النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: أربع مقالات من بواكير نقد نجيب محفوظ

العرض المتطور

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1 رد : أربع مقالات من بواكير نقد نجيب محفوظ 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    4-زقاق المدق(4)

    للكاتب الكبير: وديع فلسطين

    ـــــــــــــــــــــــــ
    لم أسمع بهذا الزقاق من فبل، ولا أُتيح لي أن أراه، لأني قليل التردد على معالم القاهرة القديمة.
    ولكني رأيتُ الزقاق وعشتُ فيه قرابة نصف شهر في صحبة الأستاذ نجيب محفوظ القاص الملهم، فأوقفني على ألوان شتى في مسالك المعيشة فيه، وأرشدني كدليل مجرب إلى مواضع الفتنة الفطرية في هذا الحي الوطني الصميم.
    زقاق المدق، زقاق ترى فيه ثري حربٍ أُتخم طعاماً ومالاً فما عرف قناعة ولا حَرِصَ على مال. تستهويه مباهج الدنيا وتغره أضواؤها فيسير صوبها كطفلٍ غريرٍ لا يسلمُ من العثرات.
    وأنت ترى في الزقاق حلاقاً محدود المورد، مسدود باب الرزق، يجد في «الأورنس» البريطاني جاذبية لا يسعه أن يُقاومها فيُسافر إلى التل الكبير ليعمل مع القوات، ويُدبِّر جنيهات تُعينه في افتتاح صالون أنيق وعلى الزواج بأثيرة الفؤاد.
    ومن صور الزقاق ذلك التمرجي الذي ادّعى التطبيب، وراح يُعالج المرضى بما حصّله من تجريب، فكان يسرق أسنان الموتى الذهبية وأطقمهم ليجد عند الأحياء سوقاً لها وهو مطمئن إلى الرسالة الإنسانية التي ينهض بها، سعيد بلقب «الدكتور» الذي أردف به اسمه للتشريف والتمييز.
    وتلك عجوز جاوزت الخمسين، ولكنها مع ذلك متطلعة إلى الزواج من شاب حديث السن. وكيف لا، وعندها من المال أكداس، وعندها من شباب القلب معينٌ لا ينضب، ولا بأس أن تدّعي أن الهموم كست شعرها بياضاً وأكدار الدنيا جعّدت غضون وجهها.
    أما هذه المرأة اللعوب فإنها «خاطبة»، تكتسب عيشها من «فتح البيوت وتعميرها» ومن «جمع الرؤوس في الحلال»، وأساليبها تتفاوت حسب تفاوت العملاء والزبائن، فإذا كان العميل شيخاً أوهمته أنه شاب ذو دلال وفتنة، وإن كان حديث السن زينت له أن حداثة العمر هي الأوان المُواتي للزواج، ولن يعيا منطقها، فقد اكتسبت من كثرة الممارسة دربةً واقتداراً.
    وهذا أسطى في فن ابتداع المتسولين وذوي العاهات، يأتيه المرء سليماً فيخرج من لدنه وقد تمتع «بنعمة» العمى أو العرج!، وكيف لا تكون تلك العاهة أو قرينتها نعمة مادامت تُدِرُّ على صاحبها أموال السذج من الخيرين والرحماء؟
    والفرانة وزوجها لا تعذب لهما الحياة إلا إذا كانت السياط وسيلة التفاهم، فهما منحرفان، والبيئة الفقيرة التي نشآ فيها جعلتهما ينحوان هذا المنحى المعوج.
    عشرات من هذه الشخصيات تترادف في رواية «زقاق المدق» التي كتبها الأستاذ نجيب محفوظ ليصور صورة حي من صميم المجتمع المصري، وليجلو عادات توارثها المصريون أو اقتحمت عليهم حياتهم بسبب ما ضُرِب عليهم من جهالة وأمية.
    وهذا النوع من الكتابة الروائية جديد في اللغة العربية، لأن القصة لا تدور أحداثها حول بطل أو بطلين، بل ينهض بدور البطولة فيها سكان زقاق المدق بأسرهم، لكل نصيب يؤديه، ولكل رسالة يُحققها، فتجتمع من أعماهم وأقوالهم صورة تتدفّق الحياة في جنباتها، وتسري فيها دلائل الحيوية الحقيقية.
    أما الطابع الغلاب على رواية «زقاق المدق» فهو طابع المرح المقترن بالسخرية، ففي كل بضعة أسطر ملحة أو فكاهة، ولكنك تدرك على الفور أن الأستاذ محفوظ لا يقصد بها إلا السخرية والازدراء. يذكر لك عادات تأصلت بين أفراد الطبقة الدنيا، ولكنه لا يكتم عدم رضاه عنها، ويحملك معه على أن ترثي لحالة أولئك السادرين في غي الجهالة!
    ويحسن الأستاذ محفوظ تصوير نوازع النفس البشرية، وما ذاك إلا لأنه ينتمي إلى المدرسة الواقعية التقريرية. فهو يرى أن من مهمة القاص أن يُصوِّر، وحسبه هذا العمل. أما أن يُلقي مواعظ ودروساً ويسوق عبارات الحكمة والقول المأثور فذا افتعال ينأى عن حياة الواقع، ويُبرز للقارئ ناحيةً تغلب عليها الكلفة والصنعة.
    وعلى الرغم من كثرة الرجال والنساء الذين زج بهم الأستاذ نجيب محفوظ في هذه الرواية، لم تخنه الملكة الفنية مرة واحدة، فلم يجعل أحداً منهم يتصرف تصرفاً يُناقض فيه نفسه، ولم يجعل هذه «الزحمة» تُفلت منه زمام الوحدة القصصية، فقد رُبِطت الرواية من أولها إلى نهايتها ربطاً محكماً، وسُلسلتْ حوادثُها تسلسلاً عاديا واقعيا. ومن ثم جاءت رواية مصرية بحت، عليها طابع قومي غير مقلد ولا مشوش.
    إن نجيب محفوظ يسير إلى الأمام، وروايته الجديدة تسبق سابقتها بخطوات واسعة.
    ـــــــــــــــ
    (4) المصدر: نشرت في «منبر الشرق»، في 30/4/1948م، وأُعيد نشرها في كتاب د. علي شلش: نجيب محفوظ: الطريق والصدى)، ص ص264-267.
    التعديل الأخير تم بواسطة طارق شفيق حقي ; 03/06/2006 الساعة 01:14 PM
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد : أربع مقالات من بواكير نقد نجيب محفوظ 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,620
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    سلام الله عليك
    سمحت لنفسي أن اعدل تنسيق هذه المقالات كي يكون الشكل جذاباً كما هو المضمون

    لك تحياتي دكتور حسين
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. أماكن روايات نجيب محفوظ .. (حــــــــــــوار)
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/05/2007, 05:39 PM
  2. وداعاً نجيب محفوظ .. راوي مصر وقمة الرواية العربية
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01/09/2006, 01:55 PM
  3. موقع نجيب محفوظ على الشبكة العنكبوتية ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31/08/2006, 05:06 PM
  4. نوبل نجيب محفوظ .. هل يستعيدها العرب؟
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20/08/2006, 08:38 AM
  5. أربع لقطات
    بواسطة محمود الحسن في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 22/02/2006, 03:01 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •