الأسطورة مكوِّن أساسيٌّ من مكوِّنات الدِّين
الدِّين محرِّر، لكنه من أكبر المقيِّدات إذا تحوَّل إلى إيديولوجيا ناجزة وضاغطة على الفرد
الأمانةُ التي قَبِلَها الإنسانُ ورفضتْها الجبالُ هي الحرية
حوار مع فراس السوَّاح
منذ صغره، تبنَّى فراس السواح شعار "اعرف نفسك" – وهو شعار كان منقوشًا على واجهة هيكل دلفي في اليونان القديمة، وصار المقولة الرائسة لفلسفة سقراط. فكان عليه أن يعرف الإنسان حتى يعرف نفسه، خاصة أنه كان يستشعر في داخله قلقًا معرفيًّا. وهذا ما دَفَعَه إلى الخوض في ثلاثة مجالات معرفية: الفلسفة والتاريخ والأسطورة. وبعد إلمام بالفلسفة العربية والغربية، تبيَّن له أنها لا تعدو أن تكون لعبة ذهنية، – هي التي كان يظن أنها ستقدم له أجوبةً على الأسئلة التي كانت تدور في ذهنه، – فخرج منها ولسانُ حاله يقول: مَن يدخل الفلسفة لا يخرج بنتيجة إلا إذا أنتج فلسفته الخاصة، والدخول إليها أصعب من دخول الجمل في سَمِّ الخياط. هكذا، إذن، ودَّعها إلى الأبد، موليًا وجهه شطر التاريخ والأسطورة، حيث وجد فيهما محاولةً جادة لفهم ماضي الإنسان ولفهم الشرط القديم الذي أدى إلى الوضع الراهن.
وجد فراس السواح في الأسطورة ضالَّته المعرفية، حيث أرشدتْه إلى إجابات واسعة على تساؤلات كثيرة نشأت في نفسه منذ الصغر. فكانت الأسطورةُ رفيقةَ دربه الأولى، كرَّس لها حياتَه، فباحت له بأسرارها العصيَّة أحيانًا على الأفهام.
لكن فراس السواح، على الرغم من صعوبة الموضوعات وحساسيتها أحيانًا، يملك قدرة عالية على جذب القارئ بأسلوبه العلمي الشائق، فتغدو أعقدُ الأفكار وأصعبها واضحةً ويسيرةً على الفهم والإدراك. فكما يقول السواح نفسه: "لا توجد فكرة معقدة، وإنما هناك أسلوب معقد." لذلك فإن 50% من جهده الذهني ينصبُّ على الفكرة، بينما باقي المجهود ينصبُّ على أسلوب التوصيل إلى القارئ، في أبسط شكل ممكن وفي أوضح صيغة متاحة. وهذا ما يتطلَّب منه كتابة المؤلَّف عدة مرات. لذلك لا عجب في أن يُعاد، مثلاً، طبعُ كتابه الأول والأشهَر، مغامرة العقل الأولى، 13 مرة. أضف إلى ذلك أن قراءة أيِّ كتاب لهذا المفكر السوري الفذ يحفز القارئ على البحث عن باقي أعماله، ولو كانت مختفية في إحدى مكتبات مدينة حمص، مسقط رأسه.
جامع خالد بن الوليد، حمص، حيث عاش فراس السواح أول اختباراته الروحية الحاسمة
نوار: أهلاً وسهلاً بالأستاذ فراس السواح!
فراس السواح: أهلاً، يا نوار! أشكرك على هذا البرنامج المتميز جدًّا الذي تابعناه باستمرار. ولنا الشرف أن نكون الآن ضيوفًا عندك وعند هذا البرنامج المتميز الذي نأمل له الاستمرار.
ن.: الشرف لي، يا أستاذ فراس.
ف.س.: شكرًا.
ن.: أستاذي، درست الفلسفة في شبابك، ولم تجد فيها سوى تدريبًا للذهن والعقل، ففضَّلت عليها الأسطورة. ماذا وجدتَ فيها؟
ف.س.: عمليًّا، الأسطورة تتجاوز المنطق الأرسطي. ولكن الإنسان ليس بكامله منطقًا وعقلاً. الإنسان كل. ومن خلال الأسطورة والحكمة والدين، يواجه الإنسانُ العالمَ بكلِّيته، وليس بعقله فقط. الفلسفة تتوقف عند حدود العقل؛ أما الأسطورة والحكمة والدين فتواجه العالم... يواجه فيها الإنسانُ العالمَ بكلِّيته: بعواطفه، بأحاسيسه، بملَكاته الحدسية والانفعالية. الإنسان بكلِّيته حاضر في الأسطورة وفي الحكمة وفي الدين.
ن.: إذا كانت الأسطورة مختلفة عن "الخرافة"، فما الفارق بينهما؟
ف.س.: قبل أن ألجأ إلى الدراسة المنهجية للأسطورة، فلا أكتفي بمجرَّد القراءة، كان عليَّ أن ألتفت، منذ البداية، إلى مسألة المصطلح. لأنك إذا لم تعرِّف حدودَ المجال المعرفي الذي تعمل على دراسته تعريفًا دقيقًا فإنك سوف تضيع...
ن. [مُقاطِعة]: تتوه...
ف.س.: ... تظن أنك تدرس الأسطورة، لتجد أنك تدرس الخرافة، أو الحكاية البطولية، أو الحكاية الشعبية، أو ما شابه ذلك من الأجناس الأدبية التي تتصل بالأسطورة، على هذه...
ن. [مُقاطِعة]: أو تتقاطع معها...
ف.س.: ... أو تتقاطع معها، على هذه الدرجة أو تلك. وفي النتيجة، خرجتُ – بكلِّ تواضع – بنظرية تخالِف غالبية النظريات الغربية. لقد درست الأسطورة مجددًا، وغربلت جزءًا كبيرًا مما يُدعى بالأسطورة الإغريقية. إذ تبيَّن لي أن معظم أساطير الإغريق – تلك الحكايات التي يدعونها "أساطير" myths، ويدرِّسونها في المدارس على أنها أساطير، ويصدِّرونها إلينا على أنها أساطير – ليست أساطير في الواقع، وإنما هي خرافات، وذلك اعتمادًا على معيار أساسي واحد.
