وقد استرعى اهتمام المستشرقين لما له من قيمة نفيسة فترجموا القسم المختص بصقليه إلى الفرنسية وطبع في عـــام 1846م .
لم يكن ابن جبير هو الرحالة الوحيد الذي خاض مغامرة السفر والتجوال وعبور البحار والصحارى، بل سبقه بذلك رحالون آخرون، قدموا جميعا مادة ثقافية غنية عرفت باسم (أدب الرحلات) لما تتضمنه من قصص وحكايات وروايات واقعية، في أكثر مفاصلها، وتجنح إلى الخيال أحيانا أخرى، وأصبحت هذه المادة مرجعا مهما لوضع سياسي واجتماعي واقتصادي في العديد من حقب التاريخ، لذا فالباحث لا يمكنه تجاوز هذا المصدر وهو يسعى نحو الحقيقة .
ولاشك في إن هؤلاء (الرحالة)، ومنهم موضوع البحث (ابن جبير) كانوا مأخذوين بالدهشة والاندفاع نحو المجهول ومعرفة أسراره.
وهم كذلك منطوون على رغبات وأحلام، ومتمردون على واقع ونماذج.. لم يجدوا بدا من اعلان حالة التمرد في السفر بعيدا، والتضحية بكل شيء من اجل الحقائق، أو من اجل ضرورات طبيعية فرضها العصر لم يكتشفها آخرون.
إن التجربة المثيرة لـ(ابن جبير)، ذات مسحة ثقافية حاول تنشيطها بالمفاجأة التي تكون عنصرا مهما من عناصر الرحلة. ومما يفسر هذا العمل أكثر، هو السياق المتدفق من المعلومات والمشاهد التي يتعامل معها ابن جبير.
بدأ ابن جبير رحلته للعراق في محرم عام580هـ منطلقا من المدينة المنورة، نحو الكوفة، سالكا الطريق المعروف بـ (درب زبيدة)، زوج هارون الرشيد، الذي أقامت عليه الآبار والمناهل، ولولاه لما سلك ابن جبير هذا الطريق، كما يذكر في كتابه.
وحين يطأ ابن جبير أرض الكوفة، يتطلع اليها أول وهلة فيراها مدينة كبيرة عتيقة البناء استولى الخراب على أكثرها، فالغامر منها أكثر من العامر، ويشير هنا ابن جبير إلى قبيلة خفاجة المجاورة لها، كونها تقف وراء أسباب الخراب، وهو ما لم يشجعه على البقاء في الكوفة أكثر من ليلة واحدة، تمكن من خلالها من رصد بعض المشاهد العمرانية.
تمثلت بالجامع العتيق، ومصلى إبراهيم الخليل عليه السلام، ومسجد صغير فيه محراب الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام،
يتصل به بيته الذي غسل فيه، وفي غرب المدينة يرى من بعيد مشهد بناء حفيل، يقول عنه: انه قبر علي عليه السلام لم يشاهده بسبب ضيق المقام في الكوفة.
ثم يشد الرحال نحو (الحلة)، التي يصفها بانها مدينة كبيرة، عتيقة الوضع، مستطيلة، لم يبق من سورها الا حلق من جدار ترابي مستدير بها، وهي على شط الفرات، يتصل بها من جانبها الشرقي ويمتد بطولها.
في هذا المشهد يبدو ابن جبير ممتلكا لإحساس عالٍ بالمكان، ووعي متقدم بدلالاته حيث تغتني جملة الوصف لديه بإبعاد تتجسد فيها قدرات الفهم والتمييز، والعلاقة بين العمارة.. والماء .. والشجر، انها معاينة متصلة ومتداخلة بين الجسر المعقود على النهر ومياه الفرات العذبة.
وحركة السفن الضاجة فيه، هنا يبدو ابن جبير وكأنه يحاول إعادة بناء هذه المفردات، بعبارة أدبية أنيقة تبتعد عن التقليد والاسفاف كما هو القول(.. قوية العمارة.. كثيرة الخلق، متصلة حدائق النخيل).
