2 * القصة والشهود الإلهي:
ثم إن هذه الحقيقة التي أرسيت عليها دعائم القصة القرآنية وهذا الصدق الذي قامت عليه خصائصها وهذا الحق الذي بنيت عليه أركانها هو نفسه الذي بنيت عليه آيات الله كلها، فهذه مستمدة من تلك.. يقول تعالى: ﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (البقرة:252).. فهو ليس الحق المرفوع بالسماع.. أو الحقيقة المعتمدة على روايات من الثقاة في إطار الثقافة الشفهية.. أو على حكايات العارفين من بطون الأسفار والكتب العريقة.. أو أن هذا الحق والحقيقة مما خلده الأثريون أو دونه المؤرخون، أو اكتشفه المستكشفون أو درسه وحلله الأنثروبولوجيون أو نشر حقائقه العلماء المتخصصون.. أو تسامر عليه الرواة والحكاؤون الخرافيون..
بل هو الحق والصدق صدر عن الحق سبحانه ﴿ ذلك بأن الله هو الحق (الحج: 6).. وهو سبحانه الذي كان بمعية الأحداث كلها يقصها ويحكيها ويرويها انطلاقا من الحضور الجليل والشهود العظيم والوجود الكريم، وانطلاقا من العلم الواسع والإحاطة الشاملة، أي انطلاقا من وجوده سبحانه وإشرافه تعالى وعلمه المطلق بكل ما يقع وما من شأنه أن يحصل.. ونقل ذلك بكل علم وصدق وأمانة وإحاطة لأن هذه من صفاته سبحانه.. يقول تعالى:﴿ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (الأعراف:6).. فالغياب كعدم العلم تماما، وليسا جائزين في حقه سبحانه، وكيف يكون غائبا وهو الذي أوحى وأرسل وبعث وهيأ ظروف التلقي من الأول إلى الأخير..؟ كيف يكون غائبا وهو الذي قدر الأمور كلها حق قدرها..؟
والقصص لم ولن يكتسب تمام وجوده الحقيقي، ولم ولن يحقق كمال ذاته الحقة، كوقائع وأحداث فعلية إلا من خلال وجوده هو سبحانه وتعالى.. ولكي تتوفر هذه المصداقية عند المتلقي وتتأكد لديه كان لابد أن يعتمد هذا القص وأن يرتكز هذا الحكي لتزكيته داخليا وخارجيا أفقيا وعموديا، على هذا الشهود الإلهي والحضور الرباني، أي على عدم الغياب كما ذكر النص القرآني..
لأن هذا القصص القرآني بالنسبة للمتلقي يعتبر أحداثا لم يعشها ولم يشهدها، فقد يكون سمع بعضها كما وقعت، وقد لا يسمع منها إلا ما تناهى إلى سمعه عبر قصص السمر والسهر والتسلية وقد تكون محاطة للإثارة والفرجة والتسلية بالزيادة أو النقصان، وقد تكون الصورة مشوهة بشكل يفقد القصص كل شيء طبعي فيها أو مكتسب، حتى المتعة نفسها.. وقد تبقى منها مجموعة أحداث يضرب بها المثل ولا تشتهر قصصا واقعيا..
إذن فالقصص في القرآن الكريم يعتبر من الغيب بالنسبة للواقع الذي نزل فيه ليكون بداية العلاج، والزمن الذي أتى فيه ليكون بداية التغيير.. إنه مما لم تدركه الأبصار ولم تحط به العقول سواء بالنسبة للمتلقي (1) أو المتلقي (2) أو المتلقي (3).. لذلك فكأن هذا الغيب حين يقصه شاهد عيان، وحاضر معاين، وعليم خبير ذو رؤية فوقية، لا تخفى عليه خافية، يصبح حينها ذلك القص منتميا إلى عالم الشهادة يتنامى في عالم الحق والحقيقة، ويتمدد على شبكة الواقع والواقعية.. مما ييسر لمتلقيه(2) و(3) عملية الفهم والإدراك بصدق وثقة.. ويسهل عليه عملية الانفعال والتفاعل مع المقصوص تاريخا.. والإحساس بما جاء به وتصوره واقعا.. والحياة في ظلاله والركون إلى حقائقه..