الأسطورة في نظري هي، من حيث الشكل، حكاية أدبية يلعب الآلهةُ الأدوارَ الرئيسية فيها؛ ولكن ما يميِّزها عن الخرافة هو أنها حكاية مقدسة. القدسية هي التي تميِّز جنس الأسطورة عن بقية الأجناس الأدبية الشبيهة بها.
ن.: ولكن هي حكاية مقدسة أبدعها الإنسان؟
ف.س.: لم يبدعها فردٌ معيَّن، بل أبدعها الإنسان... طبعًا، كلُّ شيء أبدعه الإنسان! لم يأتِ للإنسان شيءٌ من الفضاء الخارجي!
ن.: يعني هي بمثابة النص المقدس الأول؟
ف.س.: نص مقدس، نعم، بالضبط... يمكن لك أن تقولي إنها النص المقدس الأول. أما الخرافة، عندما تُروى، فإن راويها والمستمع إليها يعرفان، منذ البداية، أنهما ليسا مكلَّفين تصديقها. قد تكون حدثت أو لا؛ لكن عنصر القداسة منتفٍ منها. لذلك فإن الأسطورة مرتبطة بالدين، بينما الخرافة ليست مرتبطة بالدين بالضرورة. ولكلِّ دين أساطيرُه الخاصة. الأسطورة تلعب دورًا مهمًّا في توضيح المعتقد الديني لهذا الدين أو ذاك؛ فهي دومًا جزء من الدين...
ن. [مُقاطِعة]: إذن فهي وسيط بين الدين والإنسان؟
ف.س.: ... هي مكوِّن أساسي من مكوِّنات الدين. فإن أردتُ أن أحلِّل الدين إلى مكوِّناته الرئيسية لقلتُ إنه يتكون من معتقد، ومن أسطورة، ومن طقس. فإذا غاب أحد هذه العناصر الثلاثة صرنا في شك: هل هذه الظاهرة التي ندرسها هي دين أم لا؟ يعني: لا يوجد دين من دون معتقد؛ دين من دون أسطورة يوجد أحيانًا؛ دين من دون طقس يستحيل أن يوجد: لا يوجد دين من دون طقس، وإلا تحوَّل من دين إلى فلسفة.
ن.: هل الكهنة هم الذين تكفَّلوا بصياغة الأسطورة؟
ف.س.: لا شك...
ن. [مُقاطِعة]: بما أنها مرتبطة بالطقوس...
ف.س.: طبعًا، الكهنة هم الذين تكفَّلوا بصياغة الأسطورة، ولكن على أرضية عامة شعبية. أي أن هناك أفكارًا أسطورية شائعة، ويقوم الكهنة تدريجيًّا، عبر أجيال وأجيال، بتحرير هذه الأساطير وبصَقْلها...
ن.: أي يتفاعلون مع الاحتياجات النفسية والاجتماعية...
ف.س.: ... الاحتياجات النفسية والروحية لأناس ذلك العصر.
ن.: ويدوِّنون الأسطورة؟
ف.س.: طبعًا. الأسطورة كانت متداوَلة شفاهًا، وكانت تُكتَب في صيغة شعرية، تزوِّدها بسلطان على المشاعر وعلى القلوب، وتساعد على تداوُلها الشفهي. وعندما ظهرت الكتابة، بدأ تدوين الأساطير وغير الأساطير كتابةً.
ن.: سؤال تلقائي الآن: أيهما أسبق، الأسطورة أم الدين؟
ف.س.: هما صنوان. فعندما نفكر أو نقول أسطورة مقدسة، أبطالُها الرئيسيون من الآلهة، تحكي عن عالم ماورائي، عن صلات العالم الماورائي بالعالم المنظور، عن صلة المعاين بالغائب، إلخ، إذن فنحن في مجال الدين.
ن.: إذن متى ما كانت هناك أسطورة كان هناك دين؟
ف.س.: طبعًا.
ن.: أيًّا كان نوع هذا الدين؟
ف.س.: طبعًا، لكلِّ دين أساطيرُه. الدين يفرز الأسطورة، والأسطورة تساعد الدين وتسنده بأن تزوِّده بظلال وتعطيه حيوية، ترسم شخصيات الآلهة، ترسم سيرة حياة الآلهة: متى ولد هذا الإله، وكيف عاش، وما علاقته ببقية الآلهة...
ن.: هي سيرة ذاتية للآلهة، لِمَن هم في السماء؟
ف.س.: هي سيرة ذاتية للآلهة وللكون وللإنسانية أيضًا.
ن.: مرآة للإنسانية وللسماء أيضًا؟
ف.س.: بالضبط.
"من غير أن تسافر بعيدًا تستطيع أن تعرف العالم كلَّه، من غير أن تنظر من النافذة تستطيع أن ترى طريق السماء."
لاو تسو
ن.: كيف تفسِّر لنا وجود أساطير سومرية مشابهة في المضمون لحكايات واردة في التوراة وفي القرآن؟
ف.س.: لا يوجد دين نشأ في فراغ. فالدين لا ينشأ في فراغ: الدين ينشأ في بيئة ثقافية معيَّنة، ينشأ في وسط ثقافي معيَّن. مثال على ذلك: إذا تأمَّلنا البوذية، بكلِّ مفاهيمها ومصطلحاتها إلخ، نجد أنه لا يمكن للبوذية في القرن السادس قبل الميلاد أن تكون قد نشأت في أحد أقطار الشرق الأدنى القديم؛ فالبيئة ليست بيئتها. أين نشأت البوذية؟ نشأت البوذية في الهند، على أرضية هندوسية. فكل المفاهيم الأساسية للبوذية، من تقمص الأرواح، من الدورة السببية الكبرى samsāra، الـنرفانا nirvāna، مفهوم كرْما karma، إلى ما هنالك – هذه المفاهيم كلُّها مفاهيم هندية. فكان من المستحيل على الديانة البوذية، بهذه المفاهيم، أن تكون قد نشأت في أوروبا أو في الشرق الأدنى القديم. والهندوسية تخضع للأمر ذاته: فالهندوسية، التي نشأت عنها البوذية، لا يمكن لها أن تنشأ إلا على الأرضية السنسكريتية السابقة لها.
