عندما يختارنا الموت، فحتما نحن أمام الحقيقة التي لا تُفَلسَفُ، وإنما تَقهر.
بعد معاناة دامت سنتين مع مرض عضال، أدرك الموت الأب الحقيقي والشرعي للرواية التي كتبت باللغة العربية في الجزائر: الطاهر وطار، "عمي الطاهر".
الطاهر وطاربدأ الفقيد حياته الأدبية قاصّا ومسرحيّا، وانتهى بالرّواية سكنا لقلمه. منذ بداية السبعينات ظهرت رواياته التي كانت تعتبر علامة فارقة في تاريخ المتن الروائي الجزائري، وتعتبر مرحلة لتأسيس تجربة روائية متكاملة تنحو نحو الأصل لتكريس خصوصية خطابها الروائي. ففي تلك الفترة، بدأ الطاهر وطار ينشر عطاءه الأدبي في الساحة الجزائرية بروايات ومجموعات قصصية: اللاز (1974) والزلزال (1974) والحوات والقصر (1974) والشهداء يعودون هذا الأسبوع (1974)، وهي الروائع الأولى التي ثبَت بها الكاتب أقدامه في حقول تُزرَع فيها نماذج روائية لكنها بلغة أخرى، لغة حاولت محو الهوية العربية للفرد الجزائري.
للذين لا يعرفونه، أقول في بضعة سطور إنه الرجل المتواضع جدا، ابن الريف الجزائري. ولد سنة 1936 بسدراتة الواقعة في ولاية سوق أهراس بالشرق الجزائري. درس وتعلم في مسقط رأسه. تربى تربية دينية من خلال حفظ القرآن، ثم التحق كبقية محبي اللغة العربية بمدرسة جمعية العلماء المسلمين لرائدها عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، فقرأ الأدب ونهل من علوم الشريعة والفقه. ثم درس بجامع الزيتونة بتونس علوم الإسلام واللغة العربية.
التحق بصفوف الثوار كأي جزائري وطني سنة 1956، فتمرس على النضال، وشكلت الثورة مفاهيمه الوطنية والنضالية، إلى جانب اهتماماته الفكرية والأدبية.
اشتغل الأديب الراحل بالصحافة والسياسة، ولكنه كتب الرواية باللغة العربية بامتياز. أحاله أعداؤه على تقاعد استثنائي في سن الأربعينات.
كان يعتبر أن الجزائر استقلت سياسيا، لكنها لم تنل استقلالها الثقافي بعد. الروائي الساكن بداخله خاض معركته بشرف، فقد كان "عمي الطاهر" حامل لواء اللغة العربية في الكتابة الروائية، ومن الذين تصدوا للجناح الفرانكفوني، ووقف لهم بالمرصاد لفضح مخططاتهم التدميرية.
ظل الأديب الطاهر وطار مقتنعا بمسيرته التي اختارها، وباللغة التي أراد بها أن يعبر عن استقلال الجزائر الفعلي. وتمسك باختياراته. وكوّن نفسه فكان عصاميا بامتياز. استطاع أن يمنح للرواية الجزائرية عروبتها التي حاول أتباع فرنسا بترها منها.
يحق لنا أن نبجل هذا الرجل الذي غازل اللغة العربية وراقصها في حفلات ومهرجانات رسمية ما تزال تلهج لغة المستعمر. نحن الجيل الذي كان يحمل راية العربية في سنوات التعريب الأولى في المدارس الجزائرية التي كانت مفرنسة حتى النخاع.
نعم عمي الطاهر أنا من جيل معني جدا بموتك لأنك من رسخت لغتنا العربية، وكتبت بها لتعبد مع أجيالك الحاملين لنفس همومك، طريق أجيال قادمة. أعتز وأفتخر بأنني ممن فتحوا ثانويات جزائرية باللغة العربية ولا شيء غير العربية. كانت تلك السنة مفخرة للغة حاربها الاستعمار طيلة سنوات احتلاله للجزائر، وبعد الاستقلال واصل محاربتها من خلال تيار فرانكفوني. لا نملك بعدك إلا أن نوفيك حقك، ونمنحك مكانتك التي تستحقها. أنت طائر السلام الذي حط على أكتاف شعب أنهكته الحرب، وسلبت منه لغة لسانه.
كل الذين عرفوه سواء اتفقوا أو اختلفوا معه في الرأي يجمعون على أن هذا الرجل الطيب يفرض عليك أن تحترمه وتُجل فيه الوقار والاعتزاز باللغة العربية حتى النخاع.
واحترامه للرأي الآخر وهو الذي كان ديدنه في جمعيته الثقافية التي كانت تمد يد العون للأدباء الشباب، وهي جمعية الجاحظية التي أسسها سنة 1989، فكانت منارة الأدب الذي يؤصل لجذور هذا الشعب العربي الأبي المسلم كان شعار مؤسسها الفقيد " لا إكراه في الرأي"، ومن خلالها أصدر مجلة التبيين، والقصة، والقصيد، كما أسس جائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر.
بموت رائد الرواية العربية في الجزائر نكون قد فقدنا أهم أعمدة الأدب الجزائري والعربي. وتكون الجزائر قد خسرت أحد أهم حماة اللغة العربية. ويبقى عزاؤنا في رحيله تلك الآثار التي خلفها لأجيال متعطشة لحرف الضاد في وطن تعصف به رياح الغرب، فتقاومه نسائم الشرق.
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه.
مقال منشور في مجلة/عود الند
فريدة ابراهيم بن موسى - الجزائر