رحالة موصليون في دول المغرب والمشرق أثروا العالم بإبداعاتهم
الموصل - صادق إسماعيل *الرحلة والرحلات تعد سمة بارزة من السمات الحضارية بين شعوب الارض في قاراتها المأهولة، ولعل رحلة كريستوف كولومبس الى القارة الامريكية واكتشافها تعد من اكبر الرحلات الجغرافية.
أما في مجال البحار والمحيطات، فقد جاب ماجلان أرجاء المحيطات، وكذلك الإدريسي الرحالة العربي الذي اكتشف كروية الأرض من خلال رحلاته وتجواله في محيطات القارات وبحارها.
*أما في المجالات العلمية والأدبية، فقد ذكر التاريخ أسماء كثيرة جاب أصحابها أقطاب العالم لتوطين نظرية علمية أو ترسيخ فكرة دينية أو زرع حضارة، ذلكم أن الرحلات على اختلاف أنواعها تعد من عناصر القوة حتى وإن كانت بقصد التجارة أو الإتجار، أو كانت بقصد السياحة والاستجمام.
*عرف العرب الرحلات منذ أقدم الأزمنة فزاروا واستقبلوا، رحلوا إلى حواضر بعيدة، واستقبلوا زائرين من مدن بعيدة عن أرضهم وحاضرتهم وحضارتهم.
وقد كان للعرب حواضر علمية وثقافية كبرى أعظمها شأنا في المشرق بغداد، وفي المغرب فاس ومراكش، فقد احتضنت بغداد علوم الأمة بأسرها دون منازع، وقد تمتعت بشهرة وسمعة علمية على مدى التاريخ فاقت حواضر الدنيا شرقا وغربا، مما منح العراق برمته وحواضره ومدنه كالكوفة، والبصرة، والموصل وواسط، وأربيل، والأنبار ثقلا في الحضارة الانسانية، وجعله امتحانا لطلبة العلم، واختبارا لما حملوه من فنون العلوم والآداب واجتيازه يعد تأهيلا للتصدر، وقد وصف ابن حزم الأندلسي بغداد بأنها حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف والتدقيق في تصريف العلوم، ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء، وحدة الافكار ونفاذ الخواطر، وقال عنها ابن سعيد في مراكش: (ويكفي في الإنصاف أن أقول: إن حاضرة مراكش هي بغداد المغرب).
أما المراكشي، فقد قال عند ذكره لمدينة فاس: (ومازلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب).
الموصل
المدينة الراعية للعلوم
*ومدينة الموصل التي احتفظت قبل تأسيس بغداد بمقومات المدينة الراعية للعلوم والاداب، وامتلكت كما يشير الدكتور ناطق صالح مطلوب في بحثه عن الرحلة في طلب العلم، إرثا حضاريا عميق الجذور متنوع الأغراض تعزز بظهور العلوم الانسانية، غدت واحدة من أهم مراكز الاستقطاب في العالم الاسلامي، ومحطا لطلاب العلم والمعرفة، وموطنا لعلماء من المدن والبلدان كافة، وكذلك هي المعين الذي صب في حواضر المدن الكبرى مثل حلب ودمشق وأرض الكنانة، والحجاز، والأندلس، والمغرب العربي وتبريز وغيرها من مدن الشرق والغرب، حيث جاب رجالاتها من العلماء والادباء والفلاسفة والشعراء والمغنيين والموسيقيين والأطباء والحكماء حواضر تلك المدن المعروفة برقي علومها وعلو شأنها في الثقافة والاداب، فكان لحضورهم بين علمائها وأدبائها وفنانيها مكانة بارزة وتميزا شهدت له حوادث التاريخ على تعاقب العصور والاجيال.
