوية أثناء الاستعمال . ويلحّون على أنه موكل إليها دراسة القصد الإخباري أو معنى الجملة ، ودراسة القصد التواصلي أو معنى المتكلم . وأما القدرة على الإدراك وإنتاج فعل تواصلي ما ، فهي التي يدعوها "كاسبر" " Kasper 1997القدرة التداولية " .
ومن آثار هذا التحول الجديد ، أن واكبه توجّه نقدي جديد أيضًا ، ممثلا في الدراسات النقدية الجديدة ، التي تساير هذا التحول الداعي إلى الاهتمام بدراسة الأدب في علاقته الاتصالية وظروفه السياقية ، معلنة في نفس الوقت عن عقم الدراسات اللسانية التي أخرجت هذه العلاقة من دراستها . ومن هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر، ما قام به "ستيفن ليفنسون"في كتابه الموسوم "Pragmatique" والذي يعترف فيه بكل وضوح بأن» نظرية علم المعاني لا تعيننا كثيرًا على فهم اللغة« ([10]) .
ومماتقدّم نخلص إلى أنه إذا كان علم التركيب اهتم بدراسة العلاقة بين العلامات في إطار الجملة ، وإذا كان علم الدلالة ديدنه البحث في العلاقة بين العلامات والأشياء ؛ فإن التداولية تدخلت لجبر النقص الملاحظ في كلا العِلمين بإهمالهما الجانب التواصلي ، فأخذت على عاتقها دراسة علاقة العلامات بمستعمليها ، واضعة لرؤيتها مفاهيمها الخاصة به . تلك المفاهيم لم تكن ذات شأن من قبلُ في فلسفة اللغة وفي اللسانيات البنيوية . ولم تتوصل إلى معالجتها بكيفية حاسمة . فاللغة البشرية إنما هي خزان مقاصد ، وينبوع معا ني ، ينهل منه الناس ما يكفي لتحقيق أغراضهم ، وقضاء مآربهم ، والإفصاح عن أفكارهم . ولا يتحقق ذلك كله إ لا بواسطة اللغة ، آلة التعبير عن المعا ني المناسبة في السياقات المناسبة. وإن لم يكن هذا ، فما جدوى اللغة التي نتكلم بها إذا لم تكن حاملة للمعاني ، و مترجمة لأحوال الناس ، ومفصحة عن مكنوناتهم ، ومبلغتهم مقاصدهم .
ومادامت التداولية تستند في أبراز معاني الكلام على النص في علاقته بحال المخاطبين و وضعية المخاطِب ، وسياقات وظروف ولادة الألفاظ ، فإنه من الضروري التنبيه إلى أن التداولية ليست منهجا بحتا له قوانينه الإجرائية التي على الباحث تتبعها أثناء تحليل الخطاب ، كما أنه ليس مذهبا نقديا خالصا ، لأن المذهب يرتكز على الذاتية في الطرح ، والنظرة الضيقة في الاستنتاج والتأويل . وإنما التداولية ترتقي لأن تكون طريقة استعمالية في التحليل ، ومنه فإن للناقد الحرية الكبيرة في أن يختار من الدراسة النقدية لأي نص من النصوص ما يتلاءم وخصوصية النص المدروس ، و ما يتناسب وظروف ولادته ، وما يتماشى وحال قطبي الخطاب : الباث والمتلقي . وهي حالات يعتورها التغير والتبدل مع انبعاث كل نص جديد .
· عالم أمريكي ، حائز على شهادات عليا في الكيمياء و الفيزياء والرياضيات . عمل في مصلحة الجيوديزيا (علم من علوم الأرض) . درّس بجامعة هارفارد ، ثم بجامعة جون هوبكنز . ورغم ما وصل إليه من علم وما تحصل عليه من شهادات ، لم يتسن له الحصول على منصب قار في الجامعات التي درس بها ، بسبب مواقفه ومزاجه الصعب . فقد عرف الجوع والفقر وخيبات الأمل ، فاضطر إلى بيع مكتبته القديمة التي كان يعتز بها (295 كتابا) بثمن بخس (550دولار فقط) . وبعد وفاته ينعت بأنه أكثر الفلاسفة المعاصرين علماً .
[1] ـ سماح رافع ، المذاهب الفكرية المعاصرة ، دار المعارف ، القاهرة ، د ت ، ص 49 ـ 52 .
·· سيميائي أمريكي ، وهو أحد الأقطاب المؤسسين للسيميائية بأمريكا إلى جانب "بورس"
· فيلسوف إنجليزي ، شغل منصب أستاذ في فلسفة الأخلاق بجامعة أكسفورد . يعتبر المؤسس الأول لـ:"تداولية أفعال الكلام". هذه النظرية حولت رؤية الدراسات اللسانية السابقة . كتابه الوحيد الذي نشره له تلامذته ـ منهم سيرل ـ بعد وفاته هو HOW TO THINGS WITH WORDS ? (كيف نصنع الأشياء بالكلمات ؟) ، ويشتمل على جملة من المحاضرات ألقاها على طلبته بجامعة أكسفورد والجامعات الأمريكية .
