الأديب محمد عبد القادر المازني :
كتب عنه غداة وفاته يقول :
" لقد كان يوصف في حياته بأنه حجة العرب ، وهذا صحيح وغير قليل من أدب الرافعي سيبقى على الأيام ، ما بقي للأدب ذكر ومقام .. وأحسبني لا أبالغ حين أقول إن له من آثاره ما لا يرقى إليه قلم في القديم أو الحديث ، وإن له صفحات عديدة في كل كتاب له ، يبلغ فيها ذروة البلاغة .. وقد كان رأيي فيه دائماً ، أنه أعلم أهل العربية ، وأوسع أدبائها اطلاعاً على علوم الدين .."
ولمن أراد أن يملك ناصية الإبداع , وموهبة الإنشاء , ويتقن فن الرسائل الأدبية
فما عليه إلا أن يدخل واحة حجة العرب , وأمير البيان
ومما اخترته لكم اليوم
" حديث القمر "
بقلم
مصطفى صادق الرافعي
لنطوف مع خيالاته و أحلامه , وكيف كان يساهر القمر ويناجيه , ويشدو أعذب وأرق الألحان معه فيذوب طربا مع بلاغته وبديع أٍسلوبه من خلال تجواله مع لألئ وكنوز حروفه , وينثر لنا في مقدمة كتابه الغرض والهدف من هذه الرسالة التي دعته إلى أن يصرف وجه الحديث للقمر ويسامره ..
(( كتبتها وأنا أرجو أن تكون الطبيعة قد أوحت إليّ بقطعة من مناجاة الأنبياء التي كانت تستهلّ في سكون الليل فيَعيها كأنه ذاكرة الدهر , وأن تكون قد بثت في ألفاظي صدى من تلك النغمات الأولى التي كان يتغنّى بها أطفال الإنسانية فتخرج من أفواههم ممزوجة بحلاوة الإيمان الفطري , وتذهب السماء متهادية كأنها طائرة بروح من اطمئنان قلوبهم , وتسيل في ضوء الصباح وظلّ الشمس ونور القمر كأنها في جمال الطبيعة أفكار طيور مغردّة تدور على ألسنتها ...
....وكتبتها وأنا أطمع أن تكون الطبيعة قد نفخت فيها نسمة الحياة للعواطف الميتة المدرجة في أكفان الحوادث الدنيئة , فإن هموم العيش لا تميت عواطف القلوب إلا تلك التي لا تعرف كيف تستمد الحياة من روح الطبيعة , وإنما يكون استمدادها من مادتها فتحيا بخير وتموت بخير ...
... وكتبتها أتناول ألفاظها من تحت لساني وأكشف من قلبي معانيها وأنفض عليها ألوان الطبيعة التي تصوّر أحلام النفس وخيالاتها , وأنا أرجو أن أكون قد وضعت لطلبة الإنشاء المتطلعين لهذا الأسلوب أمثلة من علم التصوّر الكتابي الذي توضع أمثلته ولا توضع قواعده , لأن هذه القواعد في جملتها إلهام ينتهي إلى الإحساس , وإحساس ينتهي إلى الذوق , وذوق يفيض الإحساس , والإلهام على الكتابة جميعا فيترك فيها حياة كحياة الجمال , لا تداخل الروح حتى تستبد بها , ولا تتصل بالقلب حتى تستحوذ عليه فتكون له كأنها فكرة في ذاته .))
ويتابع أمير البيان مع فصول حديث سمره مع القمر لنشهد معه صفحة السماء كيف طرحت لنا أشعتها , والكون لبس قدسية حسنها حينما أشرق القمر وتربّع على صدرها
((..... والآن وقد رقّت صفحة السماء رقّة المنديل , أبلته قُبَل العاشق في بعاد طويل , أو هجر غير جميل , وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد , وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل , ومرّت النسمات بليلة كأنه قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كأن الآمال بينها أحلام اليقظة , ونظر الحزين في نفسه , والعاشق في قلبه , ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب , ولبس الكون تاجه العظيم فأشرق القمر ..))
ونراه في الفصل الثاني يجود علينا بتحفة نفيسة أعظم هداياها صفات الرجل الإلهي الذي لا يهاب ولا يخشى استبداد الملوك والطغاة , ولا يستسلم لأدعياء المنافقين والعملاء ..
(( أفتدري من هو هذا الرجل الإلهي ؟ هو الذي لا تعرفه الحياة ولا يعرفه الموت فلا يذلّ لأحدهما , تتبرّج له الحياة فلا تغرّه , ويتجهّم له الموت فلا يضرّه , ويُبتلى بكل ما يسوءُ ويسرّ فلا يسوؤه ولا يسرّه ...
