مائة رحلة مغربية إلى مكة المكرمة
أحمد محمّد محمود*
ولأن العام 1426 هجرية 2005م هو عام مكة المكرمة ـ عاصمة الثقافة الإسلامية ـ فقد أصدرت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن التي أنشأها ويرأس مجلس إدارتها الشيخ أحمد زكي يماني وزير البترول الأسبق، في مجـــلدين (100 رحلة مغربية ورحلة إلى مكة المكرمة) من تأليف الدكتور عبد الهادي التازي، ولأنه يصعب استعراض هذا الكم الهائل من الرحلات في دفتي المجلدين، فقد يكون أنسب أن نتجول في المقدمات التي صدّر وختم بها المؤلف، لبعض رحلات المغاربة إلى عاصمة الإسلام، فهي تتنقل بك بين جد الرحالة وهزلهم، ويسرهم وعسرهم، وتناولهم لما رأوه وعايشوه من أمور الدنيا والدين، في شعر ونثر.
ولا بد من الإشارة في البدء إلى الأهمية التي أدركها الباحثون في الثقافة الإسلامية لما تقدمه كتب الرحلات من معين لا ينضب من المعلومات عن بلدان العالم الإسلامي خاصة، وبالأخص عن مكة المكرمة، ومن الوفاء لرائد الدراسات الاستشراقية لكتب الرحلات (أغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي) أن نقدم الاستشهاد بما قاله في مقدمة كتابه تاريخ الأدب الجغرافي العربي، حينما أشار إلى كتب الرحلات والجغرافيا على أنها "اتخذت طابعاً جم الحيوية والنشاط منذ القرون الأولى للخلافة، وغدت المصدر الموثوق به في دراسـة ماضي العـــالم الإســــلامي، إذ تتوافر فيه مادة لا ينضـــب معينــــها، لا للمؤرخ ولا للجغرافي فحسب، بل أيضًا لعلماء الاجتماع والاقتصاد، ومؤرخي الأدب والعلم والدين واللغويين وعلماء الطبيعة "ويستشهد (كراتشكوفسكي) بالمؤرخ ـ المقَّري ـ صاحب نفح الطيب الذي أورد في مؤلف وضعه في القرن السادس عشر أسماء 280 شخصًا ممن رحلوا إلى مكة المكرمة في طلب العلم وحده، وليس بغرض التجارة أو الحج.
وهذا ما دعا ( كراتشكوفسكي) ومن بعده (حمد الجاسر) إلى القول بأن الرحالة المغاربة بذوا زملاءهم من عرب وعجم كماً وكيفاً في أدب الرحلات إلى الحرمين.
ولا عجب في ذلك، فإن من أطرف ما استأثرت به مرويات التاريخ المغربي ما تضافرت الروايات على نقله من توجه وفادة مغربية منــــذ الأيام الأولى لظهور نبي الإسلام إلى مكة المكرمة للاجتماع به صلى الله عليه وسلم والاستماع إليه قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة، ويتعـلق الأمر بجمـــاعة تتألف من سبعة رجال من قبيلة رجراج، أشراف قبائل مصمودة، كان شاكر بن يعلى بن واصل على رأسها، وعن طريق هذه الوفادة سمعت بلاد المغرب بالإسلام أول الأمر على ما ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المتوفى عام 1089 هجـرية (1678م).
الحج رسالة
ويذهب (الدكتور عبد الهادي التازي) مؤلف ـ رحلة الرحلات ـ الذي نحن بصدده إلى أن الحج "كان أكبر وأعظم مؤسسة قدّمها الإسلام للمسلمين أينما كانوا وحيثما كانوا، بما تشتمل عليه من تنوع زادٍ، كان الحج أبرز رسالة موجهة إلينا لمعرفة الآخر، ولاكتشاف الآخرين لحوار الحضارات" ويضيف المؤلف إلى ذلك ما تضمنته كتب رحلات المغاربة إلى الحج من ثروة فقهية نادرة المثال، ومن هنا وجدنا بعض الرحلات تزخر بالفتاوى حول ما يمكن أن يحصل في أثناء الحج، وزاد من قيمة الفتاوى أنها لا تنتمي إلى رأي معين ولكنها تعتمد على عدة آرء، وكل رأي له مدركه ومستنده في القضية: ومن هنا كانت الرحلات الحجازية موسوعة فقهية جديرة بالاطلاع.
