رد: أدب الرحـــــــلة ...
يبدو أنّ المنْجَز الإبداعي العربي في أدب الرحلة لم يحقّق من التراكم النصوصي ما يسمحُ باتخاذه مادة للفعل النقدي، لذلك قلّ حضور دراسات جادة من هذا النوع في النقد العربي بَلْهَ الجزائري؛ فإذا ما استثنينا الجهد الواضح الذي بذَلَهُ الدكتور عمر بن قينة في كتابيه: (اتجاهات الرحالين الجزائريين في الرحلة العربية الحديثة ) و(الشكل والصورة في الرحلة الجزائرية الحديثة)، الصادريْن سنة 1995، والتفتنا إلى غيره، فإننا لا نكاد نرى إلاَّ الخَلاَء !.
في هذه المفازة الخالية ، ووسط هذا الفراغ العلمي الرهيب ، تشقُّّ الباحثة الجزائرية الجادّة الواعدة (الخامسة علاوي) طريقها الشاق إلى أدب الرحلات (أو الأدب الجغرافي كما يسميه المستشرق الروسي اغناطيوس كراتشكوفسكي، أو الأدب السياحي كما سمّاه – مؤخرا – الناقد الجزائري الكبير عبد الله الركيبي في رحلة علمية عسيرة، تعْتوِرها عقباتٌ كأْداء، شاقة المصْعد ، صعْبةُ المرتقى، مادتُها (الرحلة الأدبية)، وموضوعُها(العجائبية): أحلاهما مُرّ، وأَسْهلُهما صعْب؛ فكلاهما مُرْدَفٌ بعشرات علامات الاستفهام والتعجب في ذاكرة المتلقي … من هنا، وضمن هذا السياق، يكتسي كتاب (العجائبية في أدب الرحلات) قيمة نوعية عالية في المسار الثقافي الجزائري خصوصا، والعربي عموما.
صدر الكتاب عن منشورات جامعة قسنطينة، سنة 2006، في 220 صفحة وينبني على مدخل ثلاثة فصول، يتقصى المدخل أدب الرحلات مفهوما وتجنيسا، بينما يحيط الفصل الأول بجملة من المفاهيم النظرية المتعلقة بالأدب العجائبي (العجائبية لغة، العجيب في التراث العربي، العجيب في الثقافة الغربية، الحدود المتاخمة للعجيب والغريب عند تودوروف، ترجمة المصطلح، المجالات القريبة من العجائبي)، أما الفصل الثاني فيتعلق بالبنية العجائبية في النصوص الرحلية القديمة؛ حيث يتقصى تمظهرات العجائبية في بعض النصوص السردية القديمة، لينتقل إلى البنية السردية في الرحلات ثم يختتم بإشكالية تلقي العجائبي وتجليات المتخيل في المحكي العجائبي.
وأما الفصل الأخير فيرمي بثقله المعرفي التحليلي النقدي في أعماق رحلة عربية استثنائية (تاريخيا وفنيا)، هي رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، عبْر التوغّل في مكنونها العجائبي توغّلا لا يغفل الإحاطة التاريخية بالرحلة والرحّالة، والوقوف عند خصائص عصر الرحالة ودواعي السرد العجائبي، مع وقفة تحليلية مطوّلة عند البنية العجائبية للرحلة، تنتهي عند الوصف العجائبي ووظائفه.
وكلّ ذلك بآليات نقدية علمية صارمة ولغة شائقة ممتعة … لقد اهتدت صاحبة هذا الكتاب إلى موضوع في غاية الأهمية والطرافة، لأنّ الموضوع العجائبي كان قاسما مشتركا بين مجموعة من الرحلات العربية القديمة (التي آثرتْه واحتفتْ به، ولم تجدْ من الدارسين مَنْ يحتفي بها قبل ظهور "الفونتاستيك" الغربي، والتي لو قرأها تزفيتان تودوروف لأعاد النظر في بعض فصول كتابه:( مدخل إلى الأدب العجائبي).
لعلّ عناوين مجمل تلك النصوص أن تشير إلى عجيب أو غريب:
(عجائب البلدان) لأبي دُلَف الينبوعي (305- 385هـ).
(المعرب عن بعض عجائب المغرب) لأبي حامد الغرناطي (473- 565هـ).
(تحفة الألباب ونخبة الإعجاب) للغرناطي كذلك.
(عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) للقزويني (605- 682هـ).
(خريدة العجائب وفريدة الغرائب) لابن الوردي (ت 749هـ).
(تحفة النظّار وغرائب الأمصار وعجائب الأسفار) لابن بطوطة (703-776هـ)..
كما ركّزت الكاتبة كتابها على عصْرٍ عجائبيّ السّمات، هو القرن الرابع الهجري الذي تدلّنا أحداثه التاريخية على أنه قد حدث فيه ما يدعو إلى العجب؛ فقد وَلَدَتْ بَغْلةٌ فِلْوًا (جحْشًا)! سنة 300هـ، ووقع الخوف من حـيوان (الزَّبْزَب) الـذي كان يُرى بالسطـوح، سنة 304هـ، فكان يأكل الأطفال ويقطع أثداء النساء!، وفي سنة314هـ جمدت مياه دجلة بالموصل، وعبرت عليها الدواب في سابقة غير معهودة!…
إنّ منطلق رحلة ابن فضلان (الموضوع المركزي للكتاب) يَشي – أصلا – بشيء من العجائبية؛ وذلك أن مَلِك الصقالبة يطلب مساعدة مالية من الخليفة العباسي المقتدر، هو غنيٌّ عنها في الأصل؛ إذ يطلب مالا لبناء حصْن يحميه من اليهود الخزر، وهو يملك أضعَاف ذلك المال! فكأنّ المرادَ هو برَكة الخليفة المسلم لا أمواله؛ يقول الملك: ".. فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه وإنّي لخائفٌ من مولايَ أمير المؤمنين ، وذلك أني أخاف أن يَبلُغَه عنّي شيء يكرهه ، فيدعو عليَّ فأَهلِك بمكاني وهو في مملكته وبيني وبينه البلدان الشاسعة "، ثم يضيف: "ولو أني أردتُ أن أبني حصْنا من أموالي من فضة أو ذهب لما تعذّر عليّ، وإنما تبركتُ بمال أمير المؤمنين فسألتّه ذلك"!…
ممّا يُحسَب للباحثة، في كتابها هذا، أنها رمتْ بثقلها العلمي في رحلة إشكالية قديمة مكتنفة بغموض تاريخي كبير كغموض تاريخ صاحبها الذي لا تعرف عنه المصادر التاريخية أكثر منه أنه "أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد، مولى القائد العباسي محمد بن سلمان، وسفير الخليفة المقتدر إلى بلاد الترك والروس والصقالبة" دون أن تقوى حتىّ على تحديد سنة ميلاده أو وفاته، ومن أراد أن يفعل أكثر من ذلك، كعمر رضا كحالة في "معجم المؤلفين :1/220"، قال:"… كان حيـًّا سنة 309هـ-921م"!، وكلّ من يَعرف أنّ هذه الرحلة قد حدثت سنة 309هـ، لا يملك إلاّ أن يضحك بصوت عالٍ من تحصيل الحاصل هذا، لأنّه لا يعقل أن يقوم شخص ميِّتٌ بمثل تلك الرحلة الدنيوية!...