ومن الحلة إلى بغداد يكون الطريق، من أجمل الطرق، وأحسنها، في بسائط من الأرض، تتصل بها القرى يمينا وشمالا على صفة من الحسن والاتساع، فيشير ابن جبير إلى (القنطرة) إحدى هذه القرى، بأنها كثيرة الخصب كبيرة الساحة، متدفقة جداول الماء، وارفة الظلال بشجرات الفواكه، من أحسن القرى وأجملها.
إن (ابن جبير) في تجربته، يبدأ وكأنه يريد أن يرسم لوحة بدرجة من التخطيط، والاستعداد الذهني الحر، لينقل المتلقي إلى فضاء واسع من التأمل، وكشف المعاني التي تكلف بها هذه اللوحة.
وبغداد (مدينة السلام) حينذاك، لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها، كما يصفها ابن جبير، فهي كالطلل الدراس، والأثر الطامس، فلاحسن فيها يستوقف البصر إلا(دجلتها) التي هي بين شرقيها وغربيها منها، كالمرآة المجلوة بين صفحتين.
هذه الصورة المعتمة لبغداد، لأنها كانت تعيش عصرا، اتسم بحالات التردي والتداعي في كل الأصعدة، فمن الناحية السياسية كانت الدولة العباسية كيانا خاويا لا معنى له سوى الاسم، فبموت السلطان مسعود سنة 547هـ، أفل نجم البيت السلجوقي في العراق، وتقاسم ملك السلاجقة دول كثيرة تعرف بدول الاتابكة (ويعبر عنها باتا بك العسكر)، وانقسام الدولة السلجوقية إلى دويلات متعادية متنافرة مهد السبيل لاسترداد بعض الخلفاء العباسيين ما كان لهم من سلطان، واتاح الفرصة لنشوب حرب عرفت (بالحرب الصليبية)، ومهدت السبيل في ما بعد لاجتياح العراق من قبل المغول.
وكانت الدولة العباسية لا تزال قائمة في بغداد، إلا أن سلطة الخليفة اقتصرت على المظهر الديني، وفي بغداد اشتد الصراع بين الأمراء وتفاقمت الأزمات الأزمات الاقتصادية، وساءت أحوال الري والزراعة حتى إن نصف أراضي العراق أصبح خرابا.
وفي المدة بين 575- لغاية 622هـ، وهي المدة التي زار فيها ابن جبير، العراق، كان الخليفة الناصر لدين الله، قد أقام فيها سبعة وأربعين عاما وكما يذكر ابن الأثير في (الكامل)، فان الناصر كان سيىء السيرة، خرب في أيامه العراق، مما أحدثه من الرسوم واخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشيء وضده، لاريب أن يتمخض عن هذا الواقع نتائج خطيرة على مختلف المستويات، إذ يصف ابن جبير أهل بغداد حينذاك بالرياء والنفاق وسوء معاشرة أبنائها الذي يغلب على طبع هوائها ومائها، باستثناء فقهائهم المحدثين ووعاظهم المذكرين الذين لهم الفضل في مداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار والتحذير، إن ابن جبير وهو يسجل مساوئ الواقع الاجتماعي والسياسي آنذاك يجد نفسه أمام مهمة كبيرة ومسؤولية تاريخية، تفرضان عليه تدوين الحقائق كما هي، فلم يعد هنا منشغلا دائما بما هو عذب وجميل في المشهد المكاني، وبساطة النهر وعذوبة مياهه، بل هو يحاول تتبع المكان وراء خطوات البشر الذين يتحركون عليه بعفوية وبساطة، غير أبهين بما يجري من حولهم .. بل أن الأحداث ساقتهم إلى التخلي عن قيمهم المعرفية والإنسانية.
ومع استغراق ابن جبير في وصف الواقع الثقافي والاجتماعي لمدينة بغداد إلا انه يعود مرة أخرى ليصفها بالقول: إن لها جانبين: شرقي وغربي، ودجلة بينهما، فاما الجانب الغربي فقد عمه الخراب واستولى عليه، وكان المعمور أولا، وعمارة الجانب الشرقي محدثه لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة.
والزوارق في دجلة لا تحصى كثرة، فالناس ليلا ونهارا من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالا ونساء.
