رحلة لسان الدين بن الخطيب
خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف
قال لسان الدين بن الخطيب
نحمد الله حمد معترف بحقه، ونشكره على عوائد فضله ورفقه، الذي جعل لنا الأرض ذلولا نمشي في مناكبها، ونأكل من رزقه، ونصلي على سيدنا ومولانا محمد خيرته من خلقه، ونستوهب للمقام المولوي اليوسفي النصري سعداً يتلألأ نور أفقه، ونصراً يتلى بغرب المعمور وشرقه. ونقول:
وقائلة صف لي فديتـك رحـلةً*عنيت بها يا شقة القلب من بعد
فقلت خذيها من لسـان بـلاغة*كما نظم الياقوت والدر في عقد
لما وقع العزم الذي وفقه الله على مصالح هذه الجزيرة، والقصد المعرب عن كريم العقيدة وفضل السريرة، على تفقد بلادها وأقطارها، وتمهيد أوطانها، وتيسير أوطارها، رأى من قلده الله أمورها، ووكل إلى حمايته ثغورها، مولانا وعصمة ديننا ودنيانا أمير المسلمين وظل الله على العالمين أبو الحجاج بن مولانا أمير المسلمين وكبير الملوك العادلين الصالحين أبي الوليد إسماعيل بن مولانا الهمام الأعلى، الذي تروى مفاخره وتتلى، أبي سعيد حفظ الله منه على الأيام بحر الندى، وبدر المنتدى، وسابق الفخر البعيد المدى وشمله برواق عصمته كلما راح واغتدى، أن يباشرها بنفسه، ويجعل آفاقها مطالع شمسه، نظراً للإسلام وقياماً بحقه، وعملا على ما يقربه ممن استخلفه على خلقه، في وجهة خالفها الغمام المنسجم، وقصبة قضى لها بالسعد من لا ينجم، فكان البروز إليها يوم الأحد سابع عشر المحرم فاتح عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
خرجنا وصفحة الأفق بالغيم منتقبة وأدمع السحب لوداعنا منسكبة نتبع من الراية الحمراء دليلا هادياً، وتغترف من وجهتنا الجهادية سناء بادياً ونثق بوعد الله سبحانه في قوله ولا يقطعون وادياً. وسلكنا جادة الماء المفروش نسرح اللحاظ بين تلك العروش، ونبتذل ما نحلته عروش الربيع من تلك الفروش، ومن له بالحضرة حرسها الله شوق حثيث، وهوى قديم وحديث، يكثر الالتفات، ويتذكر لما فات ويبوح بشجنه، وينشد مشيراً إلى سكنه.
يوم أزمعت عنك طي البعـاد*وعدتني عن الوداع العواد
يقال صحبي وقد أطلت التفاتي*أي شيء تركت قلت فؤادي
وربما غلبته لواعج أشراقه، وشبت زافراته عن أطواقه، فعبر عن وجده، وخاطب الحضرة معرباً عن حسن عهده:
ألا عم صباحاً أيها الربع وأسلـم*ودم في جوار الله غير مذمـم
ولا عدمت أرجاؤك النور إنهـا*مطالع أقماري وآفاق أنـجـم
إذا نسى الناس العهود وأغفلـوا*فعهدك في قلبي وذكرك في فم
وإني وإن أزمعت عنك لـطـية*وقوضت رحلي عنك دون تلوم
فقلبي لك البيت العتيق مقـامـه*وشوقي إحرامي ودمعي زمزم
ثم استقلت بنا الحمول، وكان بوادي فردس النزول، منزل خصيب ومحل له من الحسن نصيب، ولما ابتسم ثغر الصباح، وبشرت بمقدمة نسمات الرياح، ألغينا عمل السراج إلى الإسراج، وشرعنا في السير الدائب، وصرفنا إلى وادي آش صروف الركائب، واجتزنا بوادي حمتها، وقد متع النهار، وتأرجت الأزهار، فشاهدنا به معالم الأعلام، وحيينا دار حمدة بالسلام، وتذاكرنا عمارة نواديها، وتناشدنا قولها في واديها:
أباح الشوق أسـراري بـوادي*له في الحسن آثـار بـوادي
فمن واد يطوف بـكـل روض*ومن روض يطوف بكل وادي
ومن بين الظباء مـهـاة رمـل*سبت قلبي وقد ملكت فـؤادي
لهـا لـحـظ تـرقـده لأمـر*وذاك الأمر يمنعنـي رقـادي
كأن البدر مـات لـه شـقـيق*فمن حزن تسربل بالـحـداد
واستقبلنا البلدة حرسها الله في تبريز سلب الأعياد احتفالا، وغصبها حسنها، وجمالها نادي بأهل المدينة، موعدكم يوم الزينة، فسمحت الحجال برباتها، والقلوب بحباتها، والمقاصر بحورها، والمنازل ببدورها، فرأينا تزاحم الكواكب بالمناكب وتدافع البدور بالصدور بيضاء كأسراب الحمائم، والقرى الجميل فبتنا نثني على مكارمهم الوافية، وفواضلهم الكافية ولم نحفل بقول ابن أبي العافيه:
إذا ما مررت بوادي الأشا*فقل رب من لدغة سلم
وكيف السلامة في منزل*فيه عصبة من بنى أرقم
قصة الكتاب
خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف
إحدى رحلات لسان الدين ابن الخطيب الأربع، التي أودع فيها مشاهداته في تنقلاته الطويلة، وهي:
1- خطرة الطيف
2- مفاخرة مالقة وسلا.
3- معيار الاختبار في ذكر المعاهد والآثار.
4- نفاضة الجراب في علالة الاغتراب.
أما خطرة الطيف، فهي مقامة، وصف فيها رحلة رسمية، قام بها إلى غرناطة، في صحبة أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف بن نصر، لتفقد أحوال الثغور الشرقية لمملكة غرناطة. وكان خروج الركب السلطاني من غرناطة: يوم الأحد 17 / محرم / 747هـ نشرها لأول مرة: المستشرق الألماني ماركوس جوزيف (مولر) في كتابه (نخب من تاريخ المغرب العربي) سنة 1866م معتمداً فقط على ما ورد من هذه الرحلة في كتاب (ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب) لابن الخطيب.
وعثر د. أحمد مختار العبادي على نسخة أخرى لهذه الرحلة في مكتبة الأسكوريال، تقع في (19) ورقة، فعمل على نشرها من جديد، لوجود بعض الاختلافات بين النسختين.
وانظر مجلة العرب (س14 ص799) وفيها تعريف بكتاب ابن الخطيب (أوصاف الناس في التواريخ والصلات) ترجم فيه لمعاصريه من أهل بلاده، وكتابه (معيار الاختيار) المذكور آنفاً، وهو مستخرج من كتابه: (ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب).
د. أبو شامة المغربي