«رحلتي الى بلاد الرافدين وعراق العرب»
مخاضات ما بعد الولادة
ثائر صالح
الحياة
2005/02/26
لم يهدأ لي بال حتى بعد صدور ترجمتي لكتاب ميهاي فضل الله الحداد «رحلتي إلى بلاد الرافدين وعراق العرب» (دار كتب - بيروت 2004)، إذ كانت الترجمة حبلى بالكثير من الأسئلة والاحتمالات، وبقيت متردداً في شأن ترجمة بعض الأسماء وتحديد بعض الأحداث حتى اللحظة الأخيرة. وزادت من هواجسي الاكتشافات اللاحقة التي توصلت إليها أثناء شروعي بتهيئة النص المجري الأصلي للطبع في حلة معاصرة.
صدر الكتاب باللغة المجرية عام 1904، وهو يروي قصة رحلة ميهاي [ميشيل أو ميخائيل] فضل الله الحداد عقيد الجيش النمسوي المجري إلى بلاد الشام والعراق على رأس بعثة لشراء خيول عربية أصيلة لحساب الجيش الامبراطوري الملكي في شتاء (1901-1902). وميهاي فضل الله الحداد (1841-1924) أحد أشهر مربي الخيول في تاريخ المجر، أصبح آمراً على بابولنا، أهم محطة لتربية الخيول في الإمبراطورية النمسوية المجرية من 1899حتى 1913 عندما تقاعد برتبة لواء. اطلعت على الكتاب للمرة الاولى في 1987، عندما طلب الباحث العراقي عبدالرزاق الحميري المقيم في النمسا من الباحث والكاتب المعروف علي الشوك الذي كان يقيم في بودابست آنئذ مساعدته وتعريفه بفحوى الكتاب، فقمت بالمهمة بدلاً منه لتمكني من اللغة المجرية، فقررت عندها أن هذا الكتاب يستحق الترجمة.
ثم شاءت الصدف أن أذكر الكتاب والمؤلف في كلمة لي عن بابولنا ومركز تربية الخيول فيها نشرتها «الحياة» قبل أكثر من عام، ليتنبه خبير الكتب النادرة وجامع الصور المعروف السيد بدر الحاج إلى أهميته، فتكللت جهوده بصدور ترجمة هذا الكتاب في وقت قياسي بهذه الطبعة الجميلة.
يصف الكتاب ما لاقته البعثة المجرية التي نزلت البر في بيروت وسارت من دمشق إلى دير الزور عبر بادية الشام، ومنها إلى بغداد بعدما عبرت جسر الفلوجة الخشب المتهرئ (وقد وجدت صوراً للجسر في المتحف)، ومن بغداد إلى الحلة والعتبات الشيعية في النجف وكربلاء، ثم أخيراً في المنطقة القريبة من الدغّارة شمال شرقي مدينة الديوانية للقاء قبائل شمر (وهي شمّر طوقة التي حلّت في جنوب العراق ما بين الرافدين، وقد تشيّعت بخلاف شمّر الجربا القاطنة في منطقة الجزيرة في العراق وسورية، وهم سنّة ومنهم الرئيس العراقي الموقت إلياور).
اقتنى فضل الله أحسن الخيول من شمّر، ثم عاد إلى بغداد ليشتري خيولاً من مساعد آمر الحامية التركية في بغداد وأقفل راجعاً مع مقتنياته من الخيول العربية النبيلة عبر المحمودية إلى البادية الشامية، ثم لبنان من دون أن يمر بدمشق هذه المرة بل عبر حمص وعرّج على تل الكلخ، فوصف لنا جمال الساحل اللبناني وصفاً أدبياً بديعاً، ليرحل بحراً إلى وطنه الثاني عائداً من بيروت مروراً بالاسكندرية بعدما قطع نحو 3600 كيلومتر على ظهر حصان أدهم خلال 85 يوماً.