ولأن الفتاوى اجتهادات بحسب معارف المجتهد وسعة إحاطته بالنصوص التي يقيس عليها، فقد شهدت فتاوى الحج كما وردت في ـ رحلة الرحلات ـ ما أثار الجانب المغربي بصفة خاصة دون الجانب المشرقي من الحجاج، فلم ير المغاربة السكوت عليه مما رآه غيرهم أمرًا غير ذي بال، ومـــن ذلك ما يتعلق ـ بالتبغ أو الدخــــان، فكل الرحالة المغاربة كــانوا لا يتصورون أن يقوم زميلهم بإشعال سيجارة، وعدّوا فعله حدثاً غريباً يستحق أن يروى للناس في المغرب على أنه منكر من المنكرات، وهذا الرحالة ـ ابن الرواندي ـ ثار على الذين يدخنون، فيما علّق على ذلك شعرًا السنوسي التنوسي:
إن أهل الشرق طراً ولعوا
بدخــــان ذي البخــار النتن
واكتفوا من نقطة زيدت على
نتن لســــــــتره بالتـــــــــتن
وأوجدت كتابات الرحالة المغاربة في رأيه فكرًا خلاقاً َكوّن "ثقافة الحج التي مزجت الجانب الفقهي بالجوانب الأخرى المتعلقة بالأسفار وآدابها، وقضايا الإيجار، والعلاقات بين الرجل والمرأة، وضبط تلك العلاقات في أثناء الحج، والتدريب على تحمل المشاق، ومواجهة المصاعب وتخليق الممارسات.
ومما أشار إليه القرآن الكريم في أداء المسلمين لفريضة الحج ليشهدوا منافع لهم، فقد أشار المؤلف في قراءاته لرحلات المغاربة إلى مكة المكرمة إلى ما قرأه فيها عن "الآصرة التي تربط العالِم المغربي من فاس وسوس بالعالِم من بخارى أو خراسان ، كان المغاربة يعودون بحمولة مهمة من الزاد العلمي والمعرفي، كانت مكة المكرمة بالنسبة لهم المرجعيّة التي يشعرون إزاءها بوجدانهم وآمالهم، كما يعودون وهم يحملون معهم ذكريات وإفادات ينقلونها إلى المجتمع الذي ينتسبون إليه".
أحاديث الرحال
ولا بد أن القارئ الكريم يتخيل وهو يخوض في غمار - رحلة الرحلات - التي تستعرض ما قاله (101) رحال في أسفارهم إلى مكة المكرمة تنوعت كتاباتهم لتباين ثقافة كاتبيها وأغراضهم كل يتحدث بما كان يعتقد أنه مقصده، وبما كان يهتم به هو في خاصة نفسه: هذا يهتم بمن يلقاه من الرجال العلماء، وذاك مهتم بالمنشآت المعمارية، وهذا مهتم بالطبيعة وألوانها، وآخرون مهتمون بالمخالفات والمنكرات التي شاهدوها في رحلاتهم، وهؤلاء بأحوال الحكم في البلاد، وهؤلاء بأحوال الأوبئة والمناخ والجو، حتى قرأت عن بعضهم رصد خسوف القمر على سماء مكة المكرمة مما لم أقرأه في كتاب يتعلق بتاريخها، وقد سجل الرحالة المغاربة بعين لاقطة دقيقة أحوال مكة المكرمة وموانئها وما عليه أوضاع سكانها من مختلف النواحي، فهذا (ابن جبير) يفاجئه ما رآه في مكة المكرمة مما لم يره في الأندلس من الأرزاق والطيبات: (كنا نظن أن الأندلس اختصت في ذلك بحظ المزية على سائر حظوظ البلاد، حتى حللنا بهذه البلاد المباركة، فألفيناها تغص بالنعم والفواكه) وهذا الرحالة (ابن بطوطة)، يلاحظ أن الناس في مكة مهتمون بهندامهم ونظافتهم.
