رحلة إلى ظفار لابن بطوطة
أصبح أدب الرحلات يحتل خانة متميزة في خارطة البحث التاريخي المعاصر، فإذا كانت الأسطوغرافيا التقليدية قد أقصت تاريخ المجتمعات من دائرة اهتماماتها وجعلته قطعة من التاريخ (المسكوت عنه)، وهو ما يجعل مهمة الباحث في استقصاء الحياة اليومية والعادات والتقاليد لمجتمع من المجتمعات مغامرة يعتورها العديد من الصعوبات، فإن كتب الرحلات تعمل على لثم هذه الثغرة التي تعتري الحوايات التاريخية، وتكشف عن أنماط حياة المجتمعات وعقلياتها المباشرة والوصف الدقيق لأحوال المجتمع الذي زاره الرحالة وخبر شؤونه، مما يساعد الباحث على فك بعض الألغاز التاريخية وادراك مضمراتها.
من هذا المنظور، يروم هذا البحث الحفر في أعماق مجتمع ظفار، والنبش في مخزون عاداته وتقاليده اعتماد على رحلة ابن بطوطة المغربي الذي زار ظفار خلال القرن الثامن الهجري (14م) وأمدنا من خلال ما سجله في رحلته بنصوص هامة عن هذه المدينة.

إن الراجح أنه لم يمكث بها طويلاً إبان العودة، بل جعلها مجرد معبر من قاليقوط الهندية نحو مسط وقريات ثم قلهات ليبحر من هناك نحو هرمز مودعاً عمان نهائياً.
وبمجرد انتهاء رحلاته الكبرى عاد إلى المغرب، وأملى بأمر من السلطان أبي عنان المريني الذي حكم بين سنتي 749و759هـ/ 13481358 رحلته على الكاتب المريني ابن جزي الـــــذي انتهى من تدوينها في 3 ذي الحجة سنة 756هــ فبراير 1356م، وتوفي ابن بطوطة وهو يتولى آنذاك القضاء بمدينة فاس عن عمر يناهز 67سنة.
أما عن الظرفية التاريخية التي زار فيها ظفار، فإن هذه الأخيرة كانت تحت حكم السلطان المغيث بن الفائز ابن عم ملك اليمن بسبب ما مانت تعرفه عمان آنذاك من ضعف نتيجة حكم آل نبهان،
وهو ما أسفر عن تكالب القوى الخارجية عليها حتى إن المؤرخ العماني نور الدين السالمي تمنى لو أن ابن بطوطة لم يزر عمان في فترة حكم الجبابرة – إشارة النباهنة – وزارها في عهد الأئمة العادلين.
من خلال رصد شخصية ابن بطوطة وظرفية رحلته إلى ظفار، يمكن أن نستنبط بعض الملاحظات التي تفيد في معرفة مدى صحة انطباعاته وأوصافه لمجتمع ظفار، ويمكن تلخيصها كما يلي:
1) انطلاقاً من نظرة استقرائية لظروف بيئة الرحالة المغربي ومحيطه الثقافي لا يتبين أن رحلته إلى ظفار كان وراءها هدف سياسي أو أغراض مذهبية أو دعاية لجهة معينة .

فالهدف الأساسي الذي تحكم في رحلته يتجلى في الحج إلى الديار المقدسة، كما يؤكد ذلك هو نفسه دون لبس أو غموض .

