* هذه الدراسة عرضها الأخ الكريم وائل وجدي بمنتديات أنهار ولتعميم الفائدة لكتاب القصة القصيرة جدا ارتأيت نشرها هنا ومعذرة مسبقا للأخ وائل وهذا لأهمية الدراسة حتى يطلع عليها من يهتم بفن القصة القصيرة جدا ..شكرا
القصة القصيرة جداً ..دراسة نقدية :د.حسين علي محمد
القصة القصيرة جدا: قراءة في التشكيل والرؤية, دراسة في أجزاء
د. حسين علي محمد
القصة القصيرة جدا:
قراءة في التشكيل والرؤية
بقلم: د. حسين علي محمد
***
(القسم الأول) (1):
ـــــــ
يقول الأديب والعالم الفيزيائي الدكتور أحمد زكي «ليس ألذ في أحاديث الناس من قصة، وليس أمتع فيما يقرأ الناس من قصة، والعقول قد تخمد من تعب، ويكاد يغلبها النوم، حتى إذا قلت قصة ذهب النوم، واستيقظت العقول، وأرهفت الآذان ...» (2).
وإذا كان «فن القصة القصيرة» ـ كما يرى جابر عصفور ـ فنا صعباً «لا يبرع فيه سوي الأكفاء من الكتاب القادرين علي اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها علي أسطح الذاكرة, وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه» (3).
إذا كانت القصة القصيرة كذلك، فإن فن القصة القصيرة جداً أكثر صعوبة؛ لأنه مطلوب من القاص أن يُحقق ذلك في أقل عدد من الكلمات. وهو فن ظهر في السنوات الأخيرة، ينتمي إلى الفنون السردية، ويُحاول مبدعه من خلاله أن يقدم نصا سرديا مكتنزاً في عدد قليل من الكلمات لا يتجاوز مائة كلمة في غالبية الأحوال.
وهذا الفن ليس جنساً أدبيا جديدا مستقلا عن القصة والقصة القصيرة اللتين عرفهما الأدب.. كما أنه ليس تحديثاً لفن المقامات أو ألف ليلة وليلة بطريقة «حداثوية ومعصرنة جدا»(4)، كما يشير أحد الكتاب.
إننا نراه تطويراً لفن الخبر في تراثنا، وبخاصة تلك الأخبار التي كانت تجمع بين السخرية والمُفارقة، ومنها هذه الأخبار الأربعة التي وردت في كتاب «المستطرف في كل فن مستظرف» للأبشيهي:
وقد وضعنا للخبر الأول عنوان [أحمقان، وثالثهما]، وهذا نصه:
حُكي أن أحمقيْنِ اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر: تعالَ نتمنَّ على الله، فإنَّ الطريقَ تُقطعُ بالحديث.
فقال أحدُهما: أنا أتمنّى قطائع غنم أنتفعُ بلبنِها ولحمها وصوفِها.
وقال الآخر: أنا أتمنّى قطائعَ ذئابٍ أرسلُها على غَنمِكَ حتى لا تتركَ منها شيئاً.
قال: ويحكَ! أهذا من حقِّ الصحبةِ وحُرمة العشرةِ؟!.
فتصايَحا، وتَخَاصَما، واشتدّت الخصومةُ بينهما حتى تماسكا بالأطواق، ثمَّ تراضَيَا أنَّ أولَ منْ يطلعُ عليهما يكونُ حكَماً بيْنهما، فطلع عليهما شيخٌ بحمارٍ عليهِ زقَّانِ منْ عسل، فحدّثاه بحديثِهما، فنزل بالزّقّين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، وقال:
صَبَّ اللهُ دمي مثلَ هذا العسلِ إنْ لمْ تكونا أحمقين!» (5).
وأما الخبر الثاني فقد وضعنا له عنوان [مجنون بني عجل]، وهذا نصه:
حُكِي أن الحجاج خرج يوما متنزها، فلما فرغ من نزهته صرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه، فإذا هو بشيخ من بني عجل، فقال له: من أين أيها الشيخ؟ قال: من هذه القرية. قال: كيف ترون عمالكم؟ قال: شر عمال؛ يظلمون الناس، ويستحلون أموالهم. قال: فكيف قولك في الحجاج؟ قال: ذاك، ما ولى العراق شر منه، قبحه الله، وقبح من استعمله! قال: أتعرف من أنا؟ قال: لا. قال: أنا الحجاج! قال: جُعلت فداك! أو تعرف من أنا؟ قال: لا. قال: فلان بن فلان، مجنون بني عجل، أصرع في كل يوم مرتين. قال: فضحك الحجاج منه، وأمر له بصِلة »(6).
وأما الخبر الثالث فقد وضعنا له عنوان [فجعله عذابي!]، وهذا نصه:
قال الأصمعي: رأيتُ بدويّةً من أحسنِ الناسِ وجهاً، ولها زوْجٌ قبيح، فقلتُ: يا هذه! أترضينَ أن تكوني تحتَ هذا؟ فقالتْ: يا هذا! لعلَّهُ أحسنَ إلى اللهِ فيما بينه وبيْنَ ربِّه، فجعلني ثوَابَه، وأسأتُ فيما بيني وبين ربِّي فجعله عذابي، أفلا أرضى يما رضي اللهُ به؟»(7).
والخبر الرابع وقد وضعنا له عنوان «مثل هذا!» يقول:
«قال الجاحظ: ما أخجلتْني إلاَ امرأة مرتْ بي إلى صائغ، فقالت له: اعملْ مثلَ هذا، فبقيتُ مبْهوتاً، ثم سألْتُ الصَّائغَ، فقالَ: أرادتْ هذه المرأةُ أنْ أعملَ صورةَ شيْطان، فقلتُ: لا أدري كيفَ أُصوِّرُهُ، فأتَتْ بكَ إليَّ لأصوِّرَهُ على صورتكَ»(8).
***
والقصة القصيرة جدا مع اعتمادها على عناصر القص من شخصيات وأحداث وزمان ومكان وحبكة ونهاية نراها تمتاز بقدرتها على التكثيف الدلالي، وإثارة التأويلات المختلفة، وعنصر المفارقة فيها يُحكٍم استراتيجية النص التي يبغي الكاتب أن يُبرزها بوعي، وتستطيع فاعلية القراءة لاحقاً أن تُشارك الكاتب في تفعيل النص وإثراء دلالاته، اعتماداً على تقاطع المقروء مع مخزون الذاكرة، وما يُثيره من غنى دلالي، في ضوء النص / الزمان / المكان / القارئ .
وقد ظهر هذا الفن بعد سقوط الإيديولوجيات الكبرى, ليعبر عن الإنسان العادي (الذي كان يعبر عنه الخبر في التراث)، ويؤكد على القيم الإنسانية التي تنطوي عليها الكتابة الصادقة, التي تتشوق للعدل والحرية, وتنحاز إلي المظلومين والهامشيين، وتحاول أن تغمس مدادها في جراح مجتمعها لتكشف عن الأدواء السياسية والاجتماعية التي تستشري، وتصور الهامشيين الذين آن لهم أن ينتصفوا في شعرية شفيفة، أو سخرية مُخادعة تستطيع أن تنجو بهما دائماً من القمع والمصادرة.
وليست القضية ـ كما ينبغي أن تكون ـ قضية تغيير حجم النص المقروء فحسب من الحجم الكبير إلى حجم أقل في القص «فالرغبة الملحة في التغيير لا بد أن يكون وراءها دوافع جوهرية نابعة من متغيرات الحياة التي نعيشها»(9).
ولا تؤدي النماذج المتفوقة من القصص القصيرة جدا ما تريده علي نحو مباشر, وإنما تشف عنها بأدوات سردية مقتدرة, وبراعة تؤكدها الخبرة والممارسة. ولذلك فكتاب القصة القصيرة جدا الناجحون في الساحة هم من تمرسوا سابقاً على كتابة القصة الموباسانية أو القصة الجديدة، وأكثرهم سوءاً هم من دخلوا هذا الفن بلا تجربة سابقة في التعامل مع فنون السرد.
يقول أحد المبدعين المجيدين هذا اللون، وهو عدنان كنفاني:
«وفي سبيل الوصول إلى ذلك لا بد أن نقرر أن الصعوبة تكون مضاعفة، فالكاتب المبدع عليه أن يحمّل نصّه كل تلك الشروط.. "الفكرة، والحدث من خلال التقاط لحظة الومضة، والشخوص، والمكان، والزمان، والعقدة الدرامية، ثم تصاعدها للوصول بها إلى الحلّ.. ويقدح شرارة المفاجأة والإبهار والدهشة في مخيّلة المتلقّي، إضافة إلى الجمل الوصفية، والكلمات الرشيقة، واختيار المواضيع التي تهمّ المتلقّي…الخ ما هنالك من شروط إضافية محببة ومشوِّقة" كل ذلك في جمل قليلة، ومضغوطة لا تسمح باستئصال كلمة واحدة، وإلا تفكك النص..
هي قصّة قصيرة إذن، تنطبق على فنيّتها ذات الشروط التي تنطبق على أيّ قصة قصيرة عاديّة أخرى، وما جاءت كلمة "جدّاً" إلا زيادة في التعريف، وهذا ليس أمراً جديداً مبتدعاً، وليست ولادة لمسخ يدخل على الأدب، كما أنها ليس نتاج عولمة، ولا خصخصة، ولا مستوردة من أسواق الجات أو غيرها، كما جنح البعض في الاتهام.. »(10).
إن فن القصة القصيرة جدا يتطلب من كاتبه الصدق في الطرح، مع العمق حتى يغني نصه بإشراقات تضع الضوء على دلالات النص مباشرة، وترينا ما غرسه في الميدان الأدبي من رايات تخفق بقيم الحق والخير والجمال، ومن خلال إشاراته إلى الحرية و الدعوة للتضامن مع هم الإنسان و صراعه مع قيود زمنه ، وتصوير إحباطاته المتنوعة وهمومه الكثيرة، وأفراحه الصغيرة، من خلال نصوص ينبغي أن تزهو بفنيتها وقدرتها على التعبير السردي المكتمل الموجز.