المسيحية نشأت على أرضية مكوَّنة من وثنية محلِّية، من فلسفة أفلاطونية حديثة، من أفكار وثنية يونانية، من غنوصية، إلخ؛ هناك مصادر كثيرة للمسيحية. كذلك الإسلام، عندما ظهر، ظهر في بيئة ثقافية كانت تضج بالمعتقدات والأفكار؛ كان ظهور الإسلام في فترة من أخصب فترات الفكر الإنساني: كانت الحضارات تتمازج، تتلاقح، تتفاعل، وتتحاور. فلولا المسيحية واليهودية ووثنية الجزيرة العربية، مثلاً، وكذلك الزرادشتية والمانوية، لما ظهرت تعاليم الإسلام على الشكل الذي ظهرت عليه.
ن.: الآن، لو أخذنا مثال قصة هابيل وقابيل في التوراة وفي القرآن، نجد لها أصلاً، أو ما يشابهها، في الأسطورة السومرية. يضعنا هذا أمام افتراضين اثنين: إما أن هذه الكتب السماوية استلهمت بعض القصص من الأساطير، أو أن الأساطير ذاتها بدأت من بذرة وحي سماوية.
ف.س.: كما قلت، لنحاول أخذ الموضوع من وجهة نظر ظاهرة الوحي. لنفترض، جدلاً، بأن الدين – الدين اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي – هو نتاج وحي. وهنا أقول لك بأن مدارس الكلام الإسلامي اختلفت في مفهوم الوحي. فما هو الوحي؟ وهل يأتي الوحي بكلمات دقيقة مفصَّلة، أم يأتي بمعانٍ؟ حتى الآن، هناك بعض الناس، أو بعض الفِرَق الإسلامية، تقول بأن الوحي يأتي في معنى، وبأن متلقِّي الوحي قادر على صياغته بما تيسَّر لديه من أدوات لغوية متوفرة له. وهنا أقول – وقد كرَّرت هذا القول عدة مرات، وفي أكثر من كتاب – أن خمر الأديان القديمة يُصَبُّ في جِرار حديثة، بما معناه أن الوعاء جديد لكن الخمر قديم، ويزداد قِدَمًا وتعتقًا ولذةً للشاربين في هذا الوعاء الجديد. كل رسالة لديها الجديد الذي جاءت به...
ن.: ... أو الاختلاف؟
ف.س.: ... الاختلاف، التميُّز... لكلِّ رسالة من الرسالات السماوية خصوصيتُها؛ ولكنها، كظاهرة ثقافية، لا يمكن لها إلا أن تتأثر بما سَبَقَها – حتى في حال افترضْنا وآمنَّا بأن هناك وحيًا سماويًّا.
هل من علاقة بين "دين الإنسان" و"دين السماء"؟
ما هي أول خطوة لتحرير العقل؟
كيف نفهم الإلحاد؟
ربما يختلف فراس السواح عن فريق من المفكرين والباحثين يذهبون، في مشروعهم الفكري، وفق خطة مسبقة لتأليف عدد من الكتب في موضوعات معينة ومحددة سلفًا. على العكس تمامًا، فإن مؤلَّفاته يتوالد بعضُها من بعض من دون مخطَّط سابق، وهي نتاج لمشروعه المعرفي الشخصي. وما يقوله في كلِّ كتاب هو ما تحصَّل لديه من معارف وأفكار حول موضوع معيَّن. فهو قد يكف عن الكتابة غدًا – كما يقول – إذا لم يجد عنده همًّا معرفيًّا ودافعًا قويًّا لمتابعة هذا الهمِّ حتى آخِره.
كما لا يكتب السواح في موضوع إلا إذا أجَّج فيه حريقًا لا يخمد حتى يشبعه بحثًا ودراسة. وربما لهذا السبب يعترف السواح بأنه أول المتعلِّمين من كتبه، لأنه أيضًا لا ينطلق من أيِّ موقع إيديولوجي يكبِّل أفكاره. ولعل حيوية أفكار فراس السواح وتحريضها على تحرير العقل هي التي تجعل بعض القراء والمعجبين به يعترفون له بأن رؤيتهم للعالم أو طريقة تفكيرهم قد تغيرتْ بفضل مؤلَّفاته. وهذا بالتأكيد ما يُطمئِن السواح، الذي لا يعترف بالفكر إلا إذا غيَّر قارئَه ودَفَعَه إلى التأمل والتفكير الإيجابي، وإلى نقد مخزونه المعرفي وإعادة النظر فيه، من أجل إفساح المكان لأفكار جديدة، ومواقف جديدة من العالم، ومن الحياة، تحضُّ على سلوكيات جديدة أيضًا: "المعرفة التي لا ترتبط بالسلوك تبقى مجرَّد ألعاب ذهنية لا قيمة لها"، كما يقول السواح أيضًا.
ن.: أستاذ فراس، منذ كتابك الأول، مغامرة العقل الأولى، وأنت تقتحم موضوعاتٍ كادت أن تكون وقفًا على العقل الأوروبي الغربي. فما الذي حرَّضك على هذه "المغامرة"؟
ف.س.: سؤالكِ، نوار، ذو شقين: إن الموضوعات في الثقافة العالمية الآن هي وقْف على العقل الغربي، في معظمها. أي أن ما يُدعى بـ"فكر العالم الثالث" لا يقدِّم مساهمة إلا في الحدِّ الأدنى. هذه الموضوعات كلُّها – علم التاريخ، العلوم الإنسانية، وكذلك الأسطورة – هذا كلُّه وقْف، ولا يزال وقْفًا، على العقل العالمي.