والكتاب مزيج موفق ومتوازن من صنوف أدبية عدة، تجد فيه أدب الرحلات الشيق والتحليل السيكولوجي العميق للشخصية البدوية وتفاصيل علوم تربية الخيل والكثير من القصص الظريفة والتعليقات الذكية والآراء المثيرة.
ويثير الموقف اللاطائفي للمؤلف الانتباه وفي الوقت نفسه الاعتزاز، إذ يقول: «كان مُكاريّونا موارنة ودروزاً، وعندما جلت ببصري بينهم لم أفهم كيف يستطيع هؤلاء الناس الذين لا يختلفون عن بعض في شيء أن يدخلوا في قتال مرير مع بعضهم بعضاً، قتال اجتاحت تفاصيله الدامية والقاسية كل أوروبا بجلبته وفظائعه... لكن الكثير من الماء جرى في نهر العاصي منذ تصادم الموارنة والدروز مع بعضهم بعضاً، والآن انسجم الطرفان في شكل مثالي خلال الطريق، وقدما امثولة مضيئة على الصلابة والصبر» (ص 29).
كما عثرت أثناء أبحاثي التي قمت بها عند ترجمة الكتاب على أكثر من 280 صورة فوتوغرافية أصلية التقطها الملازم أول جولا هالاتشي، أحد أعضاء البعثة، محفوظة في أرشيف المتحف الزراعي المجري في بودابست، وانتقيت من بينها صوراً لم تنشر في الكتاب الأصلي، تصور مضارب البدو أو أقارب فضل الله الحداد في بيت شباب (لبنان) أو «ترجمانه» الماروني اللبناني سليم درعوني.
وعلى رغم متعتي الكبيرة بترجمة هذا الكتاب، واجهتني عوائق أشرت إلى بعضها في كلمتي التي تصدرته. فقد عانيت كثيراً أثناء ترجمة الأسماء العربية وتشخيصها (الجغرافية أو أسماء الأعلام) بسبب تشوش الكاتب والخلط الذي وقع فيه أحياناً، غير أنني حصلت أثناء زيارتي لبيروت أيام دورة معرض الكتاب لتوقيع ترجمتي على فرصة نادرة لتوثيق بعض المعلومات عن فضل الله الحداد والتحقق من بعض الحوادث.
فقد التقيت عدداً من شخصيات بلدة بيت شباب (محل ولادة المؤلف)، بينهم الأستاذ إلياس الأشقر رئيس بلدية بيت شباب والوزير أسعد رزق، علاوة على الأستاذ إيلي حداد مدرس الرياضيات المتقاعد وهو أحد أقارب ميهاي فضل الله الحداد.
وكانت رواية الأستاذ حداد عن التراث الشفوي المتناقل في عائلة حداد وفي بيت شباب عن إبن البلدة الشهير ذات فائدة كبيرة، إذ يغلب على المصادر المجرية والأوروبية عموماً التي تتحدث عن فضل الله الحداد الطابع الأسطوري، وتفتقر إلى المعطيات الدقيقة، خصوصاً ما يتعلق بحياته في لبنان قبل ذهابه إلى المجر سنة 1857 مع بعثة العقيد رودولف برودرمان التي زارت بلاد الشام لشراء الخيول. لكن لنقرأ ما قاله لي الأستاذ حداد بلهجته اللبنانية: «كان اسمه نخلة، يتيم الأب، راح يجمع ديونه من الشام، أهله كانوا يشتغلون في الحرير، ومعمل الحرير يسمونه عندنا الكَرْخانه، هناك يغلون الشرانق بعد أن يربوا دود القز الذي يطعمونه التوت. كل المنطقة مزروعة بالتوت، والتوت لا يحتاج إلى الماء.
