ومن أسف أن هذا الكتاب يُعد من مؤلفات ابن العربي المفقودة ، لكن مؤلفه لخصه في مقدمة كتابه: «قانون التأويل»، الذي حققه الدكتور محمد السليماني، ونشره عام (1406ه 1986م) كما جرد ابن العربي جانباً من كتاب «ترتيب الرحلة» وأعطاه عنوان: «شواهد الجلة والأعيان في مشاهد الإسلام والبلدان»، ونُشر الكتاب بتحقيق محمد يعلى سنة (1996م).
لم يكن فقدان كتاب «ترتيب الرحلة» لابن العربي، هو الذي أعطى بعض الباحثين انطباعاً بعدم أسبقية رحلة ابن العربي إلى الحجاز، وإنما رسخ هذا الشعور العام وتحول إلى ما يشبه القطع بأن ابن العربي لم يدخل الحجاز أثناء رحلته المشرقية، ولم يحظ أصلاً بأداء فريضة الحج، وذلك نتيجة لسوء فهم نص أورده ابن العربي في أحد مؤلفاته، حيث قال: «وكم من حاضر بعرفة من غير معرفة، ونازل بمنى وما نال مُنى»(4). فهذا النص أوقع باحثاً كبيراً كحسين مؤنس جزاه الله عن العلم خيراً وغفر له في استنتاج خاطىء، حين اعتقد أن منطوق النص ومفهومه يشي بتعريض ابن العربي بمن حجوا ولم يستفيدوا من حجهم(5)، لئلا يتطاول أحدهم عليه بهذه المنقبة التي فاتته، وليس ذلك بصحيح، فابن العربي دخل الحجاز فعلاً وحج وأعطى شواهد على رحلته الحجازية، كقوله: «.. وأما أنا فجئت مراهقاً من ذات عرق إلى الموقف ليلة عرفة نصف الليل، فأصبحت بها، ووقفت من الزوال يوم الجمعة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، ثم دفعت بعد غروب الشمس إلى المزدلفة فبت بها..»(6)، وقوله في موضع آخر: «... ولقد كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وكنت أشرب من ماء زمزم كثيراً، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان حتى فتح الله لي بركته في المقدار الذي يسره لي من العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله عليَّ فيهما..»(7).
ويستفاد من النصين السابقين أن ابن العربي رحل إلى الحجاز في النصف الثاني من القرن الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وتحديداً في عام (487ه 1094م)، لكنه جاء إلى الحجاز قادماً من العراق، بدليل إحرامه من ذات عرق، وهو ميقات الحجيج القادمين من العراق ونواحيها. فالرجل لم يبدأ رحلته المشرقية بمصر، فالحجاز، كما فعل غيره من المرتحلين الأندلسيين، وإنما دخل مصر ومنها انطلق إلى فلسطين، حيث اعتنى بطلب العلم في بيت المقدس، ولم يتعجل قضاء فريضة الحج، فلما أظله الموسم وهو لا يزال في طلب العلم، أخبر والده بعزمه على البقاء في بيت المقدس لاستيفاء تحصيله العلمي من شيوخها ورغب إلى والده أن يمضي لنيته في الحج، ولعل صاحبنا غادر بيت المقدس لاحقاً، فتوجه إلى العراق ومنها إلى الحجاز.
كما يستفاد أيضاً من النصين السابقين، أن ابن العربي حج مرتين، الأولى في عام (487ه 1094م)، الثانية في عام (489ه/ 1096م)، إذ يبدو أنه ترك مكة بعد انقضاء موسم حج (487هـ)، قافلاً مرة أخرى إلى العراق بغرض الاستزادة من التحصيل العلمي، فمكث فيها عاماً أو عامين ثم عاد ثانية إلى مكة في موسم حج (489هـ)، ويُعضد ذلك ما أثبته ابن العربي من أنه شاهد قافلة من الحجيج الشيعة القادمين من العراق، سنة (489هـ) وقد تركوا الإحرام من ميقات ذات عرق(ثامنا).