وبيت القصيد هو أن يصدق المتلقي (3) القصة لأنها صادرة عن صادق سبحانه وموحى بها إلى صادق صلى الله عليه وسلم.. وهي كلها صدق في صدق شكلا ومضمونا، بنية وغاية، كل مكوناتها تنطق بالصدق.. ومن ثمة ينفعل معها ويستشعرها بكل فكره ووجدانه، ويعيشها بكل جوارحه وجميع حواسه، ويتمثلها في كل سلوكياته.. وإن لم يحضر أحداثها، ولم يعاشر شخصياتها، ولم يلمس وقائعها، ولم يعاين واقع وجودها، ولم يعش زمانها، ولم يتحرك في أماكنها، ولم يتعرف ملابساتها..
إن المتلقي المستهدف ليتصورها أحداثا حية لازالت تنبض بالحياة المستمرة من يوم وقوعها، ويتخيلها وقائع تمر أمامه لترسم له من حاضره ومستقبله أفقا يهفو إليه، ويتمثلها مسلسلا مباشرا ينغمس في متتاليات حلقاته، وقد يتقمصها حينما يتأثر بها تأثرا شديدا..
ويكفي هذا المتلقي أن يتصورها حقا، وأن يؤمن بها وحيا من الحق سبحانه، انطلاقا من أن السارد نفسه جل وعلا يريدها كذلك.. فإذا أراد صاحبها سبحانه أن يعتبرها "القصص الحق" فلماذا نأتي نحن لنجعلها "ضرب أمثال"..؟. يقول الحق سبحانه وتعالى:﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (القصص:43).. ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون(آل عمران:44) ويقول جل جلاله:﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (يوسف: 109)
وبعد كل هذه التأكيدات على واقعية القصة القرآنية ووجود أحداثها حقيقة، ونقلها الصادق للحق والحقيقة التي عيشت، وحيي فيها خلق كثير دون ريب أو شك على خلفية أن الله سبحانه وتعالى الذي قصها هو نفسه بمثابة شاهد عيان، لم يغب عن الأحداث لحظة، ولم تخف عنه ولم تتوار ولا أقل من ذلك.. بل هو سبحانه الذي قدرها تقديرا، ويعلمها قبل وقوعها.. وكل ملابساتها في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلق وتقدير الأمر، وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان لا يعرف شيئا مما قص عليه من أنباء إخوانه من الرسل والأنبياء الذين قضوا قبله.. ولا كان يعلم أنباء القرى السابقة، ولا أخبار الأمم الغابرة، ولا الأحداث السالفة.. ولم يكن يدرك من الأمر شيئا لا من عنديته قارئا متعلما أو عارفا فطنا أو مطلعا فاهما أو ذكيا متمرسا، ولا من اتصالات داخلية أسرية أو جوارية أو قومية، أو أسفار خارجية أو لقاءات غريبة بعيدة أو قريبة.. ولا من علماء وقته من أهل الكتاب و لا من شيوخ المعرفة في القبائل العربية ولا من كهانها ولا من شعرائها ولا من خطبائها ولا من حفاظ آثارها ولا من أي مصدر من المصادر الشائعة حينها.. ولنستمع إلى الحق سبحانه وهو يصف لنا حال نبيه صلى الله عليه وسلم كيف كانت قبل نزول الوحي عليه: ﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (العنكبوت:48).. بل علم صلى الله عليه وسلم ذلك بوحي من ربه ﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل (هود: 49)..
هل يمكن أن يكون فحوى النص الأخير ﴿ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبلهو مربط الفرس كما يقال..؟ هل يمكن أن يكون هذا هو السبب في عداء العرب لما أوحي الى الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل عام ومن القصص بشكل خاص؟.. ألأن العرب كانوا لا يعلمون شيئا من المحكي أم أنهم كانوا لا يفقهونه..؟ أم أنهم كانوا لا يلمون بحقيقة ذلك بما فيه الكفاية، ولا يفهمونها إلا على أنها للسمر والسهر والتسلية وضرب المثل ليس إلا..؟ أم لأنهم كانوا يتجاهلون الحقيقة أم أنهم يجهلونها..؟ ومن جهل شيئا عاداه؟.. أم لأنهم كانوا يعرفون هذه القصص لكن معرفتهم تؤطرها الحكايات والحدوثات والخرافات والأساطير، وبقايا روايات الأسلاف فاختلط عليهم الأمر..؟ أهذه عقيدتهم التي كانت تحول بينهم وبين الاستفادة من الخطاب القرآني كما هو حال كثير من مفكرينا المعاصرين..؟
ألهذا كان ضلاّل العرب والمتفوهون من كبرائهم وطغاتهم يقولون: ﴿.. قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين * (الأنفال: 31).. ﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (الفرقان: 5)..؟