إننا نتساءل: إذا كان أحمد بن فضلان فقيها عارفا ومجادِلاً مقْنعا وكاتبا متمكنا (على نحو ما تبرزه اللغة الإبداعية الفنية العالية التي كتب بها رحلته)، إلى درجة تأهيله لقيادة وفد حضاري بهذا الحجم، في رحلة تاريخية على هذا المستوى ، فلماذا غيَّبته المصادر التاريخية إلى هذا الحد ؟! ولماذا لا نجد ذكرا لهذه الرحلة العظيمة في (تاريخ بغداد) أو(تاريخ الخلفاء) أو غيرها من أمهات الكتب التاريخية؟! لماذا يعْقد السيوطي مَسَارد لأشهر الأموات في عهد كل خليفة ضمن (تاريخ الخلفاء) لا نجد فيها إيماءً إلى ابن فضلان ؟! لماذا يثني ياقوت الحموي على ابن فضلان، في (معجم البلدان)، ويأخذ عنه ، ويصف رحلته بالقصة المشهورة، ثم يسقطه من (معجم الأدباء) المؤلَّف بعد (معجم البلدان)، ولا يذكره حتى في "طبقة الموالي"؟! ولماذا لا يُشار إلى ابن فضلان – قطعا – خارج الحديث عن ذلك الوفد المرسَل إلى بلاد الروس والصقالبة؟! أليس من الحيْف على ابن فضلان ، والجوْر على رحلته، أن يغمط حقّه عربيا في وقت تعده روسيا والدول الاسكندنافية جزء من تاريخها القديم ؟!…
لعلّ هذا ما تريد أن تقوله الخامسة علاوي في كتابها هذا الذي ينفرد بإعادة النظر في جملة من المسلمات الأدبية المتعلقة بالرحلة والرحالة وبأدب الرحلة عموما، بل يطرح رؤى بديلة وينافح عن أفكار جديدة، ذلك أنّ الباحثة تخوض خوضا جريئا في جنسية أدب الرحلة، وتحاول أن تبحث عن موقع له ضمن نظام الأجناس الأدبية: هل هو قصة أو رواية أو سيرة ذاتية ؟ أو هو البديل العربي للقصة والرواية في أوروبا ، كما يرى فؤاد قنديل في كتابه (أدب الرحلة في التراث العربي)؟ لتنتهي إلى أنه "ملتقى الفنون"؛ فهو نمط خاص غير مستقل بنفسه ، بل شكل متقدم مما يعْرف اليوم بتداخل الأجناس الأدبية، أو "الكتابة ضد التجنيس" كما يسميها معجب الزهراني …
كما أنها تدْلي برأي نقدي شُجَاع يقضي بإخراج الرحلة الخيالية من حظيرة أدب الرحلة وتُعيد التأريخ لأدبية الرحلة بالقرن الرابع الهجري (مع ابن فضلان الذي قال عنه محقق رحلته سامي الدهان إنه: لا يبتعد عن أسلوب الأديب، ولا يتقرّب من أسلوب الجغرافي، وليس القرن السادس كما جرت العادة؛ إذ إنّ المبحث العجائبي في أدب الرحلة لم يقترن بابن فضلان بقدْر ما اقترن بالغرناطي وابن بطوطة … وفي رأي جريءٍ آخر (قد يكون محض تخمين!) تقول الباحثة بفارسية ابن فضلان!، الذي لا نعرف عنه – في الأصل – أكثر من أنه موْلَى؛ وحجتها في ذلك أنّ الفضاء الإيراني لم يُثِره ولم يصفه في الرحلة، وهي ملاحظة كان الدكتور عبد الله إبراهيم قد أومأ إليها في كتابه (المركزية الإسلامية)، لكنه لم يجرؤ على الوصول إلى تلك النتيجة، بل اكتفى باندهاشه من أنّ "ابن فضلان يخترق العالم الإيراني دون أن يُبـدي تطلعـات استكشافية، لا يستوقفه منه شيء إلى أن يبلغ تخومه الشمالية الشرقية في بخارى…"(ص102).
لم يحسم التاريخ – بعْدُ – في الجواب عن سؤال: إلى أين وصل ابن فضلان؟ وعلى أي طريق عاد إلى بغداد ؟!، لكنّ كتاب الخامسة علاوي متحمس جدا لإمكانية أن يكون طريق العودة هو نفسه طريق الذهاب، ولذلك فإنّ الرحالة لم يكن بحاجة إلى وصف ما جرى في طريق العودة، لانّ همه الأصلي ليس كتابة رحلة وإنما قيادة وفد، وإذن فالرجوع لا يحتاج إلى تدوين، بل إنّ الورقة أو الورقتين الضائعتين من الرحلة كافيتان لتلخيص ذلك، وهذا تفكير منطقي – في تقديري – من شأنه أن يضع حدا لإشكالية العودة ومسألة الصفحات القليلة الضائعة من مخطوط الرحلة في وقت واحد.
ومن جهة أخرى فإن الباحثة تنكر المسار الاسكندنافي للرحلة، الذي يثبته آخرون كحيدرمحمد غيبة وعبد الله إبراهيم، اعتمادا على رواية (أكلة الموتى) لمخائيل كريكطون، وقد أُتيحَ لي – ذات لقاءٍ علمي حميم – أن أناقش الدكتور عبد الله إبراهيم في هذه المسألة ومسألة أخرى موصولة بها هي صورة ابن فضلان لدى الآخر، فأصرّ على تاريخية الرحلة إلى النرويج تحديدا (رغم أن النرويج لم تكن مبرمجة في الرحلة، ورغم أنّ رحلة ابن فضلان ليست رحلة تلقائية سياحية بل هي "رحلة تكليفية "باصطلاح حسين محمد فهيم في كتابه" أدب الرحلات")، وحجة عبد الله إبراهيم الوحيدة هي أنّ النرويجيين - اليوم - يعدّون رحلة ابن فضلان جزءً من تاريخهم ، كما هي حال الروس المعاصرين الذين لا يعرفون أن أجدادهم كانوا يحرقون أمواتهم- على طريقة الهنود- إلا من خلال رحلة ابن فضلان !…
وفي مسألة موصولة بما سبق، ترفض الباحثة صورة ابن فضلان كما رسمتْها الأدبيات الأمريكية (كريكطون) وحوَّلتها إلى فيلمٍ شهير(كان العربي الأمريكي عمر الشريف بطلا له!)، هنا اختلفتُ مع عبد الله إبراهيم ثانية وسألته عن مدى مصداقية استخلاص الحقيقة التاريخية من رواية خيالية ذات مادة تاريخية (كرواية "أكلة الموتى")، فأجابني بأنّ الفراغ أو الجزء الضائع من رحلة ابن فضلان قد عُوِّض بمتخيل كريكطون !؛ فكأنّه يعترف بخيالية تلك الصورة لكنّه أثبتها في كتابه(المركزية الإسلامية – صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى)، من باب معرفة صورتنا في نظر الآخر، ليس إلا …
وإلا فمن يصدّق أنّ ابن فضلان المرشد الديني، الفقيه، معلم الشرائع، سيصبح – في الرواية الأمريكية - مغنيا يتغنى بالقرآن وهو سكران – في محلّ يغصّ بالسكارى – حتى يفقد وعيه!، يشرب النبيذ ويشكر الله !، يُمارس المحرّمات مع الاسكندنافيات! وهو الفقيه الغيور على دينه الذي ظلّ يحارب الاختلاط ويجتهد -كما قال في الرحلة - أن يستتر النساء من الرجال أثناء السباحة في النهر لدى الصقالبة؟! هل يُعقَل أن يَأتي في آخر الرحلة ما كان ينهى عنه في مطلعها؟ وإذا سلمنا – جدلا – بأنّه فعل ذلك ، ألم يكن يخشى أن يبلغ الخليفة ذلك؟ وهل يُعقَل أن يسكت الخليفةُ المقتدر عنه، وهو الذي صلب الحلاَّجَ وقتله ونكَّل به لمجرد أنه تفوَّه ببعض الشطحات الصوفية ؟!…
إنّ وعْيَ صاحبة (العجائبية في أدب الرحلات) بمجمل هذه الاستفهامات التاريخية والفكرية الحادة قد انعكس على كتابها بالوضوح في الشخصية، والتميز في الطرح، وعدم الاستسلام لما سلَّم السابقون به، وقد ساعدها على ذلك الكم الهائل من المصادر والمراجع المتنوعة التي أتاحت لها الإحاطة بموضوعها من شتى الجوانب ،و النظر إلى الجانب الواحد من زوايا مختلفة ، فكان هذا الكتاب كشفا جديدا في عالم (أدب الرحلة) الذي سيظل دائما في حاجة إلى كشف..
