الرحلة في الأدب العربي
كتاب في النقد الأدبي
صدر حديثا في القاهرة كتاب بعنوان:
"الرحلة في الأدب العربي: التجنس... آليات الكتابة... خطاب المتخيل"
للباحث
شعيب حليفي
وفيه يستعرض الرحلة في الأدب العربي بصفتها نصاً ثقافياً تنكشف فيه الذات العربية والمسلمة انكشافاً إضافياً ومركزياً من خلال صورتين بارزتين هما صورتا: الأنا والآخر. فالنص الرحلي، بحسب شعيب حليفي، أحد أهمِ النصوص الثقافية القادرة علي كشف جوانب الهوية العربية والإسلامية ومعرفة حساسيتها، ورصد استجاباتها وتفكيك مكوِناتها واستراتيجياتها الثقافية وأكثرها غنيً وأشدها ثراء وإنتاجاً للمفاهيم الثقافية، لما يقدِمه من تفاصيل متنوعة وزاخرة.
وينطلق الباحث حليفي من تحديدٍ منهجي مفاده أن الرحلة العربية، قبل القرن الثامن عشر، كانت تستهدف زيارة الأماكن المقدسة والمعالم الدينية، توكيداً لعمق روابطها ورموزها في المخيال العربي ودفاعاً عن حضورها في الثقافة والفكر. إلا أن الرحلة، بعد هذا التاريخ، ستطرأ علي دوافعها تحولاتٌ مهمة وأهدافٌ جديدةٌ من أبرزها: اكتشاف الآخر، وإدراك قوته وتطلعاته، ورصد أمكنته، ومعرفة تقاليده الثقافية، تمهيداً لمحاورته ونشر الثقافة الإسلامية وتعاليمها، إضافة إلي سبب يرتبط بالذات العربية وهو البحث عن تفكيك مأزق الذات وكشف أسباب انكسارها وتراجع مشروعها الثقافي. لهذه الأسباب وغيرها نشأ تحولٌ في أشكال الرحلات العربية وغاياتها، فكان أن تشكلت الرحلات السفارية، والجغرافية، والسياحية.
ويميّز الباحث حليفي بين مستويات الرحلة من حيث: الوقائع التسجيلية، والانطباعات، والوصف، والمشاهدات، والغايات المعلنة، والدوافع المضمرة، إضافة إلي إشارته إلي تعدد الأشكال التي ينطوي عليها النص الرحلي، فهو يتضمن: توثيق الأحداث، ورصد الأخبار، وكتابة السير، والتراجم، وتدوين الرسائل، علاوةً علي انفتاحه علي التجربة الإنسانية المتداعية زماناً ومعرفة ومكانا،ً مما يجعله غنياً بالثيمات والدلالات المتناسلة والعلامات المتوالدة. ويري حليفي أن هذه المستويات والأشكال الخطابية يكاد النص الرحلي يتفرد بها عن بقية النصوص الأخري، ذلك أن طاقته التعبيرية التخييلية الناجمة عن تداخل كل المستويات والأشكال قادرةٌ علي ضخِ المفاهيم والدلالات ذات الخصوصية الشديدة التي لا تملكها النصوص الأخري التي توقفت واقتصرت علي إنتاج مفاهيم ودلالات نسقية. لذلك كله، يكتسب النص الرحلي فرادة تكوينية، إذ يدفع المقاربات إلي تجديد الأسئلة الثقافية وإضاءة المساحات الجديدة.علي أن ثراء النص الرحلي يجعله عرضة للتجزئة والاستبعاد، إذ غالباً ما يعمد النقاد إلي إخضاعه لمعايير الكذب والصدق بحثاً عن الحقائق ، وفي هذه النقطة يقترح حليفي ضرورة احترام الشكل التعبيري وتقطيع النص وكشف مراحله ثم تفكيك آليات الكتابة التي تصهر المراحل كلها.
وبحسب حليفي، فإن شخصية الرحالة وثقافته تؤديان دوراً مضاعفاً في تشكيل النصِ الرحلي حيث تتعالق الذات بالشكل والمرجع، لذلك يختلف النص الرحلي باختلاف ثقافة الرحالة وممتلكاته المعرفية وخلفيته الإبداعية فقد يصطبغ النص الرحلي بصبغة تأريخية أو جغرافية أو أدبية أو تصنيفية أو سِفارية، الأمر الذي يحتم علي الباحث دراسة علاقة الرحلة بالحقول المجاورة.
وتستمد الرحلة العربية جذورها الثقافية من النص القرآني الذي كان عاملاً حاسماً في انبثاق السرد بأشكاله المختلفة وخطاباته المتعددة. ونظراً الي الحوافز المعرفية التي نجح النص القرآني في ترسيخها، اتجهت الثقافة العربية نحو رصد مختلف التجليات التي يحيل إليها هذا النص لكشف دلالاته ورموزه الثقافية بدءاً بمباحث الإعجاز البلاغي والقصص القرآني كمرحلة أولي ومروراً بالسرد التاريخي المتمثل في نصوص الأخبار، والمغازي، والسير، والتراجم، والطبقات، وتاريخ المسالك والممالك كمرحلة ثانية، وانتهاء بالسرد الديني المتمثل في وقائع الأنبياء، وأخبارهم، وقصص الأمم الغابرة، وحكايات الخلق، وسير الملوك، والغزاة كمرحلة ختامية.
ونتيجة تحولات السرد العربي وتعقد مساراته تبدو نصوصه في غاية التشابك والتداخل، ويضاف إلي ذلك تنامي وظائفه، إذ حقق انتقالاً تدريجياً وتطوراً فنياً هائلاً أدي إلي انتقاله من المساحة الدينية المحددة بدوافع كشف دلالات النص القرآني إلي السرديات الثقافية بمعناها الأوسع والأشمل، الأمر الذي أدي إلي ميلاد أشكالٍ سردية ذات طبيعة أدبية مفتوحة علي الدلالات الثقافية المجاورة التي تكفل النص الثقافي العام برعايتها وحفظها.
وخلاصة القول: إن عمل الباحث شعيب حليفي يتضمن جهداً منهجياً مميزاً يتمثل، علي وجه الخصوص، في تشقيق المادة النصية وفصلها عن سياقها التاريخي ليتسني له دراسة النصوص وكشف أبعادها السردية ثم إعادة ربط هذه الأبعاد بالسياق التاريخي.
وهذه المعالجة المنهجية من شأنها تحقيق أمرين، الأول: عدم إلحاق النص الأدبي بالتاريخ ليغدو نصاً تاريخياً. والثاني: حتي لا يصبح النص الأدبي متعالياً علي سياقاته الثقافية ومكوناته الدلالية وفضائه التاريخي.

د. أبو شامة المغربي