إن أهمية القصة القصيرة جدا تكمن في أن نصوصها الجيدة تكشف عن تعدّد حقولها الدلالية، وتُساعد القارئ على إعادة إنتاج الرمز الذي ينهض به وعليه، أي فيما يتصل بحال الرسالة التي يُريد المبدع إيصالها إلى المتلقي (أو المتلقين) سواء أكانوا أفراداً، أم مجتمعات، ويُغني النص ـ في حالته هذه ـ عن نصوص سردية طويلة، وإن كان بالطبع لا يمثل إشباعاً فنيا كالقصة الطويلة أو الرواية، إنما حسبه أن يُمتعنا فنيا وجماليا ـ في لحظات ـ بالإضافة إلى المستوى المعرفي اليسير.
فقد يبتعد الإنسان قليلاً أو كثيراً عن النص السردي الطويل فهما لمراميه أو تذوقاً لجمالياته، لأنه يحتاج إلى ساعات طوال، قد لا يكون تركيزه أثناء القراءة على الدرجة نفسها من الانتباه والتيقظ من بداية النص إلى منتهاه، لكن قصر نص القصة القصيرة جدا، الذي يجعل القارئ يطالعه في دقيقة واحدة ـ أو بضع دقائق ـ إذا أعاد تأملها أو قراءتها، يُتيح لـه التعايش مع النص، وتذوقه تذوقاً أقرب إلى الاكتمال.
يقول غسان كنفاني:
«لنتفق أولاً [على] أن مصطلح القصة القصيرة جداً وما يندرج تحت هذا العنوان لا يعني أن "من طرحوه" يبتدعون لوناً أو منهجاً أو جنساًً أدبياً جديداً. ولو عدنا إلى كثير من النصوص القديمة بدءاً مما جاء في (القرآن الكريم)، وكتب السلف، ومواقف الظرفاء، والشعراء، وأصحاب الحاجات في بلاطات الأمراء، وما تمخّض عنها من حكايات لم تكن تتجاوز الجمل القليلة، ولعل كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" لمؤلّفه الأبشيهي خير مثال.. وكذلك بعض النصوص التي جاءت في كتب الخلف وأكثرهم من الكتّاب الكبار محلياً وعالمياً، لوجدنا عشرات من النصوص أمثلة تصلح لتكون قصصاً قصيرة جداً، سمعناها أو قرأناها، وقبلناها، لأنها ببساطة حملت إلينا متعة القصّة مستوفية الشروط الفنيّة، ووصلتنا سهلة ... دون أن يفرضها علينا أحد تحت عنوان "قصّة قصيرة جدّاً" وكأنه مصطلح يوحي بابتداع جنس أدبيّ جديد.. ولعل الكلمة الوحيدة المبتدعة، والتي أثارت جدلاً بدأ ولم ينته هي كلمة "جداً"(11).
وبعيداً عن التنظير للقصة القصيرة جدا، حيث يرفضها البعض، بينما بعض النقاد يميل إلى «هذا النوع الأدبي القادر على حمل الهموم المختلفة اجتماعيةً ووطنية وقومية وإنسانية»(12)، سنحاول أن نحدد بعض سمات هذا الفن المراوغ، موضوعيا وفنيا:
ــــــــــــ
الهوامش:
(1) ورقة ألقيت في قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالرياض، في يوم السبت 26/4/2003م، وقد زيدت فيها بعض الفقرات قبل نشرها في منتدى القصة العربية.
(2) د. أحمد زكي: في السماء، كتاب الهلال (العدد 603)، مارس 2001م، ص5.
(3) د. جابر عصفور: "أوتار الماء" عمل يستحق التقدير، الأهرام ـ العدد 42470، في 17/3/2003م.
(4) نزيه الشوفي: نظرة ما ...القصة القصيرة جدا... والتنظير الفاقع جداً، دمشق الأسبوعي، ثقافة الثلاثاء 4 أيلول 2001م.
(5) الأبشيهي(شهاب الدين محمد بن أحمد): المستطرف في كل فن مستظرف، تحقيق: د. مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت 1986م، 1/40 ، 41.
(6) السابق، 1/135 .
(7) السابق، 2/57 .
(8) السابق، 2/57 .
(9) د. نبيلة إبراهيم: مستويات لعبة اللغة في القص الروائي، مجلة «إبداع»، س 2، ع 5، مايو 1984م، ص7.
(10) عدنان كنفاني: القصّة القصيرة "جدّاً" إشكالية في النصّ، أم جدليّة حول المصطلح.!، موقع «عدنان كنفاني» على الإنترنت.
(11) السابق.
(12) د. يوسف حطيني: القصة القصيرة جدا عند زكريا تامر، الأسبوع الأدبي، العدد (778)، في 6/10/2001م، (من موقع المجلة على الإنترنت
(القسم الثاني)
ـــــــ
من سمات القصة القصيرة جدا:
1-التكثيف:
يعمد كتاب القصة القصيرة جدا إلى الجمل القصيرة المكثفة التي تصور عالماً رحباً تتسع دلالاته مع كل قراءة جديدة.
تقول فوزية الشدادي في قصة «خيانة»:
« بعد عودته من رحلته مكث طويلاً أمام الباب يحاول فتحه ... كان الباب قد كبر، وكبر ومازال المفتاح صغيراً !!!!!!!» (2).
إنها قصة تسرد عالماً من المشاعر المتناقضة التي يُحدثها الغياب المادي والمعنوي. وهي في قصتها التي تتصف بنوعٍ عال من التكثيف ترينا أن هذا الغياب مثَّل خيانة، ومن ثم فقد جوزي هذا الغائب عند عودته بعدم القدرة على التماس مع الآخرين.
وتقول هيام عبد الهادي صالح في قصة بعنوان «المساخيط»:
«قال زوجي إن الجبل يغضب حين نحفر لنكشف ستره، ونُخرج المساخيط الأثرية من جوفه. ولذلك فإنه وجد مسخوطة خوجاية ـ كركوبة في عمر أمه ولا العوزة للجبل ـ ستتزوجه وتُسافر به، ويعود حين تسأمه، ولديه ما يكفي لتجهيز أكبر بازار في البلدة»(3).
وهذه القصة قد قالت في سطور قلائل ما تريد قوله، فأوربا تنتج التماثيل الشمعية المُعاصرة التي بلا روح، بينما أنتجت الحضارة المصرية القديمة تماثيلها الباقية، ولذا فالزوج هنا ـ بعد أن ضن الجبل وبخل عن إعطاء مساخيطه / تماثيله، ليبيعها للسائحين ويتعيّش منها، قرر أن يذهب ويتزوج امرأة أوربية عجوزاً ـ بلا روح ـ وعندما سينتهي غرضها منه أو تموت ـ وهو ما لم تقله القاصة عنها؛ بينما أشارت إليه،فهي ـ أي الأوربية ـ «كركوبة» أي طاعنة في السن، وعندما ينتهي الغرض من الزواج فسيعود الرجلُ ويفتتح معرضاً لبيع الآثار، ولا ندري هل سيغضب الجبل ساعتها أم سيبارك هذا المعرَض؟
وفي قصة حورية البدري «للبيع» تستبطن تجربة صوفية، وتُريد أن تنقلنا إلى تجربة معيشة في كلمات قلائل:
«قال سهل التستري : سجدت 00 وعندما نهضت من السجود ؛ ظل قلبي ساجدا.
أحببت الحالة 00 وأحببت سهلا التستري في الله.
حاولت الوصول للحالة كثيرا 00 كانت النتيجة في كل مرّة مختلفة 00 شيء واحد كان يحدث دائما 00 كنت أجد فاكهة الصيف والشتاء في مطبخي دون أن أذهب إلى السوق 00 لا بيع ولا شراء 00 لا حاجة بي لذلك 00 فكل شي هنا ! 00 » (4).
إنها تتحدث عن نوع من المُجاهدة النفسية، قد نستصعبه معنويا، أو نرفضه موضوعيا أو عقديا، كعالم ينبتُّ عن الحياة أو العقيدة، لكنها استطاعت أن تنقله في عدد مكتنز من الألفاظ، وبه استطاعت أن ترينا أن «عالم القص الروائي يعد أقرب الأشكال الأدبية اللغوية لحركة الحياة، فهو عالم مصغر لعالمنا، وهو يقف موازياً له وقريباً منه. والفرق بين عالم القصة الخيالي وعالمنا التجريبي، أن الأول محدود ومركز وأكثر حبكة ونظاماً في حين أن عالمنا التجريبي عالم واسع وعريض وتختلط فيه الأمور اختلاطاً قد يصل إلى حد التهويش وغياب المنطق، وبعبارة أخرى فإن عالم القص عالم متخيل ومصنوع صنعة محكمة في مقابل عالمنا الواقعي الذي تسير فيه الأمور مشتتة، كما يحلو لها أن تسير» (5).
ومن هذه القصص قصة «المايسترو» لحورية البدري، التي تؤكِّد على الأمل والإرادة والمُقاومة في وجه الأمور المثبطة؛ فهاهو عصفور الكناريا المحبط، يقاوم، فيأتي نهار الفوز والنصر والإشراق: « عندما رف بعصاه(6) السحرية ـ كمايسترو ـ على بوابة الليل، مُشيراً إلى عصفور الكناريا المُحبط انتفض العصفور، تحرك بين سياج الليل الدامس. لم يتأكّد من اقتراب أنوار الفجر، لكنه شعر برغبة في التغريد، أقنعه المايسترو بأن التغريد قد يوحي لأنوار الفجر بالإشراق، تأتي لترى العصفور النائم طول الليل بين الثعابين ... أخذ يغرد، فتشجعت أنوار الفجر، وبدأت تنتشر حول ترنيماته العذبة، وأخذت الجبال تؤوب معه والطير، فظهر قرص الشمس وابتسم، وانسحبت الثعابين لتختفي في جحورها البعيدة» (7).
