قراءة في قصيدة «نبوءة» للشاعر الدكتور حسين علي محمد
بقلم: ثروت مكايد عبد الموجود
..........................................
لعلها لحظة كشف، كتلك التي يتجلى فيها العالم على حقيقته حين تتجرّد النفس من الدنيا، فيبدو العالم على ضوء برق خاطف، وسرعان ما تختفي تلك الحقيقة وراء الحجب، ولا يملك أن يقبض على تلك اللحظة الفريدة غير الشاعرِ الشاعر، فيلقيها كما التقطها، و«يسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ»:
يوماً كالأشجارِ سخيًّا سيجيءْ
يفتحُ أبوابَ الدَّهشةِ
تُبصرُ أعينُكمْ ما لمْ تُبصرُ من قبلْ
يحملُ مشعلَهُ ويُضيء
النارُ سيشعِلُها في الأحداقِ النَّائمةِ زمانا
ليُنقِّيَكُمْ
لنْ يصعدَ مطربُكمْ حدقاتِ عيونِكمو، ويُغنِّي:
"ورمانا الهوى ورمانا"
ويُخدِّرَكُمْ
فالقادمُ أشعلَ في الأشجارِ الهشَّهْ ..
نارَ الدَّهشهْ
(قصيدة «نبوءة» من ديوان «غناء الأشياء»، ص10، كتاب اتحاد الكتاب، العدد 50).
هانحن فقراء في الروح والفكر والمادة جميعاً، ولا نكاد نُمسك بشيء حتى يذوب بين أيدينا. وكنا نحسب ما نمسك به شجرة باسقة، نتطلعُ إلى ظلها وثمرها! لكن وا أسفاه!، إنها هشة. ووسط تلك الظلمات المحيطة بإنسان هذا العصر الذي فقد الثقة في حضارته التي حوّلته إلى آلة .. إلى رقم .. مجرد رقم، لا روح فيه، في حين تصب ـ أي تلك الحضارة الهشة ـ جام غضبها على من يُخالفها الفكرة، وتشرده، رغم ادّعائها ـ وقد ثبت كذبه ـ أنها حضارة باسقة، وأنها شجرة تُظل العالمين ويفيء إليها المشردون!!
لقد تطلع الناس إلى الاشتراكية متمثلة في صنمها الأكبر (روسيا)، وسرعان ما انهار الصنم، ولم يبق غير أطلال يدور من حولها أطلال بشر أيضاً.
وتطلع الناس إلى الرأسمالية الغربية كأمل .. كشجرة يهرعون إليها، ليستظلوا من وقدة الحياة، لكن سرعان ما انكشفت لهم الحقيقة..
حقيقة ذلك الصنم الآخر، وحقيقتهم هم..
إن الرأسمالية الغربية استحالت ذئباً يُريد قطعاناً من الخرفان، ولا يرى في الناس غير حيوانيتهم..
لا يرى حياة الإنسان وشرف الإنسان وروح الإنسان التي أسجد لها خالقُها ملائكتَه. فإذا ما نظر هذا الإنسان التائه بعد أن انهارت المعابد شرقاً وغرباً، وجد نفسه في الرّدغَة..
إنه يخوض الوحلَ وحده..
ويُنادي فلا أحد يجيبه..
لكن مهلاً .. فهاهو ذا صوتٌ آت من البرية الموحشة المقفرة يردد نبوءته:
« يوماً كالأشجارِ سخيًّا سيجيءْ»
إن ما رأيتموها كانت أشجاراً كاذبةً، كمسيلمة. لكن ما أبشركم به يكون سخيا، ويفيض عليكم من جوده، فمن ثمرها تُعرف الأشجار، وحين يجيء:
« يفتحُ أبوابَ الدَّهشةِ»
إنه ليس سخيا وكفى، بل داعية إبداع، وستعجبون من قدرته الفذة على إعادة خلقكم تارة أخرى، فإذا أنتم عمالقة، تُدهِشون العالم كله بعد أن كنتم ـ رغم كثرتكم ـ علامة ذل وهوان .. ولسوف:
« تُبصرُ أعينُكمْ ما لمْ تُبصرُ من قبلْ»
فما أبصرت أعينكم من قبل غيرَ بهرج زائف، وصخب لا معنى له.. وما أبصرت أعينكم لكون الظلمة التي أحاطت بكم كما تُحيط الجدران القذرة بالسجين، لكن القادم « يحملُ مشعلَهُ ويُضيء»، يضيء لمن يقبله، ويرى فيه الأمل الذي لطالما حلم به، ولطالما سمع عنه. فإذا رآه وهو يحمل مشعله سيتبعه حتماً .. سيتبع ضوء المشعل.. أما نار المشعل ودخانه فسيشعلها القادم «في الأحداقِ النَّائمةِ زمانا»..