وعلى أية حال، فقد أبدى ابن العربي سعادته البالغة بإدراك الحج في سنة (489هـ)، إذ جاءت وقفة عرفة في ذلك العام في يوم الجمعة، فاجتمع للحجيج فضل اليومين، فضل يوم عرفة وفضل يوم الجمعة(9).
ولقد سجل ابن العربي أثناء إقامته بمكة مشاهد متنوعة عن موسم الحج، لعل من أهمها إشارته إلى مبيت الحاج بعرفة ليلة عرفة، حيث قال: «... مررت من ذات عرق، فألفيت الحاج كله بائتاً بعرفة ليلة عرفة..»(10)، وهذا بخلاف السنة النبوية، إذ ينبغي أن يكون مبيت الحاج في تلك الليلة بمنى لا عرفة، لكن الحجيج في ذلك الوقت كانوا غير آمنين على أنفسهم أثناء تأديتهم لمناسك الحج، فاضطروا إلى ترك سنة المبيت بمنى في اليوم الثامن من ذي الحجة، فكانوا يصعدون إلى منى في ذلك اليوم، ثم يتوجهون منها مباشرة إلى عرفة، خوفاً من غارات محتملة قد يشنها بنو شعبة على الحجاج أثناء صعودهم لعرفات (11) وربما كان هذا التخوف من غارات الاعراب على الحجيج قد جعل أمير مكة وقتئذ يحتاط لنفسه هو الآخر فقد شاهده ابن العربي وهو يرمي جمرة العقبة راكبا من بطن الوادي إلى أعلاه(12).
كما أشار ابن العربي إلى بعض المهن اليدوية التي يتكسب أصحابها أثناء الموسم، كمهنة «المزيّنين»، وورد ذلك في قوله: «... وقد نزلت بي هذه النازلة سنة تسع وثمانين، كان معي ما استيسر من الهدي، فلما رميت جمرة العقبة، وانصرفت إلى النحر جاء المزيّن وحضر الهدي، فقال أصحابي ننحر ونحلق، فحلقت ولم أشعر قبل النحو، وما تذكرت إلا وجل شعري قد ذهب بالموسى..»(13).
ولقد حرص ابن العربي على الوقوف بنفسه على معالم الحرم المكي، واستقصاء أخبارها بشكل علمي دقيق، وتلك سُنة علمية ضرب فيها المرتحلون الأندلسيون بسهم وافر، أمثال أبي العباس العذري وابن جبير الكناني. فقد وقف أي ابن العربي متأملاً أمام مقام ابراهيم الخليل عليه السلام، فوصف محتواه وحدّد مكانه بقوله: «... وقد رأيت بمكة صندوقاً فيه حجر، عليه أثر قدم قد انمحى وأخلولق، فقالوا كلهم: هذا أثر قدم ابراهيم عليه السلام، وهو موضوع بإزاء الكعبة...»(14).
فإذا فرغ ابن العربي من ذلك، انتقل إلى قياس أبعاد الحجر الأسود وأطوال الجزء الخارجي من الكعبة المشرفة(15).
ولم يكتف الرجل بتدوين مشاهداته بمكة عن موسم الحج، أو عن معالم مكة التاريخية والأثرية فحسب، وإنما أعطى إشارات مهمة عن نظم التعليم السائدة بمكة خلال القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، فأشاد بالوسائل التي اتبعها المعلمون في تدريب الصغار على التمييز بين المفهوم والمسموع، أو بين المعلومات التي تتطلب مراناً في ملكة الحفظ، وتلك التي تستوجب دربة في الفهم والاستيعاب.
