أربع مقالات من بواكير نقد نجيب محفوظ:
نقدم هنا أربع مقالات للعلامة وديع فلسطين (وهو واحد من أبرز كتاب المقالة في عصرنا) كتبها عن بواكير نجيب محفوظ، ونشرها علي شلش في كتابه : نجيب محفوظ: الطريق والصدى).***
1-رادوبيس
للأستاذ الكبير: وديع فلسطين(1)
لستُ أدري أكان في تاريخ مصر الفرعونية غانية باسم «رادوبيس» أم أن خيال الأستاذ نجيب محفوظ ابتدعها في القصة الرائعة التي أخرجها أخيراً. وأيا كان الجواب، فإن القاص قد جعل لهذه الغانية كياناً ووجودا لا يُنكران. وما قرب الشقة بين الحياة والأسطورة أن حياة المرء تستحيل بعد موته إلى رواية تُروى شأنها شأن مئات القصص التي تُبدعها أذهان كتاب القصة الروائيين.
كانت رادوبيس غانية تحوم حولها الغربان من بني آدم، وكان مستقرها في قصر شامخ أنشأته في جزيرة تتوسّط مجرى النيل. وبينما كانت تستحم ذات أصيل في بركة ماء قصرها حلق في الفضاء نسر كاسر، وهوى على حين بغتة فاختطف واحدة من نعلي الغادة رادوبيس وولّى هارباً، ولكن النعل سقطت منه في حضرة فرعون ساعة اجتماعه بكبار رجاله. ودار حديث فرعون وصحبه حول صاحبة هذه النعل، وعرف فرعون أن ما نزل عليه من فوق إنما هو خف يخص الغادة رادوبيس فاتنة أصحاب الجاه وغاوية ذوي الثراء.
وأخذ فرعون يتسقّط أنباءها حتى فاجأها يوماً في قصرها، فكانت له منذ ذلك اليوم صلة بها لما تنقطع، يهرع إليها كل أصيل فيجد فيها مرتعاً لقلبه ومهرباً من تبعاته.
وأوغل فرعون في هواه الجديد، فأولى «نيتو قريس» الملكة دبره، واسترد من الكهنة الأراضي التي كانت قد أُقطعت لهم كي يُنفقها على جارة قلبه، وشُغل بالحب عن أمور الرعية، وكاد له قائده الأول لأنه استلب منه رفيقته رادوبيس التي كانت تؤثره قبل أن تقع على فرعون.
وكان لا مفر من أن تحدث فتنة، فرجال الدين ساخطون لتبديد أراضيهم، والوزراء متبرمون من مسلك فرعون غير الجدي، والملكة غاضبة لإغضاء فرعون عنها وولعه بغادة ليست بغير ماض.
وفي غمار الثورة طاش سهم أطلقه مواطن من كنانته فاستقر في قلب فرعون، وأوصى فرعون بنقل جسمه المهيض إلى حيث تكون عشيقته ليلفظ آخر أنفاسه في محضرها.
وقد كان، فمات فرعون، وشربت رادوبيس السم، وفجعت بموتها قلوب لا سبيل إلى تعزيتها وتأسيتها.
ولقد أجهدت النفس وأنا أقرأ رواية رادوبيس لأقف على خطأ يُخرج الرواية من طابعها الفرعوني إلى طابع العصر الحديث، فخاب مسعاي، ذلك لأن الأستاذ نجيب محفوظ استطاع أن يمحو من ذهنه عقل القرن العشرين ليعيش بعقل آلاف السنين قبل مولد المسيح.
ولكنه إن كان قد جانب خطأ السرد والصياغة فقد أفلتت من قياده بضعة أخطاء في النحو كتأنيث الرأس مع أنه مذكّر، وإضافة الياء إلى « ثوان » في حالة كسرها بكسرتين.
ولكن القارئ رغم هذه الهفوات تأخذه روعة السياق، وجمال التعبير، وسلاسة التفكير، وقوة المنطق، وجودة الحبكة، فيُمسك بتلابيب الرواية حتى يأتي على خاتمتها.
وفي اعتقادي أن هذه الرواية تستطيع أن تُزاحم روايات الغرب إذا هي وجدت من يُعنى بترجمتها إلى لغات الأعاجم. وهي شبيهة إلى حد كبير «بروميو وجولييت» للشاعر شكسبير مع تفاوت في كيفية العرض وتقاليد كل من المجتمعين.
ـــــــــــــــــــــــ
المصدر: نشرت في «الرسالة»، العدد (641)، في 15/10/1945م، وفي «منبر الشرق» في 19/10/1945م، والمقالة هنا منقولة عن «منبر الشرق»، وأُعيد نشرها في كتاب د. علي شلش: نجيب محفوظ: الطريق والصدى)، ص211 ، 212.