هذا هو الرجل الإلهي الذي لا ينثني لأنه الحقّ , ولا ينحرف لأنه العدل , ولا يخاف لأنه البأس , ولا يضعف لأنه القوة , ولا يحيف لأنه الإنصاف , ولو تعلّق به أهل الأرض جميعا لمشى بهم مطمئنا لأنه في نفسه كقطعة من نظام السماء الذي يجذب الأرض في فضائها .))
ومن ثم نراه يدرس طبائع الفئة الباغية من الملحدين حينما يعلوها الكبر والغرور , وتفقد سيطرتها على نفسها وتخسر كل ما لديها وكأنها أسراب من الخفافيش لا تبصر الطبيعة بعينها الإلهية لأنها صماء قد أصابها الجنون من حرفة سخافتها فيقول :
(( لله منكِ أيتها الفئة الباغية ! العلم الذي لا يخلق ذبابة ولا أحقر من ذبابة ولكنه يجدها فيتفلسف ويقول لنا : كيف خلقت ؟ هو الذي يريدكم على أن تكذبوا بالخالق .
والعلم الذي ينتهي في كل شيء إلى حدّ من الجهل يريد أن يجعل القلب الذي هو سرّ الإنسان بلا نظام ؟
وقد زعموا أنهم أنشطوا الفكر من عقاله فكان من ذلك ما انتهوا إليه , وكأنهم يقولون : الدين الفلسفي هو في الحقيقة الرجل الحر فما بالهم إذن ينسون أن هذه الكلمة عينها تخرج لهم لو عقلوا أن الحرية هي في الحقيقة فلسفة الدين ؟
إن المتوحشين يقرّون بإله ولكنهم يعملون على أن يكونوا آلهته كما أنه إلههم , ويحاولون في كل شيء أن يتعبدوه بما يخيّل لهم أنه من السحر , والملحدون لا يبتغون ذلك فحسب ولكنهم يريدون أن يمحوه بتّة , أفليس هذا منتهى التوحش في القياس ؟)).
ومع الفصل قبل الأخير نجد أمير البيان وحجة العرب ينادي على القمر بحرقة وألم وهو يصف لنا الشرق المريض الذي طرحه الهم والفرقة والتجزئة , وانقلبت موازين المبادئ والقيم في حسابه , وانصدع الشمل بين الأصدقاء والأهل فنجده يقول :
ربّوا لذا الشرق يا قومي ممرّضة = تحنو عليه بإحساس ووجدان
تطبّه روحها مما ألمّ به = إذ تلعّب أهلوه بالأديان
ربوا له الأمّ يا قومي فلو وُجدت = في الشرق ما طاح في ذلّ ولا هوان
تلك التي ترفع الدنيا وتخفضها = بطفلها فهو والدنيا , بميزان
يا بانياًً بقلوب الناس يجعلها = قصر الحياة , تبصّر أيها الباني
أسس على الحب , لا تلق القلوب سدى = وضعْ لكل فؤاد شكله الثاني
فلست تبني سوى دار إذا خربت = أركانها خربت من كل عمران
ونراه يختم فصول حديثه مع القمر الجانح إلى المغيب مع أرق نسمات الفجر العليل في طلعته البهية وهو يهمس لنا أجمل وأعذب سيمفونية عرفها تاريخ المحبين فيرسم لنا أجلّ صور الحب التي لا يمكن أن يعرفها إلا من استلت روحه كل جوانبها ..
(( أيها القمر الذي هو تاريخ النور على الأرض والذي يشرق على الطبيعة بجلال وهيبة وكأنه يرسل إلى هذه الأرض في كل شعاع نظرة ملك من الملائكة لتعزية قلب من القلوب المتألمة المحزونة .
أيها القمر الجانح إلى المغيب في نسمات الفجر كأنه جناح الحب يخفق به في الفضاء على هواء عليل من الزفرات والتنهد .
أيها القمر ! أيها القمر ! ليس شيء أقوى من الحق , ولكن الشريعة في يد الظالم تجعل الباطل أقوى منه , وليس شيء أعنف من البغض , ولكن الجمال الذي يتولاه اصطلاح الناس يجعل الحب أقسى منه .
فبالله كم تحلم قوة الإنسان بالحرية وكم يحلم شبابه بالحب ثم يستيقظ الإنسان لطالعة من الحوادث فلا يجد من نفسه وقلبه إلا ما يحدّه ويصفه أهل التشريع وأهل التشريح , وتغيب تلك الأحلام الإلهية كلها بغياب الوجه الجميل الذي بعث فيه القوة من عينيه والشباب في فمه , كما تغيب الآن كل أحلام السعداء معك أيها القمر بعد أن طلع عليها الصبح كأنه أشعة الحياة التي جمعها الليل من أعين النائمين !)).
من إعداد وتقديم : أمينة أحمد خشفة
بنت الشهباء