ن.: ولكن البحث في الأسطورة يُعتبَر نوعًا من الترف يليق به العقل الأوروبي، وليس العربي؟
ف.س.: لا أعتقد أن البحث في الأسطورة ترفٌ على الإطلاق – إلا إذا اعتبرنا الحياة الروحية للإنسان بكاملها من قبيل "الترف"!
ن.: لا، أبدًا.
ف.س.: طبعًا لا. لكني أعتقد أنني قدَّمت مساهمةً مؤثرة في هذا المجال. وعبر حوالى ثلاثين سنة من التفرغ لدراسة الأسطورة وتاريخ الدين وفينومينولوجيا الدين، قدَّمتُ مساهمتي الخاصة في هذا العلم.
ن.: ما هي الأهداف المحددة التي وضعتَها نصب عينيك خلال هذه السنوات الثلاثين؟
ف.س.: لقد حرَّرتُ عقلي، حرَّضتُ عقلي على التفكير الحر؛ ومن خلال العمل، أردت أن أحرِّر عقول الآخرين أيضًا. يعني إذا سئلتِني: "لماذا تكتب؟" أقول: "من أجل تحرير العقل، أكتب من أجل تحرير العقل." لا يوجد لي هدفٌ آخر. فعندما يتحرَّر العقل، ويثق العقل بنفسه وبمقدرته – هو العقل الفردي – على التعامل مع أعقد الأسئلة وأعقد المشكلات، عند ذلك نكون قد بدأنا الخطوة الأولى في...
ن. [مُقاطِعة]: إذن، أستاذ فراس سواح ثائر، يحرِّض الناس على تحرير عقولهم من القيود!
ف.س.: بطريقة ما.
ن.: بالتالي، أنت قادر على التفكير في كلِّ شيء؟!
ف.س.: يجب على الإنسان أن يكون قادرًا على التفكير في كلِّ شيء، مستعدًا دائمًا للتفكير. أنا مستعد للتفكير في كلِّ شيء، مستعد لأن أخوض غمار كلِّ شيء. ليس لديَّ خوف. ويشجِّعني على ذلك أنني لم أعتنق إيديولوجيا يومًا في حياتي. الإيديولوجيا، سواء كانت إيديولوجيا دينية أم إيديولوجيا سياسية، تكبِّل العقل، تكبِّل الروح، تكبِّل الإنسان، تمنع الإنسان...
ن.: تؤطِّره...
ف.س.: تؤطِّره... فكثيرون من زملائنا في سنِّ المراهقة ارتموا في حضن هذه الإيديولوجيا أو تلك. أنا كنت أرتعب من الإيديولوجيا، أخاف منها. ففي بعض الفترات من المراهقة، كانت عندي مشاعر دينية شديدة، فحاولت الاقتراب من جماعة دينية، لكني أُصِبْتُ بالهلع من التحجُّر العقائدي والفكري، من تلك الأُطُر التي يحاولون أن يقيِّدوك فيها، فهربت. وعبر حياتي تعرضت أيضًا لإيديولوجيا أخرى وإيديولوجيا ثالثة، اقتربت منهما طورًا، ولكنني هربت، نفدت بجلدي!
ن.: الحمد لله على السلامة!
ف.س.: إذن، لكي تتابع التفكير الحرَّ يجب أن تبتعد عن الإيديولوجيات الجامدة. الآن، بعد مسيرة فكرية طويلة، إذا أردتَ، بعد سنِّ الثلاثين أو بعد سنِّ الأربعين، – في أية سن، بعد رحلة معرفية طويلة، – أن تلتزم بإيديولوجيا معينة، فليكن.
ن.: الآن، لنتأمل بعض ما وَرَدَ في كتابك دين الإنسان. فمثلاً: وجدتَ أن الإنسان، منذ أن وُجِدَ، أفلح في اختراع أمرين اثنين لا ثالث لهما: الدين والأدوات.
ف.س.: الدين والأدوات هما أولى النواتج الثقافية للجنس البشري. الثقافة هي الشيء الوحيد الذي يميِّز الإنسان عن المملكة الحيوانية. فإذا أخذنا فصيلة الأسود، مثلاً، فمنذ ملايين السنوات إلى الآن، لم تترك لنا الأسود سوى العظام. القرد قد يستطيع أن يستخدم أداةً ما ليصل إلى موزة، لكن هذا القرد، منذ ثلاث أو أربع أو خمس ملايين سنة، هو هو، لم يتغير، لم يترك لنا نتاجًا معينًا. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع ثقافة؛ أي أنه يوسِّط بينه وبين الطبيعة أفكارًا وأدوات. هاتان السِّمَتان الثقافيتان لا أجد ثالثة لهما. فمن الدين نشأت الأفكارُ كلُّها، ونشأت العلوم الإنسانية كلُّها؛ ومن الأدوات نشأت التكنولوجيا، ونشأ العلم.
ن.: عمَّ يمكن للإنسان الاستغناء، عن الدين أم عن الأدوات؟
ف.س.: لا يمكن للإنسان أن يستغني عن الأدوات. ربما أمكن له أن يستغني عن الدين، ولكنه سوف يغدو تائهًا في صحراء قاحلة لا معنى لها؛ من دون الدين تغدو الحياة بكاملها بلا معنى.
"إن الديانات السماوية الباقية الآن هي نتاج لإبانة القدرة الإلهية عن مقاصدها. ولكن، هل نَسِمُ بالزيف كلَّ تجربة دينية لثقافة كَدَحَتْ للتعرف على مقاصد القدرة الإلهية دون عونٍ من وحي؟ إن أكثر الملتزمين بحرفية النصوص المقدسة لا يقدر على الإجابة بنعمٍ مطمئنةٍ عن هذا السؤال."