بيد أن الرحلة إلى الحج ولدت في نفسه حب معروفة الشعوب على هذا الدافع الشخصي، يمكن القول إن معلوماته وأحكامه عن ظفار وأهلها ستتميز ببراءتها وعفويتها، وبعدها عن كل توييف انطلاقاً من صفاء نية راويها وسذاجته.
2) إن ما يجعل نصوص ابن بطوطة حول ظفار تتميز بصدقها يكمن في شخصية الرحالة نفسه، فهو – كما أجمع على ذلك الدارسون – صاحب ضمير نقي وسريره صافية، نهل من حميد السجايا، وصاحب الأتقياء والصلحاء، كما مارس القضاء – رمزاً العدل والموضوعية – وتعلق بأهداب الدين تعلقاً كبيراً حتى إنه كان يعزي ما تمتع به في حياته من نعمة وجاه إلى كونه حج أربع مرات بل إنه – لشدة ورعه وتقواه – ولاه الحجاج المغاربة الذين صحبهم في بداية سفره من المغرب قاضياً عليهم لينظر فيما يشجر بينهم من خلاف، مما ينفي عنه صفة التحريف وتزوير الحقائق.
3) لم يكن لابن بطوطة أي مصلحة في مجاملة أهل ظفار ومداهنتهم أو الكذب والافتراء عليهم، ذلك أنه كتب رحلته بعيداً عنهم زمانياً ومكانياً، ولا غرو فقد أملى انطباعاته على الكاتب ابن جزي وهو بالمغرب بعد أن كان قد غادر ظفار منذ أكثر من ربع قرن.
4) إذا كانت رواياته عن الأقطار والمدن التي زارها يشوبها أحياناً الطابع الخرافي – على عادة كل الرحالين والجوابين – فإن ما ذكره عن ظفار يكاد يخلوا من هذا الطابع الأسطوري، بل يلاحظ أنه برأ نفسه من بعض الروايات التي أوردها عنها حين نسبها إلى رواتها أو ذكرها في صيغة المبني للمجهول.
5) إذا تأملنا في النصوص الواردة حول ظفار، لا نجد كاتب الرحلة وهو ابن جزي المذكور سلفاً قد أضاف أي إضافة سواء من عنده أو نقلاً عن الرحالين آخرين، كما فعل عندما أقحم نصوص الرحالة ابن جبير، وهو يكتب عن بلدان الشام والجزيرة، لذلك بقيت ظفار في وصف ابن بطوطة سالمة من أي سطو خارجي.
6) تكشف قراءة نصوص ابن بطوطة حول ظفار عن قوة ذاكرته وما اختزنته من معلومات دقيقة رغم مرور ربع قرن على زيارته لها.
وحسبنا أنه لم ينس أسماء أعيان ظفار الذين استضافوه مثل خطيب مسجدها عيسى بن علي، ومتصوفها الشيخ الصالح أبو محمد بن أبي بكر عيسى وابنيه أبي العباس أحمد وأبي عبد الله محمد، كما احتفظت ذاكرته أيضاً باسم قاضيها أبي هاشم عبد الملك الزبيدي، بل لم تغب عنه حتى أسماء الجواري اللائي رآهن في ظفار.
كما لم تخنه الذاكرة في استرجاع أنواع الأطعمة التي أكلها في هذه المدينة، وأنواع اللباس الذي كان يلبسها الظفاريون، والأثاث الذي شاهده في بعض البيوتات، مما يدل على قوة ذاكرته، وبالتالي يعكس صحة المعلومات التي أوردها حول ظفار.
يفسر بعض الباحثين قوة ذاكرة ابن بطوطة بالنظام التعليمي الذي تلقاه، وهو نظام يقوم في أساسه على الحفظ والاستظهار للعديد من الكتب، بينما يرده البعض الآخر إلى نظام الثقافة العربية في ذلك العصر ( القرن 8هــ ) حيث كان الإعتماد على الذاكرة إحدى مقومات التعليم.
7) لم يجد ابن بطوطة أي صعوبة في نقل مشاهداته، وما سمعه من روايات شفوية عن أهل ظفار بفضل معرفته للغة العربية، عكس مدن أخرى في بلدان أعجمية عجز فيها عن إدراك لغة أهلها فاضطر إلى اتخاذ وسطاء من المترجمين، مما أدى إلى تشويه المعلومات أحياناً.

لا بل نجد الرحالة المغربي ينوه بتقارب لهجة أهل ظفار مع لهجة المغاربة، مما ساهم في تسهيل مهمته الاستقصائية عن العادات والتقاليد الظفارية.
8) تجدر الاشارة كذلك الى أن النصوص التي قدمها عن ظفار تتميز بارتكازها على طابع المعايشة والاطلاع المباشر دون الإقتصار على السماع والنقل كما فعل بعض البلدانيين.
كما ننوه بدقة أوصافة وتتبعه للجزئيات أحياناً كوصف طرق اعداد الأطعمة ووصف أثاث المنازل وغير ذلك من الأمور الدقيقة، ونعتقد أن استضافته من قبل بعض أعيان ظفار مثل خطيب مسجدها الاعظم وقاضيها كان فرصة استغلها لمساءلتهم حول بعض أمور الدولة وعلاقتها بالمجتمع.
9) أما أمانته وموضوعيته في عرض مشاهداته فتلك حقيقة لا يجحدها أي متفحص منصف، فإذا أخذنا الرحلة برمتها، نستطيع أن نضع الأصابع على عدة مواضع تظهر فيها أمانته بوضوح، فعلى الرغم من أنه كان سنياً، فقد وصف أهل النجف الشيعة بالشجاعة والكرم، وفي كثير من المواضع الأخرى التي كان يسوق بصددها حكاية أو وصفاً، إذا ما نسي راويها يعتذر عن نسيان اسمه، وكان بإمكانه أن يختلق اسماً لصاحب الحكاية، ومع ذلك لم تطاوعه نفسه في القفز على الحقائق، كما تتجلى موضوعيته فيما ذكره عن بعض المدن العمانية كمدينة قلهات على سبيل المثال.
فقبل دخوله إليها وصف ما انتابه من الخوف والحذر من اللصوص، بيد أنه حول هذا الوصف إلى عكسه عندما دخل المدينة وشعر فيها بطعم الامان، فصار يتحدث عن حسن خلق أهلها والحفاوة التي استقبله بها أميرها، وهذا يعني أن ما ذكره قبل دخوله المدينة لم يكن حباً في الذم أو الإساءة المفتعلة، بل كان يمدح من يستحق المدح، ويذم من يستحق الذم.