هذه بعض ثمار الرحلة العلمية الأولى، في حياة الباحثة الخامسة علاوي، وثمار الرحلات القادمات خيْرٌ وأحْلى وأغْنى وأغْلى إن شاء الله.
المصدر
http://www.diwanalarab.com/local/cac...eon0-60928.gif
رد: أدب الرحـــــــلة ...
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
http://www.25q8.com/vb/uploaded/wrdaa.gif
http://www.diwanalarab.com/local/cac...8386-20fa5.jpg
الرحلة الأدبية والإشباع النفسي
الخامسة علاوي بنت عمار
عرف الانسان الرحلة منذ القدم لأنّه جُبل على حب التنقل والحركة، هذه الأخيرة التي تُعدّ روح الحياة وسمة أساسية في التركيب الجسدي والنفسي للإنسان، وقد هيأه الله لها وجعلها إمكانية ضرورية لحياته، وهي تتسق مع الهدف والغاية التي خُلق من أجلها وهي تعمير الأرض وعبادة الله عز ّوجلّ [1] .
ولما كانت الرحلة نقلة في الزمان إذا كانت بالفكر أو الخيال، ونقلة في المكان إذا كانت الرحلة حقيقية فإنها تعمد الى إشباع العديد من الحاجات لدى الرحالة سواء أكانت هذه الحاجات إدراكية أم معرفية أم روحية مما يؤدي الى تخفيض حدة التوتر وحلول الاتزان والتخلص من القلق الذي يهدد السلامة الداخلية للفرد.
ولما كانت الرحلة أيضا سلوكا هادفا فإنها محكومة بمثيرات داخلية تحرك هذا السلوك وتوجهه، وهي ما يُعرف عادة عند علماء النفس بالدوافع التي رغم تنوعها "تتفق بصفة عامة في مصدرها وهدفها، فمصدر الدافع هو حالة عدم الارتياح، وتوتر يشعر بها الانسان، وهدفه هو التقليل من التوتر الذي يشعر به الفرد والوصول الى حالة الاتزان" [2] والاستقرار التي يصبو اليها كل فرد سوي، مع العلم أنّ "الدافع لا يتحرك إلا حين يشعر المرء بتهديد أو خطر" [3]، فالدوافع إذا قوى انفعالية تحرك نشاط الانسان وتوجهه نحو هدف معين.
وقد ميّز علماء النفس السلوك الذي يكمن وراءه الدافع أو عدد من الدوافع بصفات [4] نستطيع من خلالها أن نستدل على درجة الدافعية(قوة الدافع)، يمكن رصدها فيما يلي:
1- الطاقة المبذولة :إذ كلما ازدادت كمية الطاقة التي يبذلها الفرد في سلوكه ،كلما كان ذلك دليلا على قوة الدافع الذي يحرك هذا السلوك.
2- الاستمرار أو الإصرار: فكلما قوى الدافع واشتد، ازدادت كمية الطاقة المولدة، وازداد إصرار الفرد على الوصول الى الهدف.
3- التنوع: كلما اشتدت الدافعية كلما نوع الفرد في الوسائل المحققة للهدف، "فتنوع السلوك المبذول هو دالة جزئية على قوة الدافعية " [5].
فالرحالة بقدر توقه الى الترحال وقوة تحمله مصارعة المجاهيل وإصراره على اختراق الآفاق البعيدة، بقدر ماهو محكوم بجملة من الدوافع والحاجات بوصفه كيانا متعدد الأبعاد؛ فهو يمتلك بعدا بيولوجيا وآخر نفسيا، وآخر اجتماعيا، ولكي يتمتع الرحالة بحياة مستقرة هادئة في ظل علاقات اجتماعية منظمة لابد أن يحقق الحاجات المشْبعة لكل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة جملة وتفصيلا. ولمزيد من الفائدة نحاول أن نفيد من علم النفس للوقوف على جملة الحاجات بأنواعها مع عدم إهمال درجة الدافعية.
تنوع الحاجة ودرجة الدافعية:
قسم موراي الحاجات الى حاجات ظاهرة صريحة وأخرى كامنة مكبوتة تعني "الحاجات التي لا تعبر عن نفسها إلا في تعبيرات ذاتية تخييلية أو تعبيرات شبه موضوعية كالخطط والتداعيات ومن أمثلتها:
1- المعرفة: وهي الرغبة في التفحص، ويمكن أن تظهر في حاجات الشخص للاستكشاف وحب الاستطلاع والقراءة والمعرفة بكل سبلها ، بما في ذلك الرحلة التي تعد من أهم الوسائل المعرفية القديمة والحديثة، لما للرحالة فيها من حرية في الاحتكاك بثقافات وعادات وتقاليد البلدان المزارة، ولما فيها من استكناه واستنطاق للآخر البعيد جغرافيا.
2- السيطرة: أو ما يعرف بالرغبة في القوة المطلقة ويمكن أن تظهر في حاجة الشخص للتأثير على الآخرين أو قيادة أفراد الجماعة وتنظيم سلوكهم.
أما الحاجات الظاهرة فيمكن أن نمثل لها بالإنجاز الذي يعني أن نحقق شيئا صعبا في أكبر سرعة ممكنة وبأكبر قدر من الاستقلال الذاتي متغلبا على كل العقبات التي تواجهك وهنا نود الإشارة الى أنه "كلمـا ازداد الدافع كلمــــا ازدادت حركـيته وحساسيته " [6]، بمعنى أنّه "كلما قوي الدافع واشتد ،كلما ازدادت كمية الطاقة المولدة، كلما ازداد إصرار الفرد على الوصول الى هدفه " [7].
ولما كانت الرحلة في حد ذاتها إنجازا وخاصة إذا كانت فردية، فإنه لا يهم فيها لحظة الانطلاق أو مكان الوصول بقدر ما يهم فيها ما يؤدي إليه الوصول من الإشباع وتحقيق الذات، هذه الغاية الأخيرة التي يرى ماسلو [8] أنها من الحاجات التي لا يمكن إشباعها على الإطلاق ، ذلك أنها كلما أُشبعت كلما ازدادت نشاطا وإلحاحا وبالتالي تغذي ذاتها بذاتها، وهو ما يفسر توق الرحالة الى المزيد من التجارب الرحلية كلما كانت رحلته أصعب وأشق، ولعل خير مثال نمثل به في هذا المقام هو الرحالة ابن بطوطة أو "أمير الرحالين" كما حلا لجمعية كمبردج أن تلقبه في كتبها وأطالسها، إذ رغم الصعوبات والعراقيل التي واجهها الرحالة أثناء رحلته الأولى لانعدام الأمن وعدم توفر وسائل النقل المتطورة ،إلا أنّّ ذلك لم يحد من رغبته الملحة الكامنة في نفسه لشد عصا الترحال الى مناطق أكثر غورا في عالم الآخر البعيد، عبر رحلاته الثلاث كما هو معروف.
وقد صرح ابن بطوطة في مطلع كتابه عن دوافعه الحقيقية التي جعلته يؤثر السفر والتنقل على المكوث في مكان بعينه إذ يقول: "كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر رجب الفرد عام 725هـ معتمدا حج بيت الله وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، منفردا عن رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم وشوق الى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم" [9]، فإذا كان الرحالة قد أفاد في هذا التصريح أنّ دافع الخروج الرئيس روحي بالدرجة الأولى، فإن ذلك لا يمنع البتة من وجود دافع آخر وسمه بالنفسي لم يفصح عنه بذاته وإنما أفصح عنه حسين مؤنس حين أجمل دوافع الرحالة في ظاهرة الشوق الى رؤية الدنيا والناس [10].
