في ذكري الرحيل!
بقلم:أ.د.فوزي فهمي
...........................
في ستينيات القرن العشرين, وفد تيار العبث علي حياتنا الثقافية, بصيغته المسرحية الأكثر إثارة وانتشارا, فأصبح يشكل موضوعا لظاهرة نقاشية بين منتقديه والمدافعين عنه, لتضاده مع كل التقاليد المسرحية, حيث يلتبس فيه المكان والزمان والهوية, وتتسم حواراته بالتكرار, ويتداعي فيه مبدأ السببية, حتي تتبدي إبداعاته ظاهريا محض عشوائيات خالية من المعني, لذا استطاع الكاتب الساخر أحمد رجب أن ينصب فخه الملغوم الشهير, إذ كتب مجموعة من الحوارات علي لسان شخصيات سماها الهواء الأسود, ثم دفعها إلي دوائر بعض المهتمين في المجال الثقافي. مدعيا أنها مسرحية مترجمة لكاتب عبثي كبير هو فردريش دور نيمات, فتوهم بعضهم بحماسة فائقة صحة الزعم, وبادروا إلي تحميل العمل الزائف ما لايحمل من المعني, والإسقاط عليه بما يشاءون من الدلالات, والإشادة بكاتبه وقدراته دون سند. وبعد أن توافر لديه عدد من التصريحات, فجر أحمد رجب اللغم المعد, كاشفا عن تصديقهم الوهم بوصفه عطبا أساسيا أصاب مناهج بعض من أعضاء تلك الدوائر أفضي إلي الوقوع في ذلك المأزق. كان شيخ نقاد مصر, الراحل الجليل د. محمد مندور, قد رفض التعليق علي النص الذي قدمه أحمد رجب معلنا عدم معرفته به. عارض وقتها شيخ النقاد هذا التيار, واعتبره وهما مطلقا, وتمردا عارضا ويائسا علي الحياة والفن, متمنيا أن تستطيع البشرية التخلص منه, لتعود إلي العقل.
لكنه مع ذلك لم يطالب بمنعه, أو قاطع مناقشته, بل كان يشاهد عروضه المسرحية ويطالع إنتاجه, ويقوم بتدريسه. كنت معيدا مشبوب الدم, أعيش وأنمو في كنف شيخي وأستاذي د. محمد مندور. ولأنني أمام هذا القدر من التمرد الذي هالني في تيار العبث فكرا وفنا قد أحسست بالعجز تجاه محاولة الحكم علي إبداعات هذا التيار, لذا رحت أضاعف قدر معرفتي به والاشتغال عليه, متبعا نصيحة شيخي الدائمة لي, بأنه لايجب عند الحكم علي العمل الإبداعي أن اتربص به, باستحضار كل أدواتي النقدية الجاهزة في مواجهته, بل يتعين علي أن أعرض صفحة روحي لذلك الإبداع لأتلقي ما يثيره في وجداني من أحاسيس ومشاعر وتأثيرات, فإذا ما استطاعت أن تحررني من قيود الأدوات النقدية الجاهزة, بفضل أصالتها, وصدقها وخصائص صياغتها, وأن تبدل الإدراك, والحساسية, وتغير القاعدة التي تغذي الأفكار والعواطف, فذلك يعني أن العمل الإبداعي كسب رهانه, وحمل جواز مروره إلي ذائقة المتلقي, حتي وإن خالف قواعد النقد التي سبقته, كان شيخي يعتبر الذوق المدرب هو الأكثر حسما في الحكم النقدي, وفي الإبداع أيضا, ويؤمن بتطوره ويخشي عليه من أن يفسده الحشر في قالب فيتصلب ولايصبح ذوقا, بل محض ممارسة نمطية متكلفة, وقد علمني شيخي كذلك أن الاعمال الإبداعية قابلة للتأويل بحثا عن الحقيقة, لكن شد ما كان يؤكد أن هذا التأويل لا يحل أبدا محل الحقيقة, وحذرني دوما من أن يتحول التأويل إلي ادعاء بالوصول إلي الحقيقة وامتلاكها, عندئذ يصبح التأويل علي المستوي الفكري والفني اعتقادا مغلقا يحدد للعمل الإبداعي قراءة واحدة يؤكد أنها الوحيدة الصحيحة, فيحجب بذلك العمل الإبداعي, ويصادر ثراء وجوده, ويحرمه من تعدد تذوقه من خلال قراءات أخري ممكنة.
ولأن شيخي كان يؤمن بالانفتاح علي المختلف, والمتنوع, والمتعدد, واحترام الحقوق والحريات, لذا شحذت نفسي حتي حانت إحدي جلسات النقاش معه, التي كانت تبدو نوعا من المشاكسة, وهي علي الحقيقة ممارسة التدريب علي المحاجة استجلاء للفهم, بدأت ـ كمعادتي بنغمة دخول بأن استظهر إحدي العبارات التي تتعلق بالموضوع, وكانت هذه المرة إحدي مقولاته, فرحت أرددها علي مسامعه: بأننا إذا كنا في حاجة إلي من ينتقم لنا من الفقر, فإننا في حاجة إلي من ينتقم لنا من القبح. ثم سألته: ألا ينتقم لنا تيار العبث من ذلك القبح الموجود في الحياة. صحيح أن هناك مشقة واضحة في مشاهدة أعمال هذا التيار وقراءتها, بل إن هناك قدرا من الملل.