وعند سماعه خبراً مروياً أو حدثاً لم يفلح في الوقوف عليه شخصياً فإنه يذكر النص في صيغة المبني للمجهول، ويصرح بذلك بوضوح مثل حديثه عن مدينة ازكي العمانية حيث يقول: (لم أدخلها، وهي على ما ذكر لي مدينة عظيمة)، وهذا يدل على انه كان يشعر بالمسؤولية وأنه محاسب على كل ما يقول.
وتتفق معظم التحليلات التي قام بها الدارسون لنصوص ابن بطوطة على مصداقيته ونزاهة أحكامه، فالمستشرق الهولندي وصفه (بالرحالة الأمين)، ويقول عنه كراتشوفسكي:

(كلما استعرضت الأجزاء المختلفة من وصف رحلته لدراسة دقيقة مفصلة، كلما زادت الثقة في صدق روايته، وهي نفس التخريجات التي خرج بها من اهتموا برحلته من الدارسين العرب، وإن كنا لا ننزة الرحالة المغربي من بعض السقطات التي انزلق فيها بالنسبة لبعض المدن العمانية).
وإذا أخذنا بالمنهج المقارن، يتضح ان معلوماته عن ظفار لا تتناقص كثيراً مع ما ذكره عنها معاصره البندقي ماركوبولو الذي زارها قبله بسنين.

ولا يمكن أن يكون ابن بطوطة قد قرأ ما كتبه الرحالة الإيطالي عنها وهو يجهل لغته، بل إن معلوماته عن ظفار أغزر وأدق من معلومات ماركوبولو.
لكن إنصاف الحقيقة والواقع يدفعنا إلى عدم تجريد الرحالة المغربي من بعض الهفوات التي وقع فيها، وهي الهفوات التي شابت إنتاج معظم الرحالين عند ذكر عجائب البلدان التي زاروها مستهدفين بذلك إضفاء عنصر التشويق على رحلاتهم.

وقد تشكك العديد من الدارسين في بعض الأوصاف التي أوردها حول مناطق من المعمور، إلا ما تشكك فيه الدارسون لا ينطبق إطلاقاً على وصفه لظفار.
وصف ابن بطوطة المجتمع الظفاري بأنه مجتمع حضاري ومنظم تنظيم متقدم، وذلك من خلال نظمه وعاداته وعقليته وأطعمته وأزيائه.
وبناء على أوصاف ابن بطوطة، يمكن القول بأن المجتمع الظفاري مجتمع يصنف في عداد المجتمعات التجارية التي تشكل التجارة فيها حجر الزاوية، ومنها قوام حياة الظفاريين (فهم أهل تجارة وزراعة وصناعة) كما جاء ذلك على لسان ابن بطوطة، وتدل على ذلك مجموعة من المؤشرات التي تعكس هذه الرؤية، فالأسواق منتشرة خاصة سوق الحرجاء الموجودة في ربض المدينة أي في ضواحيها، وهي سوق مليئة بالسلع، مزدحمة بالحركة التجارية وفي الساحل يقوم ميناء وسوق معدة للتصدير والاستيراد فمنها تصدر المنتجات الظفارية، وتحمل الخيل العتاق إلى الهند وإليها تصل المراكب من الهند، ومن مختلف بقاع العالم فيستقبلها خدم الحاكم بحفاوة وكرم كبير.
وكان اهل ظفار يتعاملون بعملتهم وهي الدرهم المضروب من النحاس والقصدير، مما يدل على مستوى تطورهم التجاري والإقتصادي في ذلك الوقت، وكانت ظفار تنتج الكثير من المنتجات الزراعية ومن انتاج ظفار الزراعي القمح والذرة والشعير والموز والسكر والنارجيل والفواكه فضلا عن انتشار البساتين الغناء المزروعة بالفواكة المتنوعة وكذلك التانبول واشتهر الظفاريون كذلك بالصناعة كالسيوف وأدوات الحداة وادوات الري والسفن والصناعات الغذائية مثل صناعة العسل التي كان يعرف اصحابها باسم ( الفازانية )، وصناعة الحليب والزيت (زيت النارجيل) و( السمن البلدي ) وغيرها من الصناعات التي يحتاجها المجتمع الظفاري والفائض يصدر للخارج وكانت البساتين تشكل حزاما اخضر يحيط بالمدن الظفارية.
من خلال تتيع نصوص ابن بطوطة يمكن تكوين فكرة عامة عن مجتمع ظفار، بسلطانه ونظمه الحضارية وعاداته وعقليته وأطعمته وازيائه.
ولقد نجح الرحالة المغربي في الجمع بين طرافة العرض ودقة المعلومات والبراعة في التقاط الصور المعبرة عن واقع هذا المجتمع، ويمكن نلمس ذلك فيما يلي:
1) مجتمع ظفار مجتمع تجاري:
بناء على أوصاف ابن بطوطة، يمكن تصنيف مجتمع ظفار في عداد المجتمعات التجارية التي تشكل فيها التجارة حجر الزاوية، ومنها قوام حياة الظفاريين (فهم أهل تجارة لا عيش لهم إلا منها) كما جاء ذلك على لسانه.
وترد في نصوص الرحلة مجموعة من المؤشرات التي تعكس هذه الرؤية، فالأسواق منتشرة خاصة سوق الحرجاء الموجودة في ربض المدينة أي في ضاحيتها، وهي سوق مليئة بالسلع، موارده بالحركة التجارية.
وفي الساحل يقوم ميناء وسوق معدة للتصدير والاستيراد، فمنها (تحمل الخيل العتاق الى الهند)، وإليها تصل المراكب من الهند وغيرها، فيخرج عبيد السلطان لاستقبالها بحفاوة وكرم كبير، ويعبرون عن ذلك بضرب الطبول، والنفخ في الأبواق احتفالاً بمقدمها.
وهذه الحفاوة تعكس إحدى الأساليب التي كان يستعملها أهل ظفار لجلب التجار إليهم وكسب مودتهم، خاصة ان هؤلاء كانوا يحملون إليهم ما يحتاجون إليه من الهند من أرز وقطن، مما يدل على أن علاقة ظفار بهذا البلد كانت وطيدة، لأنها أقرب البلدان الآسيوية إليها، وحسبنا ان مدة الرحلة بين البلدين لم تكن تتجاوز 28 يوماً.
وتكشف رحلة ابن بطوطة عن ظاهرة سادت مجتمع ظفار في مجال التجارة، وهو ان معظم المشتغلين في عمليات البيع كانوا من العبيد والخدم، من بينهم بعض النسوة اللاتي شاركن بدورهن في المعاملات التجارية، وكان يناط بعبيد سلطان ظفار مهمة استقبال المراكب التجارية الآتية الى ظفار، فيفرغون السلع المشحونة بها أو يشحنون السلع المصدرة نحو اليمن والهند والصين مثل الثياب والعسل، ويمكن من خلال الرحلة أيضاً التعرف على العملة التي كان يتعامل بها سكان ظفار في القرن الثامن الهجري، وهي الدرهم المضروب بالنحاس والقصدير.
بيد أن الطابع التجاري المهيمن على مجتمع ظفار لا يعني انعدام الزراعة فيه، بل إن الباحث يستطيع أن يستشف من خلال أوصاف ابن بطوطة أن المجال الزراعي احتل مكانة محترمة في أنماطه الإنتاجية.
ويمكن سرد بعض المنتوجات كالقمح والذرة، التي كانت تعتمد على السقي من مياة الآبار، فضلاً عن انتشار البساتين، التي كانت تلبي احتياجات المدينة من الفواكة المتنوعة كالموز ذي الحجم الكبير، الذائع الصيت في اللذة والحلاوة، كذا التنبول والنارجيل.
وتعتبر زراعة النارجيل من الفواكة التي انفردت ظفار بانتاجها، وقد ارتبطت بها عدة صناعات كصناعة العسل التي كان يعرف أصحابها اسم (الفازانية)، كذا صناعة الحليب والزيت.
وتأسيساً على ظاهرة البستنة التي عمت ظفار، نستطيع أن نتصور أن مجموعة من البساتين كانت تشكل حزاماً اخضر يحيط بالمدينة، وهو أمر بديهي إذ علمنا أنها تتلقى أمطاراً موسمية غزيرة تساعد على نموها واخضرارها.
لكن رغم وجود الطابع الزراعي، فالواضح من كلام ابن بطوطة – ويؤيده في ذلك كثير من الرحالين والجغرافيين – أن مجتمع ظفار غلب عليه الطابع التجاري أكثر من الزراعي.

د. أبو شامة المغربي