الرحلة التتويجية إلى العاصمة الأنكليزية للحسن بن محمد الغسال
تسجيل تحولات الآخر وثبات الذات
محمود عبد الغني
انطلق الحسن بن محمد الغسال من طنجة إلى أنكلترا، ضمن وفد رسمي يترأسه السفير عبد الرحمن بن عبد الصادق، لحضور حفل تتويج الملك إدوارد السابع، وقد رشح المولى عبد العزيز السفير بن عبد الصادق نيابة عنه لحضور الحفل، وتهنئة سلالة الملكة فكتورية.
وبعد عودة الغسال يوم 6 تموز (يوليو) إلى طنجة، شرع في كتابة رحلته الجميلة "الرحلة التتويجية إلى عاصمة البلاد الأنكليزية"، تحقيق الدكتور عبد الرحيم مودن، والنص رَصْد لما رآه الرحالة في الديار الأنكليزية، وقد سبق أن نُشر مترجما إلى الفرنسية سنة 1908.
ثم نشره الأستاذ عبد الهادي التازي سنة 1979 في مجلة البحث العلمي ) عدد مزدوج 29/30، الرباط 1979)، وهو الإصدار الذي لا حظ عليه الدكتور المودن افتقاره إلى الإشارات الدقيقة، ثقافية ولغوية، كان نص الغسال في أمس الحاجة إليها،
إضافة إلى افتقاد نشر الأستاذ عبد الهادي التازي للتأطير التاريخي والأدبي، مكتفيا بديباجة عامة حول العلاقات المغربية البريطانية، كما أن الأخطاء المطبعية والسهوية شوشت كثيرا على النص، وهي الأخطاء التي لم ينج منها نص الرحلة، وهو منشور حديثا عن دار السويدي للنشر والتوزيع بأبي ظبي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، والمسؤولية في ذلك تقع علي عاتق المصحح الذي قال عنه الجاحظ: يصلح الفاسد ويزيد الصالح صلاحا.
إننا بازاء رحلة، على الرغم من صغر حجمها، استطاعت أن تضيء جانبا من علاقة المغربي بآخره في القرن التاسع عشر. حيث كانت السلطة المخزنية المغربية محكومة بجدلية الانفتاح/ الانغلاق على الأجنبي، الذي وصفته جل النصوص الرحلية المغربية بالكافر.
لم يكن الغسال شخصا مجهولا في الديبلوماسية المغربية، فقد سبق أن حضر مؤتمر المندوبين بالدار البيضاء بغية إيجاد حل للمطالب الأوربية لمتصاعدة، ومثل السلطة المخزنية، رفقة السفير الحاج عبد الرحمن عبد الصادق، في زيارة لملاقاة العاهل البريطاني إدوارد السابع أثناء زيارته لجبل طارق، المستعمرة البريطانية الاستراتيجية، وعُيِّن ضمن وفد طنجي اختاره السلطان مولاي عبد العزيز في مجلس الأعيان لمحاورة السفير الفرنسي حول برنامجه المقترح لإنجاز إصلاحات تحديثية واضحة الأهداف.
وفي عهد مولاي عبد الحفيظ، عُيِّن الغسال في لجنة التعويضات سنة 1907 كاتبا بعد انتفاضة الدار البيضاء سنة 1906.
ومن أنشطة الغسال السياسية تمثيله للسلطة المخزنية في لجنة دراسة قضايا الحدود المغربية الجزائرية، ولجنة المنازعات بين السكان المغاربة والمعمرين الأجانب، وفي لجنة الإطلاع على ديون الأجانب دار النيابة، وهي مؤسسة مخزنية وجدت في شمال المغرب.
إضافة إلى أنه كان من المستقبلين لرئيس جمهورية فرنسا أثناء زيارته للدار البيضاء والرباط، وأما وفاته فكانت في مراكش التي ارتبط بها وبأهلها ارتباطا فكريا وروحيا، ولرحلته "الرحلة المراكشية" أو التعريف بالحضرة المراكشية ولمن وقفت عليه من الأولياء والعلماء الأجلة 1900م تعكس قوة هذا الارتباط.
وهو نص، لا شك، سيعمل الدكتور المودن على إخراجه إلى الوجود لإضاءة بقية مؤلفات ورسائل الغسال التي تزيد عن الخمسين، بين مؤلف ورسالة.
