*إيقاعــــــــات*
.......................

خطرت الفكرة فى باله كالومضة . لم يكن ـ فى تلك اللحظة تحديداً ـ يفكر إلا فى اللقاءات التى تملأ أيامه الأربعة فى بيروت . محاضرتان ، وربما ثلاث ، فى اليوم الواحد ، وأحاديث فى وسائل الإعلام ، ولقاءات بمسئولين . لم يعد نفسه حتى لمجرد السير فى شارع الحمراء الذى يحب محاله ومقاهيه وصخب الحياة فيه ..
ومضت الفكرة . استعادها . أزمع أن يخضعها للمحاولة . إذا جاوز الإخفاق ، فهو يستعيد الثقة الغائبة . وإذا لقيت المحاولة صدوداً فعليه أن يظل السر مقيداً داخل حجرته بالفندق ، القيد نفسه الذى خلفه فى حجرته بالشقة المطلة على نيل الزمالك ..
قال الطبيب : التردد يؤدى إلى الحوادث . كان يقصد حوادث المرور ، لكنه لاحظ أن المعنى ينسحب على كل شئ ..
تحسس ـ بعفوية ـ موضع العملية الجراحية فى صدره . كيف يواجه النظرات المشفقة ، أو المشمئزة ؟
وبخ نفسه لأنه استدعى الفكرة ، وقلبها : يدعو المرأة إلى زيارته فى حجرته . يقضيان معاً وقتاً لم يستمتع بمثله من قبل ..
خادمة الغرف ؟!.
يفر من المشكلة الحقيقية ، فيثير مشكلات هو فى غنى عنها ..
قضى موظف الاستقبال على تردده : هل يقدم نفسه باسمه الحقيقى ، أو يخترع اسماً يختفى وراءه ؟..
طلب الموظف جواز السفر . تأمل البيانات ، وأودعه خانة مفتاح الحجرة :
ـ سنعيده عند نزولك ..
أضاف الموظف بلهجة مرحبة :
ـ عدد الأيام ؟
ـ ثلاثة أيام أو أربعة ..
ثم وهو يتكلف ابتسامة :
ـ مهمة عاجلة ..
استشرفت نفسه حياة غير التى يحياها . غلبته الحيرة ، فهو لا يقدر أن يفعل شيئاً . ما يؤلمه أنه لا يقوى على البوح . السر فى داخله ، لا يكشف عنه . يقاوم الرغبة فى أن يتكلم مع أحد ، يفض عما بنفسه ، يحكى ، ويحكى ، لا يسكت حتى يهدأ . قيمة الصمت أنه يخفى ما نعانيه . لو أن الملامح أظهرت ما فى النفس ، ما قدم من القاهرة . العجز معه يصحبه إلى أى مكان يقصده . ليس فى جسده ، وإنما فى مواجهة الظروف التى تواجهه ..
قالت فادية :
ـ ماجد يستهلك نفسه فى إظهار الغضب ، لكنه لا يؤذى ..
وعلت ضحكتها ، فاهتز صدرها :
ـ ماجد كائن مسالم ..
ينظر ـ فى استياء ـ إلى نظرتها المستخفة . تجيش مشاعره . يعلو صوته بما يمور فى داخله . يبدى رأيه ، ويعلن ما ينوى فعله . الابتسامة على شفتيها تزيد من إحساسه بالغضب . يغلبه ارتباك لا يفلح معه فى أن يقول شيئاً . يغمض عينيه . يروح فى عوالم يصعب عليه تبينها . خليط من المشاعر والذكريات والميل إلى الفضفضة . حتى المواقف التى لم تشغله فى وقتها ، ونسيها ، تستعيدها ذاكرته ، وتملأها ..
أهمل النصيحة بأن يلغى سفره إلى بيروت ، أو يؤجله . تحدث على عبيد عن اتساع حرب الميليشيات ، والقتل على الهوية . داخله شعور لم يستطع تفسيره . كأنه التحدى ، أو الرغبة فى المغامرة . تأكيد ما يطمئن إليه فى نفسه ، ولا يراه فى أعين الآخرين . حتى ضابط الجوازات فى مجمع التحرير لم يوقع بالموافقة إلا بعد أن دفع إليه على عبيد ببطاقة التوصية ..