أيقولون هذا وهم أول من يعرف طبيعة ابن من أبناء عمومتهم محمد صلى الله عليه وسلم وجبلته ما ظهر منها وما بطن، ويدركون سجيته وتربيته﴿ وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم (التكوير: 25).. ويعلمون كيف نشأ بين ظهرانيهم أميا لا يحسن القراءة ولا الكتابة، ويتيما لا يقوى على سفر ولا ضرب في الأرض يبتغي فضلا من علم أو معرفة.. ﴿ألم يجدك يتيما فأوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى (الضحى: ).. وهم يدركون ويعرفون أنه كان يحب الخلوة ويفضل الوحدة ورضي لنفسه التحنث في غراء حراء.. وأنه كان المجتبى بين أقرانه والمرتضى حكما من بين شيوخهم فيما اختلفوا فيه، وأن ليس لديه مع من يديم الاتصال أو يكثر الجلوس أو يطيل العشرة والرفقة.. ويعرفون إلى أين ذهب وسافر في حياته وعدد ذلك.. ويعلمون كيف كانت حاله صلى الله عليه وسلم بشكل عام.. وقد لبث فيهم من عمره سنينا.. – فهو ابن بيئتهم أفلا يعقلون - قبل أن يفجع طغاتهم بكونه رسولا إليهم.. وقبل أن يصدمهم بنزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم من رب العالمين ﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (يونس: 16).. ولكن الذي يريد ستر الحقيقة وتشويهها أو تغليف الحق ونكرانه، أو على الأصح تبطيله بدعاوى باطلة.. يتذرع بكل ذريعة تحقق مأربه هذا، ويتوسل كل وسيلة تشفي غليله ذاك، إلا أنه في الحقيقة هو كمن يريد ستر الشمس بالغربال، ومن ثمة فهو ممن قال فيهم الحق سبحانه وتعالى : ﴿ ..وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (غافر: 5)..
وأيضا - بعد هذا التأكيد كله - لا ينبغي للمتلقي أن يرتاب أو يشك أو أن يماري ويجادل – لا ينبغي له ذلك - في صدق ما أوحي إليه من قصص أو في صدق ما تحمله من مضامين وأحداث وشخوص ووقائع وعلاقات وحوارات ومصائر ووعد ووعيد وجزاء.. يقول الله جل في علاه في معرض الحديث عن قصة خلق عيسى صلى الله عليه وسلم وهي تعتبر خارقة مثلما رأينا عن قصة أصحاب الكهف:﴿ ..الحق من ربك فلا تكن من الممترين (آل عمران:59).. وهذا الخطاب موجه بشكل مباشر للرسول صلى الله عليه وسلم متلقيا(2) ومن خلاله للمؤمنين متلقيا(3) بحكم الإيمان والتبعية والاقتداء يقول سبحانه وتعالى: ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (آل عمران:31).. بل إن الأمر موجه لكل الناس قاطبة وليس لمن اتبع النبي الأمي صلى الله عليه وسلم فحسب في مثل قوله تعالى: ﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم (يونس:108)..
ج* ختامه مسك:
القصص القرآني بهذا الشكل يمثل نماذج معرفية مستقاة من الحياة الواقعية نستخلص منها العبرة المستديمة، ونستشف منها الرؤية الإيمانية الدائمة، ونتحلى منها بالقدوة الحسنة المستمرة.. وليست مجرد قصة أو واقعة حدثت، على الرغم من أنها أحداث أكيدة، إنما هي حقيقة خالدة مستمرة أبد الدهر.. ونؤمن بحدوثها، ولكن ما يهمنا ليس تحديد زمانها بالتدقيق، أو وقائعها التاريخية المفصلة، ولكن ما وراءها من عبر ومواعظ وحكم ودروس.. ولماذا ذكرت بهذا الشكل؟ وكيف ذكرت بهذه الطريقة وليس بغيرها؟ ولماذا تم اختيار هذا المشهد دون سواه؟ وكيف يمكن أن نترجمها إلى وقائع جديدة ومشاهد منسجمة مع ما نصبو إليه؟... وفي الأخير كيف يمكن أن يكون السرد القصصي في الخطاب القرآني الكريم نبراسا للعودة إلى تحقيق دنيا الخلافة على منهج النبوة كما أخبر ب بذلك الصادق الأمين؟..(9)
يقول الله تعالى ﴿فاقصص القصص لعلهم يتفكرون( الأعراف:176)..فهذه القصص دعوة للتفكر في هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة والقضايا.. أي دعوة لتحليلها بحثا عن الإجابة فيها، ودعوة للتفصيل في مكوناتها وتفكيك عناصرها وإعادة تركيبها حتى نتمكن من هندستها على أرض الواقع... ومن ثَم فهي دعوة للفعل أي الالتزام بالنموذج المعرفي الكامن خلفها، أي بالبناء والتركيب. فهي نموذج للتركيبية الفنية والجمالية والحياتية والواقعية، وهي فوق هذا كله تعتبر نوعا من أنواع العبادة التي من أجلها خلق الله الخلق وبعث الرسل وقص القصص ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.فليس أفضل من قراءة القرآن وتلاوته وتدبر معانيه ومدارسته وترجمته إلى واقع معيش عبادة..