فراس السواح
ن.: ابن عربي يرى أن الآلهة الوثنية كانت مقدمة ضرورية – بل لا غنى عنها – للدين الحق، لأن الإنسان يتوصل، من خلال الآلهة الوثنية، في شكل تدريجي، إلى معرفة الألوهية الحق.
ف.س.: هذا ما حصل في التاريخ فعلاً. ابن عربي يقول، في أكثر من صيغة، بأنه ما عُبِد إلا الله في كلِّ ما عُبِد!
ن.: حتى في الأصنام؟!
ف.س.: مهما عَبَدَ الإنسان... إذا كان أصلاً لا موجود إلا الله، فمعنى ذلك أنه مهما عَبَدَ الإنسان، فهو يعبد الله في صورة ما. وسواء عَبَدَه في شجر أم في حجر، في هذا الإله أم في ذاك، فهذه العبادة موجَّهة نحو الله تعالى. ومن هنا لا فرق، عند ابن عربي، بين دين توحيدي ودين وثني. حتى إنه يقول بأن معرفة الأديان الوثنية تعطي لعابديها وجهًا من وجوه الله. فهناك، في كلِّ معبود، وجهٌ من وجوه الله تعالى. عند هذه النقطة من التفكير تزول الفواصل بين ما هو وثني وما هو توحيدي.
ن.: هل تعتقد أن الدين يحرِّر الإنسان فعلاً؟
ف.س.: الدين يحرِّر الإنسان؟ طبعًا، من حيث المبدأ، الدين يحرِّر الإنسان. ولنقل إن الحياة الروحية تحرِّر الإنسان. الدين، بهذا المعنى الروحي، يحرِّر الإنسان، لأن الدين يُخرِج الإنسان من فرديته، يجعل مطابقة بينه وبين الكون، يُخرِجه من عزلته. في الدين هناك صلة بين العالم المادي والعالم الماورائي. يستطيع الإنسان، من خلال معتقده ومن خلال أسطورته ومن خلال طقوسه، أن يعقد هذه الصلة بين العالم المادي والعالم القدسي. لكن الإنسان المادي، الذي لا يرى في الوجود إلا المادة، هو إنسان وحيد ومعزول: يعتقد أنه ذات مستقلة، تعيش هذه الفسحة على الأرض، ثم تتلاشى.
الدين محرِّر قطعًا. لكنه يغدو أيضًا من أكبر المقيِّدات إذا تحوَّل إلى إيديولوجيا ناجزة وجاهزة وضاغطة على الفرد.
ن.: أحيانًا هناك شعور، ربما، بتقصير، مثلاً، في أداء الواجبات الدينية أو الطقوسية إلخ – هذا ممَّا يسبِّب حرجًا أو إحساسًا بالتقصير والذنب، وبالتالي لا يصبح الدين...
ف.س. [مُقاطِعًا]: هذا الإحساس بالتقصير والذنب نابع من تحوُّل الدين من طاقة روحية كبرى إلى مجموعة من الشكلانيات، بمعنى التركيز على الطقوس وعلى الشريعة في مقابل غياب التواصل الروحي مع الماورائي. إن دقيقة واحدة من الصلاة الذهنية أكثر فائدة من خمسين صلاة!
ن.: ولكن هل كلُّ إنسان قادر على أن يتواصل بروحه مع الماورائي؟
ف.س.: كل إنسان قادر...
ن. [مُقاطِعة]: ولكن هل يفعل؟
ف.س.: ... ولكننا قيَّدناه، منذ البداية، بصيغة معيَّنة للعبادة، قيَّدناه بمجموعة من الأفكار، كانت محرِّرة في السابق، لكنها تحجَّرتْ وتحوَّلتْ إلى أدوات تقييد. كلُّ رسالة دينية تبدأ رسالة روحية، شاملة، محرِّرة؛ ثم تدريجيًّا تتقوقع عندما يسيطر عليها الفقهاءُ والمشرِّعون.
ن.: والمؤسَّسة الدينية؟
ف.س.: والمؤسَّسة الدينية... الفقهاء والمشرِّعون والمؤسَّسة الدينية. الرسالة المحمدية، مثلاً، رسالة محرِّرة: محرِّرة للإنسانية، محرِّرة للفرد. لكن ما قام به الفقهاء والمشرِّعون ومَن إليهم قد جعل منها إيديولوجيا شاملة، تتجمَّد شيئًا فشيئًا وتتحجَّر – حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن.
ن.: أحيانًا يمكن للفرد أن يصل حتى إلى فكرة الإله الغاضب أو الإله "المنتقم"، أي هذا الإله الذي تريد أن تلجأ إليه، يعني تخافه...
ف.س.: ... يعني تحلُّ صورٌ محلَّ صور أخرى، ويتم التركيز على أفكار دينية على حساب الأفكار الدينية الأخرى. كلما تحجَّرنا ركَّزنا أكثر على ما هو إشكالي في الدين. النص الديني هو، من حيث المبدأ، نصٌّ إشكالي؛ هو ليس نصًّا واضحًا، بل نصٌّ مصبوب في قالب أدبي، عاطفي، انفعالي، يتوجَّه إلى النفس أكثر مما يتوجَّه إلى العقل. وبالتالي، كلُّ نصٍّ ديني هو نصٌّ إشكالي، بمعنى أن فيه إشكاليات يمكن لك أن تفسِّرها على هذا الوجه أو على ذاك. النص الديني أشبه بالنص الشعري – النص الديني والأسطورة أيضًا؛ فالأسطورة ضمن النصوص الدينية – فالنص الديني إما أن يكون أسطورة أو أن يكون كتابًا مقدسًا. وكلما تحجَّر الدين تمَّ التركيز على جوانب إشكالية من المقدَّس على حساب الجوانب الأخرى.