أدار الولد النوبى الملامح مفتاح الحجرة ، ودفع جرار الشرفة الزجاجى . أطل من الطابق التاسع فى الفندق ذى الطوابق العشرة . فى أسفل طريق الكورنيش فى زاويته المطلة على صخرة الروشة ، كأنها ساقا عملاق فى قلب المياه ، وأكشاك الملابس والكاسيتات والطعام ، وعربات الفول والترمس والذرة متجاورة فوق الرصيف ، ويتقافز فى الزحام باعة الورد والفل والياسمين ، ومياه البحر تمتد إلى نهاية الأفق ، فوقها سماء صافية ، تتخللها سحب بيضاء ..
تأمل وجهه فى مرآة الحمام ..
التجاعيد دوائر أسفل العينين ، وحول الفم ، وتتباين مع شعره المصبوغ بالسواد ، والبشرة باهتة ، والوجنتان غائرتان ..
استعاد الفكرة فى وقوفه أمام المصعد . حرص على أن يتجه بنظراته ـ فور خروجه من المصعد ـ إلى الناحية المقابلة لكاونتر الاستقبال . يفطن الموظف إلى مكانته ، فلا يهبه الفرصة كى يلقى أسئلة ، أو يعرض خدمات . هو واحد من نزلاء الفندق ، لا شأن له بأحد ، ولا شأن للآخرين به . لكن : كيف يجد ما يطلبه ؟ كيف تنشأ العلاقة ؟..
لو أن موظف الاستقبال ، أو أى عامل فى الفندق ، فطن إلى ما أزمع فعله ، فستؤذيه الفضيحة بما لا يتصوره ..
لحقه صوت عادل :
ـ أريد نقوداً ..
اتجه ناحيته بنظرة غاضبة :
ـ أنا أنفق على البيت كله وليس عليك وحدك ..
ـ أردت أن تصبح أباً .. لذلك ثمنه ..
ثم وهو يطرقع أصابعه :
ـ أريد نقوداً ..
هز رأسه دلالة الرفض ..
قال عادل :
ـ إذا لم أحصل على ما أريد .. لن أضمن تصرفى ..
تفجرت فى داخله رغبة فى الشتم ، أو فى العراك :
ـ افعل ما تشاء !
وهو يزيح شهادات التقدير والأوسمة والميداليات عن الأرفف والجدران ، ويقذف بها من النافذة المطلة على بقايا بناية متهدمة :
ـ هذا ما أفعله ..
اكتفى بنظرة الذهول تملأ ملامحه . فكر فى أن يمنعه ، يصرخ فيه أو يدفعه أو يصفعه ، لكن العجز شل تفكيره وتصرفه . خشى تصرفاً لا يتوقعه . ماذا يفعل لو أن الولد رد إليه أذيته ؟!.. يصفعه ، فيرد عادل الصفعة بمثلها . ينتهى كل شئ . لا أبوة ، ولا بنوة ، ولا أسرة . لا أى شئ . يتمنى الموت ..
قال لنبرة الإشفاق فى قول على عبيد :
ـ أنت لا تعمل حساباً للمستقبل ..
ـ معى ما يكفى المستقبل ..
وتلكأت الكلمات :
ـ يهمنى أن أنفق ما أملكه فى حياتى ..
ثم وهو يصر على أضراسه :
ـ لا أريد أن يرثنى ابنى فى مليم واحد ..
ـ أعطاك الله العمر .. لكن الحرص على ألا يرثك عادل يثير التأمل ..
ـ لماذا ؟
يقلب الكلمات فى ذهنه ، فلا يجد إجابة محددة . يرفض لأنه يريد ذلك . ما معنى أن أعمل وأكسب ، ثم يرث أى أحد ما ضيعت العمر لتدبيره ؟. يجب أن يعلم عادل وفادية أنه قادر على اتخاذ القرار . أنا أرفض وأقبل وأمنع وأعطى . اتخذ قرارى بكل الثقة . أملى إرادتى . لا تشغلنى ردود الأفعال . ما أفعله هو حقى ..
اعتذر عن المرافقة بأنه يريد السير فى شوارع الكويت بمفرده . سأل عن السوق . استعاد التسمية :
ـ واجف ؟..
ـ إنها مجرد سوق شعبية ..
