قضايا نقد الأدب العربي الحديث:كانت النور تطمح من خلال تبني صفحتها الثقافية لملف (قضايا نقد الأدب العربي الحديث: حضوره، تأثيره، مرجعياته، آفاقه..) أن يستطيع المساهمون فيه تقديم أجوبة عن كثير من التساؤلات والهواجس التي تؤرق المبدعين وغيرهم ممن يهتمون بهذا الجانب الثقافي الهام، فهل استطاع الملف أن يجيب عما ذهب إليه الملف؟
حضوره، تأثيره، مرجعياته، آفاقه
سبع عشرة مشاركة، قدمت على مدار ثلاثة عشر عدداً، تباينت في درجة اقترابها من موضوع الملف، فأجاد البعض عرضاً وتحليلاً، وسقط البعض في هوة الخطاب المدرسي وهاجس الشخصي لا الموضوعي، استطاعت أن ترسم ملامح لمحاور متعددة عن النقد الأدبي من خلال المشاركات التي تنوعت مضامينها لتجوب آفاق النقد الأدبي العربي باحثة عن تقاليده، متعمقة في بعض فنياته، كاشفة ثغراته وآفاقه المستقبلية وعلاقته مع الإبداع من جهة، وعلاقته مع الآخر الغربي من جهة أخرى، لتشكل في مجملها مجموعة من الاستنارات التي سنحاول استعراضها، على نحو موضوعي من خلال قراءتنا الموجزة هذه:
يرى صادق عبد الرحيم: (أن العلاقة ما بين المبدع والناقد قد باتت موسومة، في وقتنا الراهن، بالخصومة)، وتساءل إن كان (يدخل في هذه الخصومة ما يتحدث به بعض المبدعين لا كلهم عن غياب النقد؟ وهل يدخل في هذه الخصومة ما يتحدث به بعض النقاد لا كلهم عن تدني الإبداع؟ أم أن الحديث عن غياب النقد وحضوره، وتدني الإبداع وارتقائه، قضية قائمة بذاتها لا علاقة لها بالخصومات الأدبية؟)
وهو الأمر الذي رجحه الأستاذ عبد الرحيم، واتفقنا معه إلى حد كبير عليه، إلا أننا لا يمكن لنا أن نسقط في أي حال من الأحوال (الخصومة الأدبية) وما هو شخصي فيها وما ترتب عليه من علاقة شائكة بين الناقد والمبدع بدت واضحة في اختلاف الرؤى والأفكار المطروحة في المشاركات، التي سنحاول أن نعرض لبعضها كما وردت بأقلام أصحابها، تاركين للقارئ العزيز تبني خيارته، مع العلم أن لنا خياراتنا أيضاً، فرضت حياديتنا بوصفنا معدين للملف، أن لا نجاهر بها.
1ـ إشكالية العلاقة بين الناقد والمبدع- محمد عزام: مطالب الأدباء لا تنتهي، فكل أديب يريد من كل النقاد أن يكتبوا عنه، وعن تجربته الأدبية، وأن يجعلوه قدوة وأنموذجاً، وإلا فإنهم مقصرون!!
- نبيل سليمان: من كتب (قزّيطة) في الرواية أو الشعر أو القصّة مثل من تكاثرت (قزّيطاته)، يطيشه ألاّ يأبه النقد به، ويطيشه أن يرميه النقد في سلة المهملات، ويطيشه أن يلتفت إليه النقد إذا كان في (القزيطة) ما يُلتفت إليه، فتبدأ الشكوى من تعالي النقد أو صمته، ويبدأ التباهي بتلك (القزيطة) كأنها يتيمة العصر.
ـ د.محمد جمال الطحان: الاستفزاز الأول الذي يقترفه بعض المبدعين هو عدّ الناقد مشروع مبدع فاشل، مما يؤدي إلى استنهاض حفيظة الناقد فيحرص على معاملة النص بأسلوب عدائي حتى قبل أن يطلع عليه.