"أثق بمن هو أهل للثقة، كما أثق بمن هو غير أهل لها، وبذلك أعمل على تعميم الثقة."
لاو تسو
ن.: المعروف عنك، أستاذ فراس، أنك ضد الدين وأنك ضد...
ف.س.: هناك بعض المبالغة... البعض يقول ذلك.
ن.: أي أن هذا الكلام يتعلَّق بالبعض فقط؟
ف.س.: بعضهم يقول ذلك، وبعضهم الآخر يقول العكس. منذ بضعة أيام، كنت في أحد الأماكن العامة، فجاء شاب ألقى التحية عليَّ، وقال إنه، بعد أن قرأ كتاب لغز عشتار، تحوَّل من الإيمان إلى الإلحاد!
ن.: أي أنه ألحد بعد قراءته الكتاب؟!
ف.س.: ... بعد قراءة لغز عشتار. فقلت له: "عجيب! هناك أشخاص كُثُر آمنوا، أو ازدادوا إيمانًا، بعد قراءتهم لـلغز عشتار." الحقيقة أن ما فَقَدَه هذا الشخص وأمثالُه ليس الإيمان بالله. لا يمكن لأيِّ إنسان أن يفقد إيمانه بالله! وفي الحقيقة، أنا دائمًا أقول: لا يوجد إنسان ملحد، إنما يوجد إنسان قد فَقَدَ إيمانه بهذا الطقس أو ذاك، من هذا الدين أو ذاك، أو فقد إيمانه بهذه المؤسَّسة الدينية أو تلك، أو أنه لم يقتنع، عقليًّا، بهذه العقيدة أو تلك – والدين ليس عقلاً...
ن. [مُقاطِعة]: هل كان مهيأ لذلك؟
ف.س.: لا شك أنه كان مهيأ. قد يكون أن فكرة التثليث المسيحية لم تَرُقْ لهذا الشاب، أو وجدها بعيدة عن المنطق، ربما لأن الكنيسة قد جعلت من مفهوم التثليث إيديولوجيا ثابتة وركنًا أساسيًّا، إذا تزعزع تزعزعتْ معه الديانةُ بأكملها...
ن. [مُقاطِعة]: أو تزعزع إيمانُه...
ف.س.: ... أو تزعزع إيمانُه. فهذا الرجل يعتقد بأنه قد ألحد، وهو في الواقع لم يلحد. أي أن هذا الجمود في العقيدة هو الذي يجعل الكثيرين يخرجون عن هذه العقيدة: إما أن تؤمن بهذه العقيدة كما هي، وكما صاغها الكهنوت...
ن. [مُقاطِعة]: والفقهاء كذلك...
ف.س.: ... والفقهاء، إلخ، أو أن تصبح خارج هذه العقيدة. عندئذٍ يظن أنه قد ألحد.
ن.: ولكن ما قولك، مثلاً، في الذين يقولون إنهم يخشون الدخول في مناظرات أو مناقشات أو سجالات فكرية خوفًا على إيمانهم من أن يتزعزع؟
ف.س.: أقول لهم إن الإيمان لا علاقة له بالعقل. لا توجد ضرورة للدخول في مناقشات عقلية فيما يتعلق بالإيمان الديني. الإيمان الديني لا علاقة له بالبرهان، غير خاضع للبرهان. وفي الأصل، الرسالة الدينية تُصاغ بطريقة تتجاوز العقل، لتصل إلى القلب، وتُصاغ بطريقة لا يمكن لها أن تخضع للدحض: لا يمكن البرهان لا على صحتها ولا على خطئها. لذا فإن موضوع المناقشة العقلية للإيمان بعقيدة ما هي مسألة غير مجدية.
متى ظهر مفهوم الشيطان؟
ما هي "الأمانة" التي حَمَلَها الإنسان؟
مَن أوجد الأخلاق: الأديان أم الإنسان؟
في كتاب الرحمن والشيطان يبحث السواح في مسألة من أخطر المسائل في الفكر الفلسفي وأكثرها حساسية في الفكر الديني، ألا وهي مسألة وجود الشر في العالم وفي النفس الإنسانية، وفي الكيفية التي عالجتْ بها معتقداتُ التوحيد بشكل خاص هذه المسألة، من خلال تركيزها على مفهوم جديد على الفكر الديني، ألا وهو مفهوم "الشيطان"، الذي يُعَدُّ المبدأ الكوني للشر والمصدر الأصلي الذي ينشأ عنه كلُّ شر.
وظهور الشيطان في الفكر الديني تَرافَق مع اتصال الأخلاق بالدين. يعتقد الكثيرون، كما يذهب فراس السواح، أن الأخلاق هي جزء لا غنى عنه في الدين. لكن، في الحقيقة، إن اتصال الأخلاق بالدين جاء في مرحلة متأخرة من مراحل تاريخ الدين. فالأصل في الدين والأخلاق هو استقلال واحدهما عن الآخر، وليس ارتباطهما. فالدين، من جهة، ينظم صلة الإنسان مع العوالم الماورائية، بينما الأخلاق تنظم صلة الإنسان مع أخيه الإنسان، وصِلَة الأفراد مع الجماعة. وحتى وقت متأخر من تاريخ الدين، كانت إدارةُ الأخلاق وقفًا على التجمعات البشرية، تديرها وفق أعرافها وعاداتها؛ إذ لم تكن الأخلاق آنذاك مزوَّدة برادع ديني، بل كانت شأنًا دنيويًّا مستقلاً عن السماء. كما كانت الآلهة موزَّعة بين الشر والخير، ولم يكن الشر قد تجسَّد بعدُ في كائن ماورائي معيَّن. ولكن، في ظلِّ ظروف اجتماعية وتاريخية معينة، بدأت الأخلاق ترتبط بالدين؛ مما أنتج عن ذلك تدريجيًّا ظهورُ إله الخير، وخاصة كلما اقتربنا أكثر فأكثر من مفهوم التوحيد، حيث أصبح وجهُ الإله الواحد يجمع كلَّ الفضائل، بل صار هو الخير المحض. فكان لا بدَّ من تفسيرٍ لوجود الشرِّ في العالم: إذا كان الله خيرًا محضًا فمن أين يأتي الشر؟ هذا هو السؤال الجوهري، وتلك هي المعضلة التي طَرَحَها فراس السواح في كتابه الرحمن والشيطان؛ وهي معضلة فلسفية وروحية وفكرية كبرى، حيث تحوَّل الفكر الإنساني مباشرة إلى فكرة الشيطان. ولقد ظهرت شخصية الشيطان في الديانات التوحيدية خصوصًا.
