دراسة في رحلة رضوى عاشور
الدكتورة سهام جبار هاشم
كلية الاداب - جامعة بغداد
عندما تكون الرحالة أنثى
عندما أصرت سيمون دي بوفوار على أن (تعريف المرأة مرتبط بالرجل، فهي آخر سلبي موضوعاً، ومادة بينما يكون الرجل ذاتاً سمتها الهيمنة والرفعة والأهمية)، نجد أن رضوى عاشور في كتابها (الرحلة .. أيام طالبة مصرية في أميركا)
تجسد هذا التعريف في صياغة رحلة تخلو من الاستكشاف لأنها مخلصة لفكرة العودة إلى البيت كما ذهبت سليمة من أي تغيير، وهي تدون ركضها في أميركا، وتوقفها الطويل في مصر بما يجعل القارئ لا يحس أبداً أنه غادر مكانه إلى أمكنة أخرى يمكن أن تقوده إليها مغامرة فن الرحلة عادة.
كما أن حضوراً للرجل يهيمن على مساحة تحرك رضوى في وجود متعين محسوس أو مختبئ تحت لسان البطلة في ما تسرد، مع محاولتها إخفائه عن عين المتلقي.
إذا كانت الثقافة الغربية قد نبهت على نتاج الطرف المهمش الذي أنتج نصه الابداعي والنقدي للنيل من مركزية الثقافة الغربية، فإن الثقافة العربية لم تسمح للعنصر المسخر في مدونة المتن لان يكون طرفاً في صراع أصلاً، ذلك بحكم قدسية المدونة المهيمنة وبسبب من الالتباسات العديدة التي تشغل عن حسم الصراعات في سياق واحد بحيث أدى الالتفاف على محاور الفكر العربي إلى تعليق الحلول وارجائها كألية من آليات الهرب من المشكلة، كذلك استعارة المظاهر التي يمكن ان تعوض عن وجود فعل التغيير فظل الصراع ملتفاً في دوران القشور بعضها على بعض دون الوصول إلى اللب.
وهكذا قضية المرأة مستعارة للتدليل على جدة وحرية لم تمسا التفكير العربي في الحقيقة، لذلك يستفز قارئ رحلة رضوى عاشور الذي ينتظر ان يطرح عليه موضوع المرأة المصرية (التي كانت) في اميركا انه يجد الكاتبة البطلة تطرح موضوع المرأة المصرية(التي يجب ان تكون) في أميركا، بالسعي الى مثالية النموذج الذي لن يتغير بتغير الامكنة، وفي هذا من الثبوتية ما فيه.
وفي محاولة للدخول في مغامرة أدب الرحلة من دون مغامرة يصاغ تضليل للقارئ عما ينتظر قراءته، فترتسم مساحة تجوال مجاورة لثقافة الآخر بحيث لا تمسه ولا يمسها، ويكون الرفض المعلن ممارسة تجميلية للرومانسية الثورية التي تجعل من وجود أميركا، المكان المحمل بالنيات الايديولوجية الكامنة أكثر منه وجوداً حقيقياً ملموساً.
وفي هذه المراهقة الثورية ترفع إعلانات مبهرجة ومانشيتات عريضة لا تخرج عن المثالية المجسدة بصور جمال عبد الناصر، والأناشيد الحماسية، وأحلام السبعينيات التي تؤرخها رحلة رضوى.
مقتطفات
(صورة ثالثة، عائلية أيضاً، يتصدر أبي حاضراً وعنيداً موزعاً بين رغبته في أن يطلقني في الأرض امتداداً لفورة حياة من صلبه ومخاوف مسلم ريفي الجذور يريد للبنت الستر، وأمي في الخلفية، وإخوتي مقبلين..) (الرحلة ص5).
للأب وجه ناطق، يفكر بل يطلق الأفكار، أما الام فليس لها.. سوى أنها في الخلفية.
(...أركض لكي لا أفقد نديتي للرجال، أركض لكي أتعلم، أركض لكي أستقل،(...)، وأركض لكي لا يزج المجتمع بي في خانة الدونية المعدة سلفاً للنساء)(الرحلة ص35).
الام في الخلفية من دون مشاعر أو افكار، كتمثال من حجر، والذي يقلق هو الأب أما الأم فليس لها الحق حتى في القلق والخوف، أهذا ما تركض منه رضوى عاشور، الركض من خانة الدونية لكي لا يصيبها التحجر في نصوص ظاهرة إلى النور فلا يستشعر لها وجود؟ لكن النص يفضحح عملية التجميد هذه لجنس المرأة في إبقائه في الخلفية، والالتحاق بركب الرجال في معنى الوجود الأبوي الظاهر.
ينطق النص بما لا تنطق به الراوية،(وهكذا منذ وصلت إلى أميركا وجدت نفسي أركض درءاً للغربة ووفاء بالتزامات دراسية متعددة سعياً لتحصيل سريع يعيدني لمصر.