- أحمد تيناوي: ضمن ما نراه من أطر نقدية رائجة، نستطيع القول إن المسافة الشخصية في علاقة الناقد بالنص تبنى على تنحية المعرفي ـ الموضوعي، وتستعيض عنها بالمعرفي ـ الشخصي؟ ليفقد كل منهما (المعرفي والنقدي) مبررات وجودهما: أولاً كمصطلحين أساسيين في صياغة مشروع نقدي عربي، وثانياً كوظيفة مرجعية تتحد وفقها رؤية علمية لا تعنى بدوافع أنا الناقد أو ذاته وعلاقته بالكاتب سلباً أو إيجاباً.
ـ خليل موسى: الكتابة عن الأحياء عندنا ورطة نقدية راعبة... باختصار شديد عليك في الكتابة عن الأحياء إما أن تضع لسانك في جيبك وتكون إمعة لا غير، أو أن تتلقى السهام، وإذا كنت إمعة ما كنت ناقداً، وأنت إزاء أمرين أحلاهما مر، ولذلك فإن الكتابة عن الأموات أسلم عاقبة، وإن كنت أيضاً لا تسلم من أقربائهم وذويهم.
2- غياب النقد وتخلف الإبداع- د. نضال الصالح: أعدُّ غياب النقد الجاد، والمخلص للحقيقة، والمعبّر عن مخزون معرفيّ كافٍ بمعنى الممارسة النقدية ونظريات الأدب وإنجازات النقد، سبباً رئيساً بحقّ في غلبة الكتابات الناحلة فنياً على الكتابات التي تستحق شرف الانتماء إلى الإبداع.
ـ جمال عبود: لا يستنهض النقد الجيد بالضرورة نصوصاً إبداعية جيدة، كما أن الأعمال الجيدة لا تستحضر بالضرورة نقداً جيداً، مع ذلك يبدو أن نهوض أحدهما يتزامن مع صحوة الآخر وانتعاشه، والسبب في اعتقادي ليس نابعاً من علاقة تبادلية بين الاثنين بالضرورة، وإنما من طبيعة (المناخ) الصحيح والمعافى، والذي هو شرط لنهوض الأدب والفن والاقتصاد والسياسة.... وبعيداً عن التبادلية، في التأثر و التأثير، أحب أن أعتقد بوجود تكاملية بين الإبداع والنقد.
ـ د. سعد الدين كليب: القول بغياب النقد يبدو قولاً مجانياً أو قولاً لا ينهض من استقراء لواقع النقد وإسهاماته. أو أنه قول يتطلب من النقد ما ليس من اختصاصه وقضاياه....
يمكن أن يوجد أدب عظيم دون نقد، ويمكن أن يوجد نقد عظيم دون أدب عظيم معاصر له، ومرد ذلك إلى أن كلاً من الأدب والنقد نشاط مستقل عن الآخر، فالأدب نشاط جمالي، أما النقد فنشاط عقلي في الدرجة الأولى.
ـ حسني هلال: إن الناقد، على ما في حضوره من فائدة مرتجاة، لم يكن غيابه في يوم من الأيام، لينفي مبدعاً موجوداً أو ليلغي إبداعاً قائماً، لأن الإبداع الحق هو ما يحمل داخله أسباب حياته.
ـ ثائر زكي الزعزوع: لم تعد القضية قضية إبداع بحاجة إلى نقاد، بل هي قضية خلل عام، وغياب النقد أو انزوائه ساهم في تعزيز هذه الحالة وترسيخها، وتثبيت دعائمها.
ـ د.رضوان قضماني: سيغيب النقد إذا غاب الأدب، وإذا عانى الإبداع الأدبي أزمة فإن النقد أيضاً سيعاني هذه الأزمة، وإذا كان الإبداع العربي يعاني ما يسميه بعضهم (أزمة النقد) أو (فوضى النقد) فهي (أزمة) أو (فوضى معرفية) تنبع من الحالة التي يعيشها المثقف العربي عموماً في ظرفه الموضوعي المرتبط بثقافة سائدة، هي ثقافة سلعة ومستهلك ومنتج.
ـ جبر الشوفي: كلما غاب النقد الجاد، أو ضعف، وتشتتت مذاهبه، ازداد الأدب هزالاً وعزلة عن حياتنا...
ـ محمد شويحنة: العملية حقاً ليست سبقاً في الوجود وفرض التأثير، إذ إن ما يحصل هو تبادل التأثير بين العمليتين، الإبداع الأدبي والنقد، النقد يطور أدواته وتعامله وفق ما يستجد في الحداثة الأدبية، والأدب يقيس نفسه بالمنظور النقدي العلمي المنظم...