كما أثنى على الطريقة المتبعة في التعليم، والتي تقوم على أساس التدرج في اكتساب العلوم، مبيّناً أهم المواد الدراسية الشائعة وقتذاك في مكاتب الصبيان، وهي الخط والحساب والعربية (القواعد أو النحو) فالقرآن الكريم، بحيث يحفظ الصبي ربع حزب أو نصفه أو حزباً كل يوم، ثم الفقه والحديث. وجماع ذلك كله في هذا النص الذي دوّنه ابن العربي، وفيه يقول: «... كنت أحضر عند الحاسب بتلك الديار المكرمة حتى إذا انتهى إلقاؤه، وقال: ما معكم؟ رمى كل واحد بما في فمه وقال ما معه، ليعوّدهم خزل اللسان عن تحصيل المفهوم عن المسموع. وللقوم في التعلم سيرة بديعة، وهي ان الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب، فإذا عبر المكتب أخذه بتعليم الخط والحساب والعربية، فإذا حذقه أو حذق منه ما قُدّر له، خرج إلى المقرىء فلقنه كتاب الله، فحفظ منه كل يوم ربع حزب أو نصفه أو حزباً، حتى إذا حفظ القرآن خرج إلى ما شاء الله من تعليم العلم أو تركه..»(16).
وللجانب السياسي نصيبٌ من مشاهدات ابن العربي في الحجاز، فقد رصد انعكاسات الصراع العباسي الفاطمي على المدينة النبوية في النصف الأخير من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وهو صراع يتمحور حول الاستئثار بالخطابة في المسجد النبوي لمن يوالي أحد الفريقين(17).
وبعد. فإن الباحث الجاد قادر على تكوين صورة لا بأس بها عن ملامح رحلة ابن العربي إلى الحجاز، وذلك من خلال تجميع ما تتأثر في بطون الكتب التي صنفها ابن العربي، وجاء فيها اشارات مهمة عن رحلته الحجازية، لكن ذلك بالتأكيد لا يعوض فقدان كتابه «ترتيب الرحلة»، الذي ربما كان وثيقة مهمة عن تاريخ وحضارة الحجاز في أواخر القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي.
* الهوامش:
1 محمد المنوني، الجزيرة العربية في الجغرافيا والرحلات المغربية وما إليها، الندوة الأولى لمصادر تاريخ الجزيرة العربية، جامعة الرياض. ج2، ص299.
2 طبع هذا اكتاب في ليدن سنة (1852م)، تحت عنوان «رحلة ابن جبير» أو «الرحلة إلى المشرق» ثم طبع ثانية سنة (1907م)، انظر: يوسف سركيس، معجم المطبوعات العربية والمعربة، (القاهرة: مطبعة سركيس، (1346ه/ 1928م)، ص 62.
3 أغناطيوس كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين هاشم، (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1963م)، ص 298.
4 ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبدالله، شواهد الجلة والأعيان في مشاهد الإسلام والبلدان، تحقيق محمد يعلى، (مدريد: الوكالة الاسبانية للتعاون الدولي 1996م) ص4.
5 حسين مؤنس، تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، ط2، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1406ه/ 1986م) ص 405، هامش 3.
6 ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبدالله، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، ط1، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1415ه 1995م) ج4، ص153.
7 ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبدالله، أحكام القرآن تحقيق علي محمد البجاوي، (بيروت: دار الجيل، د.ت)، ج3، ص1124.
8 ابن العربي، عارضة الأحوذي، ج4، ص49 50.
9 المصدر نفسه. ج4، ص49.
10 ابن العربي، عارضة الأحوذي، ج4، ص110.
11 انظر عن بني شعبة: محمد أحمد العقيلي، «قبيلة بني شعبة»، مجلة العرب، الرياض، دار اليمامة، ج11 12، 1394ه 1974م، ص 897 898.
12 ابن العربي، عارضة الأحوذي، ج4، ص126.
13 ابن العربي، أحكام القرآن، ج3، ص1306.
14 المصدر نفسه، ج1، ص39.
15 ابن رشيد الفهري، أبو عبد الله محمد بن عمر السبتي. ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة، تحقيق محمد الحبيب بن خوجة، ط1، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1408هـ 1988م)، ج5، ص115.
16 ابن العربي، أحكام القرآن، ج4 ص 1894 1895.
17 الونشريسي، أحمد بن يحيى، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي علماء إفريقية والأندلس والمغرب، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1401هـ/ 1981م)، ج2، ص450.
مكة قديماً