فأحضر الدروس المقررة واقرأ وأكتب واناقش واشرح واقضي وقتاً طيباً، دائماً ركضاً) (الرحلة ص35).
هل تقدم رضوى دليل الانضباط للأهل في الصورة عندما قدمت أدب(واجبات مدرسية) وصولاً الى نهايات الكتاب بقدوم الزوج، حيث تصبح السياحة الهدف الرسمي للرحلة، هذا الهدف الذي لايترجم حقيقة جنس الرحلة في مواصفاته المعروفة؟
ان سلطة الرقيب (الزوج) سمحت بتقديم مظاهر تنقل وسياحة، لم تقم بهما البطلة وحدها على أية حال، كما أنها لا تكفي للدلالة على الرحلة نوعاً أدبياً.
***
(كرفاعة كنت في طريقي الى بلاد بعيدة عنا غاية الابتعاد لتحصيل المعارف،ولكني لم اكن مثله ذاهبة بحياد من لا يعرف شيئاً مما هو مقبل عليه)(الرحلة ص6).
يرحل رفاعة الطهطاوي الى فرنسا(كعضو بعثة طلباً للعلوم الحديثة وبحثاً عن اسباب الحضارة والقوة) ويضع مؤلفه لا (من اجل التعريف ببلاد الفرنسيس فحسب وانما ايضا لحث ديار الاسلام على الاخذ باسباب الرقي و الحضارة)، يعرف رفاعة المكان الذي هو ذاهب اليهً، وهو يعثر على ما يبحث عنه فيه، أي أنه يعرف أن في فرنسا ما يفيد ديار الاسلام وما يؤدي الى الرقي والحضارة فضلاً عن التعريف بالمكان.
الأمر مع رضوى معكوس فهي ذاهبة إلى مكان ترفضه، ومن ثم فهي محملة بنيات الرفض لما يتبقى من عملها كمغامرة رحلة،(أول القصيدة كفر..أصطبح بإسرائيلي وأتمسى بهذا الشاب اللامع الذي قضى عدة سنوات خدمة في الهند الصينية(...) ما الذي أتى بي إلى هنا؟) (الرحلة ص9)،(لم أكن قد أتيت إلى الولايات المتحدة رغبة في الدراسة فيها عموماً، ولكن لاهتمامي بموضوع بعينه هو الأدب الأميركي الأسود)(الصفحة نفسها).
يسد المحمول الإيديولوجي منافذ التفاعل مع الآخر أو في الأقل محاورته قبل الحكم النهائي برفضه في رحلة رضوى، بما يمنع قيام الرحلة فاعلية أو منجزاً في ضوء الحاجز النفسي المترتب على المحمول الإيديولوجي.
(ما الذي أتى بي إلى هنا؟ هل هو افتقاد الغريبة للأمان أم هي مخاوف مبهمة ترسخت في النفس عن الإثنين اللذين ثالثهما الشيطان؟)(ص14).
(يسيرون أحياناً حفاة في المكان يتبادلون قبلات العشق علناً، ورغم طرافة المشهد الذي لم يكن يسيء لأي معتقد لي، فقد كان يؤكد أنني بعيدة بل بعيدة جداً عن كل ما عرفت وألفت، وأنني وحدي)(ص16).
حملت رضوى المرجع معها إلى أميركا في صورة الحنين الذي مرر سلطة الرقيب في شحنات رومانسية تملأ الفراغ المتسبب من عدم التفاعل مع المكان التي هي فيه، وفي النص تستفز الكاتبة سلطة الرقيب، المرجع في ادعاء أن لا معتقد لها، وهذا وهم، إذ صنعت شاءت أم أبت، معتقداً جامعاً بين الاثنين: معتقد الشرق، ورفضه، أي رفض معتقد الشرق، وهذه الثنائية أعطت الإيهام بقدرة الرحالة على التفاعل الا انها ترفضه، في حين أن الرفض سابق على القدرة بما يبطلها، ويجعلها في النهاية مذكرات شابة في مرحلة تاريخية، ومن ثم ايديولوجية محددة.
إن معتقد الشرق أكثر هيمنة بدليل السيرة المنضوية في الرحم (مصر)، وعدم انتشار الذات في الموضوع، فجاء كل منهما منفصلاً عن الآخر.
(..وبلا نية مسبقة رحت أحدث مايكل عن شخص عبد الناصر، وحرب الأيام الستة، ومقاطعة أهلي لي لزواجي على غير إرادتهم، واعتصامات الطلاب، وذلك الغزل الفريد الذي يغنيه الشيخ إمام للإسكندرية(...) من المؤكد أنني تحدثت طويلاً، وإلا فكيف استطعت أن اقول كل الذي قلت عن أوجاع الجيل الذي اندفع من الأناشيد الحماسية إلى أتون الأيام الستة والمذابح والرماد)(الرحلة ص15).