ولم يفت بعض الرحالة تسجيل ما رأوا عليه بعض مدن الحجاز من رفاهية عيش، ومن ذلك ما كتبوه عن (ينبع) التي قال عن أسواقها أحد الحجاج المغاربة إنها تحتوي حتى على "لبن النّمل".
على أن كم المعلومات عن مكة المكرمة في كتب الرحالة المغاربة، وهو كم هائل يغطي جوانب هائلة من المعارف والأحداث والأشخاص ، دفع المؤلف إلى أن يقرر "أن تاريخ مكة المكرمة موزع في أقاليم عديدة أخرى، ومن أبرزها وأهمها بلاد المغرب الكبير، بما فيها: الأندلس وطرابلس وتونس والجزائر وموريتانيا وغرب أفريقيا على العموم، ونردد هنا أنه من العام الذي شُرع فيه الحج أصبحنا مدعوين للبحث عن تاريخ الجزيرة العربية في جميع بلاد الدنيا، وحيث يوجد الإسلام، أي إن الجزيرة العربية لم تبق حدودها على ما كانت قبل السنة الثامنة من الهجرة ـ عندما فرض الحج ـ ولكنها حدود اتسعت وترامت وأمست، أو بعض أجزائها على الأقل، محرمة على من يريد اقتحامها ما لم تتوافر فيه شروط الإقامة التي كان من أبرزها اعتناق الإسلام".
وللمرأة حضور في رحلات المغاربة إلى مكة المكرمة التي "سجلت وبشهادة مكتوبة حضور سيدات فضليات وأميرات عالمات جليلات حظِين بشهادة قاضي مكة المكرمة، وطوافهن وسعيهن ووقوفهن بعرفة وبسط ذات اليد للفقير المحتاج، واقتنائهن العقار، وتحبيسه على أهل الخير والصلاح من المنقطعين المتبتلين".
وقد سجل المؤلف معلومات دينية واجتماعية وتاريخية وجغرافية وأدبية، دون أن يترك إسهامات وعطاءات المغرب والمغاربة، ممثلة في ملوكها وسراتها إلى بلاد الحرمين الشريفين و ينبع وبدر وغيرها من المواقع التي عرفت بحاجة ساكنيها أو اشتهرت بدور تاريخي في عصور الرحالة في القرون الماضية، وقد سجل الرحالة ما كان يعطى للأسر الساكنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة من أموال سنوية ويشمل ذلك العلماء والخطباء والأئمة، والأغوات، وخدَمة عين زبيدة، ومصالح الحرم، وشيخ زمزم، وجماعته من الموقتين والمؤذنين بالمنابر، والمكبرين، والمرحمين، ووقادي الحرم، وسراجي الأروقة الأربعة، وسراجي منائر الحرم، وشيالة القمائم، وكناسي الحرم، وفراشي مقامات الحرم، والجباذين ببئر زمزم، والبوابين بأبواب الحرم، وحاملي مبخرة باب الكعبة، وحاملي أعلام الخطــــيب، وكناسي ما بين الصفا والمروة، ومؤذني جبال مكة ، وخدَمة مشــاهد مكة، ومعلمي الصبيان من الرجال والنساء... عالم كبير من الموظفــين نجد تفصيل الحديث عنـــهم في الرحــلات المغربية.
وقد تساءل المؤلف بعد هذا الاستعراض "متى كنا نعرف أن هناك مؤذنين على الجبال المحيطة بمكة المكرمة يُسمّعون ذكر الله لمن كان وراء تلك الجبال؟ ويعرفون أن لهم عطاءات خاصة لضمان وصول صدى تلك الأصوات، عطاءات تأتيهم من وراء البحار؟.