*ففي بلاد الشام كان جمع من علماء الموصل قد تنقلوا بين حلب ودمشق، وبيت المقدس، وغزة وتصدروا للتدريس في المدارس المشهورة ، وتولوا القضاة والخطبة والحكم، ولعل عبد الله بن أبي حصرون ابو السعد الموصلي يعد في طليعة الرحالة الموصليين، وقد وصفه ابن الصلاح بانه افقه اهل عصره، رحل الى حلب سنة 545هـ ودخل دمشق بعدها باربع سنوات ثم تردد بين المدينتين متصدرا للتدريس، وكان مقدما في دولة نورالدين حيث بنى له المدارس بحلب وحماه وحمص وبعلبك وتولى القضاء في اماكن متعددة اخرها مدينة الشام سنة 573هـ وفيها توفي سنة 585هـ وهو المولود بمدينة الموصل سنة 492هـ وماتزال لمؤلفاته واحفاده شهرة واسعة في بلاد الشام ومكانة كبيرة لدى العامة والخاصة، توارثوا العلم وافادوا طلابه.
ومن اشهر ابناء ابن ابي عصرون الموصلي اولاده واحفاده احمد عبدالسلام المتوفي سنة 695هـ ويعقوب بن عبدالرحمن وعبدالملك بن زيد الدولعي الموصلي ومحمد بن عروة شهاب الدين ويوسف بن رافع بن تميم الاسدي (أبو المحاسن) الذي ولد في الموصل عام 539هـ ولازم ابن سعدون الأندلسي نزيل الموصل مدة ثلاث عشرة سنة ورحل الى بغداد واقام فيها اربع سنوات ثم عاد الى الموصل لينتقل الى الحجاز ثم القدس فدمشق وهناك لقي صلاح الدين الايوبي سنة 584هـ فولاه قضاء العسكر ثم حكم القدس وسافر في مهمات رسمية الى مصر ثم تولى في عهد الظاهر سنة 591هـ قضاء حلب، وكانت داره ملتقى كبار الدارسين من اهل المشرق والمغرب.
*ويعيش بن علي بن يعيش الموصلي المعروف بابن الصائغ ومحمد بن أبي بكر الموصلي وإبراهيم بن عبد الرزاق الموصلي وعبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي الموصلي ومحمد بن محمد بن عبد الكريم الموصلي، وموهوب بن ظافر أبو الفضل الذي مارس الطب ثم ابنه جابر الذي ورث عن ابيه مهنة الطب.
*أما في الديار المصرية، فأبرزهم علي بن الحسن بن الحسين الخلعي، وولده الحسن، وداؤد بن محمد بن الحسين الأصيلي الموصلي، ومحمد بن علي ابو البركات الموصلي، ومحمد بن ابي بكر المعروف بابن الخباز.
*ويعقوب بن عبد الرحمن بن عبد الله حفيد بن أبي عصرون، وعلي بن عدلان الموصلي، وعمار بن علي الموصلي.
*وفي بلاد الحجاز اشتهر رحالة موصليون كثر من أبرزهم إسماعيل بن محمد أبو الطاهر الموصلي، وجعفر بن أحمد الغنائم الموصلي، وإبراهيم الموصلي المالكي.
أما في بلاد الأندلس فقد ذاع صيت الرحالة من أبناء الموصل، أبرزهم صاعد بن الحسن الربعي الموصلي، وإبراهيم بن أبي بكر.
أما في بلاد المغرب، فقد اشتهر أبو زكريا المرجاني الموصلي، وتقي الدين الموصلي، وفي تبريز الحسن بن الحسين الموصلي وعبد اللطيف بن يوسف المعروف بابن (اللباد).
*إن مدينة الموصل قد امتلكت إرثا في علم الحديث لم يبلغه المغرب ولا الأندلس إلا في عصور متأخرة، فقد نزل الموصل، ومنذ وقت مبكر، مشاهير الصحابة والتابعين، الذين نشروا بذور العلم.
وعلى عهد ابن خلكان كان الطلبة بالموصل قائمين على تصانيف ابن الدهان، ولمؤلفات ابن الأثير مكانة وشهرة في الآفاق حملها عنه أهل المغرب وجرى لهم معه مناظرات ومحاورات في مسائل كثيرة.
المصدر
د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com