3ـ المناهج النقدية الغربية وقضايا التأصيل والمعاصرةـ نبيل سليمان: غلب لدى كثيرين الانبهار بالإنجاز النقدي للآخر، وغلبت التبعية، وضمر الحوار مع تلك النظريات، وبالتالي ضمرت الإفادة منها، غير أن ذلك بدأ يأخذ مساراً آخر منذ عقدين على الأقل، فلم يعد كل ما أنتجه الآخر مقدساً بالمطلق أو مدنّساً بالمطلق...
ـ د.ممدوح الفاخوري: المشكل ـ كما يبدو وكما سبق القول ـ في التهالك على تطبيق معايير النقد الغربي الحديث بحذافيرها وبكل ما فيها، من غير النظر إلى الفرق بين أدب أمة وأمة، وظروف أمة وأمة، وبيئة أمة وأمة.
ـ صادق عبد الرحيم: ذهب فريق من النقاد، الذين يعتقدون بأن النقد علم، إلى استيراد المناهج النقدية من الخارج، كاستيراد النظريات العلمية، أو بالات الألبسة الجاهزة، وعكفوا على تنظيرها، عكوفهم على استبدال أشكال الأرقام، أو تغيير المقاسات، لتدخل في دائرة فهمنا، وتصبح على مقاسنا.
ـ أحمد تيناوي: نحن، كما غيرنا من شعوب معولمة، لا نستطيع أن ننتج فلسفتنا الخاصة، (لأننا في الواقع نفتقد إمكانية الحراك بجميع أبعاده)، دون أن نستعير من الآخر ـ المعولم، أدواته المتقدمة جداً...
ـ د.خليل الموسى: النقد العربي الحديث منذ عصر النهضة ذو مرجعيات غربية وما زال، ولا أرى في ذلك عيباً أو خللاً، ومقولة بعض النقاد في إقامة نظرية عربية معاصرة فيها كثير من الادعاء والزلل.
ـ د.رضوان قضماني: لا بد من نظرية نقدية تنبع من الأجناس الإبداعية الجديدة وتبحث في جمالياتها ومكوناتها بعيداً عن الادعاءات النظرية، في محاولة لتحديد هويتها الإبداعية والثقافية، وهي محاولة تعتمد على الاجتهاد والبحث والاستقصاء، وتقوم على جدل خلاق مع الثورة النقدية الغربية، سعياً إلى إبداع صيغة حضارية تحقق التوازن الفاعل بين الخصوصية وتمثل إنجازات الآخر في إطار هذه الخصوصية.
ـ محمد شويحنة: بعض الاتجاهات مازالت منشغلة بمحاولة تطويع النظريات والمناهج النقدية الغربية لفهم الظواهر الأدبية العربية، وخطورة الأمر أن نظريات النقد الغربية قد تطورت باستمرار في سياق تاريخي واجتماعي ثقافي مغاير للسياق العربي بل تمت باستمرار عملية التواصل ما بين الناقد والمبدع دون أن يتخلف أحدهما عن الآخر.
في مقابل اختلاف الرؤى الذي جاء موزعاً ما بين ما هو موضوعي وما هو شخصي كما بدا واضحاً في المحاور الثلاثة السابقة، التي عنت بإشكالية العلاقة مع الآخر، مبدعاً كان أم ناقداً، اتفقت معظم المشاركات على عدة محاور أخرى تطرقت لقضايا إعداد الناقد الجيد وكيفية التعامل النقدي مع النصوص، وما تعانيه الساحة النقدية من اختلاطات لا علاقة لها بالنقد، فضلاً عن انحسار دور الجامعات فيها:
1- إعداد الناقد الجيدـ نبيل سليمان: يأتي إعداد الناقد بالعلم أولاً، وبالممارسة ثانياً، وبالقراءة والحوار والنزاهة والشجاعة أولاً وثانياً.
ـ محمد عزام: إذا أردنا إعداد الناقد الجيد فعلينا أن نتأكد أولاً من أنه يمتلك الموهبة التي من ثم نغذيها بالمران والدربة.... وبعد هذا كله وقبله يجب أن تتوافر الرغبة واللهفة والمطالعة الدائمة.