الأحداق التي نسيت طعم الضوء ولون الضوء..
ونسيت كيف يدهش الإنسان ليظل حيا.
إن هذا القادم ما يشعل الأحداق إلا لينقيَكم، كما يُنقَّى الذهب ويخلص من شوائبه بالنيران، وساعة ينقيكم:
« لنْ يصعدَ مطربُكمْ حدقاتِ عيونِكمو، ويُغنِّي:
"ورمانا الهوى ورمانا"»
لأن عيونكم قد تفتّحت الآن، فلن يتسلل إليها تسلل اللصوص، ولن يوسوس لها وسوسة الشيطان، فعيونكم تراه، وأنتم بيقظتكم في ثبات..
لستم أشباحاً، ولستم كالذر يرمي به الريح كما يشاء.
لن يبث فيكم ذلك اللص أنكم ضعفاء، وأن عليكم أن تشدوا الرحال إلى جهةٍ ما لتطلبوا الخبز والجنس ومعنى الحياة.
لن يخدعكم ذلك المطرب القبيح
« فالقادمُ أشعلَ في الأشجارِ الهشَّهْ ..
نارَ الدَّهشهْ»
فقد جاء القادم وأدهش بمجيئه العالم كله..
كل الأشجار تهاوت تحت سياط ضوئه اللامع، واحترقت.
***
إن القصيدة على قصرها تطفح حياةً وحيويةً حيث يبدو الناس في التيه، ومن حولهم أشجار تبدو من بعيد فيسرعون نحوها غير أنهم حين يصلون، لا يجد الواحد منهم شيئاً..
لا شيء في التيه غير سراب .. وظلمة أخذت تُحيط بالقلوب، وهذا مطرب يخدّرهم .. إنهم يتراقصون معه، غير أن قادماً يبدو من بعيد، يُمسك مشعله ويُضيء، وبظهوره هذا يسقط المطرب وتتهاوى الأشجار الهشة.
***
يرسم شاعرنا الدكتور حسين علي محمد في قصيدته «نبوءة» عالمين متناقضين، وهو لون من البديع بديع، إذ التناقض ليس بين ألفاظٍ وكفى، بل بين عالمين:
عالم رديء محبط مظلم يرسمه لنا الشاعر ويُبرز لنا معالمه: الأشجار الهشة، والأحداق النائمة، وذلك المطرب وهو يصعد بحرية إلى تلك الأحداق ليُخدِّرَها.
وعالم آخر يشع نوراً وتبرز معالمه في الأشجار السخية وأبواب الدهشة التي تُفتح، والمشعل الذي يُضيء الظلمات، ثم هذا السقوط للباطل الكامن في الأشجار الهشة..
إنه عالم ساحر يُحرك الوجدان ويُشعل الفكر، ولقد وفق الشاعر في استخدامه لألفاظ موحيةٍ شاعرة، أسهمت في تطور الحدث الشعري. من ذلك استخدامه للفعل المُضارع بما فيه من حركة وحياة؛ فالفعل «يصعد» ـ مثلاً ـ فيه نشاط الباطل يبدو جليا، ولو استخدم الشاعر بدلاً من الفعل «يصعد» فعلاً آخر، كيتسلل أو يتسرب، لاهتزت الصورة في القصيدة.
إن القوم نائمون، والباطل قد تأكّد من هذا جيدا، لذا فهو يصعد وكأنه هو صاحب البيت!
أرأيت كيف تُسهم اللفظة في رسم العالم الرديء الذي ينام فيه الإنسان العظيم ويُخدَّر، بينما يسرح الباطل في الأرجاء، بل ويُطرِب!..
فيالها من صورة فذة لواقعنا المعيش، ولما نحلم به من عالم مُغاير.