ولو تقرينا خبر كبار الرحالة في أدبنا الجغرافي لوجدنا أن ظاهرة الشوق الى رؤية الدنيا والناس كانت الدافع الأساس عند أكثرهم فهذا المسعودي صاحب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) يُقرّ بأنّه خُلق مولعا بالتنقل والمغامرة والتجربة ومعرفة أحوال الناس، مؤمنا إيمانا جازما أن "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمي إليه من الأخبار من إقليمه كمن قسم عمره على الأقطار، ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار واستخراج كل دقيق من معدنه، وإثارة كل نفيس من مكمنه" [11] فالرحلات العربية وغير العربية كانت لها دوافعها التي تحركها وبواعثها التي توجدها، وقد تعددت هذه البواعث وتلك الدوافع من رحالة الى آخر، فمن مسافر لتحقيق رغبة نفسية، الى مسافر هربا من أوضاع لم يتحمل العيش في ظلها - كمدام دي ستال التي خرجت من فرنسا الى ألمانيا هربا من اضطهادات نابليون لها، فكان كتابها "من ألمانيا" بمثابة طريد ينشد ملاذا في عالم مثالي - الى مسافر في بعثة دبلوماسية أو علمية أو تعليمية كخير الدين التونسي ورفاعة رافع الطهطاوي وابن فضلان على التوالي كل بحسب طبيعة رحلته.
وقد أثبتت جل هذه الرحلات أنّ الرحلة بماهي تجربة تمكن الرحالة من التخلص من مختلف التوترات الانفعالية و تجنبه ألوانا من الصراعات الناجمة عن تفاعل الفرد مع بيئته، وهذه الصراعات التي تهدد سلامته وأمنه الداخليين لأن ما يهدد أمن الفرد قد يكوّن خطرا داخليا متمثلا في القلق والصراع ،كما يمكن أن يتعدى مداه الفرد الى المجتمع فيصبح خطرا خارجيا.
الرحلة والنشاطات النفسية
أولا: الرحلة والتخييل: الرحلة وسيلة لإشباع حاجات الانسان الروحية (إذا كانت رحلات حجية)، وحاجته لمعرفة خبايا العالم المحيط به لاستنطاق مكنوناته (إذا كانت رحلات استكشافية)، وهي لا تقف عند هذا الحد؛ إذ تؤثر على القائم بها فتسمح له أن يحقق ذاته، ليخرج من حالة الكمون التي يحياها، وبمقدار ما يحقق خلالها من إشباع يتحدد اتزانه وصحته وسعادته، ولعل أكثر ما يكون ذلك واضحا في الرحلات الخيالية باعتبارها "الانتقال المتخيل الذي يقوم به الأديب عبر الحلم أو الخيال الى عالم بعيد عن عالمه الواقعي ليطرح في هذا العالم رؤاه وأحلامه التي لم تتحقق في دنيا الواقع" [12] وربما كان من أبرز مظاهر هذه الرحلات الخيالية الرحلات الباطنية التي يقوم بها بعض الصوفية والتي "تتطلب تجربة معيشة على المستوى الواقعي، وأخرى ذهنية لعالم متخيل، يجنح الى صوغ أفكار وتأملات معينة تتماس مع المقولات والتصورات الصوفية والفلسفية والدينية التي ترسم رحلة النفس في بحثها عن عالم آخر يكون بديلا عن الواقع وصولا الى المطلق واليقين" [13] حيث يجد فيها الرحالة نفسه متحررا من أسر العالم الخارجي وبذلك تتحقق له مطالب اللذة التي يسعى اليها شقه الحيواني، ومطالب الحكمة التي يسعى اليها شقه الإنساني، مما يجعلنا نعدّ الرحلات الخيالية بمثابة أحلام اليقظة التي يعرفها فرويد بأنها عدول التخيلات، لأنها تتشكل للتعبير عن رغبات مكبوتة تتميز بالذاتية والنرجسية لا يمكن لأي مجال أن يضمن لها الستر وعدم الكشف إلا الحلم.
والرحلة أيضا بوصفها "إحدى البنيات التخييلية الأكثر التصاقا بمدارات الكتابة الروائية في الأدب الإنساني قديمه وحديثه" [14] يمكن عدّها من صميم الأعمال الفنية التي عرّفها فرويد بأنها " إشباع خيالي لرغبات لا شعورية شأنها شأن الأحلام وهي مثلها محاولات توفيق، حيث إنها بدورها تجتهد كي تتفادى أي صراع مكشوف مع قوى الكبت " [15]، وكما يسعى الإبداع لإحداث التوازن كذلك تفعل الرحلة التي يسعى صاحبها الى إشباع فضوله وتحقيق ذاته و إرواء حاجاته النفسية المختلفة، وإن كان ذلك لا يكون بصورة تامة، ولعله في الإمكان تشبيه فضول الرحالة لارتياد الآفاق واختراق المجهول، بحاجة الطفل للمعرفة التي لا يمكن إشباعها، فهي تدفعه باستمرار لأن يعيد ترتيب أفكاره وفق النموذج الأكثر معقولية لأنه يبتغي الاطلاع على تحديات المستقبل، كذلك الرحالة يبتغي الاطلاع على تحديات الأماكن الأجنبية وما تحمله معها من مفارقات على مستويات متعددة.
ثانيا: الرحلة والتسامي: "الإعلاء أو التسامي عملية عفوية، ولكن الحاجة اليها تكون شعورية على الرغم من أنّ هذه العملية قد تبدأ في بعض الأحيان قبل أن يشعر بها المرء بوقت مديد" [16]، وقد عرفه فرويد بوصفه القدرة على تبديل الهدف الجنسي الأساسي بهدف آخر غير جنسي، كحب الاستطلاع والبحث مثلا ، بحيث يصبح البحث قهريا بديلا للنشاط الجنسي، وكأن هذه العملية تقوم على تغيير الموضوع بالنسبة للغريزة وتحويل الطاقة المتصلة بالرغبات والدوافع الممنوعة (كالرغبات العدوانية والجنسية المحرمة) الى توجيهات اجتماعية وثقافية وأخلاقية وفنية سامية ونافعة، ولأجل ذلك يُعدّ التسامي أو التصعيد من العمليات الواقية من المرض النفسي الذي يدفع إليه الحرمان عادة.
ولعلنا في هذا المقام نرشح الرحالة جيرار دي نرفال كأحسن ممثل لهذا المبدأ؛ إذ بعد فقده لحبيبته جين كولون التي أحبّها حتى العبادة حمل عصا الترحال متجها إلى الشرق، بل الى مصر بالذات التي كان ظل يحلم بزيارتها، وعنها كان كتابه الموسوم بـ"رحلة الى الشرق" .
وقد ولع نرفال بطبيعة الشرق الجميلة ومناظره العجيبة وشمسه الوضاءة المشرقة، وليس هو أول المولوعين بالشرق وطبيعته الساحرة الفاتنة، ولكنه واحد من الرحالة الرومنتكيين الذين شدوا الرحال إلى الشرق بحثا عن أسمى المواد والصور الرومنتيكية كما يقول فريدريش شليجل.
فنرفال برحلته الى الشرق قد حوّّل رغباته المكبوتة الى حب للاستطلاع والبحث لتحقيق حلم لطالما راوده، فالتسامي من الوجهة النفسية هو العملية المباشرة للإبداع الفني الذي ارتقى إليه نرفال، لقد كانت رحلته بالفعل علاجا نافعا لأنه استرد في هذا الشرق البعيد ثقته بنفسه وبالحياة، وانتصر مؤقتا على شبح الجنون الذي كان يطارده.
حواشي
[1] فؤاد قنديل: أدب الرحلة في التراث العربي، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2002، ص17
[2] عبد السلام عبد الغفار: مقدمة في علم النفس العام ، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، ص137
[3] جيروم كاغار: أطفالنا كيف نفهمهم، ترجمة: عبد الكريم ناصف، دار الجيل: 1997، ص 180.