ومن هذه القصص المكثفة التي تتناول مصادرة حرية الإنسان، مما يسبب اختناقه قصة هيمى المفتي «اختناق»، وتتحدث عن رجل وضع السدود والقيود فسبب الاختناق لزوجته، ثم أراد تحسين الظروف فبقيت القيود هيَ هي، وظلت تشعر بالاختناق:
«شيد جدرانه حولها، فانحبس الهواء في المكان، وكادت تختنق .. حرصاً على حياتها فتح نافذة اختار مكانها بعناية بحيث لا تطل سوى على فضائه الرحب الواسع .. تنفست هواءه بعمق .. من جديد شعرت بالاختناق.. »(8).
ومن هذه القصة قصة «سعاد حسني» لمجدي محمود جعفر، التي تتناول عالم الخواء العاطفي عند المرهقين حيث يتحول الوهم إلى حقيقة، ويُعايشه المُراهق كأنه واقع يلون رؤاه، ويُفسده عن رؤية حقائق الحياة، ويصرفه عن دروسه ومتطلبات دراسته:
«أقسم الولد قائلاً: إن سعاد حسنى عندما تظهر على الشاشة – تلهيني عن المذاكرة وتشغلني عن كل شيء في الدنيا، تأسرني بعينيها الجميلتين، وتجذبني بخفتها ورقتها، تنثر زخات ضوءٍ تبدد مساحة العتمة، وأظل أدور في مساحة جسمها الضئيل وملامحها الدقيقة.
غطت صورها حوائط غرفتي، وأغلفة كتبي وكراريسي المدرسية، وملأت فراغ قلبي، وشغلت تفكيري، تتسلل إلى غرفتي في الليل تداعب أصابع البيانو، تغمز لي بعينيها الجميلتين، تعزف وترقص وتغنى وتتشابك أيادينا وتتعانق عيوننا، وتمضى بدلالٍ وغنج، وفى الصباح أستيقظ وألعن نساء قريتنا البدينات وبناتها المسترجلات!!» (9).
لكن محاولة التكثيف لدى القاص قد تصيب الحدث في مقتل، فلا. ومنه هذه النص لجبير المليحان، بعنوان «رثاء ـ 11»:
« ظل صامتا ، وهي تضع في الحقيبة ما تبقى لها من حياة. التقت عيناهما، و قالتا كل السنين، وهي تغلق الباب. تَـلَفّتَ في جسد الصالة الخاوي، وأعناق الزوايا المتهدلة، و أكوام الذكريات اليابسة، و تشعب ألم البكاء في قلبه ...» (10).
هذه القصة ومضة، ومع تكثيفها أرى أنها لم تتم، فالقصة القصيرة جدا، لا بد لها من حدث مكتمل، يشير ولا يصرح. وأنا أرى أن هذا النص لم يكتمل، تنقصه ومضة .. إشارة .. جملة ما.. حتى يصير النص قصة قصيرة جيدة مكتملة، كقصص جبير المليحان الأخرى .. العجيب أن بعض المعلقين يكتبون (خواطرهم) التي فجّرها النص .. لا نقدهم، وأحياناً تُكمل ما لم يقله القصة. ومن هذه التعليقات تعليق للقارئة وفاء العمير، التي أشارت إلى: «الجانب الإنساني المتهدم الذي حاول القاص هنا أن يرسمه، ما تبقى من حياة الزوجة، تحمله في حقيبة وتغادر، العيون تلتقي بوجع مؤلم يحاول أن يكون لا مبالياً، سكون المكان، بكاؤه، وذهوله أمام اللحظات المتكسرة نزفاً وسقوطاً؛ الحياة التي ينفض كل من الزوج والزوجة تفاصيلها الصغيرة والحميمية عن أيامهما القادمة وكأن اللحظات الماضية لم تحتفِ بها. خرجت المرأة مغلقة خلفها باب العودة ، فوجد الزوج نفسه وحيداً، تماماً كما لم يكن ينتظر، لوت (هي) عنق الأمل ورحلت، فيما (هو) تكوم على كرامة ودّ ألا تخذله في تلك اللحظة، انتصرت كرامته وهجمت عليه هزيمة الحب! ... اختار القاص أن تكون اللغة مكثفة، واللحظات متسارعة ومشحونة بالألم، أحياناً لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح، يكفي أن يصل إليك كومضة تقف طويلاً على نافذة إدراكك دون أن تغادر!» (11).
ـــــ
الهوامش:
(1) من ورقة ألقيت في قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالرياض، في يوم السبت 26/4/2003م، وقد زيدت فيها بعض الفقرات قبل نشرها في منتدى القصة العربية.
(2) فوزية الشدادي: خيانة، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 7/6/2002م.
(3) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، سلسلة «أصوات معاصرة»، العدد (69)، مايو 2001م، ص69.
(4) د. حورية البدري: للبيع، موقع «القصة العربية» على الإنترنت في 20/3/2003م.
(5) د. نبيلة إبراهيم سالم، مرجع سابق، ص7.
(6) في النص: بعصاته، والصواب ما أثبتناه.
(7) د. حورية البدري: المايسترو، مجلة «المنتدى»، العدد (196)، نوفمبر 1999م، ص23.
(8) هيمى المفتي: قصص قصيرة جدا، موقع «أصوات معاصرة» على الإنترنت، في 1/2/2003م.
(9) مجدي جعفر: أصداء رحلة شاب على مشارف الوصول، سلسلة «أصوات معاصرة» العدد (52)، يناير 2000م، ص 125 .
(10) جبير المليحان: رثاء ـ 11، موقع القصة العربية، في 3/5/2003م.
(11) وفاء العمير: تعليق على قصة جبير المليحان «رثاء ـ 11»، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 4/5/2003م.
***
( (القسم الثالث):
ـــــــــ
2-الشعرية:
ويتصل بالتكثيف ما تتمتع به كثير من القصص القصيرة جدا من الشعرية المجنحة، التي تضفي على عالم القص ـ من خلال التلاعب بالنظام اللغوي بين المعيارية والإيحائية ـ صورةً تحمل رؤية للإحباطات التي نواجهها في عالمنا، وتحمل العديد من الدلالات المباشرة المفتوحة على دلالات ـ نجدها بالتأمل ـ أكثر اتساعاً، وتكشف عن هموم الإنسان الذي يطمح إلى عالم أكثر متعةً وإنسانية بينما تتهدده الأخطار في كل لمحة، وعند كل ثنية من طريقه.
يقول جبير المليحان في قصة «سجّادة» :
«قلت لصديقي: لقد كبرت بهجتي وامتدت كربيع وأنا أدخل إلى البيت وأسمع السجادة العتيقة القديمة تئن!
تراءت لي دهشة عينيه كبريق لعلامة نصر!
قلت له : عن بكائها … نعم : هو بكاء وليس أنينا، ( لقد ألصقت أذني بها وسمعتها تهمي ببكاء خافت ، و بعيد ، مثل أنين المهزومين في مباراة الحياة … ) قال:
- فقط إنها سجادة تطؤها كل الأقدام : أقدام الكل ...
يا لألمي عندما قال :
- أنا لم أرها في يوم ترفع رأسا؟!
دويت في وجهه :
- إذن كيف أنّت ؟!»(1).
وهي قصة قصيرة جدا تكشف عن زيف واقعنا، وأننا تعودنا على رؤيته كما هو موجود ولا نراه كما ينبغي أن نراه؛ ولأن السجادة تعودت على أن ندوسها، تعوّدنا على رؤيتها هكذا، بينما الذي يرى استطاع أن يبصرها، ويسمعها وهي تهمي ببكاء خافت، و بعيد، مثل أنين المهزومين في مباراة الحياة … ، فهل يكون هذا بداية للوعي والثورة والتمرد.. وهل تعي شعوبنا هذه المقولة لهذه القصة التي تقول في كلمات ما لا تقوله الصحف في أنهرها السوداء المنسابة على أعيننا كالغشاوة، فلا تجعلنا نبصر ما يجب أن نبصره، وأن المهمشين الذين يُداسون في طرق الحياة يُمكن أن يثوروا ويتمردوا ذات يوم؟!!
وتتناول القصص القصيرة جدا عالم الإنسان الصغير الذي تكتنفه محاولات القهر والإغواء، لكنه عالم طبيعي نحس به ونشعر به ونرى مثله في حياتنا، لكن القصص تأخذه وتحاول إكسابه مسحة من الشعرية والترميز(2).
ومن النصوص التي تبرز فيها الشعرية نصوص فهد العتيق وجبير المليحان ومحمد المخزنجي، ومجدي جعفر ... وغيرهم. يقول فهد العتيق في نص يعبر عن الأمل في المستقبل بعنوان «ربما يأتون»:
«ربما يتركون بيتهم القديم ، ويأتون ، أخيراً .
يأتون إلى مدينتنا التي ستحتفل بأرواحهم المبتهجة وملامحهم الجميلة.
يأتون إلينا ..
يأخذون بيتاً جوار بيتنا ، فنسمع أصواتهم في الليل والنهار ..
ربما يتركون بيتهم، يحمّلون سيارتهم ويدخلون المدينة من كل أبوابها دفعة واحدة، ثم تتبعثر أقدامهم في تراب حارتنا ، وتنطق مهرة الغناء في أرواحنا .
ربما يأتون ، هم ودماؤهم ، وبعض أسرار الطريق .
ينظرون خلفهم إلى بيتهم القديم وآثار أعمارهم .. ثم .. يأتون إلينا ..
ربما ... »(3).
ومن القصص التي تبرز فيها الشعرية قصة «الأرض» لجبير المليحان، التي تتناول الحياة الإنسانية وإشكالاتها، من خلال نص موغل في البساطة:
أخذ الطفل الصلصال، وصنع منه كرة كبيرة، وضعها في منتصف ألعابه: تسلقتها الأسود، والنمور، والقطط، والأطفال، والفراشات، والسيارات، والطائرات … فاجأته أمه وهو يُعينها، ويُثبتها في أماكنها، مصدراً أصواتها الخاصة ..
- ما هذا ؟
- هذه الأرض !
وأشار إلى موقع بيتهم فيها: كان سريره هناك .
بعد قليل، عادت الأم على صراخه الحاد، شاهدته يرفع قبضته محتداً، ومنتحباً :
- لقد داس أخي الكبير الكرة وهو يمر من هنا !
كانت كرة الصلصال تلتصق بالأرض، والسكان يتناثرون»(4).