[2] ـ د / مسعود صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت ، ط1 ، 2005 ، ص 05 .
[3] ـ د / مسعود صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب ، م س ، ص 16 .
[4] ـ د/ ميجان الرويلي ، ود/ سعد البازعي ،دليل الناقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ،المغرب، ط3 /2000 ،ص 169.
[5] ـ د/ حسن يوسفي ، المسرح والتداولية ، مقال ، من موقع http://aslimnet.free.fr .
· كاترين كربرات أوركيوني ، ابتدأ مسارها العلمي من دراستها في مدرسة المعلمين العليا ، ثم شغلت منصب أستاذة مبرزة . وتحصلت على شهادة الدكتوراه في اللسانيات . عملت أستاذة بجامعة ليون الفرنسية من كتبها : Limplicite , Les interactions verbales , La connotation ..........
[6]- Armengaud Françoise , La pragmatique que – sais – je ? puf / 1985 , p 09 .
[7] ـ علي آيت أوشان،السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة،مطبعة النجاح الجديدة،الدار البيضاء،المغرب،ط1/2000،ص56ـ57
[8] ـ تكامل المعارف:اللسانيات والمنطق،حوار مع د/طه عبد الرحمن،دراسات سيميائية لسانية أدبية،العدد2/1987ـ1988،المغرب .
[9] ـ مجلة الوصل ، معهد اللغة والأدب العربي ، جامعة تلمسان ، العدد 1 / جانفي 1994 ، نظرية المقاصد بين حازم ونظرية الأفعال اللغوية المعاصرة ، محمد أديوان ، جامعة الرباط ، كلية الآداب ، ص 25 .
· فيلسوف أمريكي معاصر ، وهو أحد مؤسسي التداولية ، ينتمي إلى التيار الفلسفي الحديث الذي طوره (أوستين) . درّس بجامعة كاليفورنيا . يطمح إلى تصويب العديد من المفاهيم السالفة ، من مؤلفاته : Les actes de parole indirects , Sens et expréssion ، و العقل واللغة والمجتمع : الفلسفة في العالم الواقعي ، تر: سعيد الغانمي .
[10] ـ مجلة الوصل ، معهد اللغة والأدب العربي ، جامعة تلمسان ، م س .
رد: التداولية بين المنهج والطريقة
رد: التداولية بين المنهج والطريقة
http://img301.imageshack.us/img301/4...6mp2ls6dy8.gif
الأخ الفاضل
http://image.gostshare.com/files/2eu...7rx8hvxojt.gif أبو مروانhttp://image.gostshare.com/files/2eu...7rx8hvxojt.gif
أولا أشكرك على تعديل النص
وبارك الله فيك على نقل هذه الدراسة الطيبة
والتي ألقت الضوء على هذا المصطلح
رغم أنني لا أميل إلى تسميته على هذا النحو
فمصطلح التداولية هنا لا يتعدى أن يكون أداة من
أدوات الناقد وليس مذهجا متكاملاً
فإذا كان يرتبط بعلوم اللسانيات واللغويات
فهو غيره من العلوم الخادة المستقلة
والتي تخدم النقد كمنهج تطبيقي
كعلوم الدلالة والأصوات وغيرها
وصاحب المقال على ما يبدو يؤمن بذلك حين يقول:
ومادامت التداولية تستند في أبراز
معاني الكلام على النص في علاقته بحال المخاطبين
و وضعية المخاطِب ، وسياقات وظروف ولادة الألفاظ ،
فإنه من الضروري التنبيه إلى أن التداولية ليست منهجا بحتا له قوانينه
الإجرائية التي على الباحث تتبعها أثناء تحليل الخطاب ، كما أنه ليس مذهبا نقديا خالصا
وهذا ما يجعلنا لا نمل إلى هذه التسمية
الأخ الكريم أبو مروان
ألا ترى أن هذه الزخم الكبير من المصطلحات النقدية
والذي طفحت به الساحة الأدبية اليوم
يدخلنا في كثير من المتاهات؟
أحب أن أعرف رأيك الشخصي بعيدا عن دراسات النقاد وآرائهم الفنية
وأنا في انتظارك
لك خالص احترامي العميق
رد: التداولية بين المنهج والطريقة
Quote:
Originally Posted by
أبو مروان
الأخت روان : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أشكرك أيتها الأخت الفاضلة على تعديل المقال . وتقبل الله تعالى منا ومنكم الصيام . وانتظري مني الرد عما قريب إن شاء الله . ادع لنا الله يا بنت الحرمين الشريفين .