وفي هذا المقطع من الوصف، تبدو بغداد مدينة عامرة بالحركة والعنفوان، يعيش أهلها بحالة من التمازج والانسجام الاجتماعي دون حواجز تفصل بين وسطين متناقضين من النساء أو الرجال،
وأسماء سائر المحلات يطول ذكرها، كما يقول ابن جبير، وهي بين دجلة ونهر يتفرع من نهر الفرات، وينصب في دجلة، يجيء فيه جميع المرافق التي في الجهات التي يسقيها الفرات.
ومن أسماء المحلات(العتابية) وبها تصنع الثياب(العتابية) وهي حرير وقطن مختلف الألوان، وبإحدى هذه المحلات قبر معروف الكرخي، وبأعلى الشرقية خارج البلد محلة كبيرة بإزاء محلة الرصافة، باب الطاق المشهور على الشط، وفي تلك المحلة مشهد حفيل البنيان له قبة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الإمام أبي حنيفة (رضي). وبه تعرف المحلة.
وللشرقية (من بغداد) أربعة أبواب، فأولها، وهو في أعلى الشط، باب السلطان، ثم باب الظفرية، ثم يليه باب الحلبة، ثم باب البصلية، هذه الأبواب التي هي في السور المحيط بها من أعلى الشط إلى أسفله، هو ينعطف عليها كنصف دائرة مستطيلة.
أن أول ما يواجهنا في تلك النصوص، هو كثرة النماذج التي تكتظ بها المدينة، مما يوحي بان جبير أراد أن يجعل لكل نموذج موضوعا، هذا الانتقال من النهر، الجسر، الحارة، إلى أسماء المحلات، ومقامات الصالحين فيها، إلى أبواب بغداد فتتنامى العبارة، وتكتنز بالنضج والجمال على مستوى الإبداع، وهو يشير إلى الأبواب الممتدة مع النهر بانحنائه كنصف دائرة (مستطيلة)، فيعيد تجميع الواقع بعيدا عن الوصف النمطي الممل، بل بإيجاد علاقات يحركها خيال واسع .. تستطيع أن تلمسها في الدائرة (المستطيلة)، ابن جبير يتحدث برؤية وذكاء، إذ تجتاحه رغبة في الوصف أكثر من رغبة الترحال والسفر.
يواصل ابن جبير المسير نحو الوصول. ويترك بغداد، متجها نحو الشمال قليلا فيكون مبيته بإحدى قراها، يقول: نزلناها وقد مضى هدء من الليل، وبمقربة منها دجيل، وهو نهر يتفرع من دجلة يسقي تلك القرى كلها.
وغدونا من ذلك الموضع، والقرى متصلة في طريقنا، ثم رحلنا قبيل نصف الليل، وتمادى سيرنا إلى أن ارتفع النهار ونزلنا مع الصباح بمقربة، من قرية تعرف بالحربة، من أخصب القرى وأفسحها،
يتطلع إلى قصر (المعشوق)، وقبالته في الجانب الشرقي (سر من رأى)، وهي اليوم عبرة من رأى، أين معتصمها، وواثقها، ومتوكلها، مدينة كبيرة قد استولى الخراب إلا في بعض جهات منها، هي اليوم معمورة.
هنا يبدو ابن جبير في محاولة لإعادة التاريخ، لا بالتنظير، والتحليل أو التفسير، إنما بعبارة واحدة ومكثفة.. يلخص فيها معنى انهيار الأنظمة، وزوال السلاطين والحكام ، إن الشواهد الباقية ، الماثلة أمامه حجة لا تدحض، أنها محاولة للامساك بصواب وعيه التاريخي و فهم أسرار حركة التاريخ .
انه يريد إن يقول باختصار: أن الطبيعة تغيرت، والجغرافيا اختلفت، والحضارة تبددت، والشمس غربت عن هذه البلاد، التي حكمها أولئك الخلفاء بالعنف أو القوة، بالمؤامرة.. أو غيرها..