ومن هذه الشعرية الشفيفة قصة قصيرة جدا تتحدث عن زوجةٍ تعيش منفردة، لأن زوجها يعمل في الخليج، ويحاول الذئب أن يتودد للأولاد أولاً، ليجد مدخلاً بعد ذلك لقلب ـ أو قل لجسد ـ المرأة، وتعبر عما تُريد في فنية واقتدار، دون أن تلجأ إلى كلمةٍ نابيةٍ واحدة:
«في زيارته الأولى جاء لابني الصغير بطائرة بالريموت كنترول، تطير لتسلم على أبيه في بلاد البترول.
في زيارته الثانية جاء لابنتي بعصفورين في قفص ليطيرا ويُسلما على أبيها في بلاد البترول.
في زيارته الثالثة جاء لابني الكبير ببلوك نوت وقلم جميل، ليكتب ويُسلم على أبيه في بلاد البترول.
في زيارته الرابعة جاء لي بلفافة كبيرة مزركشة .. فتحتها تصاعدت الدماء لوجهي.
خرج حاملاً إياها مُضافاً لها رذاذ بصقة»(5).
ونقصد بالشعرية في النص السابق اللغة التي يوردها الروائي في نصه متجاوزاً بها حدود الزمان والمكان والشيء الموصوف نفسه. وقد رأينا في هذه القطعة التي يتقاطع فيها المكاني (مصر والخليج)/ مع الزماني (الزيارت المتكررة في أزمان مُتقاربة) لتصل الساردة إلى هدفها من القص، وه إبراز غواية الرجل للمرأة التي سافر زوجها وتركها وحيدةً للذئاب.
والشعرية تتدفق في القصة القصيرة جدا من انهمار لغوي «لا يستمد عذوبته من فصاحة الكلمات، ولا من صليل الإيقاع اللغوي الجهير، وإنما من موسيقى الحياة الأليفة، وهي تغمرك بضباب حلو من تفصيلات حية تتفتح عنها ذاكرتك وأنت تمتزج بها وأنت تقرأه فتحقق بينك وبينه درجة عالية من «التماهي» .. »(6) يُساعد عليه السارد عندما يعبر عنك وهو يصف موقفه وشخوصه بصدق بالغ».
وهذا ما يحاول مبدع القصة القصيرة جدا ـ أن يُقدمه من خلال مقدمات عادية، لتبني عليها رؤية مُفارقة ـ تُريدُ أن تقول كلاماً آخر ـ كما رأينا في القصة القصيرة جدا السابقة، وكما تقدمه هيام صالح في قصة قصيرة جدا بعنوان «بالألوان» هذا نصُّها:
«حين أدرتُ تلفاز أحلامي .. جاء العرض باللونين الأبيض والأسود .. ظللتُ أتململ.
فجأة اصطبغت الشاشة بلونٍ واحد .. الأسود فقط. كانت الأيدي تُكبِّلني لمقعدي حتى أستمر لنهاية العرض الحزين.
حين وجدت «الريموت» المفقود ضغطت الزر .. انسحب اللون الأسود من الحلم ببطء شديد، وبدت خطوط ملونة تتسلّل لتصبغ الشاشة، لكن على استحياء!» (7).
رغم اكتناز القصة وتكثيفها فعالمها ثري وخصب، مفرداته كثيرة الإشارات، ولغتها تحاول أن تكون شعرية حية؛ وإن أخذنا عليها استعمال الألفاظ الأجنبية، مثل «بلوت نوت» و«بازار» و«ريموت كنترول » ... وغيرها.
ـــــــــــــ
الهولمش:
(1) جبير المليحان: سجادة، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 24/9/2002م.
(2) د. خليل الموسى: من مصطلحات النقد الأدبي : "الشعريّة"، جريدة الأسبوع الأدبي ـ العدد 774 تاريخ 8/9/2001م.
(3) فهد العتيق: ربما يأتون: موقع القصة العربية 1/7/2002م.
(4) جبير المليحان: الأرض، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 7/7/2002م.
(5) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، ص72.
(6) د. صلاح فضل: أساليب السرد في الرواية العربية، سلسلة «كتابات نقدية»، العدد (36)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1995م، ص65.
(7) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، ص80.
***
(القسم الرابع)
ــــــــــــــــــــــــــ
3-المُفارقة التصويرية:
عرف النقد العربي القديم والبلاغة العربية القديمة لوناً من التصوير البديعي القائم على فكرة التضاد، وقد عولج تحت اسم «الطباق» في صورته البسيطة، و«المُقابلة» في صورته المركبة، أما «المُفارقة التصويرية» فهي «طريقة في الأداء الفني مختلفة تماماً عن الطباق والمقابلة، سواء من ناحية بنائها الفني، أو من ناحية وظيفتها الإيحائية، وذلك لأن «المفارقة التصويرية» تقوم على إبراز التناقض بين طرفين كان من الفروض أن يكونا متفقين، و«التناقض في المُفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل»(1). والأديب المعاصر يستغل هذه العملية في تصوير بعض المواقف والقضايا التي يبرز فيها هذا التناقض، ليلفت نظرنا إلى شيء يريد إبرازه، أو فكرة يُريد توضيحها.
ومن هذه القصص التي تعتمد على المفارقة التصويرية قصة «سوء تشخيص!» لأحمد جاسم الحسين ، ونصها:
«أشارت التحليلات الأولية إلى احتمال أن تكون الكتلة الموجودة في بطنه سرطانية 000
لما أجريت العملية كانت المفاجأة عالية،إذ وجدوا مجموعة من الخطابات والشعارات والصور المنشورة في جريدة رسمية »(2).
وتقول هيام عبد الهادي صالح في قصة قصيرة جدا بعنوان «ورود»:
«على مكتبي مشمّع أنيق تسكنه الورود .. بعض الوريقات داكنة، والأخرى فاتحة اللون. أسدد إليها نظراتي فتتفتّح الوردات عن طفلات يرقصن في فساتين واسعة قصيرة، وشعورهن تنعقد بفيونكات في ذيول أحصنة، وأطفال يرقصون بوجوه مبتسمة وخصلات ناعمة تبدو من تحت الطواقي الجميلة. يتوقف رقص الورود الطفلات والطفلات فجأة حين يلمحون وردة ضخمة تنشق عن سلطان الحواديت بوجهه الجهم وكرشه الضخم خلفه حاشيته. يأتي يبتلع كل الحلوى .. كل الضحكات .. كل نغم الموسيقى. تنغلق بعض الوردات وتتوارى بعيداً .. بينما يقف بعضهم [الصواب: بعضها] في صف واحد ووجههم للجدار»(3).
فهذا النص القصير يحتوي على مفارقة بين عالمين: عالم الطفل (أو عالم البراءة المُرتجاة)، المتمثل في: الورود ـ الطفلات ـ الأطفال ـ الرقص ـ الطواقي الجميلة ... إلخ، وعالم القهر (أو عالم الواقع) الذي يُعاني منه الكبار (ويُعاني منه الأطفال أيضاً) ويتمثل في سلطان الحواديت الذي يقتحم عالم النص بوجهه الجهم وكرشه الضخم وخلفه حاشيته، والذي يبتلع كل الحلوى .. وكل الضحكات .. كل نغم الموسيقى.
ثم تستدعي الكاتبة في النهاية صورة العقاب الذي يُعاني منها الأطفال في مراحل الدراسة المبكرة ـ وهي أن يقف الطفل ووجهه إلى الجدار ـ في صورة ترسم التعاسة، ولكنها في الوقت نفسه ليست صورة كابوسية مفزعة، فهي تترك مجالاً للأمل والسعادة أن يجيئا مرة ثانية، في قولها «تنغلق بعض الوردات وتتوارى بعيداً .. بينما يقف بعضهم في صف واحد ووجههم للجدار».
فهي قد جعلت بعض الوردات تنغلق، وبعضها يقف ووجهه الجدار.
وتستخدم المفردات الحديثة لتعبر عن حالتها كامرأةٍ، ومثقفةٍ، وإنسانٍ من العالم الثالث يُواجَه بالمثبطات أكثر مما يُواجَه بما يدعو إلى الفرح، تقول في قصة «بالألوان»: «حين أدرتُ تلفاز أحلامي جاء العرض باللونين الأبيض والأسود .. ظللتُ أتململ. فجأة اصطبغت الشاشة بلون واحد: الأسود فقط! .. كانت الأيدي تكبلني لمقعدي لأستمر حتى نهاية العرض الحزين»(4).
4- جمالية الزمان:
للزمن سطوته التي لا تُقاوم في نصوص القصة القصيرة جدا، وفي مقابل الرواية والقصة القصيرة اللتين تهتمان بجمالية المكان، فإن كاتب القصة القصيرة جدا يعتني بالزمان ويستخدمه لإبراز التغيرات في المكان والشخصيات؛ ويُمكننا أن نمثل لذلك بقصة ياسر علي «البوابة» معبراً عن لحظة خروج الأساتذة من مقار لجان التصحيح في الشهادات العامة (كالشهادتين الإعدادية والثانوية)، ويبدو أنه كتبها بعد أن أصبح هناك فصلان دراسيان في العام (في يناير، ويوليو). ونص هذه القصة:
ما أصعب يوم الحشر!
الساعة ركبها شيطان رجيم!
لا تُريد عقاربها الوقحة أن تقترب من الثانية والنصف!
الأجساد المتلاصقة اقتربت رائحتها من درجة العفونة.
عيون العشرات من الرجال المحترمين معلقة بالبوابة السمراء الضخمة التي تُشبه وحش الأساطير القديمة!
الشمس رغم حرارتها الرقيقة تلسع الرؤوس المكتظة بدرجات التصحيح.
المنظر من أعلى سيكون أروع سخرية!
خاصة في الطابق الرابع، حين يشب ابن الخامسة وقد هاله منظر الواقفين أمام البوابة!
أمه بجانبه، تمضغ متعتها بهؤلاء المعذبين .. وقد تركت شعرها لنسيم يناير يعبث به، ويداها تستقران على رأس الصغير!، ولسان حالها يقول: أرجو .. ألا تكون مثل هؤلاء!»(5).
الزمان يمثل كابوساً ضاغطاً على المصححين، واللحظات ثقيلة، تحول المكان إلى سجن.