العلم والعلماء
الجانب العلمي في الرحلات المغربية يشغل حيزاً كبيراً من كتابة الرحالة، فرحلة الحج أداء لفريضة افترضها الله على المسلمين، وانتهزها الحاج ليجعل كل رحلته في العبادة، فخصص معظم الرحالة الكثير من وقتهم لطلب العلم أينما حلّوا في رحلتهم، ففي كل مدينة ما بين المغرب الكبير إلى مكة المكرمة يسألون عن العلماء، ويجلسون في حلقات دروسهم يتلقون منهم الإجازات العلمية فيما درسوه، وبعض الرحالة من العلماء يجلسون لإعطاء الدروس لطلبة العلم في المدن التي يمرون عليها، فهي رحلة أخذ وعطاء، وتبادل منافع في أعظم باب من أبواب القربات وهو طلب العلم.
"كل الرحالة المغاربة كانوا يرون أن أخذهم عن علماء مكة كان بمنزلة الختم الذي يزكي زادهم العلمي، ويأذن لهم في إشاعة المعرفة ونشر العلم، أخذوا في مكة المكرمة عن علماء من السند والهند وهمذان وخراسان، والطريف في الرحلات المغربية أنها تروي أيضاً عن سيدات فضليات كذلك من اللاتي كُنّ مصابيح يضئن تلك الأرجاء بعلومهن وثقافتهن وصلاحهن، فيستفيد منهن كل الذين يردون على الكعبة من الأندلس وبلاد المغرب، وهكذا نجد أن مكة حاضرة في الذاكرة المغربية وكأنها كانت ـ كما ذكرنا ـ الختم الذي ُيتوّجون به حياتهم العلمية في أثناء السفر إلى الحجاز، إلى مكة المكرمة، هذا السّفَر الذي ينعتونه بسيد الأسفار".
ويورد المؤلف ـ في رحلة الرحلات - نماذج لأخذ علماء المغرب عن علماء مكة المكرمة ومنهم راوي ـ الموطأ ـ يحيى بن يحيى الليثي المتوفى عام 234 هجرية والذي سمع من سفيان بن عيينة، وأبو عبد الرحمن الشهير الذي ذكر الإمام ابن تيمية أن تفسيره للقرآن أفضل من تفسير الطبري، ومنهم أبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن حيّون من أهل وادي الحجارة ـ قريباً من مدريد اليوم ـ ولقي عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقد قيل عنه ـ لو كان الصدق إنساناً لكان ابن حيّون ـ ومنهم دراس بن إسماعيل المتوفى عام 357 هجرية والذي كان أول من أدخل مدونة سحنون إلى المغرب، ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح القحطاني المعافري الأندلسي المالكي والذي أدركه أجله في بخارى عام 383 هجرية، ومنهم أبو بكر اليابري، أصله من ـ يابرة ـ بالبرتغال، رحل إلى مكة وفيها دفن، ومنهم أبو عمر ميمون بن ياسين الصنهاجي اللمتوني وكان من أمراء المرابطين رغب في السماع من عيسى بن أبي ذر والمتوفى بأشبيلية عام 530 هجرية، ومنهم أبو عبدالرحمن مساعد بن أحمد بن مساعد الأصبحي، ومئات غيرهم من أعلام علماء المغرب ممن ذكرهم المؤلف، وممن ضاق الكتاب عن تتبعهم عبر القرون.