يغادر ابن جبير أرض سامراء نحو تكريت التي يراها مدينة كبيرة واسعة الأرجاء، فسيحة الساحة حفيلة الأسواق ، كثيرة المساجد، غاصة بالخلق، ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنحنية، وطيف بالبلد سور قد آثر الوهن فيه، وهي من المدن العتيقة..
ثم ينزل بقرية على شط دجلة تعرف بـ(الجديدة)، وبمقربة منها قرية كبيرة اجتزنا عليها تعرف بالعقر وعلى رأسها ربوة مرتفعة كانت حصنا لها، وأسفلها خان جديد بأبراج وشرف حفيل البنيان وثيقة، والقرى والعمائر من هذا الموضع إلى الموصل متصلة.
ثم يواصل الوصف: فرحلنا منها قريب العصر، وتمادى سيرنا إلى المغرب، ونزلنا اخذين غفوة سنة خلال ماتتعشى الابل..
وفوق هذا السياق من الحكي، والقص، لايمكن تخيل ابن جبير رحالة.. يهوى السفر، والمشاهدة، فحسب، انه قاص وراوية من الطراز الأول.. مزود بأدوات السرد، والوصف، في مسار تجربته. وهذه كلها قادته إلى انفتاح على أفق جديد في كتابة الرحلة، وهو خط متمثل بالوصف والإفادة من التجارب السردية الكامنة في جوهر النثر العربي، وهو عارف بأسرار العملية القصصية.. فلنتأمل .. (حفيل البنيان وثيقه).. سور قد آثر الوهن فيه، المدن العتيقة، تمادى سيرنا إلى المغرب نزلنا آخذين غفوة...
أن ابن جبير كاتب يستلهم الوصف الجمالي بكل تحولاته التعبيرية..
فدعونا نتوقف عند هذا المقطع: مررنا بموضوع يعرف بالقيارة من دجلة، وبالجانب الشرقي منها، وعن يمين الطريق إلى الموصل، فيه وهدة من الأرض سوداء كأنها سحابة قد أنبط الله فيها عيونا كبارا وصغارا تنبع بالقار، وربما يقذف بحباب منه كأنها الغليان، ولشدة انبهاره وإعجابه.. يعود ليقول: الله يخلق ما يشاء، سبحانه تعالى... في اللحظة التي يصل فيها ابن جبير إلى الموصل.
يقول عنها : طالت صحبتها للزمن، فأخذت أهبة استعدادها لحوادث الفتن، قد كادت أبراجها تلتقي انتظاما لقرب مسافة بعضها من بعض، وباطن الداخل منها بيوت، بعضها على بعض، مستديرة بجدارة المطيف بالبلد كله.
وفي أعلى البلد قلعة عظيمة قد رص بناؤها رصا، ينتظمها سور عتيق البنية مشيد البروج... ودجلة شرقي البلد، وهي متصلة السور، وأبراجه في مائها.
ويتابع ابن جبير في الوصف ((وخص الله هذه البلدة بتربة مقدسة فيها مشهد جرجيس... وإذا عبرت دجلة على نحو الميل تل التوبة، وهو التل الذي وقف به يونس عليه السلام، وفي هذا التل بناء عظيم، ووسط البناء بيت ينسدل عليه ستر وينغلق دونه باب كريم مرصع كله، وقف فيه النبي يونس عليه السلام.
وفي الطريق إلى نصيبين إذ يغادر ابن جبير الموصل يتوقف عند قرية تعرف بعين الرصد، تحت جسر معقود على وادٍ يتحدر فيه الماء، وكان مقيلا مباركا.
الصورة هنا بالغة التأثير، في الإشارات التي تحملها الجمل، أو في التسجيل الفوتوغرافي الدقيق للمشهد.. انه عالم من التوثيق والإثارة معا.. صور ليست باهتة، بل مفعمة بالحياة والحركة، والقدرة على إثارة الإحساس بإنسانية المكان، لا بجموده ووحشيته، بل هو مكان يتدفق منه الماء.. ومبارك.. مهبط الأنبياء..
هذه الصورة المفعمة بالتأمل.. تبدو قريبة إلى لغة العصر وروحه، على الرغم من انتمائها إلى ميراث، أدبي عريق..