وفي القصة ـ رغم اهتمامها بإبراز أثر الزمن في مطلع القصة ـ مفارقة تصويرية طرفها الأول هؤلاء المدرسون المأزومون الذين انتهت فترة تصحيحهم، ومع هذا فمازالت البوابة السوداء الضخمة مغلقة، وطرفها الثاني هذه الأم الشابة التي تقف بجوار طفلها الصغير، ابنِ الأعوامِ الخمسة، وترجو لـه حين يكبر ألا يُصبح مدرساً كهؤلاء المدرسين.
***
توقفنا عند أهم الملامح الفنية في بناء القصة القصيرة جدا، ومن استطلاع (100) مائة نص أثناء كتابة هذا البحث (ما بين مطبوعة في مجموعة، أو منشورة في الصحف أو على الإنترنت)، لاحظنا أن أكثر من ثلاثة أرباع هذه المجموعة تتناول الهموم السياسية والاجتماعية، ولهذا سنشير إلى بعض هذه الآفاق في وَجازة:
1- الطرح السياسي:
من الطبعي أن تطرح الكثير من نصوص القصص القصيرة جدا هموماً سياسية (وجدتُ أن حوالي 40 % من النصوص التي خضعت للدراسة تتناول أُفقاً سياسيا).
ومن هذه القصص قصة «فيلم أمريكي حار» لعدنان كنفاني، وهذا نصها:
« جاء مبحراً من شواطئ بعيدة..
كأنه فوجئ بكائنات بشرية ما زالت تعيش في الخيام، وتركب الحصان، وتلبس الجلود.
التقط (رشاشاً) من مجموعته المختارة. وحصد منهم بعدد الرصاصات..
عندما هبط الظلام، عاد هندي نجا من المجزرة يزحف على بطنه..
دخل إلى خيمته المحّتلة، وجد الرجل الأبيض ينام عارياً على فراشه..
استل سكينه بهدوء، وحّز رقبته، ثم سلخ فروة رأسه..
صرخ العالم المتحّضر:
ـ إرهابي.. » (6).
قد يجيء الطرح السياسي مباشراً كما في القصة السابقة، التي تتناول قضية الإرهاب كما يراها المحتلون العابثون بالأوطان الصغيرة، بينما ما تفعله هذه الأوطان المحتلة المستضعفة، هو مقاومة لإرهاب المحتلين، فالمحتل والمستعمِر هو «الإرهابي».
وقد يجيء الطرحُ السياسي من خلال لغة هامسة تُدين أحزاب التسلط، التي لا تقيم وزنا للإنسان واحتياجاته. ونجد هذا في قصة "انتظار امرأة" لزكريا تامر، حيث يُطلعنا على مأساة إنسان ولد دون رأس، فعاش سعيداً!!، ويتمنى هذا الشخص أن ينتج شعباً من السعداء بلا رؤوس!!
"ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمه وشهق الطبيب مذعوراً، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتت الممرضات في أروقة المستشفى.
ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل، فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنه ربح أكثر مما خسر.
ولم يكف فارس المواز عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعاً جديداً من البشر آملاً ألا يطول انتظاره" (7).
وقد يتناول الطرحُ السياسي قضية آنيةً يتفق عليها الجميع، مثل قضية المقاومة في فلسطين المحتلة، وقد عبرت عن ذلك عشرات النماذج لعدنان كنفاني وطلعت سقيرق، لكننا نتوقف أمام نص لوائل وجدي بعنوان «طفل» هذا نصها:
« ـ تأخرت كثيراً يا وليد.
ـ كنتُ أرمي الصهاينة بحجر.
ـ أنت صغير.
ـ لقد وُلدتُ رجلاًً.
**
لمح جنود الجيش الصهيوني بالقرب من ساحة المسجد الأقصى. اختبأ وراء شجيرة، وأخرج من بنطاله النبلة .. تخيّر حجراً .. وجذب الإستيك ضارباً رأس أحدهم.
حاول أن يكتم ضحكته .. ترامى إلى أسماعهم صوته .. صوّبوا الرصاص تجاه تلك الشجيرة .. سقطت أوراقُها على بقايا جسده الصغير الممزق»(8).
وتُحاول القصص ذات الاتجاه السياسي أن تقدم رؤاها السياسية في همس، بعيداً عن الصخب والضجيج، الذي يميز المقالة ـ أو الخاطرة ـ السياسية، ومنها قصة جبير المليحان «النجمة»، وهذا نصها:
« في ليل بهيم، افترشا بساطهما، خلف السيارة، على شاطئ بحر الدمام، تقابلا .. مدّ يده ضاغطاً كفها الوديع: طارت عيناها في السماء حمامتين، بعيداً حيث تتلألأ نجمة بهية زرقاء عنيدة. أشار إلى النجمة و قال:
- .. مثل قلبي!
تدارك، و هي تخفظ بصرها:
- .. أنت نجمة .. نجمتي !
مرحا طويلاً - بعينيهما - و يديهما ، على الشاطئ . مدّ قدميه ليرتاح ، و مدّت قدميها .. وخلعت الحذاء .. حدّق في الحذاء : كانت تستقر في طرف لسانه الداخلي نجمة سداسية بلون الذهب . اسود وجهه كالليل ، رفع رأسه و صرخ في وجه الليل:
- من أين هذا ؟!
- من السوق من .. هنا !! ، وأشارت حيث تهجع الدمام .
- ولكن ..
لم يستطع أن يكمل: وضع بساطه في السيارة ، و عاد صارخاً : - و بكل قوته - رمى الحذاء إلى أقصى البحر ناحية الضفة الأخرى!
عادا إلى بيتهما بصمت ، و الدموع تتساقط في حجر المرأة كحمام ميت!» »(9).
إن وجود النجمة السداسية (رمز إسرائيل) أفسد على الزوجين لحظاتهما، كما أن في القصة إشارة إلى التسلل الإسرائيلي إلى المجتمع العربي والأسواق العربية.
وقد يكون الطرحُ السياسيُّ المُباشر في بعض القصص التي تكتب أثناء أزمة، يكون طرحاً ساخناً، يُقلل من العناصر الفنية للقص، ويجعلها قريبةً من المقالةِ القصيرةِ أو الخاطرةِ، ومن ذلك قصة «المسدس» لمنيرة الأزيمع، التي نشرتها عقب اقتحام الأمريكيين بغداد:
«إنه هنا في غرفة المعيشة .. وتحت الوسادة وفي درج الطاولة التي أقعد أمامها كل مساء….. وهو بين جلدي وملابسي .. جهة قلبي هنا. أتحسسه بجنون عندما أفتقده .. وحينما أجده، وأضع يدي عليه .. أشعر بأنه يحس بدفء يدي عندما تربت عليه .. يعرف كثيرا عن مدى حاجتي إليه .. ويعرف كم هو ضروري الآن . لكن لا أعرف كيف أستخدمه جيدا... ولم أتدرب على ذلك. ثم عندما تنتهي طلقاته.. من أين آتي بأخرى؟؟ وكم صندوقا سأحتاج ؟؟ وإلى من سأوجه فوهته فهم كثيرون ويظهرون كل يوم .. تتشقق عنهم الأرض . هاهم ألان يتقافزون في كل جهة من هنا .. في حين أن الناس هنا يتحدثون عن سلام بصناعة غربية. لا أستطيع الثقة بأحد أبدا سوى بمسدسي .بصوته فهو الحقيقة الوحيدة حتى الآن …»(10).
وقد يتخذ من الرمز (أو الإشارة لفكرة يراها أو رؤية يطرحها فنيا على القراء) أداةً لقصته، وهو ما فعله ثائر دوري في قصته «انتخابات بلدية» حيث يرى موات الحركة السياسية العربية، وينتقد القدرة المحدودة لأعضاء المجالس البلدية على الفعل أو التأثير في مجتمعاتهم، ومن ثم فهو يشبه دخول المرشحين هذه الانتخابات بالموت.
تقول القصة:
« فجأة لمحت صورته بطرف عيني ملصقة على الجدار. فتوقفت على الفور أمام الصورة و قرأت الاسم ( أبو سليم العيتاني الملقب بالكخ ). ضربت كفاً بكف، وقلت لرفيقي:
- لا حول و لا قوة إلا بالله. رحمة الله عليه. البارحة فقط شاهدته، لقد توفي الرجل. مات الكخ. يجب أن نذهب لنعزي أولاده به.
نظر صديقي نحوي بدهشة شديدة، و قال:
- هذه ليست ورقة نعوة. بل هذا ملصق انتخابي. الرجل لم يمت بل رشح نفسه إلى الانتخابات البلدية.
ضربت كفاً بكف من جديد و أنا أتمتم:
- لا حول و لا قوة إلا بالله.»(11).
ـــــــــــــــــ
الهوامش:
( ) د. علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ط2، مكتبة دار العلوم، القاهرة 1979م، ص137 ، 138.
(2) أحمد جاسم الحسين: سوء تشخيص، موقع «القصة العربية»، في 17/1/2003م.
(3) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، ص95.
(4) السابق، ص80.
(5) ياسر علي: عندما يموت الحب، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الزقازيق 2000م، ص59.
(6) عدنان كنفاني: فيلم أمريكي حار، موقع القصة العربية» على الإنترنت، في في 31/8/2002م.
(7) زكريا تامر: الحصرم، ص155.
(8) وائل وجدي: الحنين، سلسلة «أصوات معاصرة»، العدد (94)، دار الإسلام للطباعة، المنصورة 2002م، ص35.
(9) جبير المليحان: نجمة، منتدى القصة العربية، في 10/10/2003م.
(10) منيرة الأزيمع: المسدس، موقع القصة العربية، في 20/4/2003م.
(11) ثائر دوري: انتخابات بلدية، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 10/8/2003م
(القسم الخامس والأخير):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-الرؤية الاجتماعية:
وجدت (36 %) من النماذج التي درستُها في هذه العِينة من القصص القصيرة جدا ذات المنحى الاجتماعي)، وقد تناولت هذه القصص هموم المجتمع، في واقعية جديدة تشبه واقعية الجاحظ التي «لا تقف عند تلك التفصيلات الدقيقة، بل تستند إلى تحليل نفسي واجتماعي، وتصوير لبعض الأحاسيس والعواطف»(1). في جمل قصيرة وحادة تنقل لك الحدث أو تصور لك الشخصية في ضربات متتابعة.