ن.: قبل أن نسأل عن فكرة الشرِّ أو الشيطان في ديانات أو معتقدات التوحيد، أنت، أستاذ فراس السواح، تعتبر أن الزرادشتية والمانوية هي أيضًا من "الأديان السماوية"...
ف.س. [مُقاطِعًا]: ديانات وحي.
ن.: ديانات وحي؟!
ف.س.: أفضِّل استخدام مصطلح "ديانات وحي". فعندما ننظر إلى الزرادشتية أو المانوية أو غيرهما من الأديان، نستطيع في سهولة أن نميِّز دين الوحي عن غيره من الأديان. مُؤسِّس الديانة يقول لنا إنه تلقَّى وحيًا من السماء. وهذه الروايات متشابهة في أديان الوحي كافة: في سنٍّ معينة، في ظرف معيَّن، يأتي ملاك من السماء، يهبط إلى هذا الرجل، ويكلِّمه، ويدعوه إلى التبشير بهذا الدين الجديد. هذا الشيء حصل مع زرادشت، وحصل مع ماني. وشهادة زرادشت نفسه وشهادة ماني تؤكدان ذلك؛ شهادات أتباع هاتين الشخصيتين الروحيتين العظيمتين تؤكد ذلك؛ الديانة نفسها تؤكد ذلك.
الديانة، بقدر ما تقدِّم نفسها كديانة مخلِّصة ومحرِّرة، تكون قادرة على الاستمرار والبقاء. الزرادشتية استمرت 1500 سنة؛ المانوية استمرت حوالى 700 سنة، ولم تكن بدعة من البدع. كما أنه لا يوجد لدينا سببٌ مقنِع يدعونا إلى القول بأن ماني أو زرادشت لم...
ن. [مُقاطِعة]: ولكنها قابلة للتشكيك فيها!
ف.س.: أي ديانة قابلة للنقد!
ن.: أقول: الديانات قابلة للتشكيك فيها.
ف.س.: ماذا تعنين بالـ"تشكيك"؟
ن.: التشكيك بأن "النبي" لم يتلقَّ وحيًا، وأنه...
ف.س.: أي نبي يمكن أن يُشكَّك في تلقِّيه وحيًا! نحن نأخذ شهادته الخاصة، وشهادة أتباعه، ونفتش في فحوى هذه الديانة: هل هي دافعة؟ هل هي ديانة مخلِّصة؟ هل هي ديانة محرِّرة؟ إلخ. لا يوجد لدينا معيار آخر. لا يوجد لدينا معيار أو جهاز لكشف الكذب نختبر به صدقَ هذه الشخصية أو تلك. نحن نأخذ ما قاله النبي، وكيف وصف خبرته، فنجد أن هذه التوصيفات تكاد أن تكون متطابقة عند جميع الأنبياء: زرادشت، ماني، موسى، الرسول الأعظم، إلخ.
ن.: طبعًا هناك احتمال وجود أنبياء لا نعرفهم جميعًا.
ف.س.: أجل، كما قال القرآن الكريم: "ومنهم مَن قَصَصْنا عليك ومنهم مَن لم نَقْصُص عليك" [سورة غافر 78]. وفي الحقيقة، أنا أعتقد أنه إما أن تكون كلُّ الديانات سماوية أو تكون وضعية كلها.
ن.: فكرة الشيطان، بما أنها لم تكن من جذور وثنية، فهي من جذور سماوية... ديانات سماوية؟
ف.س.: لها جذور وثنية، ولا شك.
ن.: والشيطان، كشخصية مستقلة بذاتها...
ف.س.: ... تعمل في استقلال عن الفضاء الإلهي، لها كذلك جذور. زرادشت هو أول من قال بها. الشيطان هو شيطان كوني، بمعنى أنه إله؛ وإبان تاريخ الإنسانية، تكاد قوته أن تعادل قوة إله الخير. كلما كانت الأخلاق متصلة بالدين، ويشدِّد عليها الدين، كان الشيطان أقوى!
ن.: ما الحكمة من وجود الشيطان أساسًا؟
ف.س.: الحكمة عند الله! لكني أقول إن الشيطان هو رمز لحرية الإنسان. لولا الشيطان لما كان الإنسان حرًّا. عندما خُلِقَ الإنسانُ أُعطِيَ الحرية. إن ما يميِّز الكائن الإنساني عن بقية أشكال الحياة على الأرض، وعن بقية الموجودات في الكون، هو الحرية. وما يعطي للحرية معناها هو الشيطان. إذا لم يكن بمقدورك أن تختار بين هذا السلوك أو ذاك، بين هذا الفعل أو ذاك، بين هذه الفكرة أو تلك، لن تكون حرًّا.
ن.: إذًا الله، حين لم يمحق الشيطان عند عصيانه، أعطاه الحرية... هل هذا هو قصدك؟
ف.س.: لا نريد الدخول في قضايا فلسفية لاهوتية. كل ما يمكن لي قوله هو أن عصيان الشيطان كان نتاجًا لحريته و...
ن. [مُقاطِعة]: وَهَبَه الله...
ف.س.: ... وعصيان الإنسان أيضًا كان ناتجًا من نواتج حريته. وعندما ابتكر الله مفهوم الحرية أعطاه للإنسان. لم يُرِدْ أن يتخلَّى عن هذه العطيَّة النبيلة والسامية، فكان الشيطان رمزًا للحرية في هذا الإنسان: من دون الشيطان أنت لست حرًّا!