يضاف اسم الغسال إلى العديد من الرحالة المغاربة، في القرن التاسع عشر، الذين انتقلوا إلى أنكلترا، وأبانت نصوصهم عن تعامل خاص مع المكان، وعن حساسية متعددة في استقبال آخرهم، وفي مقاربة الواقعي والوقائعي الملموس بالمتخيل، فالغسال في رحلته يرصد بشكل مفصل وجزئي مرئياته ومشاهداته، ومعجمه يجمع بين الفصيح واللهجي، وذلك ما أسماه الدكتور المودن بالفصيح المبسط واللهجي الخاص، أي لهجة أهل الشمال مثل مقتضيات (أي حاجيات تقضي ـ كنابيس) من الكلمة الأجنبية Canape، أي الأرائك) ـ صاير (النفقات والمصاريف) ـ شلة (أي الكراسي من الاسبانية Silla الخ).
والنص غني أيضا بالمصطلحات الأجنبية، بين التعريب والتعجيم. نذكر علي سبيل المثال: (أسطيشن) أي محطة، (أكريت بريطن) أي بريطانيا العظمي، (بزيطة) أي زيارة، (بابورات) أي القطارات والسفن.. الخ.
ونضيف إلى ملامح الخاصية الواقعية أن رحلة الغسال تتميز أيضا بحس جدالي يفرضها الآخر الذي تم اللقاء به، مثلها في ذلك جميع الرحلات السفارية التي يكون هاجسها العميق هو الحس الحواري المتوجس من بدع الآخر الذي كانت تقف أمامه النخبة المغربية المتأرجحة بين المحافظة والتجديد حائرة أمامه هو الذي كشف انحطاطها التاريخي وفساد أنظمتها المجتمعية.
تخضع الرحلة التتويجية الي عاصمة البلاد الانكليزية الي بنية تعبيرية تدعم ميزة الواقعية المشار اليها، فهي رحلة متحررة من القيود البلاغية، مرتبطة باليومي الذي يأخذ بكل اهتمام وتركيز الغسال، وذلك جعلها تخضع لطابع المذكرات والتوثيق التسجيلي في غالب الأحيان، وذلك ما جعل الرحلة تلامس قضايا الاختلاف بين الأنكليز والمغاربة، من خلال ما اصطلح عليه المحقق بالوصف المقارن غير المباشر، ومن ذلك حديثه عن الغرف السياسية داخل مجمع الأمة أو داخل البرلمان الانكليزي، ولعل هذا الجانب التوثيقي هو من العناصر المميزة لرحلة الغســـال، ومن مصادر متعته، فرصد تحولات أوروبا، من خلال انكلترا، في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والرجوع المبطن الي تحولات الأنا العربية/المغربية ينمي الحس المقارن.
ولا يخفى الدور الوظيفي لهذا الرصد، تتحدث الرحلة عن انتشار الفابريكات والشركات الكمبانية، وازدهار التجارة، والطاقة اليدوية والغازية والكهربائية التي جعلت مسار أنكلترا يتجه نحو التصنيع.
ولكي يجد المحقق عذرا للغسال في الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها (نحوية، لغوية، املائية) أكد أن لغة الرحالة استخدمت كوسيلة دون أن تكون غاية، فأمامه كانت تتسارع المرئيات المفاجئة أمام بصره، فهو من الكتاب المخزنيين، وليس كاتبا محترفا بالمعني الثقافي، الشيء الذي جعله يبتعد عن أساليب البيان الشائعة في الكتابة الديوانية التي مارسها فقهاء وكتاب السلطة آنذاك، وحتى عندما كان يستخدم المعجم الوظيفي كان يطعمه بشروح وتفسيرات، يكتب: الكبطان أعني قائد المرسي، (الكوجيس) أعني (عربية) كانت معدة لركوب السفير (ص 39)، وغير ذه الامثلة كثير، فالرحالة كان يقرأ الواقع وليس النص، ومستويات هذه الواقعية برزت أولا وأخيرا في المستوي اللغوي الذي أعطى أولوية كبري لتشكلات الواقع وأرجأ تشكلات الكتابة.
المصدر
حياكم الله
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com