في قصة "نهاية انتظار طال" لزكريا تامر يكشف القاص وجهاً بشعاً من أوجه الاستغلال، استغلالِ الأبناءِ لثروةِ الأبِ، حين يحكي لنا حكاية الأب الذي مات فاستولى أبناؤه على معطفه وقميصه وبنطاله وجواربه وثيابه الداخلية وحذائه، فاستحيا من عريه، وعندما سألهم بصوت متهدج عمن سيرث ديونه، تبادلوا النظرات المتعجبة، واتفقوا على أن ما سمعوه ليس سوى وهم، فالميت لا يستطيع التكلم بعد موته"(2).
وفي قصة «بلادة!!» لمنى العجمي تصور عدم التواصل بين الزوجين داخل بيت الزوجية في هذه القصة / اللوحة:
«أعلن صوت المفاتيح عن دخوله للبيتِ وكالعادة لم يجد من يستقبله فتوجه مباشرة إلى المائدة ليجدها جالسة في مكانها، وكأنها لم تتحرك منذ الصباح غير أن ألوان الطعام وشت بالجديد الذي حدث، تمتم ببعض الأسئلة ردت عليها باقتضاب أغراه بالصمت، بعد محاولات فاشلة لبث الروح في المكان توجه إلى سرير يجيد فوقه غسل الموتى"(3)..
وفي قصة «شموع الفراولة» لفوزية الشدادي تتناول الطلاق الذي ارتفعت وتيرته في الأعوام الأخيرة في البلاد العربية، من خلال لقاء مطلقة بطليقها، وتبادلهما المشاعر الإنسانية، وكأن المرأة تندم على هذا الطلاق الذي كان وليد لحظات غضب حمقاء. تتناول الساردةُ ذلك من خلال لحظة لقاء عابرة في صالة ألعاب، وتتذكّر أيامهما الجميلة معاً، وكلماتهما الرقيقة، وعالمهما الواحد قبل أن يحدث الطلاق:
«تيبست قدماي .. كان أمامي . مازال كما هو، وسيم بشاربه الخفيف، وغترته البيضاء الناصعة. كنا في صالة ألعاب مزدحمة، والصراخ والإضاءات تتوهج وتخبو .. كلها تذكرني بليلة زفافي به؛ لم تبرح عيناي ساحة عينيه توشوشني فأنا أجيد قراءتهما لم أكترث بطفله الذي يحمله، أو بزوجته التي خلفه، تقدمت أكثر: هل أسلم عليه وأسأله عن صوري المعلقة في حائط مكتبه ؟؟؟ ..لا. لن يكون هذا مناسباً له الآن .. هل عرفني وأنا متدثرة بهذا اللثام؟ إنه يبادلني الابتسامة!! كل ما أريده الآن أن أتأكد بأنه أمامي .. اقتربت، حشرت يدي بيده .. ضغطها بكل دفء ..عندها سالت دماء قلبي بغزارة، خرجت من أظافر قدمي .. كتبت له: هذا الدفء هو ما أريده منك، ولا أريد المزيد ..
ياه!!!
مازال يفكر بي بعد كل تلك السنوات من الطلاق ..كم أتمنى أن هذا الطفل كان مني .. ليتركنا الناس بهدوء .. هل أتجاهل الناس من حولنا وأفرش شعري على صدره كما كنت أفعل سابقا؟؟ .. جلس مع زوجته وطفله وكوب الشاي الحار بين يديه .. جلست في الكرسي القريب منه أريد سماع صوته .. أريد أن أملأ صدري بهواء عطره .. كان يسترق النظر لي بين كل رشفة و أخرى ..
ماذا سيضر هذا العالم لو سرقت منه لحظة حيث غرفتي وشموع الفراولة عندما تتقارب أنفاسنا ؟!! سيعيد عليّ إعلانه بأنني سيدة النساء، وطفلته !!!
ماذا سيضر البشر أن آخذ أنامله الصغيرة، و أمررها على شفتي حيث مازال الشوق يشعلها.
أطفئت الأنوار .. خرج الجميع وأنا مازلت أمام طاولته .. حملت كأسه الفارغة ، ولملمت رائحة عطره في صدري وعدت حيث بيت آخي »(4).
وفي قصة «المشنوق» لمحمد البشيِّر نرى تفاسير (اجتماعية) مختلفة لكاتب قصة وُجِد مشنوقاً، وإن كانت الحقيقة غير ذلك، لكن في هذا السرد تبرز مواقف المجتمع وأحكامها على الفرد، التي تجعله في النهاية متكيفاً اجتماعيا، فيعيش. أو غير قادر على التكيف الاجتماعي، فينتحر أو يموت اجتماعيا!
« وُجِدَ معلقاً بحبل في سقف غرفته المهملة، وجهه مزرق وأطراف أصابع يديه المتشبثة عبثاً تحاول ثنيه.
يقول جاره إنه انتحر هرباً من الدائنين فطالما خلعوا بابه طرقاً ولم يعودوا إلا بوعود، وأهل زوجته يحمدون الله أنه لم ينتحر إلا بعد أن طلق ابنتهم، فهو لم يفلح زوجاً ولا أباً، ولا يستحق هذين اللقبين؛ أحد المارة صرح بأنه كان منحرفاً – ستر الله عليه – وهذه نهاية مطاف المنحرفين، وشاب ظهرت عليه سمات الصلاح حذر من الإعراض عن ذكر الله، وسرد هذه القصة للعظة والعبرة، وفي مجلس العزاء صعد صوت (يتحسب) على من كان السبب، وآخر يثني خيراً ويتذكر ابتسامة الفقيد اللامعة مبددة ظلمة البؤس وطاردة لخفافيش معاناته المنفردة»(5).
وتكون الرؤية الاجتماعية ـ غالباً ـ من خلال أبطال فقراء ومحبطين ومأزومين، ولكنهم يحبون الحياة، ويحلمون، ويجدون وقتاً ليصنعوا سعادتهم الخاصة حتى يتوهّموا أنهم يعيشون ويحْيَوْن!
وهاهو بطل قصة «الحلم» لوائل وجدي رغم أنه مأزوم، فإن إيمانه يبسُط عليه ظلاً من الطمأنينة والهدوءِ النفسي:
«الشمسُ تغربُ باكية .. يقف حائراً .. البرودةُ تتسربُ في أوصاله .. يتدثَّر بالثرى، ويلتحفُ به .. عيناه مغرورقتان بالدمع، ويرنو إلى السماء، ويجأرُ بالدعاء. استند إلى حائط قريب. وضع يده تحت رأسه. الظلام يتلاشى رويداً رويـداً. ضياء يغشى الأبصار .. أريج عطر ينبعثُ في الأفق .. أشجار وارفة .. وجوه باسمة، مستبشرة»(6).
***
بقي أن نشير إلى بعض المزالق في طريق القصة القصيرة جدا: ومنها افتقاد الحدث المركزي، وانفلات اللحظة القصصية، حيثُ ينبغي أن تكون القصة القصيرة جدا متماسكة وثرية من حيث البناء والدلالة، وتُعطينا الإشباع الفني الذي نشعر به عقب قراءة لأي تجربة فنية صادقة في فنون القول (القصيدة، المسرحية، المقالة الأدبية ... وغيرها).
لكن من الملاحظ على بعض القصص القصيرة جدا أنها لا تُعطينا هذا الإشباع لأنها تفتقد الحدث أو الشخصية، وهما عماد القصة القصيرة جدا، فنجد القصة القصيرة تنهمر في ألفاظ تضعها على حافة المقالة الأدبية القصيرة أو الخاطرة ـ لا في قلب القص ـ ومنه هذا النص بعنوان «مداخلة» لفهد العتيق:
«لماذا تبدو صامتاً دائماً؟ ربما في أغلب الأحيان، أو أنني أراك هكذا.. رغم ما أتذكره من ضحكات وتراشق وأسئلة دارت بيننا طويلاً، عندما كنا نسهر في بيتكم الطيني الواطئ ذي(7) الغرف الصغيرة المظلمة .. هل تذكر؟ وكانت أمك ترتق لنا ثيابنا الممزقة .. كانت أوقاتا رائعة.
لكنك لا زلت تبدو لي صامتاً وحزيناً وممزقاً .. يا صديقي بعد لم نطرح أسئلتنا، أسئلتنا لازالت مشوهة .. أسئلتنا لازالت معلقة»(8).
إن النص ينفتح على التأويلات المختلفة من تمزيق الثياب إلى تمزيق الشخصية، لكنه يفتقر إلى الحدث المسبب في هذا التمزيق الذي يحث للقصة أثراً نبحث عنه، فلا نجده.
ولذلك فان الكتابة في مثل هذا النوع من القصص، تستوجب قدرا كبيرا من إتقان البناء، وعدم الوقوع في غواية الانهمار اللغوي ـ عكس التكثيف ـ وتستوجب المحافظة - كذلك - علي إبراز الدلالة التي يحدثها النص من خلال حدث محدد، وموجز، ومركز.
وفي كثير من نماذج هذا النوع، لا يستطيع القاص أن يحافظ على الإمساك باللحظة القصصية، أو السيطرة عليها، فنرى النص يجئ قريباً من النادرة أو النكتة منه إلى القصة القصيرة.
ومن ذلك نص لهيمى المفتي بعنوان «نسخ مكررة»، وهذا نصه:
«سار الابن على خطى أبيه، وسار الحفيد على خطى أبيه وجده، ثم اقتفى ابن الحفيد آثارهم، وتبعه ابنه، وحفيده وابن حفيده..
قطع أفراد العائلة طريقاً واحداً، زاروا الأماكن ذاتها، تعثروا بنفس المطبات، تجاوزوا عقبات متشابهة، ووصل -من عاش منهم -إلى نفس النهاية. وعلى الرغم من مرور زمن طويل، وتتابع عدد كبير من أجيال العائلة، لكنهم جميعاً لم يتركوا في الأرض سوى آثار أقدام رجل واحد.. »(9).