[4] عبد السلام عبد الغفار، المرجع السابق، ص 137.
[5] مقدمة في علم النفس العام، م.س، ص138.
[6] نفسه، ص136
[7] نفسه، ص137
[8] رتب ماسلو الحاجات بأبعادها الثلاثة الى شكل هرمي وذلك على أساس أهميتها ودرجة الحاجة في الإشباع، حيث جعل الحاجات الفسيولوجية في قاعدة الهرم وحاجات تحقيق الذات في القمة، بينما تقع الحاجات المتعلقة بالأمان والحب والأمن بين هاتين، مؤكدا أنّ هذه الحاجات ترافقها انفعالات على شكل توتر مميز يزول بالإشباع ومنه يحصل الاتزان الداخلي الذي أخلّ به وجود الحاجة، ويكون الإشباع حقيقيا أو خياليا. راجع: مقدمة في علم النفس العام، م.س.، ص148 - 150.
[9] ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة - المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار- مر. درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 2003، ص 20.
[10] حسين مؤنس: ابن بطوطة ورحلاته - تحقيق ودراسة وتحليل، دار المعارف، القاهرة، دت، ص18.
[11] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، ت. محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط4، 1964،ج1، ص9.
[12] محمد الصالح السليمان: الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث، منشورات اتحاد الكتاب العرب، المغرب، 2000، ص19.
[13] فحي عامر: قراءة في كتاب الرحلة في الأدب العربي - التجنيس وآليات الكتابة وخطاب المتخيل، متاح على الشبكة [15/9/ 2004].
[14] علي كابوس، عبد العلي اليزمي: كتابة الرحلة ورحلة الكتابة - قراءة في الطريق السيار ل ح. لحميداني، مجلة علامات، العدد 15، 2001، متاح على موقع سعيد بن كراد
[15] سغموند فرويد: حياتي والتحليل النفسي، ترجمة: مصطفى زيور، وعبد المنعم المليجي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1967، ص73.
[16] سار جنت: علم النفس الحديث ، سلسلة الشريط الحريري، ترجمة: منير البعلبكي، دار الملايين، بيروت، 1997، ص73.
المصدر
http://www.diwanalarab.com/local/cac...eon0-60928.gif
حياكم الله
http://www.w6w.net/album/35/w6w20050...21b61726a0.gif
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com
رد: أدب الرحـــــــلة ...
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
http://www.25q8.com/vb/uploaded/wrdaa.gif
http://www.diwanalarab.com/local/cac...8386-20fa5.jpg
الرحلة الأدبية والإشباع النفسي
الخامسة علاوي بنت عمار
عرف الانسان الرحلة منذ القدم لأنّه جُبل على حب التنقل والحركة، هذه الأخيرة التي تُعدّ روح الحياة وسمة أساسية في التركيب الجسدي والنفسي للإنسان، وقد هيأه الله لها وجعلها إمكانية ضرورية لحياته، وهي تتسق مع الهدف والغاية التي خُلق من أجلها وهي تعمير الأرض وعبادة الله عز ّوجلّ [1] .
ولما كانت الرحلة نقلة في الزمان إذا كانت بالفكر أو الخيال، ونقلة في المكان إذا كانت الرحلة حقيقية فإنها تعمد الى إشباع العديد من الحاجات لدى الرحالة سواء أكانت هذه الحاجات إدراكية أم معرفية أم روحية مما يؤدي الى تخفيض حدة التوتر وحلول الاتزان والتخلص من القلق الذي يهدد السلامة الداخلية للفرد.
ولما كانت الرحلة أيضا سلوكا هادفا فإنها محكومة بمثيرات داخلية تحرك هذا السلوك وتوجهه، وهي ما يُعرف عادة عند علماء النفس بالدوافع التي رغم تنوعها "تتفق بصفة عامة في مصدرها وهدفها، فمصدر الدافع هو حالة عدم الارتياح، وتوتر يشعر بها الانسان، وهدفه هو التقليل من التوتر الذي يشعر به الفرد والوصول الى حالة الاتزان" [2] والاستقرار التي يصبو اليها كل فرد سوي، مع العلم أنّ "الدافع لا يتحرك إلا حين يشعر المرء بتهديد أو خطر" [3]، فالدوافع إذا قوى انفعالية تحرك نشاط الانسان وتوجهه نحو هدف معين.
وقد ميّز علماء النفس السلوك الذي يكمن وراءه الدافع أو عدد من الدوافع بصفات [4] نستطيع من خلالها أن نستدل على درجة الدافعية(قوة الدافع)، يمكن رصدها فيما يلي:
1- الطاقة المبذولة :إذ كلما ازدادت كمية الطاقة التي يبذلها الفرد في سلوكه ،كلما كان ذلك دليلا على قوة الدافع الذي يحرك هذا السلوك.
2- الاستمرار أو الإصرار: فكلما قوى الدافع واشتد، ازدادت كمية الطاقة المولدة، وازداد إصرار الفرد على الوصول الى الهدف.
3- التنوع: كلما اشتدت الدافعية كلما نوع الفرد في الوسائل المحققة للهدف، "فتنوع السلوك المبذول هو دالة جزئية على قوة الدافعية " [5].
فالرحالة بقدر توقه الى الترحال وقوة تحمله مصارعة المجاهيل وإصراره على اختراق الآفاق البعيدة، بقدر ماهو محكوم بجملة من الدوافع والحاجات بوصفه كيانا متعدد الأبعاد؛ فهو يمتلك بعدا بيولوجيا وآخر نفسيا، وآخر اجتماعيا، ولكي يتمتع الرحالة بحياة مستقرة هادئة في ظل علاقات اجتماعية منظمة لابد أن يحقق الحاجات المشْبعة لكل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة جملة وتفصيلا. ولمزيد من الفائدة نحاول أن نفيد من علم النفس للوقوف على جملة الحاجات بأنواعها مع عدم إهمال درجة الدافعية.
تنوع الحاجة ودرجة الدافعية:
قسم موراي الحاجات الى حاجات ظاهرة صريحة وأخرى كامنة مكبوتة تعني "الحاجات التي لا تعبر عن نفسها إلا في تعبيرات ذاتية تخييلية أو تعبيرات شبه موضوعية كالخطط والتداعيات ومن أمثلتها:
1- المعرفة: وهي الرغبة في التفحص، ويمكن أن تظهر في حاجات الشخص للاستكشاف وحب الاستطلاع والقراءة والمعرفة بكل سبلها ، بما في ذلك الرحلة التي تعد من أهم الوسائل المعرفية القديمة والحديثة، لما للرحالة فيها من حرية في الاحتكاك بثقافات وعادات وتقاليد البلدان المزارة، ولما فيها من استكناه واستنطاق للآخر البعيد جغرافيا.
2- السيطرة: أو ما يعرف بالرغبة في القوة المطلقة ويمكن أن تظهر في حاجة الشخص للتأثير على الآخرين أو قيادة أفراد الجماعة وتنظيم سلوكهم.
أما الحاجات الظاهرة فيمكن أن نمثل لها بالإنجاز الذي يعني أن نحقق شيئا صعبا في أكبر سرعة ممكنة وبأكبر قدر من الاستقلال الذاتي متغلبا على كل العقبات التي تواجهك وهنا نود الإشارة الى أنه "كلمـا ازداد الدافع كلمــــا ازدادت حركـيته وحساسيته " [6]، بمعنى أنّه "كلما قوي الدافع واشتد ،كلما ازدادت كمية الطاقة المولدة، كلما ازداد إصرار الفرد على الوصول الى هدفه " [7].