أهمل التحذير ، وسأل عن الطريق ..
مضى من ساحة الصفا . الأسقف الشبيهة بالقيساريات دفعت معظم المحال إلى إضاءة الداخل . غالبية البضائع قديمة ، أو مستعملة . فى الوسط طاولات خشبية ، فوقها ملابس نسائية ومفروشات وسجاجيد . استعاد زحام وكالة البلح ..
قال الرجل :
ـ أفهم ما تريد التعبير عنه ..
ثم وهو يحدجه بنظرة تتوقع رد الفعل :
ـ سأعد لك وصفة لا تخيب !
غلبه الارتباك . أدرك أن الرجل خمن عكس ما يعانيه . قال :
ـ أنا لا أشكو ضعفاً ..
ابتسم الرجل بالحيرة :
ـ ماذا تشكو إذن ؟
كان يضايقه التقاط تلميحه بما يعانيه بمعنى لا يتغير . تقتصر الأحاديث على ما يضيف إلى حيويته . تقترن بالإيماءات والكلمات الملتفة بالغموض . ما يعانيه كائن فى داخله ، لا دخل له بمرض ، ولا يحتاج إلى شئ مما يشيرون عليه به . شئ لا يدرى مصدره ، وإن استقر فى داخله ، يثيره ، ويشقيه بالإحباط ، وبأنه غير قادر على التصرف ، وعاجز ..
قال البائع فى شارع الحبيب بورقيبة :
ـ أفهم ما تريد التعبير عنه ..
أضاف وهو يقدم له حبة صغيرة :
ـ خذ هذه .. تجعل ما تعانيه من الماضى ..
وضع الحبة بين شفتيه . تبعها بجرعة ماء . تصاعد ـ فى اللحظات التالية ـ ما لم يخطر له ببال : خيالات ومشاهد ونشوة تقربه من الغيبوبة . سرى ما يشبه الخدر فى أعصابه . أغمض عينيه فى استسلام . تصور ـ بتأثير النشوة ـ أن أنفه طال ، فكاد يسد الطريق . أبطأ من خطواته حتى لا يصطدم بالمارة أو العربات . داهمه التوجس ، فعوج أنفه بأصابعه ليحقق انتظام المرور . خطر له أن يصرخ ، ويغنى ، ويرقص ، ويجرى إلى حيث تذهب به قدماه ..
عبر الطريق إلى الناحية المقابلة . استبدل البائع شرائط كثيرة حتى هز رأسه بالموافقة . الصوت الأنثوى يتغنى بالعلاقة منذ بداياتها . يتعمد المط والتلكؤ والبحة المتحشرجة والأنفاس اللاهثة . مالت الرءوس ، وتقاربت الأجساد ، وتعالت الهمسات الصاخبة ..
قال البائع وهو يقلب الشريط على الوجه الآخر :
ـ أثق أن هذا هو ما تريده ..
ابتسم للتعبيرات والتعليقات التى علقت على الدكاكين المجاورة للكاتدرائية بشارع الحبيب بورقيبة . دفع ـ فى زيارته الأخيرة إلى تونس ـ أربعة دولارات لكى يكتب له البائع أمنية على بطاقة مزينة بالورود . أطال التفكير فيما يتمناه لها . طلب البائع أن يترك العبارة ، الأمنية . استقبلته بما اعتاد من الجفاء ، فلم يتذكر البطاقة إلا عندما فتشت فى جيوبه ، قبل أن يبعث البدلة إلى المغسلة ..
نسى حتى ما قدم من أجله إلى بيروت وهو يجلس فى كازينو لبنان ينصت إلى المغنية الصغيرة ، الممتلئة ، تردد أغنية فيروز : باحبك يا لبنان . وثمة آلاف النقاط الضوئية تفترش مساحات السواد فوق الجبل . حرص على تناول ما يميز الطعام اللبنانى : الكبة والتبولة والفتوش والحمص بالطحينة واللحم بالجبن وورق العنب والمحاشى والمتبلات . حتى الحلويات ـ رغم الضغط والسكر ـ أكل البقلاوة والقطائف وعيش السراية والعثمانلية وزنود الست ..