تتردد الأسماء الواردة في هذا المقتطف، مع أسماء صلاح جاهين، ونجيب سرور، والأناشيد الحماسية، وخطابات عبد الناصر وجو الإنجاز الوطني العام، وجميلة بوحيرد، وهوشيمنه، وجيفارا، والسادات، ونشيد مصر الوطني (والله زمان يا سلاحي) و(بلادي بلادي) في مقاطع أخرى لتزود الرحلة بفضاء مكاني وايديولوجي ولغوي بينّ يقف على أعتاب العالم الآخر ليرفع أمامه الشعارات البراقة وليتحصن بالإيديولوجية ورموزها خوف انخراطه في حوار مع الآخر المختلف كما فعل الرحالة السابقون في الاقل.
(تعكس الرحلة تفاعلاً خصباً بين السيرة الذاتية - سيرة الرحالة - والسيرة الغيرية سواء تعلقت بالإنسان أو المكان)، ويتحقق في الرحلة، عادة، (انتقال المكان من المستوى المعرفي والتاريخي (التأثيث) إلى المستوى الأليف الذي يحقق الربط الوجداني بين المكان وهواجس الرحالة)، ما يحدث في رحلة رضوى قصور عن بلوغ هذا الربط الوجداني بين المكان وهواجس الرحالة، إذ تسود الهواجس إلى الحد الذي يمنع التعرف على المكان ليشعر القاريء بالألفة التي شعرت بها رضوى.
لقد خصصت وصفاً لأماكن ليست ذات ملامح، أماكن مغلقة(أماكن الدراسة، المكتبة، النادي..إلخ)، هذا الأمر جعل سيرة الرحالة تطغى على السيرة الغيرية التي تتعلق بمكان الغير أولاً، ثم مظاهر حياته وثقافته، فجاءت المذكرات التي تعبر، أدبياً، في الرحلة عادة عن اللحظة الثقافية(لحظة الانسان مع العالم الخارجي،وسيطرته الواضحة على العالم، وقدرته اللامحدودة على وصف العالم وفهمه، ورهانه الدائم على امكانية تحويل المجهول الى معلوم ومفهوم، جاءت مذكرات رضوى لتقف على حافة المكان في وصفه الأحادي الأول، لأنها لم تدع نفسها تعيش اللحظة، ولم تشأ دخول أميركا مكان الرحلة وظلت في مصر رغم وجودها على أرض أميركية أيام الدراسة.
لسد الثغرة التي هي مانع حقيقي من عد هذا النص متمتعاً بخصائص نوعية مميزة لأدب الرحلة، لجأت الكاتبة إلى الاقتباس، والتضمين، والنقل، واستذكار المكان الأول والأحداث المسربة كأنها ملاك حارس من الانخراط في المكان الاخر، فجعلت تفصيلات الحياة الدراسية، وزميلات السكن، وأخبار التلفزيون القارئ محصوراً في امكنة مغلقة كالحرم الجامعي، وسكن الطالبات، وقاعات الدرس..الخ فلا يتم انتاج معرفة أو تأويلها بين الـهنا والـ هناك حيث الرحلة المضمنة والرحلة المضمنة.
إن(في الانتقال ضمن الفضاء الجغرافي والزمن التاريخي(..) ضمن نظام اجتماعي) تحديداً رئيساً لمفهوم الرحلة، هذا الأمر لم يتحقق إلا على مستوى سطحي خارجي لم يتح استكشافاً في نطاق الحياة المختلفة كما يفترض.
في حوار بين الساردة واحد زملائها، يقول لها:
(ما هي انطباعاتك عن الحياة المدنية بعيداً عن الصحراء؟)(الرحلة ص37)، لم تجبه البطلة ولم تجبنا نحن أيضاً على مدى سياق نصها الممتد في (175 صفحة)، وتأتي الخاتمة لتؤكد هيمنة عنصر المذكرات التي ابتدأت في أرض مصر وانتهت فيها، منحازة بالكامل لشخص الرحالة، وهو تمثيل لثقافة بلده ومكانه الأول وتاريخه،في مانع حقيقي من قيام فن الرحلة بمواصفاته النوعية وامتداده في اتجاه الاخر،وربما يستساغ السؤال عن معنى ان الرحالة هنا أنثى، ورحلتها من جنس أدب الرحلة النسوي،لا أدب الرحلة مطلقاً.
-------------
*(الرحلة .. أيام طالبة مصرية في أميركا)، رضوى عاشور، ترجمة: الدكتور ميجان الرويلي، الدكتور سعد البازعي، المركز الثقافي العرب، الطبعة 2، 2000م، ص 223.
د. أبو شامة المغربي