ولما كانت الرحلة في حد ذاتها إنجازا وخاصة إذا كانت فردية، فإنه لا يهم فيها لحظة الانطلاق أو مكان الوصول بقدر ما يهم فيها ما يؤدي إليه الوصول من الإشباع وتحقيق الذات، هذه الغاية الأخيرة التي يرى ماسلو [8] أنها من الحاجات التي لا يمكن إشباعها على الإطلاق ، ذلك أنها كلما أُشبعت كلما ازدادت نشاطا وإلحاحا وبالتالي تغذي ذاتها بذاتها، وهو ما يفسر توق الرحالة الى المزيد من التجارب الرحلية كلما كانت رحلته أصعب وأشق، ولعل خير مثال نمثل به في هذا المقام هو الرحالة ابن بطوطة أو "أمير الرحالين" كما حلا لجمعية كمبردج أن تلقبه في كتبها وأطالسها، إذ رغم الصعوبات والعراقيل التي واجهها الرحالة أثناء رحلته الأولى لانعدام الأمن وعدم توفر وسائل النقل المتطورة ،إلا أنّّ ذلك لم يحد من رغبته الملحة الكامنة في نفسه لشد عصا الترحال الى مناطق أكثر غورا في عالم الآخر البعيد، عبر رحلاته الثلاث كما هو معروف.
وقد صرح ابن بطوطة في مطلع كتابه عن دوافعه الحقيقية التي جعلته يؤثر السفر والتنقل على المكوث في مكان بعينه إذ يقول: "كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر رجب الفرد عام 725هـ معتمدا حج بيت الله وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، منفردا عن رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم وشوق الى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم" [9]، فإذا كان الرحالة قد أفاد في هذا التصريح أنّ دافع الخروج الرئيس روحي بالدرجة الأولى، فإن ذلك لا يمنع البتة من وجود دافع آخر وسمه بالنفسي لم يفصح عنه بذاته وإنما أفصح عنه حسين مؤنس حين أجمل دوافع الرحالة في ظاهرة الشوق الى رؤية الدنيا والناس [10].
ولو تقرينا خبر كبار الرحالة في أدبنا الجغرافي لوجدنا أن ظاهرة الشوق الى رؤية الدنيا والناس كانت الدافع الأساس عند أكثرهم فهذا المسعودي صاحب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) يُقرّ بأنّه خُلق مولعا بالتنقل والمغامرة والتجربة ومعرفة أحوال الناس، مؤمنا إيمانا جازما أن "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمي إليه من الأخبار من إقليمه كمن قسم عمره على الأقطار، ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار واستخراج كل دقيق من معدنه، وإثارة كل نفيس من مكمنه" [11] فالرحلات العربية وغير العربية كانت لها دوافعها التي تحركها وبواعثها التي توجدها، وقد تعددت هذه البواعث وتلك الدوافع من رحالة الى آخر، فمن مسافر لتحقيق رغبة نفسية، الى مسافر هربا من أوضاع لم يتحمل العيش في ظلها - كمدام دي ستال التي خرجت من فرنسا الى ألمانيا هربا من اضطهادات نابليون لها، فكان كتابها "من ألمانيا" بمثابة طريد ينشد ملاذا في عالم مثالي - الى مسافر في بعثة دبلوماسية أو علمية أو تعليمية كخير الدين التونسي ورفاعة رافع الطهطاوي وابن فضلان على التوالي كل بحسب طبيعة رحلته.
وقد أثبتت جل هذه الرحلات أنّ الرحلة بماهي تجربة تمكن الرحالة من التخلص من مختلف التوترات الانفعالية و تجنبه ألوانا من الصراعات الناجمة عن تفاعل الفرد مع بيئته، وهذه الصراعات التي تهدد سلامته وأمنه الداخليين لأن ما يهدد أمن الفرد قد يكوّن خطرا داخليا متمثلا في القلق والصراع ،كما يمكن أن يتعدى مداه الفرد الى المجتمع فيصبح خطرا خارجيا.
الرحلة والنشاطات النفسية
أولا: الرحلة والتخييل: الرحلة وسيلة لإشباع حاجات الانسان الروحية (إذا كانت رحلات حجية)، وحاجته لمعرفة خبايا العالم المحيط به لاستنطاق مكنوناته (إذا كانت رحلات استكشافية)، وهي لا تقف عند هذا الحد؛ إذ تؤثر على القائم بها فتسمح له أن يحقق ذاته، ليخرج من حالة الكمون التي يحياها، وبمقدار ما يحقق خلالها من إشباع يتحدد اتزانه وصحته وسعادته، ولعل أكثر ما يكون ذلك واضحا في الرحلات الخيالية باعتبارها "الانتقال المتخيل الذي يقوم به الأديب عبر الحلم أو الخيال الى عالم بعيد عن عالمه الواقعي ليطرح في هذا العالم رؤاه وأحلامه التي لم تتحقق في دنيا الواقع" [12] وربما كان من أبرز مظاهر هذه الرحلات الخيالية الرحلات الباطنية التي يقوم بها بعض الصوفية والتي "تتطلب تجربة معيشة على المستوى الواقعي، وأخرى ذهنية لعالم متخيل، يجنح الى صوغ أفكار وتأملات معينة تتماس مع المقولات والتصورات الصوفية والفلسفية والدينية التي ترسم رحلة النفس في بحثها عن عالم آخر يكون بديلا عن الواقع وصولا الى المطلق واليقين" [13] حيث يجد فيها الرحالة نفسه متحررا من أسر العالم الخارجي وبذلك تتحقق له مطالب اللذة التي يسعى اليها شقه الحيواني، ومطالب الحكمة التي يسعى اليها شقه الإنساني، مما يجعلنا نعدّ الرحلات الخيالية بمثابة أحلام اليقظة التي يعرفها فرويد بأنها عدول التخيلات، لأنها تتشكل للتعبير عن رغبات مكبوتة تتميز بالذاتية والنرجسية لا يمكن لأي مجال أن يضمن لها الستر وعدم الكشف إلا الحلم.
والرحلة أيضا بوصفها "إحدى البنيات التخييلية الأكثر التصاقا بمدارات الكتابة الروائية في الأدب الإنساني قديمه وحديثه" [14] يمكن عدّها من صميم الأعمال الفنية التي عرّفها فرويد بأنها " إشباع خيالي لرغبات لا شعورية شأنها شأن الأحلام وهي مثلها محاولات توفيق، حيث إنها بدورها تجتهد كي تتفادى أي صراع مكشوف مع قوى الكبت " [15]، وكما يسعى الإبداع لإحداث التوازن كذلك تفعل الرحلة التي يسعى صاحبها الى إشباع فضوله وتحقيق ذاته و إرواء حاجاته النفسية المختلفة، وإن كان ذلك لا يكون بصورة تامة، ولعله في الإمكان تشبيه فضول الرحالة لارتياد الآفاق واختراق المجهول، بحاجة الطفل للمعرفة التي لا يمكن إشباعها، فهي تدفعه باستمرار لأن يعيد ترتيب أفكاره وفق النموذج الأكثر معقولية لأنه يبتغي الاطلاع على تحديات المستقبل، كذلك الرحالة يبتغي الاطلاع على تحديات الأماكن الأجنبية وما تحمله معها من مفارقات على مستويات متعددة.
ثانيا: الرحلة والتسامي: "الإعلاء أو التسامي عملية عفوية، ولكن الحاجة اليها تكون شعورية على الرغم من أنّ هذه العملية قد تبدأ في بعض الأحيان قبل أن يشعر بها المرء بوقت مديد" [16]، وقد عرفه فرويد بوصفه القدرة على تبديل الهدف الجنسي الأساسي بهدف آخر غير جنسي، كحب الاستطلاع والبحث مثلا ، بحيث يصبح البحث قهريا بديلا للنشاط الجنسي، وكأن هذه العملية تقوم على تغيير الموضوع بالنسبة للغريزة وتحويل الطاقة المتصلة بالرغبات والدوافع الممنوعة (كالرغبات العدوانية والجنسية المحرمة) الى توجيهات اجتماعية وثقافية وأخلاقية وفنية سامية ونافعة، ولأجل ذلك يُعدّ التسامي أو التصعيد من العمليات الواقية من المرض النفسي الذي يدفع إليه الحرمان عادة.