ن.: إذًا الحرية هي عصيان، أو العصيان هو حرية؟
ف.س.: أنت مخيَّر: الحرية هي أن تعصى أو أن لا تعصى.
ن.: إذا عصيتَ ستكون حرًّا؟
ف.س.: إذا عصيتَ ستكون حرًّا، وإن لم تعصَ ستكون حرًّا أيضًا!
ن.: إذًا كان لا بدَّ من امتحان للإنسان في الدنيا قبل الآخرة. ألا يكفي شعور النفس البشرية بوجود الشيطان، شرِّ الشيطان، وملاحقة الشيطان للإنسان؟
ف.س.: الشيطان، كما قلت منذ قليل، هو رمز: رمز للشرور. عندما تقولين شيطان وشرور بشرية فهما وجهان لعملة واحدة. الشيطان ليس كائنًا. لا يمكن لي أن أستوعب أن الشيطان ذو كيان معيَّن، وأنه يأتي خلسة، ويوسوس، ويدفع الإنسان إلى ارتكاب الخطيئة، إلخ. الشيطان رمز للنوازع الشريرة الكامنة في النفس البشرية، لا أكثر ولا أقل.
ن.: والخلاصة هي أن الله غير مسؤول عن الشرِّ في الأرض؟
ف.س.: هذا هو المفروض. فبوجود الشيطان يصبح هو مسؤولاً عن الشر. والإنسان حر. هذه هي خلاصة إيديولوجيا الشيطان. أنا لا أعطي رأيًا في هذه المسألة.
ن.: نعم، نعم... والعدالة في الأرض، مَن الذي يحقِّقها؟
ف.س.: العدالة في الأرض مَن الذي يحقِّقها؟ يبدو أن كلَّ الأديان تقول بأنْ لا عدالة في الأرض!
ن.: "الأمانة" التي حَمَلَها الإنسان، هل هي أن يحقِّق العدالة؟ هل تدخل العدالة ضمن هذه "الأمانة"؟
ف.س.: الحرية... الحرية هي "الأمانة" التي حَمَلَها الإنسان، فيما أبَتْ أن تحملها السماوات والأرض والجبال، كما جاء في القرآن [سورة الأحزاب 72]! لا أرى شيئًا آخر.
"قد يخطئ الإنسان، ولكن خطأه لا يتحوَّل إلى خيار نهائي وانحياز إلى معسكر الشيطان. ومن خلال جدلية هذه الحرية المفتوحة على الاحتمالات كلِّها عليه أن يصل في النهاية إلى خيار وحيد ومطلق بمعونة الله ونعمته."
فراس السواح
ن.: في مقدمة الرحمن والشيطان قلتَ إن هناك "دوافع شخصية" جعلتْك تكتب أو تبحث في موضوع الشر أو الشيطان. فهل لك أن تُطْلِع المُشاهِد عليها؟
ف.س.: في الحقيقة إن هذه الدوافع قديمة جدًّا. فبدايات التفكير في هذا الكتاب كانت حوالى العام 1990، أي منذ أكثر من عشر سنوات، حين أصبح لديَّ الدافع والقوة على معالجة مثل هذا الموضوع الشائك. لكني لا أقصد أن الدوافع أساسية. لقد تحدثتُ عن كيف نرى أن العالم اليوم يبدو وكأنه يحكمه الشيطان فعلاً، وأن الشيطان، لا الرحمن، هو حاكم هذه الفترة من التاريخ. هذا الأمر يجعل الإنسان يتساءل: أين الرحمن؟ ماذا فعل الشيطان فيَّ؟ في لاهوت بولس الرسول، الشيطان هو "إله هذه الدنيا" [الرسالة الثانية إلى الكورنثيين 4: 4]، هو سيد هذا العالم و"أميره". ويسوع المسيح، في أحد أقواله، وَصَفَه بـ"رئيس هذا العالم" [إنجيل يوحنا 12: 31]. حاولت أن أتعمق في هذه المسألة: هل الشيطان هو إله هذا العالم؟ هل هو "رئيس هذا العالم" فعلاً؟ ما طبيعة هذا الرمز؟ وكيف نشأ؟ إلخ.
ن.: والنتيجة: هل من جواب؟
ف.س.: لا، لا جواب. كما هو شأني في مؤلَّفاتي كلِّها، لا جواب! فأنا أكتفي إذا أفلحت في تحريض العقل على التفكير.
ن.: أستاذ فراس، شكرًا.
ف.س.: شكرًا لك، نوار.
ن.: لقاؤنا لم ينتهِ مع المفكر والباحث فراس السواح. نرجو أن تتابعوا الجزء الثاني والأخير في الأسبوع المقبل. شكرًا على متابعتكم، ونلقاكم على خير الله.
*** *** ***
عن برنامج مبدعون، تلفزيون أبو ظبي، 22/05/2003
تنضيد: دارين أحمد
مؤلَّفات فراس السواح في الأسطورة والدين (عن دار علاء الدين)
- مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة، طب 12، دمشق، 2000 (طب 1، 1978).
- لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، طب 7، دمشق، 2000 (طب 1، 1985).
- جلجامش: ملحمة الرافدين الخالدة (دراسة شاملة مع النصوص الكاملة وإعداد درامي)، طب 1، دمشق، 1996 (طب 1 بعنوان: كنوز الأعماق: قراءة في ملحمة جلجامش، 1987).
- دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، طب 3، دمشق، 1998 (طب 1، 1994).
- الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، طب 1، دمشق، 1997.
- كتاب التاو: إنجيل الحكمة التاوية في الصين، تقديم وترجمة وشرح، طب 2، دمشق، 2000 (طب 1، 1998).
- الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، طب 1، دمشق، 2000.
- الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية، طب 1، دمشق، 2