لكن أليس علينا أن نطور مهارتنا لذلك التحدي؟ فسألني: ألم تتفحص, وتتقص, وتتأمل سبب هذا الملل؟ أليس ذلك نتيجة حالة الاختناق القصوى من الإحباط والتشاؤم, وانسداد الافق التي تحولت إلي كابوس يستعدي الناس علي الحياة ويصيبهم بالعجز الذي يفتك بهم, وليس ثمة أمل خجول يتبدي للنجاة في الأفق, أو إيمان بقيمة تشحذ الهمم؟ إن الزمن راكد لدي كتاب العبث, والشخصيات مستسلمة ينخرها الوهن, وليست لديها رغبة أو إرادة للإفلات من حاضرها وإلي الأبد؟ أجبته: إن تحليلك المحتفي برواية دون كيشوت للكاتب الإسباني سرفانتيس في كتابك "نماذج بشرية" يجسد شدة تعاطفك مع بطلها, في ظل الإحباط المستمر والمسيطر علي الرواية كلها, والذي يتجلي في إخفاقات دون كيشوت الدائمة, دون بارقة أمل حتي موته, راح شيخي يبلور لي سياق الرواية قائلا: لقد قدم سرفانتيس في روايته شخصية دون كيشوت التي تعاني صراعا بين الرغبة والإمكانية, رغبة نبيلة تجلت في القضاء علي الشر المحيط به, وإمكانية يجسدها واقعه العاري الذي يفتقر إلي أية مرتكزات فاعلة, تمكنه من تحقيق رغبته, فكانت مسافة الخلف بين الرغبة والإمكانية, فحاول كسر التضاد بينهما, فقادته حماسته إلي استنفار نفسه بالوهم, وتلك هي مأساته. ولأن الوهم يعني افتقاد العقل الوعي, ولأن لكل خيار ثمنه, لذا خسر دون كيشوت غاية سعيه, ذلك أنه تخلي عن إعمال العقل, والتدبير, والفهم, إذ أتخمته حماسته فاستسلم لهوس الوهم الذي صنع مأزقه, حيث لم يدرك أن الحد الفاصل دوما في سلوك الإنسان هو مداولة العقل التي تحميه من التشنج, وطرطشة الحماسة المقطوعة الصلة بالفهم, فالعقل يحسن قراءة الواقع وفهمه, ويشخص إدراك علاقة الإنسان به, ويحول المقاصد والقيم إلي نماذج تنظيمية ووسائل عملية, لقد قدم سرفانت شخصية دو ن كيشوت في صورة كاريكاتورية جسدت أزمته, عندما أقال عقله وفقد أهم مايستند إليه الإنسان, فأعماه الوهم والحماسة, فراح يحارب طواحين الهواء علي أنها بشر.
لقد ساند المؤلف في روايته إعمال العقل, مؤكدا أن نبل المقصد وحده لايكفي من دون إعمال العقل. أما تيار العبث فيعلن إفلاس العقل, وأن الجسد عائق, والترحال عديم الجدوي, والزمن راكد, واللغة ماتت, والمعايير غابت, إنها دعوة عدمية ضد الحياة والإنسان معا, وترف تيار نخبوي لايستمع إلي الناس, ولذا لايفيدهم, تمرده محض تمرد يائس, منفلت, يهدر المسئولية, وينتج بالأوهام نشر الإحباط والهزائم والملل. اتصور أن مساحة الحرية في هذا التيار العبثي هي التي بهرتك, ولست ضد ممارسة هذا التيار لحريته, لكني أؤمن بالأدب الذي تشيع فيه الحياة. ويسهم في بناء علاقات التعايش والتواصل بين الحياة والبشر, ولا أطمئن إلي الأدب المجرد الذي يتخلي عن الشاعرية في محاولته البرهنة علي فكرة ما, وقيمة النقد عندي في جدية وعيه في المساءلة والفحص, بوصفه سلطة رمزية علي العقول والنفوس, ومسئوليته أن يهدي الناس إلي مايفتح أمامهم مايغني رصيد الإنسان, ويطور قدراته, ويعزز منجزاته, لا أن يستعديه علي الحياة بفرض وهم جماعي للتغرير بالعالم. تري هل العالم الذي حولك وهم؟ اجبت شيخي: إننا نشاهد فنا وليس واقعا, لقد علمتني أن الأفكار المجردة هي التي تدافع عن نفسها, وأن أفكار الأعمال الإبداعية ليست أفكارا مجردة, بل يرتبط معناها بخصوصية بنائها وصياغتها, حيث من خلالها تستطيع الإفلات من زمن كتابتها والسفر عبر الزمن. ضحك شيخي, ثم علق علي مشاكستي: سنري. لكن الزمن لم يمهله, فقد رحل مبكرا شيخ نقاد مصر الذي لم أكف عن الإصغاء إليه.
رحل في التاسع عشر من مايو1965, رحل تاركا صورة لرجل لم تجد الغواية بكل صورها طريقا إلي حياته السياسية والأدبية, رحل الفارس الذي رفض رخاصة الإنسان, وعودة العدمية, ودافع عن استقلال الرأي دون إقصاء, رحل المناضل الذي كان يؤمن بأن الحرية ليست انفلاتا, بل هي صناعة الحياة, فناهض دعاوى الإفلاس والتردي والعجز.
سلاما عليك أيها الأستاذ العظيم في يوم ذكراك. عش في الضمائر ذكرى غير ذاهبة، وفي النواظر طيف منك لم يغب.
................................
*الأهرام ـ في 19/5/2008م.