وكان التجار يأتون من الشام أحياناً لشراء خيوط الحرير المصنوعة بالكرخانه، وأهله كانوا يتعاطون ذلك. هناك في الشام تعرف الى القنصل الإيطالي، فأخذ يعمل عنده خادماً. عندما جاء برودرمان بالخيل وكان يريحها في الساحة بالشام جفل حصان أو حصانان، فطلب برودرمان من المتفرجين أن يمسكوا الحصان ومن يمسكه يعطيه جائزة. من بين الجموع هجم ميشيل، نخلة، على الحصان فأمسك به وسلمه بكل هدوء. كان نخلة قوياً، عنده همّة، فأعطوه جائزة. وكان الحصان الثاني عنيفاً، فقال النمسوي إذا أمسك أحد بالحصان الثاني يعطيه جائزة أكبر. هجم عليه نخلة وأمسكه من رأسه، فعضه الحصان بخده ومع ذلك لم يتركه، فبقي أثر على خده طول حياته. أعجب به برودرمان فصاح للترجمان وطلب منه أن يجلبه له ويسأله إن كان يحب أن يذهب معنا إلى النمسا، فقال له نعم».
وتأتي هذه الرواية لتصحح الأساطير القائلة إن نخلة (كتبت في المصادر Nagle) تعلق بحصانٍ باعه أبوه لبعثة برودرمان ولم يطق فراقه، فسافر معه، أو أن أباه أرسله مع البعثة خوفاً عليه لشعوره بتصاعد التوتر الطائفي الذي سبق مجازر 1860 ... الخ.
الفائدة الثانية من زيارتي لبيروت كانت اقتنائي بعض الكتب، وبينها نسخة من كتاب قرأته في طفولتي، وهو عمل لونكريك الشهير «أربعة قرون من تأريخ العراق الحديث» ترجمة جعفر الخياط. فقد تمكنت أخيراً، ولو متأخراً، من تحديد اسم إحدى الشخصيات المحورية في الكتاب، وهو مساعد آمر حامية بغداد وصهر السلطان عبدالحميد الثاني الذي سماه فضل اللهChazim Pasa.
وقد فضلت ترجمته بصيغة حازم باشا، على رغم ترددي الشديد حتى قبل اطلاعي على ملاحظات الملازم أول جولا هالاتشي ضمن تعليقاته على صور البعثة التي كتب فيها الاسم بصيغة Kazim Pasa، أولاً لاطمئناني إلى معرفة فضل الله الحداد اللغة العربية، ثانياً لأن حرف Ch يستعمل تقليدياً لكتابة حرف (ح) العربي والعبري كذلك، وقيمته الصوتية (خ)، وقد استعمله الكاتب في تدوين اسم طباخ البعثة النباتي، الشيعي اللبناني Chalil، الذي قدّرت أنه يقابل الاسم العربي خليل.
بعد كل هذا وجدت في كتاب لونكريك الهامش التالي على الصفحة 373 من دون أن تصيبني أدنى مفاجأة: «كاظم باشا: أخو زوجة السلطان عبدالحميد، وقد أبعد إلى بغداد لأسباب سياسية، فكان فيها قائداً للخيالة»، فكان الصواب مع هالاتشي مجدداً. هل كان فضل الله الحداد يستعمل الأبجدية الإيطالية التي أجادها في صباه، حيث يقابل حرف Ch حرف (ك) العربي؟ كان كاظم باشا (حازم باشا في الكتاب) من باع لفضل الله عدداً من أحسن الخيول، وبينها الحصان صقلاوي بغدادي الذي أخذه الجيش الروماني الذي ساهم في القضاء على ثورة 1919 الاشتراكية وجمهورية المجالس المجرية، كغنيمة حرب.
كلما تعمقت في قصة فضل الله الحداد أكثر فأكثر، يزداد اهتمامي بهذه الشخصية الفذة التي دخلت التاريخ، ويتعزز تصميمي على إعطاء الرجل ما يستحق من اهتمام، عبر تعريف القارئ العربي والمجري على حد سواء بتراث إبن بلدة بيت شباب اللبنانية الذي قدم إلى المجر قبل ما يقرب من قرن ونصف قرن من الزمان ليصبح بطلاً قومياً مجرياً، وعلماً من أعلام تربية الخيول في العالم أجمع.
د. أبو شامة المغربي