إنها تقترب من الحكمة البالغة، لا من فن القص.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ نص بعنوان «بريق» لوائل وجدي:
« .. يجثو على الصخر، وترنو عيناه إلى زرقة البحر .. المدى البعيد .. بعيد، ويأخذ الموج بتلابيب فؤاده .. شيء ما يستبيه .. يعود إلى حضن جدته، وتحدثه محذرة من عروس البحر وعالمها .. يبتسم إليها، ويغفو» (10).
إنه نص قصير، وكان يمكن أن ينفتح لدلالات أخرى، لو أضاف عدة ألفاظ ، بينت لنا أن هذا المتحدث مع زوجته شاب، وبدلاً من الإغفاء، جعله ينتظر. إنها كانت ستعمل مفارقة جميلة طرفها الأول الجدة التي تحدث حفيها الشاب عن عروس البحر وتخيفه منها، والطرف الثاني: الشاب الذي ينتظر أن تكون خرافة جدته حقا، وتأتي عروس البحر.
إن الطول أو القصر في القصة القصيرة ليسا هما المشكلة، ولكن المشكلة هي : كيف يستطيع القاص أن يتعامل بقصر النفس هذا ـ أو طوله ـ مع مادته القصصية، ومع ذلك يظل مسيطرا علي الشخصية أو اللحظة القصصية، بحيث لا تفلت منه، أو تكون عبئاً على عمله السردي المكتنز، أو تجعله يخرج من إطار القص ليتماس مع أشكال أخرى كالحمة، أو النكتة، أو النادرة.
كما أن بعض نصوص القصص القصيرة جدا تفقد تكثيفها وترميزها، وتتحول إلى بوق دعاوي يريد منه الكاتب أن يُعبر عن فكرته التي يريدها، ونقدم لذلك نصين:
النص الأول لأحمد جاسم الحسين، بعنوان «انتحار حائط!»، وهذا نصه:
«أنا الموقع أدناه حائط بن طين أقرّ وأنا بكامل قواي النفسية أنني قررت الانتحار عامداً متعمداً 00إذا أردتم معرفة السبب الحقيقي لانتحاري فلا تكترثوا بأقوال المهندسين الذين سيتبارون في الحديث عن فساد المواد التي أنشئت منها 00 لكن عليكم فقط أن تفتحوا ذاكرتي:
- أتيت متأخراً عن اليوم المحدد لأن الضابط المسؤول عني منعني من المجيء آنئذ00
- حدث مثل هذا من قبل 00عادة تترك لي موعداً آخريناسبها000
لأرى ماذا تركت لي على الحائط000
بدأتُ بالتنقيب فوجدت مجموعة أوراق مبعثرة 000
(«حبيبي الغالي 000 لن أستطيع الحضور بعد الآن00 أبي سيزوجني من زميله بالعمل اليوم إن تمكنتَ من الحضور تعال 00سنذهب إلى المحكمة لنتزوج ؟)» (11).
إن الحائط هنا ينتحر مما عاناه من بني البشر!!، وهي موعظة بالغة جديرة بالتسجيل، لكن الكاتب لم يستطع أن يُمسك بعناصر الفن القصصي، فوقع في تسطيح لاحظناه في تبعثر الأحداث وعدم تآلفها لتصنع نصا محكماً ذا أثر محدد.
والنص الثاني لعبد الله مهدي بعنوان «سيد درويش»، وهو يدور حول التشرذم والانشغال بالهموم العامة عن هموم الوطن. ويقول فيه:
« كل يوم أعبر محطة التمثال ببنها للكلية .. لا أحد يهتم بالتمثال، شروخ واضحة بقاعدته، لا أحد يلتفت أو ينتبه ..
في يوم اثنين، محطة التمثال مكتظة برواد السوق، اندهش الجميع لنزول دم أسود وقيح من شروخ قاعدته .. الكل في حيرة، كيف ؟؟ تمثال ينزف دماً وقيحاً . . لم يستطع أحد الاقتراب إلا أنا، اندفعت مقترباً منه غاصت قدماي في الدم والقيح ..وصلت إليه، سمعته يئن بلحن فنان الشعب الخالد (سيد درويش)، (قوم يا مصري) .. طالبت الجميع أن يرددوا ورائي .. لم يترددوا في الاستجابة .. بدأت شروخه تلتئم ، وتوقف نزيف الدم والقيح» (12).
فهل مجرد الغناء بلحن فنان مصري سيجعل التمثال يلتئم وتكف جروحه عن النزيف؟!!
***
وبعد؛
ففي نهاية هذه المقاربة النقدية (فنيا وموضوعياً) لفن جديد، هو فن القصة القصيرة جدا نرى أنه نبتت من الخبر في تراثنا، وأنه يعتمد على اللغة المكتنزة التي تخلو من الحشو والثرثرة، وأنه في نماذجه الجيدة يؤكِّد قدرته على أن يكون عالماً مصغراً لحياتنا، وأن فضاءه يتنوع بين القرية والمدينة، وشخوصه تتنوع، وأنه يقدم نماذج مترعة بالجمال إذا كتبت نصوصه القصيرة بلغة قادرة على التعبير والإيحاء، وأن بعض نماذجه التي تُنشر الآن في سبيلها إلى الاكتمال، وإن كانت هناك كثير من نماذجه التي تُنشر في الصحف أو في مجموعات ـ للأسف ـ تبتعد عن فن القصة بقدر ما تقترب من فن الخاطرة، أو اللوحة القلمية!
والله من وراء القصد.
***
الهوامش:
ـــــــــــ
(1) محمد المبارك: فن القصص في كتاب «البخلاء» للجاحظ، ط2، دار الفكر، دمشق 1384هـ-1965م، ص27.
(2) زكريا تامر: الحصرم، ص179.
(3) منى العجمي: بلادة!!!، موقع القصة العربية، في 21/4/2003م.
(4) فوزية الشدادي: شموع الفراولة، موقع القصة العربية على الإنترنت، في 8/6/2002م.
(5) محمد البشيِّر: المشنوق، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 16/11/2003م.
(6) وائل وجدي: دبيب الروح، مكتب النيل للطبع والنشر، القاهرة 1999م، ص29.
(7) في النص: ذو، والصواب ما أثبتنا.
(8) فهد العتيق: أظافر صغيرة وناعمة، ط1، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1418هـ-1997م، ص78.
(9) هيمى المفتي: قصص قصيرة جدا، موقع «أصوات معاصرة» على الإنترنت، في 1/2/2003م.
(10) وائل وجدي: دبيب الروح، ص30.
(11) أحمد جاسم الحسين: انتحار حائط، موقع القصة العربية ـ على الإنترنت ـ في 1/9/2002م.
(12) عبد الله مهدي: سيد درويش، موقع «أصوات معاصرة» على الإنترنت، في 1/8/2002م.
***
المصادر والمراجع
ــــــــــ
الأبشيهي (شهاب الدين محمد بن أحمد):
1-المستـطرف في كل فن مستظرف، تحقيق: د. مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت 1986م.
د. أحمد جاسم الحسين:
2-سوء تشخيص، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 17/1/2003م.
3-انتحار حائط، موقع «القصة العربية»ـ على الإنترنت ـ في 1/9/2002م.
د. أحمد زكي:
4-في السماء، كتاب الهلال (العدد 603)، مارس 2001م.
د. أحمد عبد العال:
5-شواشي، ط1، أبو المجد للطباعة، القاهرة 2001م.
6-العجوز، ط1، أبو المجد للطباعة، القاهرة 2003م.
ثائر دوري:
7-انتخابات بلدية، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 10/8/2003م
د. جابر عصفور:
8-"أوتار الماء" عمل يستحق التقدير، الأهرام ـ العدد 42470، في 17/3/2003م.
جبير المليحان:
9-الأرض، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 7/7/2002م.
10-رثاء ـ 11، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 3/5/2003م.
11-السجادة، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 24/9/2002م.
12-النجمة، موقع «منتدى القصة العربية» على الإنترنت، في 10/10/2003م.
حورية البدري:
13-للبيع، موقع القصة العربية» على الإنترنت، في 20/3/2003م.
14-المايسترو، مجلة «المنتدى»، العدد (196)، نوفمبر 1999م.
خالد السروجي
15-وحشة، موقع «القصة العربية»، على الإنترنت، في 3/5/2004م.
د.خليل الموسى:
16-من مصطلـحات النقد الأدبي : "الشعريّة"، جريدة الأسبوع الأدبي ـ العدد 774 تاريخ 8/9/2001م.
زكريا تامر:
17-الحصرم، دار رياض الريس، بيروت 2000م.
سمير الفيل:
18-زهرة الورد الجوري، موقع القصة العربية» على الإنترنت، في 14/5/2004م
د. صلاح فضل:
19-أساليب السرد في الرواية العربية، سلسلة «كتابات نقدية»، العدد (36)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1995م.
عدنان كنفاني:
20-فيلم أمريكي حار، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 31/8/2002م.
21-القصّة القصيرة "جدّاً" إشكالية في النصّ، أم جدليّة حول المصطلح.!، موقع «عدنان كنفاني» على الإنترنت.
فهد العتيق:
22-أظافر صغيرة وناعمة، ط1، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1418هـ-1997م.
23-ربما يأتون، موقع القصة العربية 1/7/2002م.
فوزية الشدادي:
24-خيانة، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 8/6/2002م.
25-شموع الفراولة، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 8/6/2002م.
عبد الله مهدي:
26-سيد درويش، موقع «أصوات معاصرة» على الإنترنت، في 1/8/2002م.
د. علي عشري زايد:
27-عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ط2، مكتبة دار العلوم، القاهرة 1979م.
مجدي جعفر:
28-أصداء رحلة شاب على مشارف الوصول، العدد (52)، سلسلة «أصوات مُعاصرة»، يناير 2000م.
29-سعاد حسني، موقع «أصوات معاصرة» على الإنترنت، في 1/8/2002م.
محمد البشيِّر
30-المشنوق، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 16/11/2003م.
محمد المبارك:
31-فـن القصص في كتاب «البخلاء» للجاحظ، ط2، دار الفكر، دمشق 1384هـ - 1965م.