ولعلنا في هذا المقام نرشح الرحالة جيرار دي نرفال كأحسن ممثل لهذا المبدأ؛ إذ بعد فقده لحبيبته جين كولون التي أحبّها حتى العبادة حمل عصا الترحال متجها إلى الشرق، بل الى مصر بالذات التي كان ظل يحلم بزيارتها، وعنها كان كتابه الموسوم بـ"رحلة الى الشرق" .
وقد ولع نرفال بطبيعة الشرق الجميلة ومناظره العجيبة وشمسه الوضاءة المشرقة، وليس هو أول المولوعين بالشرق وطبيعته الساحرة الفاتنة، ولكنه واحد من الرحالة الرومنتكيين الذين شدوا الرحال إلى الشرق بحثا عن أسمى المواد والصور الرومنتيكية كما يقول فريدريش شليجل.
فنرفال برحلته الى الشرق قد حوّّل رغباته المكبوتة الى حب للاستطلاع والبحث لتحقيق حلم لطالما راوده، فالتسامي من الوجهة النفسية هو العملية المباشرة للإبداع الفني الذي ارتقى إليه نرفال، لقد كانت رحلته بالفعل علاجا نافعا لأنه استرد في هذا الشرق البعيد ثقته بنفسه وبالحياة، وانتصر مؤقتا على شبح الجنون الذي كان يطارده.
حواشي
[1] فؤاد قنديل: أدب الرحلة في التراث العربي، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2002، ص17
[2] عبد السلام عبد الغفار: مقدمة في علم النفس العام ، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، ص137
[3] جيروم كاغار: أطفالنا كيف نفهمهم، ترجمة: عبد الكريم ناصف، دار الجيل: 1997، ص 180.
[4] عبد السلام عبد الغفار، المرجع السابق، ص 137.
[5] مقدمة في علم النفس العام، م.س، ص138.
[6] نفسه، ص136
[7] نفسه، ص137
[8] رتب ماسلو الحاجات بأبعادها الثلاثة الى شكل هرمي وذلك على أساس أهميتها ودرجة الحاجة في الإشباع، حيث جعل الحاجات الفسيولوجية في قاعدة الهرم وحاجات تحقيق الذات في القمة، بينما تقع الحاجات المتعلقة بالأمان والحب والأمن بين هاتين، مؤكدا أنّ هذه الحاجات ترافقها انفعالات على شكل توتر مميز يزول بالإشباع ومنه يحصل الاتزان الداخلي الذي أخلّ به وجود الحاجة، ويكون الإشباع حقيقيا أو خياليا. راجع: مقدمة في علم النفس العام، م.س.، ص148 - 150.
[9] ابن بطوطة: رحلة ابن بطوطة - المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار- مر. درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 2003، ص 20.
[10] حسين مؤنس: ابن بطوطة ورحلاته - تحقيق ودراسة وتحليل، دار المعارف، القاهرة، دت، ص18.
[11] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، ت. محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط4، 1964،ج1، ص9.
[12] محمد الصالح السليمان: الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث، منشورات اتحاد الكتاب العرب، المغرب، 2000، ص19.
[13] فحي عامر: قراءة في كتاب الرحلة في الأدب العربي - التجنيس وآليات الكتابة وخطاب المتخيل، متاح على الشبكة [15/9/ 2004].
[14] علي كابوس، عبد العلي اليزمي: كتابة الرحلة ورحلة الكتابة - قراءة في الطريق السيار ل ح. لحميداني، مجلة علامات، العدد 15، 2001، متاح على موقع سعيد بن كراد
[15] سغموند فرويد: حياتي والتحليل النفسي، ترجمة: مصطفى زيور، وعبد المنعم المليجي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1967، ص73.
[16] سار جنت: علم النفس الحديث ، سلسلة الشريط الحريري، ترجمة: منير البعلبكي، دار الملايين، بيروت، 1997، ص73.
المصدر
http://www.diwanalarab.com/local/cac...eon0-60928.gif
حياكم الله
http://www.w6w.net/album/35/w6w20050...21b61726a0.gif
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com
رد: أدب الرحـــــــلة ...
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
http://www.25q8.com/vb/uploaded/wrdaa.gif
العرب القدامى كانوا أكثر استكشافاً
(ارتياد الآفاق)
مشروع أدب الرحلات
بسمة الخطيب
هو، ورغم ذلك فقد ظلّ طوال عشرة قرون، مجهولاً ومهملاً، لكن يبدو أن هذا لم يعد مصير الآن، بعد ستة أعوام من إطلاق المثقف الإماراتي محمد السويدي مشروعه الرائد "ارتياد الآفاق"، الهادف إلى رفع راية هذا اللون الأدبي والفني والثقافي، وهو المشروع الذي سيكون عنوان المرحلة الحديثة الأهم، عربياً، في تاريخ هذا الأدب.
عام 2000 أعلن السويدي عن مشروع "ارتياد الآفاق"، الذي انطلق عملياً عام 2001 مع أول إصداراته تحت إشراف الشاعر نوري الجرّاح، الذي تقاطع شغفه بأدب الرحلة مع طموحات السويدي، ومن أبو ظبي انطلق المشروع إلى كل أقطار العالم، باحثاً عن كلّ مخطوطة تروي رحلة حاجّ ورحالة وتاجر ومغامر ومستشرق ... الهدف الكبير كما يوحي عنوان المشروع: المعرفة والعلم واكتشاف الذات والآخر، وأهمّ من كلّ هذا نفض الغبار عن تراث أدبي عربي عريق وثمين أهمله أهله طويلاً.
كذلك رمى المشروع إلى الكشف عن نصوص مجهولة لكتّاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا رحلاتهم ومشاهداتهم وانطباعاتهم وتحليلاتهم، إضافة إلى تسليط الضوء على ما كتبه الرحّالة الغربيون والمستشرقون الذين زاروا ديارنا العربية والإسلامية وعادوا إلى بلادهم بالكثير من الانطباعات المسبقة التي غادروا بها، مروّجين لشرق"ألف ليلة وليلة" والخرافة والشعوذة، ممهّدين للغزو الغربي الثقافي ومن بعده العسكري.
يقول السويدي هنا: إن الاستفزاز الذي شعرت به النخب العربية والإسلامية بسبب هذه الصور غير المكتملة، بل الزائفة، دفعها إلى رحلة عكسية، أي الرحيل نحو الآخر بحثاً واستكشافاً والعودة بوصف لما شاهدته وخبرته، وإثارة صراع فكري بين الغرب والشرق، وليس مشروع السويدي سوى استئناف لتلك الرحلة العكسية، وخطوة جديدة تنطلق من شبه الجزيرة العربية.
مئة رحلة عربية إلى العالم
انطلاقاً من هذه الأهداف بدأ "ارتياد الآفاق" بإصدار سلسلة "مئة رحلة عربية إلى العالم" التي تكشف كيف رأى العرب العالم عبر رحلاتهم، وكيف ركّزوا على رصد ملامح النهضة العلمية والصناعية والثقافية والعمرانية ... ويتكرّر مع صدور كلّ كتاب والإعلان عن كلّ خطوة جديدة أن الهدف هو الكشف عن طبيعة الوعي الإنساني بالآخر الذي تساهم في تشكيله الرحلة، وعن الثروة المعرفية التي يختزنها أدب الرحلات المتميّز بمادّته السردية المشوّقة المطعّمة بالعجائب والغرائب والطقوس الفريدة ... وكذلك الكشف عن همّة الإنسان العربي في ارتياد الآفاق، وليست الجملة الأخيرة مجرد صدفة أو كلمة تقال، بل يرمي بها السويدي القول بوضوح إن العربي كان ينزع نحو ارتياد الآفاق الجديدة واستكشاف الآخر في الماضي أكثر بما لا يقاس مما يفعل حالياً، منبّهاً بطريقة غير مباشرة إلى خطورة التقوقع والعزلة المسؤولة عن الجهل والتأخّر عن اللحاق بركب المسيرة الإنسانية.
