يسألون عن النقد الأدبي
لا أحد يجادل في حتمية العلاقة بين الأدب والنقد، أو في شرط الوضع الطبيعي للإبداع واستمراريته، المحكوم بفعل الأدب في النقد، وبأثر النقد في الأدب.
"الحياة" .. هذه الأم الأدبية، التي تستظل تحتها جميع الإنتاجات الأدبية، تفرض نفسها بحدة أولا وأخيرا، شاهرة كلمتها الفصل: أما الهذيان، فيذهب هباء، وأما ما يفيد الإبداع في شيء، ويشد أزره، فيمكث في الساحة الأدبية والثقافية ...
"الحياة" .. إنها الحقيقة التي تسكن الأدب، ويقيم فيها هذا الأدب إقامة لا رحيل له عنها، ولا ترحال له في غيرها .. تذكره الحياة في صمت وغير صمت، ويذكرها الأدب بغير فتور، جاهرا بأعلى صوته: ألا بعدا للغرور، وقربا لجسر يمكن النفس من الابتعاد عن السفاسف، فيتأتى بذلك العبور إلى حيث يستمد الشعر والنثر قوتهما من شعلة الحياة وألقها، والتي بدونها ما كانت تقوم للأدب والنقد قائمة.
لكن واقع النقد الأدبي في البلاد العربية موبوء، وهذه حقيقة لن نجد في الوقت الراهن سبيلا إلى إنكارها وتجاهلها، فيكفي دليلا أن أغلب النقاد العرب يجرون اليوم وراء سراب، تراهم حيارى يتهافتون على ما أفرزته المدارس الأدبية والنقدية الغربية من اصطلاحات أو ملفوظات بالأحرى .. ينفخون فيها من انبهارهم الساذج، وقد أخذتهم العزة بالغرور وادعاء علم مستور، فتصير في أعينهم بيت القصيد، بينما هم واهمون يطلبون منها المزيد.
هكذا صار لدينا في البلاد العربية نقاد من ومن، وما هم بنقاد في قليل أو كثير، إن هم إلا متطفلون لا أقل ولا أكثر .. صار لدينا من ينافق ويجامل بكتابات يدعوها (نقدية)، وصار لدينا من يلهث وراء الشهرة باسم النقد الأدبي، ومن يلقي بنفسه في دوامة الملفوظات (النقدية) الغربية، بدعوى أن النقد والأدب لا موطن لهما، وأن المصطلحات النقدية الغربية ضالة الناقد، حيث وجدها التقطها، متناسين أو غافلين عما خطه الجاحظ فب بيانه وتبيينه، من كون المعاني هي المطروحة في الطريق، أما الألفاظ بما فيها المصطلحات هي التي تحتاج إلى تمحيص وإعمال نظر ...
والمثير حقا هو أن كل من ومن من أولئك (النقاد) يعتقدون أنهم يبدعون نقدا، ويسهمون في إخصاب الحركة النقدية في البلاد العربية، والحق أنهم يخادعون أنفسهم، أما القراء المتميزون، بكل ما في هذه الصفة من معنى، فهم عليهم مشفقون...
أين هم النقاد المبدعون، الذين يبحثون بأعمالهم عن الحياة الأدبية الأفضل؟ .. أين التباري والتنافس الشريف، والسعي من أجل ارتواء شجرة الإبداع والنقد؟ ...
هم قلة على أي حال، ودوام هذه الحال من المحال، لأن ثمة من لا ينطقون العربية ولا يكتبونها، لكن لهم أفكارا ورؤى جديرة بالاعتبار، فلا يكفي ما حققه أدباء لغة الضاد في بلادنا من قراءات وكتابات أدبية ونقدية، بل يجب الاهتمام بكل ما أفصح عنه جميع الناس من أدب شفهي باجتهاداتهم البسيطة ...
إن ما ننعته بالأدب الشعبي، أو أدب اللهجات مثلا، ليمثل ثروة هائلة، تستدعي مساءلة واقع ثقلفتنا وآدابنا العربية الإسلامية، لا سيما وأنه واقع مبتور الهوية، إذ كيف يغقل أن نتحدث عن ثقافة أو آداب عربية في غياب الأدب الشعبي أو أدب اللهجات، وذلك باعتبار الحديث عن مختلف المكونات والتجليات الإبداعية: الأدبية والنقدية، وهذا موضوع لا تستهان الإحاطة به في هذا المقام ...
إن المبدع الحق، أديبا كان أم ناقدا، ينحت أعماله الأدبية أو النقدية من الحياة .. صحيح أن للذات الفردية المثقفة فعلا وحضورا معرفيا، لكن طابعها في النهاية غير غالب في الحياة الأدبية والنقدية .. لماذا؟ .. ليبب بسيط، هو أن هذه الذات بسكناتها وحركاتها متصلة أساسا بكنه الحياة الجماعية، التي تظل فضاء للبذل والعطاء المتواصل ...
فمن يسع الأدب إلا النقد الأدبي؟ بل من يسع الحياة إلا الحياة؟ فهل من مقر معترف؟ وهل من منكر جاحد؟ هذا سؤال بيني وبين عدد من النقاد في البلاد العربية، أهمس به لهم، وأنتظر الإجابة منهم عليه .. بعدما تأكد لنا بالواضح والملموس تفشي ظاهرة النفاق الأدبي والنقدي معا ...
لقد انفرد البحث الجامعي الأكاديمي لوحده في العالم العربي بحظ الأسد من الفعل النقدي الأدبي، وهذا الإنفراد ظاهرة تثير استفهاما كبيرا، نستطيع إيجازه في كلمة واحدة: لماذا؟ .. ولنا أن نستفهم في ذات السياق عما تتعرض له معظم البحوث الجامعية في عالمنا العربي الإسلامي من وأد وتغييب قائم ومتواصل على قدم وساق؟؟؟
ثم إن الأكثر غصة ومرارة، هو أن غير قليل من النقاد العرب يحاولون ولوج باب التنظير والتطبيق للنقد العربي باستعارات عشوائية لمفاهيم وأدوات منهجية إجرائية غربية، وذلك بعد تشكيل وترسيب قطيعة بين حاضر الإبداع النقدي وماضيه طلبا لحداثة مزيفة، وفي هذا وباء وخيم في عرف العارفين المستبصرين ...
إنه داء يحول بين بلوغ نظرية نقدية عربية، تشمل مختلف الأجناس الأدبية، والأكثر غرابة ورتابة في الأعوام الأخيرة، هو ذاك الهذيان الذي وقع في شركه كثير من دعاة النقد الأدبي العربي، إذ غدا تهالكهم على المناهج النظرية الغربية شغلهم الشاغل، وهمهم الجاثم على تفكيرهم، ومنتهى ما يطمحون هو أن يخضعوا الاعمال الأدبية العربية التراثية/ القديمة والحديثة لمناهج نظرية لا صلة لها بواقع الأدب العربي، متناسين أن حداثة الغرب من طينة، وحداثة العرب من حداثة مغايرة ...
وقبل ختم هذا المقال، أقول: حان الوقت ليخطو النقد الأدبي خارج مؤسساتنا الجامعية وليلتحق بالساحة الثقافية، وحان الوقت لترى البحوث من رسائل وأطاريح جامعية النور، بدل وأدها وإقبارها مخطوطة غير مطبوعة .. لهذا أدعو كل ذوي الغيرة الشديدة على الثقافة الأدبية والنقدية العربية أن يسهموا في توسيع دائرة الحوار، وأن يعملوا جاهدين مخلصين من مختلف المنابر الثقافية الجادة على إغناء ما أثرناه من أمور ومواضيع ...