*القصة بيان وبرهان:
***جاءت طبيعة القصص القرآني تتميز بهاتين الخاصيتين السابقتين: القول حق و القص صدق والسرد حقيقة ممتعة، والشاهد على هذا كله هو الحق نفسه سبحانه.. فانبثقت عنهما خصوصية ثالثة مرتبطة بهما لكونها تنتمي إلى المنظومة نفسها منظومة الحق والحقيقة، وهذه الخاصية الثالثة هي البيان والتبيين والإيضاح والتوضيح، وإبراز وإظهار الأشياء على حقيقتها والقضايا على طبيعتها والأمور على سجيتها والمشكلات التي لها ارتباط بالقصة وأحداثها أو شخصياتها أو بعض مكوناتها..
فهناك أحداث وأمور كثيرة في حياة الأقوام السابقة تعرضت مع مرور الأزمان وتداول الأيام للتشويه والتزوير والكذب والتغليف بالباطل، واختير لها عند تداولها بين الناس المنحى الأسطوري أو الخرافي الذي أفرغها من محتواها الحقيقي وسلخ عنها صفات الجد والصدق والحق المبين، وانزاح بها عن واقعيتها وعراها من مصداقيتها، ومن ثمة أبعدها عن واقع المتلقي بشكل عام، وغيبها عن حياته بكل أبعادها في هندسة العلاقات مع الوجود والكون والإنسان..
لقد تعرضت بعض الحقائق للتستر المقصود أو النسيان المقنن في أحسن الأحوال، ونظرا لارتباط هذه القصص بالحق من جميع الجهات كما رأينا وذلك لطبعها في حد ذاتها، ولطبيعة القصد منها وغائيتها ووظيفتها.. أصبح لزاما أن تظهر بالمظهر الذي هي عليه في حقيقتها، وليس بالمظهر الذي روج له الذين غيروا من حقيقتها وطبعها وطبيعتها، وأبطلوا مفعولها وألغوا غاياتها وحدوا من تأثيرها في تربية وتوجيه الأنفس والمجتمعات.. وأصبح لزاما أن لا يُسكت عن الأباطيل والأساطير التي ألصقت بها على مر الأزمان..
وتأتي قصص بني إسرائيل على رأس الروايات التي أشبعت أباطيل وأكاذيب حتى على الحق سبحانه في ذاته وصفاته وأفعاله - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا – ولقد كانت البداية كالعادة في كل الأحوال عبارة عن زيادة في القص أو نقصان أو تخيل لأحداث مثيرة يرجى منها مصلحة معينة، واستمتاع بأخرى حتى تكونت لديهم سلسلة من القصص لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وأصبح الخلف يرويها عن السلف، فأضحت هي الأصل وصدقوا ما اخترعوه من قصص وأحداث وروايات وأساطير وخرافات وسطروها في كتبهم المقدسة لديهم، ثم أمسوا يحاجون بها ويجادلون وينافحون عنها، إنهم يكذبون الكذبة ثم يصدقونها..
فجاءت القصة في القرآن كي تصحح هذه الأوضاع المقلوبة وتضبط تلك المفاهيم المعوجة وتبين حقيقة تاريخ البشرية على العموم وتاريخ بني إسرائيل على الخصوص وتوضح كيف كانت علاقاتهم بربهم جل جلاله وبأنبيائهم عليهم السلام وفيما بينهم هم أنفسهم، ومع غيرهم ممن عاشوا معهم أو قبلهم من الأقوام الأخرى..
وهكذا وقع لكثير من الأمم والأقوام وقعوا في المطبة نفسها التي وقعت فيها بنو إسرائيل الذين غيروا وبدلوا فنسوا الأصل الحق، وتشبثوا بأهوائهم وضلالاتهم وأكاذيبهم.. فأصبحوا كما قال تعالى﴿ قل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم (الحديد:16) .. وعميت أبصارهم وغلفت بصائرهم فضلوا وأضلوا وضلوا عن سواء السبيل..