تبعت سلسلة "مئة رحلة عربية إلى العالم" عدّة خطوات مكمّلة، مثل الندوة السنوية لأدب الرحلة جائزة ابن بطوطة سلسلة "سندباد الجديد"، "موسوعة رحلات الحج"، "شرق الغربيين"، "رحّالات شرقيّات"... وبحلول العام 2006 كان قد صدر عن "المركز العربي للأدب الجغرافي ارتياد الآفاق" حوالى 140 كتاباً بين مخطوطة ونصّ ودراسة ومصنّف جغرافي وترجمة لأثر أجنبي.
تنقلت الندوة السنوية التي ينظّمها المركز منذ 2003 تحت عنوان "ندوة الرحالة العرب والمسلمين" بين المغرب والجزائر والسودان، وسترسو مطلع 2007 في الإمارات، وهي في كلّ مرة تجمع دراسات وأبحاثاً حول مدوّنات الرحالة العرب والمسلمين في رحلاتهم بين الشرق والغرب الهادفة إلى اكتشاف الذات والآخر ... كما تخلّلها الإعلان عن "جوائز ابن بطوطة"، وهي عبارة عن جائزة تحقيق مخطوطات الرحلة الكلاسيكية وجائزة الرحلة المعاصرة وجائزة دراسات أدب الرحلة، وأضيفت لها جائزتان هذا العام هما "جائزة الرحلة الصحافية" وجائزة "المذكرات واليوميات"، كما ستعلن هذا العام عن جائزة جديدة للعام 2007 هي جائزة شخصية عربية أو أجنبية أثرت أدب الرحلة.
أدب جديد
سنة بعد أخرى يكبر المشروع وتتسع آفاقه، تتزايد فروع الجائزة وقائمة الإصدارات، ولا شكّ بأنّ هذا المشروع الرائد سيجد نفسه أمام نوع آخر من الأسئلة والتحدّيات تحديداً وهو في طور إنجاز جزء كبير من أهدافه ونشر المزيد من كلاسيكيات أدب الرحلة أو الرحلات المعاصرة. تتعلّق هذه الأسئلة بجوهر أدب الرحلة نفسه كأدب عالمي له تقنياته وأدواته، يتلمّس المؤرّخون وجوده في أقدم الأعمال الأدبية والشعرية منذ هيرودوت وأوديسة هوميروس مروراً بكوميديا دانتي الإلهية التي يعبر خلالها في رحلة إلى الجحيم والمطهر والجنة، ثم "كتاب عجائب الدنيا" لماركو بولو وكتابات كولمبوس وأمريكو فسبوتشي وابن بطوطة وفولتير...
إذاً بعدما يُتِمّ "المركز" نشر الكثير من نصوص الرحلات وبينما يحقّق في دورها في ما يسمى علاقة الشرق بالغرب سيحين وقت التساؤل عن ماهية هذا الأدب وقواعده وخصائصه السردية والفنية والمقارنة بين ماضيه وحاضره واستشراف مستقبله، وبعد التركيز على أدب الرحلة كجسر بين الثقافات ومرآة للمجتمعات يأتي وقت تناوله كأدب وفنّ له مدارسه المختلفة ودعائمه الأسلوبية ومساراته السردية...
كان "أدب الرحلة" قد عرف نقلة نوعية حين قدّمه ستيفنسن وديفو وملفيل وكونراد تحت خانة "أدب المغامرة"، وأضفى عليه جول فرن صبغة علمية أو بالأحرى "خيالية علمية"، كما تحوّلت هذه الرحلات إلى مادة غنيّة لأدب الفتيان والأطفال ... اليوم يقال إنّ هذا الأدب فقد سحره بعد التطوّر التكنولوجي الهائل وتطوّر خدمات الأقمار الصناعية وشبكات الانترنت و"غوغل إيرث" أبرزها، في فتح آفاق العالم أمام الجميع ... هذه مقولة مطروحة للنقاش لأنّ آخرين يدحضونها ويرون أن توق الإنسان إلى الترحال ما زال قائماً بل متّقداً نحو أماكن تعرّضت لتغييرات اجتماعية وسياسية وحتى جيولوجية ونحو الفضاء كمثال بديهي، حيث يُنتظر أن يعود كلّ رائد فضاء و"سائح فضائي" بكتاب لن يكون إلا إضافة إلى "أدب الرحلة الجديد".
كما يطرح آخرون أدب رحلةٍ مقترناً بمتصفّحي الانترنت والرحالة الافتراضيين والرحّالة المقتدين بشبكة النتّ بدل البوصلة والخريطة الورقية، ليس لاكتشاف المجاهل الجغرافية كما في الماضي، بل لإعادة قراءتها وتلمس تغييراتها ... فهل سيكون للعرب مكان في "أدب الرحلة الجديد" أم سينتظرون عشرة قرون جديدة كي يقولوا كلمتهم؟ لا يبدو أن السويدي والجراح يملكان كلّ هذا الصبر.
المصدر
رد: أدب الرحـــــــلة ...
http://img141.imageshack.us/img141/8740/15lv.gif
http://www.25q8.com/vb/uploaded/wrdaa.gif
رحلة ابن معصوم المدني
أو
(سلوة الغريب وأسوة الأريب)
http://www.neelwafurat.com/images/lb...d/95/95797.gif
"سلوة الغريب وأسوة الأريب"
كتاب معروف في الأوساط الأدبية كمصدر أدبي مهم، وضعه مؤلفه "ابن معصوم المدني" وهو حدث لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره يوم غادر موطنه الحجاز مع عائلة والده ميمماً شطر الهند ترافقه بعثه شرف يرأسها وزير من حيدر آباد الركن، وقد استغرقت رحلته هذه إلى أن وصل إلى أبيه تسعة عشر شهراً، دون خلالها كل ما وقعت عليه عينه في البر والبحر.
وإلى أن اشتد ساعده واستوى، شرع سنة 1074هـ في تأليف هذه الرحلة، فوصف المدن والقرى والسكان، والمناخ والماء والهواء، والجبال والأشجار والثمار والحيوان، والمساجد ومراقد العلماء، وترجم لبعضهم، ووصف البحار وما فيها من حيوان وأحجار كريمة وغرائب، فنمّق كل ذلك ووشاه مما عرف عنه من القدرة على الاستطرادات الأدبية الرائعة، والاستدراكات العلمية المفيدة، وأورد الكثير من الشواهد المختارة نظماً ونثراً، ثم أنهى الرحلة بإيراد نماذج من شعر والده، وما يناسبها من أقوال لشعراء آخرين.
وبعدها ترجم للسلطان عبد الله بن محمد قطب شاه سلطان حيدر آباد، ثم ترجم لجماعة من علماء العصر وأدبائه الذين التقى بهم في مجلس والده، وأورد لبعضهم نماذج جيدة من الشعر، وهو في أثناء ذلك يورد الشواهد الشعرية الرائقة والحكايات الطريفة المسلية، والنقد المؤيد بالحقائق العلمية، ثم أتى بعد ذلك بفصل ذكر فيه جملة من أخبار الهند وأحوالها قديماً وحديثاً، وكان مسك الختام طائفة مختارة من الشعر لجماعة من الشعراء كان هو نسفه أخرهم.
ولأهمية هذه الرحلة اعتنى "شاكر هادي شكر" بتحقيق متنها الوارد في هذا الكتاب، تحقيقاً يبين ما غمض من عباراتها، وما لبس من معانيها، كما اعتنى بإيضاح أسماء الأعلام من الرجال الموارد ذكرهم في الكتاب، وبذكر تواريخ وفاتهم، مشيراً إلى مصادر تراجمهم.
المصدر
حياكم الله
http://www.w6w.net/album/35/w6w20050...21b61726a0.gif
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com