رد: التداولية بين المنهج والطريقة
Quote:
Originally Posted by
أبو مروان
الأخت روان : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أشكرك أيتها الأخت الفاضلة على تعديل المقال . وتقبل الله تعالى منا ومنكم الصيام . وانتظري مني الرد عما قريب إن شاء الله . ادع لنا الله يا بنت الحرمين الشريفين .
http://www.freewebtown.com/alsam/z17.gif
الأخ الكريم الفاضل
أبو مروان
أسأل الله أن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
وأن يعمّ الجزائر بمنه وفضله ورحمته
ويجمعنا تحت كنف رضاه ويظلنا بظله
أخوة على سرر متقابلين في جنات عدن
وأنا في انتظارك أخي الفاضل
http://www.freewebtown.com/alsam/z17.gif
رد: التداولية بين المنهج والطريقة
Quote:
Originally Posted by
روان يوسف
أبو مروان
أسأل الله أن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
وأن يعمّ الجزائر بمنه وفضله ورحمته
ويجمعنا تحت كنف رضاه ويظلنا بظله
أخوة على سرر متقابلين في جنات عدن
وأنا في انتظارك أخي الفاضل
أختي الفاضلة : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته . أسأل الله العظيم أن يتقبل هذ الدعاء و أن يعطينا أجر ه و أن يضاعف لك ثوابه . آمين .
رد: التداولية بين المنهج والطريقة
ولأن القرن الماضي يوسم بأنه عصر التحولات الكبرى ، والتي مست كل جوانب الحياة ، السياسية والاقتصادية و الاجتماعية والثقافية والفكرية . وفدت على العالم العربي بكل سلبياتها وإجابياتها . وتبعا لهذا التبدل الهائل لم يشذّ النقد الأدبي عن قاعدة التغير هذه. فما كان إلا أن تغيرت نظرة النقد الأدبي ممثلا في المناهج المعاصرة من إعلائها لسلطة المؤلف والنص إلى الاهتمام بالقارئ الذي أعطته حرية المبادرة في تأويل النص .وبهذا انتقلت سلطة الأدب من الكاتب والنص إلى المتلقي .
ولم تسلم الحركة النقدية العربية من التأثر بهذا الوافد الجديد . فكثرت المصطلحات و تباينت . فترى الكتاب والنقاد في الوطن العربي يتلقفون المناهج النقدية الغربية بعقلية "المستهلك" ويجتهدون في وضع أسماء لها، الأمر الذي نجم عنه اختلاف في الرؤى والطرائق . فجاءت لسانيات(دي سوسير) فبنيوية (رولان بارث، تزفيتان تودوروف ، والشكلانيون الروس) ، ثم تفكيكية (جاك دريدا) ، فتداولية (ج .أوستين وتلميذه ج .سارل).... وبدل أن يشيدوا مدرسة نقدية عربية تتماشى وخصوصية النص العربي وفنياته وبراعة بلاغة اللغة العربية ، انغمسوا في البحث في هذه المناهج الغربية ، محاولين تقليد أعمال روادها الغربيين ، وراحوا يخضعون النصوص العربية بشيء فيه الكثير من الفظاظة والقصر لإجراءات تلك المناهج . فجاءت الكثير من الأعمال النقدية باهتة ، جامدة لا روح فيها ، شوهت جمالية النص المعالج .
كما نجم عن هذا التبني أن اجتهد كثير من النقاد العرب في تعريب مصطلحات هذه المناهج ومقولاتها ، فتباينت المسميات وتاه الدارسون في لججها. ممن مثل : التداولية ـ التبادلية ـ النفعية ـ الحوارية ... ضف إلى ذلك لم يستطع أحد من النقاد و لحد الآن تسطير خطوات إجرائية يستطيع أن يستأنس بها الباحث المتمرس ، فضلا عن المبتدئ . الأمر الذي خلق صعوبة بالغة وعقبة كؤود في طريق الباحثين .
إن دراستي المتواضعة للمناهج النقدية الأوروبية سمحت لي بأن ألاحظ أن كثيرا من مقولاتها لها تأصيل في تراثنا العربي . وهذا ليس تعصبا ، وإنما هي حقيقة علمية بادية لكل من له عقل منصف . فالتداولية التي ترتكز في تحليل الكلام على جملة من العلوم المنطقية والفلسفية و الإنسانية ، تراعي عناصر ثلاثة كبرى هي : أفعال الكلام ـ قوانين الخطاب ـ السياق/المقام . وهي من الأمور التي أولاها البلاغيون والأصوليون والنحويون العرب والمسلمون العناية القصوى عند دراستهم القرآن الكريم ، وبيان أسباب النزول ، واستنباط الأحكام الشرعية.
وإنني لآمل كما غيري من أبناء جلدتي الأقحاح أن تشيد مدرسة عربية نقدية تراعي خصوصية النص العربي من جهة ،تأخذ بالحسبان متطلبات مجتمعاتنا وبلادنا من جهة أخرى .