وكمثال فقط نضربه لتأكيد ما سبق نأخذ بعض آي القرآن الكريم – مثل ما جاء في سورة النحل - التي تتحدث بشكل عام عن قرى سبقت وأقوام اندثرت، تدخلت في أمور ليس من اختصاصها، فبدأت تحل وتحرم وتغير في شرع الله تعالى حسب هواها، ومع تداول الأيام أصبحت تؤمن بما وضعته لنفسها بديلا للشرع الإلهي، وتعتقد أنه الحق من ربها وتجادل من أجله وتنافح وهم على باطل ولكن أغلبهم لا يفقهون، فأخذهم العذاب وهم ظالمون.. وجاءت القصة تبين الخلل وتكشف عنه النقاب وتنبه إليه وتوضحه على الرغم من مضي زمان عليه، ومن وراء ذلك تصححه وتصوبه وتضربه مثلا للمتلقي كي يكون على بينة من أمره فلا يقع في مثل ما وقع فيه أصحاب هذه القصة وهذا هو بيت القصيد من ذكرها.. وأيضا ليملك المنهج الرباني في تصحيح الأخطاء التاريخية، ويكسب نفسه طريقة التعامل مع الأحداث والوقائع قديمها وحديثها.. يقول تعالى: ﴿وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(النحل:118)قصصنا عليك أي بينا وأوضحنا لك ما كان عليهم محرما، ولكنهم تركوا الحق واتبعوا الباطل فظلموا أنفسهم...
وهكذا نعتبر التبيين والتوضيح من الخصوصيات التي تميز طبيعة القصة القرآنية التي هي حق وصادرة عن الحق ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تسكت على باطل وهي تعلم، أو أن لا تبين الحق وهي تعرف..
وتبيان الحق يأتي كي ينتقد مجموعة من السلوكيات والأحوال النفسية والفكرية.. ويصحح مجموعة من الأوضاع الاجتماعية والثقافية، ويغير مجموعة من القضايا البشرية التي أصبحت بمثابة عقيدة راسخة وأخلاق متمكنة من أصحابها ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم..
إنه تبيان يصحح الوقائع والأحداث والمفاهيم القديمة فيصوغها على الشكل الحقيقي لها بدل ما هو رائج عنها، ويغير القضايا التي بنيت على الأساطير إلى ما كانت عليه من الحق المبين فتتضح الرؤية وتستبين الفكرة، وهكذا تكون القصة قد صححت خبرها القديم وعالجت الشطط الذي وقع عليها وصححت الوضع الحالي لتصوغ في الأخير بتبيان واضح رؤية جديدة مبنية على الحق المبين والحقيقة الجلية..



هوامش ومراجع:
* من بحث طويل تحت عنوان " قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني "
1* كالسور الآتية أسماؤها: يونس وهود ويوسف وإبراهيم (ومريم) و(لقمان) ومحمد ونوح عليهم الصلاة والسلام..
2* انظر محمد عابد الجابري سلسلة مواقف إضاءات وشهادات العدد:47 الطبعة الأولى يناير 2006 الصفحة: 30
3* المرجع السابق نفسه الصفحة:27.
4* القصص في القرآن(2) من ملفات الذاكرة الثقافية مواقف محمد عابد الجابري العدد 48 الصفحة:33
5* القصص في القرآن(1) من ملفات الذاكرة الثقافية مواقف محمد عابد الجابري العدد 47 الصفحة:27
6* التمثيل السردي في رواية الكوني عبد الله إبراهيم – علامات: ج:32 – م: 8/1999 الصفحة:326
7* دار العودة – بيروت الطبعة الثالثة 1984 الصفحتان 20 و 21
8* انظر: الفصل الثامن "المادة التاريخية في القرآن" والفصل التاسع "الأسطورة في القرآن" من الكتاب الالكتروني " دوافع للإيمان الإنجيلي.. صراع أدى إلى الاهتداء " لكاتبه أمير ريشاوي وذلك على الرابط: www.light-of-life.com/arb/aquestion
9* انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة/1983 المجلد الأول الصفحة: 8 ونقارن بكتاب أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين للشيخ عبدالعزبز عزالدين السيروان منشورات دار الأفاق الجديدة بيروت الطبعة الأولى/ 1982 الصفحة: 24 وانظر في شرح الحديث كتاب الرسول r لسعيد حوى دار الكتب العلمية بيروت.. الطبعة الرابعة/ 1979 الصفحة:129..