ـ إسكندر نعمة: كل ناقد غير معفي إطلاقاً من تحصيل ثقافة إنسانية شاملة، بل هو مطالب أن يكون موسوعة عصرية حضارية ضاربة في أعماق الفن والفكر التراثي والمعاصر...
ـ جمال عبود: إن عملية إعداد الناقد قائمة، ولكن يجب أن نعيد النظر في نظامها وبنيانها، وليس فقط في وسائلها وأدواتها، فالزعم أنها أزمة وسائل وأدوات... تمييع للموضوع، والصحيح هو أنها (آلية إنتاج هذه الأزمات وتعويمها على السطح)، والمطلوب إيقاف هذه (الآلية) والخروج من ثقافة الأزمة وعندها تهون كل الأزمات...إن لم تتلاشَ فعلاً.
ـ حسن الصفدي: يتعذر أن يكون طريق الناقد إلى النجاح والتألق عبر الخضوع للأفكار المسبقة وإصدار أحكام ناجزة تستند إلى قناعات جامدة/ دوغمائية.
ـ جبر الشوفي: ولا بدّ للناقد من أن يكون بريئاً من الهوى، مرهف الحساسية، قابلاً للمراجعة، والاختلاف.
2- التعامل النقدي الأمثل مع النصوصـ محمد جمال الطحان: ما المانع من دراسة النص بنيوياً ونفسياً ووصفياً.. من حيث ارتباطه بالزمان وبالمكان وبالكاتب، ثم من حيث فصله عنها أو عن بعضها، لنتمكن، في النهاية، من استيعاب أبعاده كافة؟
ـ صادق عبد الرحيم: النص النقدي الأكثر حضوراً ـ في اعتقادنا ـ هو النص الذي لا يلوي عنق النص الإبداعي لصالح المنهج الذي انطلق منه.
ـ جبر الشوفي: تبدو مشروعية النقد الأدبي، كموقف من الإبداع لا المبدع، بل كمرجعية فنية وعلمية تتمحل الوسائل، لتكشف في النص مستويات حضوره الجمالي والمعرفي.
3ـ الاختلاطات التي تعانيها الساحة النقديةـ خليل الموسى: قد استسهلت فئة من الناس النقد، وكأنه بحر الرجز، فدخلوا إليه من الباب الواسع، ولم يمروا بصفحة أدب القراء. وكلنا يعرف كيف يدخل الفاتحون المدن الصغيرة، وكثير من هؤلاء يحتاج إلى دورات محو أمية.
ـ محمد شويحنة: الساحة النقدية العربية تعج بالكثير من الهشاشة في التناول والاستسهال بل التسطح في فهم التيارات النقدية المعاصرة. وعدم تتبع المصطلحات في مظانها الأصلية، بما يتضمنه ذلك من دلالات فلسفية ونقدية هامة، أو محاولة تطبيقها بآلية ساذجة والتعامي عما يحمله النص العربي من خصوصية مستمدة من سياق آخر غير السياق الأجنبي.
4- انحسار دور الجامعاتـ جمال عبود: لا نكاد نرى حضوراً حقيقياً للجامعة خارج أسوارها، ولا نرى حضوراً حقيقياً للإبداع ومشاركة للمبدعين داخل أسوار أية جامعة... إلا فيما ندر واعتماداً على جهود فردية متواضعة جداً، ومحدودة الأثر جداً.
ـ محمد شويحنة: يكاد دور الجامعة ـ إلا فيما ندر ـ ينحصر في الجانب التعليمي النقلي لا الإبداعي شيئاً فشيئاً.... وبدأ الأستاذ الجامعي يتحول بقوة إلى مجرد ملقن للعلم لا مبدع فيه، يوجه أو يوافق طلابه على تناول موضوعات بائتة أو ميتة أو منشغلة بموضوعات جزئية في أدب عصر من العصور.
بالعموم: الملف حول النقد خطوة جيدة نأمل أن يكون قد أثار القضايا المتعلقة بهذا الركن الأكثر أهمية في ساحة الإبداع، عبر ما قدم من مشاركات نجد أنها كانت على تنوع جيد، ولكن هناك محاور لم تعالج تماماً، نأمل استكمال الثغرات فيها في محاولات قادمة.