عانى كثرة الحواجز على مفارق الطرق . مدرعات ، وسيارات جيب ، وبزات عسكرية ذات ألوان متباينة . والميكروفونات يتعالى منها التعليمات والأوامر ، والشعارات مكتوبة بالبويات الملونة والطباشير ، تملأ الحوائط ، وأسفلت الطريق ، وأبواب الدكاكين المغلقة ، وسواتر البنايات المتهدمة ، والملصقات على الجدران ، ولافتات القماش تصل ما بين أعمدة النور فى تقاطعات الشوارع ، تؤيد وتستنكر وتحيى وتبايع وتبشر بالخلاص ، وصور الزعماء والقادة معلقة على النوافذ والمشربيات ، والأعلام التى تنتمى إلى تنظيمات يسمع عنها ، أو لا يعرفها . أذهله الدمار فى وسط بيروت : سوق الطويلة ، وباب إدريس ، وساحة البرج . البنايات المتهدمة ، وفجوات الصواريخ ، وثقوب الرصاص ..
أشار سائق التاكسى إلى النافذة التى كان يقف وراءها وبيده بندقية يصعد بها إلى من يحدده التلسكوب . لم يعد القتل على الهوية ، ولا بعد إلقاء الأسئلة . من يجرى بسرعة ، أو يمشى ببطء ، أو يتلفت ، يصوب عليه دون أن يتلقى أمراً ، أو يعطى إنذاراً ..
استعاد التسمية :
ـ قبرص ؟
أعاد فاروق معوض القول :
ـ قربص .. وهى غير قبرص ..
ثم بلهجة محرضة :
ـ بها نبع ماء ساخن يتدفق من الصخر . لو أنك أكثرت من الغطس فيها فالنتيجة مؤكدة ..
أشفق من الارتفاع الهائل الذي بلغته السيارة على الطريق الصاعدة . بدا الوادى فى أسفل مفروشاً بالخضرة ، تنتهي بالشريط الساحلي . الجبل الصاعد المتعرج نفسه ، ارتقته السيارة فى قريات ، وإن تسربل الجبل العمانى بالصخور والوحشة ، واختلطت ـ فى الوادى ـ مساحات الصخور والرمال وبقع الخضرة القليلة ..
المياه تجرى ، ساخنة ، إلى الدائرة الحجرية المتصلة بالبحر . تبلغ مستوى الركبة . تظل السخونة على ارتفاعها إلى خارج الدائرة ، ,على عشرات الأمتار فى اختلاطها بموج البحر ..
ـ من أين تأتى هذه العين ؟
ـ من الصخور . البداية لا يعرفها أحد ، لكنها تنبثق من الصخور ..
دلى قدميه فى مياه الدائرة الحجرية . لسعته السخونة فرفعها . تشجع عندما أبقت الفتاة قدمها فى الماء . دلى قدميه ، وتحمل الحرارة ..
تنبه على صيحة أربكته . كان الشاب ذو الأفرول الكاكى يتفحصه بنظرة مرتابة :
ـ ماذا تريد ؟
أدرك أنه أكثر من التلفت فيما يثير التأمل والأسئلة . غالب إحساسه بالارتباك :
ـ أنا أتنزه ..
وهو يزغده بكعب البندقية فى جنبه :
ـ تتنزه فى منطقة عسكرية ؟
المناطق متشابهة : الحواجز والمتاريس واللافتات والشعارات والميلشيات العسكرية ..
تعمد ألا يواجهه بعينيه . يخشى أن يلمح التخاذل فى نظرته :
ـ لم أكن أعرف ..
لم يعد قادراً على الفهم ، ولا الاستيعاب ، ولا التصرف . ثمة شئ ينقصه ، وإن لم يدركه على وجه التحديد . عانى ما يشبه شلل الإرادة . اختلطت الرؤى ، والخيالات ، والأصوات التى يغيب مصدرها ..
أعاد الشاب دفعه بكعب البندقية . تأوه وسقط . واصل الشاب دفعه وهو يزحف . اعتمد على راحتيه وركبتيه ، حتى توقفت الضربات ، وانحسر ظل الشاب . زم شفتيه ، وإن ظل على تألمه ، وهو يرقب الشاب مبتعداً ، فى وقفته المنعزلة وسط الميدان الصغير ..
كان ذهنه قد خلا من كل شئ .