الرحلات المغربية
ويرد المؤلف على تساؤل المتسائل: ماذا قدّمت الرحلات المغربية لقرائها من معلومات؟ ويجيب : قدّمت - في الجانب العلمي - جرداً كاملاً بأسماء الكتب التي كانت تدرّس بمكة، وعناوين الفنون التي كانت محل اهتمام العلماء، المدارس بمكة، كما أفادتنا الرحلات عن ملك من ملوك الإسلام قام بنسخ المصحف الشريف بيده من أول حرف إلى آخر حرف، وأهداه إلى الحرم بمكة مصحوبًا بالأحجار الكريمة واليواقيت الثمينة، وقد أهدى نسخة مماثلة للمسجد النبوي الشريف وثالثة للمسجد الأقصى المبارك، واهتمت الرحلات برصد الأوبئة التي كانت تنتشر في مواسم الحج وتفتك بالحجاج، وكيف أن أمراء مكة كانوا يضبطون أسماء الأموات ولا يسمحون بدفنهم إلا بعد التأكد من هويتهم ووضعهم، كما اهتم الرحالة بالسيول التي كانت تجتاح مكة في المواسم، وكيف دخلت مياهها إلى الحرم، وكيف أن العديد من الحجاج كانوا يطوفون بالحرم سباحة، وما يترتب على ذلك من سؤال فقهي: هل يجزئ الطواف سباحة أم لا بد من الطواف على الأقدام؟ كما تركوا لنا ما رصدوه من أنواع الإنتاج الزراعي من خلال ما كان يحتاج إليه الحاج من طعام وشراب.
ولم يغفل الرحالة نقل ما شاهدوه من طرائف وغرائب بعض الممارسات ممن يفدون إلى الحج، واللافت للنظر في حديث الرحالة عن وسائل المواصلات الشائعة في عهودهم: الحمار الذي يربط بين جدة ومكة المكرمة بما ذكر عنه من صغر الحجم وخفة الحركة، وقد اشتهرت الكسوة التي كانت ترد من مصر من أوقاف الحرمين فيها إلى الكعبة المشرفة كل عام وينقل لنا المؤلف أن ملوك المغرب، ومنهم يوسف بن يعقوب كانوا يرسلون كسوة إلى الكعبة المشرفة منافسين في هذا العطاء في عصرهم دولة المماليك في مصر، كما كان الركب المغربي ينافس ركب العراق والشام.
ويشكل لقب الحاج أهمية معنوية يحرص عليها كل من يؤدي فريضة الحج من المغاربة، خاصة من غير المنتسبين منهم لآل البيت، وأمسى لقب الحاج عند بعض المغاربة يعوّض الاسم العائلي، لأن المسافة بينهم وبين مكة المكرمة لم تكن مسافة قصيرة ولا سهلة، ولا حتى آمنة، ومرت بنا مجموعة كبيرة من المغاربة ممن كانوا يرون أن شخصيتهم إنما تكتمل عندما يذكرون أن لهم رحلة إلى المشرق، وأنهم قصدوا مكة المكرمة بالذات، وحرصوا على أن يأخذوا عن شيوخها، ولم يكن الأمر يقتصر على الرحالة من الرجال ، فقد احتوى السِّفر الكبير على سيدات ممن رحلن إلى الحج وسجلت رحلاتهن، ومنهن:
الأميرة ـ الوالدة ـ 728 هجرية (1338م)، وهي الأميرة مريم حظية السلطان أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق رأس دولة بني مرين "كان السلطان يرغب في إرسال والدته للحج فلما توفيت أرسلها لكونها في منزلة والدته، فقد كانت مربيته فعلا ً، ومما زاد في أهمية الرحلة أن الأميرة كانت تحمل معها هدية فريدة إلى المسجد النبوي لم يعرف التاريخ مثلها لملك من ملوك الإسلام، فقد نسخ العاهل المغربي السلطان أبوالحسن ابن أبي سعيد بيمينه نسخة من القرآن برسم الوقف الخالص للمسجد النبوي الشريف، وزود الركب بمبلغ كبير من الأموال لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفاً على الذين يقرؤون في المصحف عبر الدهور والعصور، ومنهن الأميرة مريم أخت السلطان أبي الحسن والتي حملت معها المصحف الثاني والذي كتبه السلطان بيده وأهداه إلى بيت المقدس، وقد تصفحه المؤلف خلال زيارته للقدس الشريف عام 1379 هجرية (1959م)، وكانت رحلة الأميرة عام 745 هجرية (1345م)، وحملت رسالة من أخيها إلى ملك مصر الملك الصالح أبي الفداء إسماعيل بن الملك الناصر، تضمنت رغبة ملك المغرب أن يدعو له الخطباء يوم الجمعة، وأن يُكتب لأهل الحرمين الشريفين كذلك.