منيرة الأزيمع:
32-المسدس، موقع القصة العربية، في 20/4/2003م.
منى العجمي:
33-بلادة، موقع القصة العربية، في 21/4/2003م.
د. نبيلة إبراهيم:
34-مستــويات لعبة اللغة في القص الروائي، مجلة «إبداع»، س 2، ع 5، مايو 1984م.
نزيه الشوفي:
35-نظرة ما: القصة القصيـرة جـدا... والتنظير الفاقع جداً، دمشق الأسبوعي، ثقافة الثلاثاء 4 أيلول 2001م.
د. هيام عبد الهادي صالح:
36-وللجبل أغان أخرى، سلسلة «أصوات معاصرة»، العدد (69)، دار الإسلام للطباعة، المنصورة ـ مايو 2001م.
هيمى المفتي:
37-قصص قصيرة جدا، موقع «أصوات معاصرة » ـ على الإنترنت ـ في 1/2/2003م.
وائل وجدي:
38-الحنين، سلسـلة «أصوات معاصرة»، العدد (94)، دار الإسلام للطباعة، المنصورة 2002م.
39-دبيب الروح، مكتب النيل للطبع والنشر، القاهرة 1999م.
وفاء العمير:
40-تعليق على قصة جبير المليحان «رثاء ـ 11»، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 4/5/2003م.
ياسر علي:
41-عندما يموت الحب، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الزقازيق 2000م.
د. يوسف حطيني:
42-القصة القصيرة جـدا عند زكريا تامر، الأسبوع الأدبي، العدد (778)، في 6/10/2001م.
***
[حدثت بعض إضافات في "4- جمالية الزمان:"، وهذه هي بعد التعديل النهائي: ]
***
4- جمالية الزمان:
للزمن سطوته التي لا تُقاوم في نصوص القصة القصيرة جدا، وفي مقابل الرواية والقصة القصيرة اللتين تهتمان بجمالية المكان، فإن كاتب القصة القصيرة جدا يعتني بالزمان ويستخدمه لإبراز التغيرات في المكان والشخصيات؛ ويُمكننا أن نمثل لذلك بقصة ياسر علي «البوابة» التي تتناول لحظة خروج الأساتذة من مقار لجان التصحيح في الشهادات العامة (كالشهادتين الإعدادية والثانوية)، ويبدو أنه كتبها بعد أن أصبح هناك فصلان دراسيان في العام (في يناير، ويوليو). ونص هذه القصة:
ما أصعب يوم الحشر!
الساعة ركبها شيطان رجيم!
لا تُريد عقاربها الوقحة أن تقترب من الثانية والنصف!
الأجساد المتلاصقة اقتربت رائحتها من درجة العفونة.
عيون العشرات من الرجال المحترمين معلقة بالبوابة السمراء الضخمة التي تُشبه وحش الأساطير القديمة!
الشمس رغم حرارتها الرقيقة تلسع الرؤوس المكتظة بدرجات التصحيح.
المنظر من أعلى سيكون أروع سخرية!
خاصة في الطابق الرابع، حين يشب ابن الخامسة وقد هاله منظر الواقفين أمام البوابة!
أمه بجانبه، تمضغ متعتها بهؤلاء المعذبين .. وقد تركت شعرها لنسيم يناير يعبث به، ويداها تستقران على رأس الصغير!، ولسان حالها يقول: أرجو .. ألا تكون مثل هؤلاء!»(1).
الزمان يمثل كابوساً ضاغطاً على المصححين، واللحظات ثقيلة، تحول المكان إلى سجن.
وفي القصة ـ رغم اهتمامها بإبراز أثر الزمن في مطلع القصة ـ مفارقة تصويرية طرفها الأول هؤلاء المدرسون المأزومون الذين انتهت فترة تصحيحهم، ومع هذا فمازالت البوابة السوداء الضخمة مغلقة، وطرفها الثاني هذه الأم الشابة التي تقف بجوار طفلها الصغير، ابنِ الأعوامِ الخمسة، وترجو لـه حين يكبر ألا يُصبح مدرساً كهؤلاء المدرسين.
وقد يتناول السارد موقف الشخصية من الزمن مبرزاً سطوته على الشخصية الرئيسة في نصه، كما فعل خالد السروجي في قصة «وحشة»، فالبطل يعاني من الوحدة والخوف
« الدنيا ليل وبرد.
وابن العاشرة يمشى وحيداً ..
نباح الكلاب يكاد يوقف دقات قلبه من الرعب .. والبرد يغزو جسده النحيل بسهامه النافذة الموجعة … ليل الشتاء قاسٍ لا يرحم من لا مأوى له .. والوحدة في الشوارع الخاوية حيث استكان الناس في بيوتهم أشد قسوة .. منذ الظهيرة عندما طرده "المعلم" من الورشة كانت تتراءى له مشاهد الليل القاسي: الظلمة .. والبرودة .. ونباح الكلاب .. كانت الورشة بيته حيث لا بيت له ولا أهل»(2).
والوصف يوضح مدى الوحشة والخوف من الظلمة والبرودة ونباح الكلاب، لكن ذلك من خلال التقاطع مع الزمن، فالبطل هنا (ابن العاشرة)، و(ليل الشتاء قاس)، و(الدنيا ليل).
وقد يبرز فعل الزمن جليا عن طريق مفارقة بين موقفين مرت بينهما عدة أعوام لشخصية أو أكثر، وهو ما فعله سمير الفيل في قصته « زهرة الورد الجوري» راصداً التحولات التي أصابت رجلاً وامرأة بين زمن الخطوبة الجميل، وزمن الطلاق الذي يطاردهما:
«على المنضدة الدائرية مفرش مشغول بزهور التمرحنة بزهورها الصفراء المكتنزة، وهما جالسان في أقصى جنبات النادي. بالحتم يذكر سنوات الخطوبة التي مرت كالنسمة الرقيقة. مساء كل جمعة كان يذهب إليها في بيت العائلة، ويجلس معها على أريكة ناعمة لها كسوة من القطيفة الزرقاء، ينظران إلى أطفال الحي من نافذة تطل على الشارع. كان يمسك يدها الدافئة دوما، ويهمس في أذنها: سيكون أول إنجابنا بنتا لها وجه القمر مثلك. ترد عليه بخجل متورد: أشعر أنه سيكون ولدا، له نفس سمرتك.
جاء الجرسون، فمسحت دمعة انحدرت على وجنتها، فيما لملم أوراقه، وطمأنها أن كل الأمور تسير في مسارها الصحيح. سيرسل لها ورقة الطلاق على عنوان البيت لا العمل حتى لا يحرجها. هزت رأسها في انكسار تشكره. اغتصب ضحكة وهو يتمتم: كل شيء قسمة ونصيب. قبل أن يرتبا المسألة تماما جاءت نسمة وخالد. اندفعا في أحضان الأم، ونظرا بعتاب مكتوم نحو الأب الذي كان يقطف بأصابع مرتجفة بتلات الورد الجورى الحمراء في ارتباك ملحوظ!»(3).
لقد كان في زمن الحب (الخطوبة ـ قبل الزواج) يجلسان على أريكة ناعمة لها كسوة من القطيفة الزرقاء، وينظران بأمل إلى المستقبل والحياة «إلى أطفال الحي من نافذة تطل على الشارع». وكان للحب معناه، فلقد «كان يمسك يدها الدافئة دوما، ويهمس في أذنها: سيكون أول إنجابنا بنتا لها وجه القمر مثلك. ترد عليه بخجل متورد: أشعر أنه سيكون ولدا، له نفس سمرتك».
لقد كان كل واحد منهما يفضل الآخر على نفسه، ويتمنى أن يكون المولود صورة من الآخر الذي يتجسد فيه الأمل، والحب والحياة.
لكن الزمان يمر، ولا بد إن مشكلات كثيرة صبت في نهر الحياة، وهاهو الطلاق يتهددهما، وهاهو المحب القديم «يقطف (الأوفق: يُقطَّع، رمزاً لقطع العلاقة وتمزيقها، رغم وجود الولد والبنت اللذين حلما بهما) بأصابع مرتجفة بتلات الورد الجورى الحمراء في ارتباك ملحوظ!»، لقد فعل الزمن فعلته. وأصبحت للحاضر إشكالاته وخيباته وانكساراته، التي ستُجسِّد الطلاق حلا لا مفر منه!
وقد يبرز أثر الزمن من خلال ومضة أو إشارة ـ لكنها تشير في دلالة قاطعة للزمن ـ ومن ذلك قصة «مداخلة» لفهد العتيق:
«لماذا تبدو صامتاً دائماً؟ ربما في أغلب الأحيان، أو أنني أراك هكذا .. رغم ما أتذكره من ضحكات وأسئلة دارت بيننا طويلاً، عندما كنا نسهر في بيتكم الطيني الواطئ، ذي الغرفة الصغيرة المظلمة .. هل تذكر؟ وكانت أمك ترتق لنا ثيابنا الممزقة .. كانت أوقاتاً رائعة.
لكنك لازلت تبدو لي صامتاً وحزيناً وممزقاً .. يا صديقي نحن بعد لم نطرح أسئلتنا، أسئلتنا لازالت مشوهة .. أسئلتنا لازالت معلقة»(4).
فلابد أن الصمت هنا (مقابل الضحكات والأسئلة في الماضي) تم بفعل الزمن وما عاناه فيه.
ومن ثم تتسع القصة القصيرة جدا لرصد التحولات الزمانية في الشخصية أو الحدث أو إيقاع الفعل (رتابته أو تسرعه).
ــــــ
الهوامش:
ــــــــــــ
(1) ياسر علي: عندما يموت الحب، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الزقازيق 2000م، ص59.
(2) خالد السروجي: وحشة، موقع «القصة العربية»، على الإنترنت، في 3/5/2004م.
(3) سمير الفيل: زهرة الورد الجوري، موقع «القصة العربية»، على الإنترنت، في 14/5/2004م.
(4) فهد العتيق: أظافر صغيرة وناعمة، ط1، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1418هـ-1997م، ص78.
[تم البحث بعون الله، وهذه هي صورته النهائية بين أيدي القراء والأدباء والنقاد المحترمين]