ومنهن الأميرة خناثة بنت بكار ـ المتوفاة عام 1155 هجرية ـ
(1742م) زوجة السلطان المولى إسماعيل مؤسس الدولة العلوية، وكانت من العالمات اللائي أسهمن في حياة المغرب السياسية والفكرية، وقامت بحجتها التاريخية عام 1143 هجرية (1731م، وقام بتسجيل الرحلة الوزير أبو محمد عبد القادر الجيلاني الإسحاقي، والذي حرر للأميرة وبطلب منها فتوى بمكة المكرمة تجيز تملك العقار في البلد الحرام.
ويصف حج الأميرة "وصلت ليلة السادس ـ من ذي الحجة ـ إلى مكة المشرفة بعد العشاء وعليها السكينة مرفرفة، وهي في جلالة عظيمة وسيادة فخيمة، في محفل من الأجناد، وجمع من الأجواد، ولهم زجل بالتلبية والأدعية، فطافت طواف القدوم وطلعت إلى دارها المكري المعلوم، ثم إنها طلعت إلى عرفات ولها دويّ بالتسبيح والتقديس، وكانت الوقفة يوم الخميس، ثم نزلت إلى منى فأقامت ثلاثة أيام وأكثرت من الهدي، وبذلت الشراب والطعام، ثم نفرت إلى مكة وجاءت بعمرة الإسلام، تكثر من الصدقات على الدوام، وبذلت بغير حصر، وأعطت عطاء من لا يخاف الفقر.
ويصعب على القارئ ترك مجلديْ الكتاب ـ رحلة الرحلات ـ قبل أن يأتي على آخر صفحة فيهما، لما تضمناه من اختيار لأطرف القصص والمعلومات التي أوردها الرحالة في شتى المجالات، ولا شك أن تتبع وتلخيص أكثر من مئة رحلة بعضها في مئات الصفحات ما كان بالأمر الهين، لقد كان لزامًا عليّ أن أرحل إلى حيث أحقق رغبتي، فرحلت إلى ألمانيا الشرقية، وإلى لندن، وإلى مصر والإسكندرية، وإلى الجزائر، ولا أتحدث عن المغرب فقد أزعجت المشرفين على المخطــوطات سواء بالعاصمة الرباط أو سلا أو بفاس أو مراكش أو تطوان أو طنجة، ومع كل الأتعاب التي كنت أحسها، لكني مع ذلك كنت أشعر بالمزيد من المتعة وأنا أعيش مع المعلومة الجديدة أقرؤها ومع الخط الصعب أكتشفه.
وما من قــارئ لهذا السفر الكبيــــر إلا ويشارك (أحمد زكي يماني) مؤسس ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي الرأي في تقديمه: "مهما تحدثتُ عن القيمة العلمية والتاريخية لهذا المؤلف الجليل فلن أوفيه حقه، ومهما توجهتُ إلى أستاذنا التازي بالشكر على صنيعه فلن أوفيه جزاءه، فذلك أمر نكله إلى رب البيت الحرام الذي قيّض لنا مثل هذا العالِم، فأضاف إلى الكثير من مؤلفاته وتحقيقاته هذا المؤلّف الذي تضعه ـ الفرقان ـ بين يدي الباحثين، ليكون درّة مضيئة بين أعمال أستاذنا التازي.
...........................
*كاتب سعودي
المرجع: رحلة الرحلات ـ مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة ـ تأليف الدكتور: عبد الهادي التازي ـ مراجعة الدكتور عباس صالح طاشكندي ـ الناشر: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ـ لندن عام 1426 هجرية 2005م.
د. أبو شامة المغربي