شخصية الانسان وتغير الظروف الاجتماعية
د. تيسير الناشف
شخصية الانسان معقدة ومتعددة الابعاد وشاملة. وتتأثر هذه الشخصية بالعامل الطبيعي وبعوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية ونفسية، لها آثار مختلفة في سياقات اجتماعية وتاريخية متغيرة. ويختلف البشر بعضهم عن بعض تبعا للخلفيات التاريخية والهويات الثقافية والظروف والملابسات الاجتماعية والاقتصادية والتكوينات النفسية لديهم.
ولا يجري التفاعل الافقي بين الانسان وبيئتيه الاجتماعية-الثقافية والطبيعية فحسب ولكن يجري ايضا التفاعل العمودي بين الانسان وتاريخه وتاريخ شعبه. ويجري ايضا التفاعل المستمر بين البعد الافقي والبعد العمودي للانسان.
وسلوك الانسان حيال الآخرين لا تحدده شخصيته بابعادها المختلفة الدائمة التفاعل ولكن تحدده ايضا المحركات الخارجية التي تتغير ضعفا او قوة ويستجيب الانسان لها على نحو من الانحاء.
ولا تتجلى شخصية الانسان في تعامله مع البيئات الخارجية الاجتماعية والثقافية والطبيعية، وذلك لان في ذلك التعامل، الذي يحدث في ملابسات اجتماعية او اقتصادية او نفسية او ثقافية او تاريخية نشيطة، لا يستنفر او يحرك او يستفز الا البعد و/او الابعاد الاكثر مناسبة لان يحرك في الانسان حيال تلك الملابسات التي يمر بها، وتبقى الابعاد الاخرى غير مستنفرة، بمعنى انها لا تتجلى ولا تفصح عن نفسها في تلك المناسبات. ان البعد المستنفر او المحرك او المحفز من شخصية الانسان يكون طبعا متأثرا بالعلاقات النشيطة القائمة بينه وبين الابعاد الاخرى وبقوة تأثير عوامل البيئات الخارجية النشيطة، غير انه في الملابسات الخارجية التي يمر الانسان بها لا بد من ان يستنفر او يحرك على نحو رئيس قسم من ابعاد شخصية الانسان وتبقى الابعاد الاخرى اقل تحركا وتجليا. طبيعة الملابسات الخارجية والنفسية هي السبب في جعل قسم من ابعاد الشخصية محور ذلك الاستنفار والتحريك.
وفي ضوء ذلك لا يصح اصدار احكام معممة على البشر والشعوب على اساس ملابسات اجتماعية نفسية تاريخية محدودة. وما تصنيفات الشعوب الى شعوب راقية ومتدنية وشجاعة وجبانة ومبدعة وخاملة سوى ضرب من الاخطاء والاوهام.
والامثلة على ذلك كثيرة جدا. ونجد هذه الامثلة على المستوى الفردي ومستوى الجماعات والدول خلال التاريخ البشري وفي الوقت الحاضر. وقد يكفي ان نسوق هنا امثلة قليلة. اذا عانى الانسان من خواء المعدة استنفر هذا الخواء في شخصية الانسان تلك الابعاد التي يكون محورها تأمين لقمة العيش، وتضم هذه الابعاد المهارة في اداء عمل من الاعمال والتفاني في الاداء والطاعة لصاحب العمل، وبالنسبة الى ابعاد اخرى لها صلة اقل بتأمين لقمة العيش يكون استنفارها اقل. ففي حالة الباطل عن العمل تستنفر ابعاد الشخصية التي يكون محورها تأمين الحصول على فرصة عمل، وفي حالة الاختبار تستنفر الابعاد التي يكون محورها تحقيق النجاح والتفوق من قبيل فهم المادة والاستعانة بالذاكرة والقدر الكافي من النوم او من السهر. وفي حالة الاحتلال تستنفر الابعاد التي يكون محورها التخلص من الاحتلال من قبيل الاشارة الى شروره وابعاده الاستيطانية وتبيان مخالفته للقوانين الوضعية والدولية والطبيعية وجمع الموارد الفكرية والمالية للتصدي له. وفي حالة الاخضاع القومي تستنفر الابعاد التي يكون محورها الابانة عن مساوىء ذلك الاخضاع وعن الفائدة من الاستقلال القومي والاشارة الى اهمية المحافظة على الكرامة والعزة القوميتين.
وتجمع بعض الحالات في الوقت نفسه الصعيدين الفردي والقومي، او صعيدي الفرد والدولة، او صعيدي الفرد والشعب الذي ينتمي الفرد اليه. فالهيمنة الثقافية الاجنبية تستنفر الابعاد الشخصية للفرد وللشعب. في هذه الحالة تستنفر ابعاد شخصية الفرد وابعاد شخصية الشعب التي يكون محورها محاولة التخلص من الهيمنة. ومن تلك الابعاد احياء التراث القومي والابانة عن ثروة الثقافة القومية وعن مفاسد الهيمنة وآثارها السلبية في حياة الفرد والشعب.
وبالنظر الى ان الظروف الخارجية هي التي تحدد الابعاد المستنفرة (بكسر الفاء) والمستنفرة (بفتح الفاء) في الشخصية الفردية او الجماعية فان تلك الابعاد تتغير تبعا لتغير تلك الظروف. والاوقات والاماكن المختلفة قد تكون لها ظروفها المختلفة. وبالتالي تتغير تبعا لذلك ابعاد الشخصية التي تستنفر. على سبيل المثال، كان السعي العربي الى نيل الاستقلال السياسي بين الحربين العالميتين الاولى والثانية والى التخلص من الحكم الفرنسي على سورية ولبنان والحكم البريطاني على فلسطين والاردن والعراق والسعي العربي الى التخلص من الحكم الفرنسي على المغرب والجزائر وتونس المحور الذي استنهض واستثار الابعاد الفردية والقومية في الشخضية العربية. واليوم يظلل هدف المحافظة على الاستقلال السياسي والاقتصادي العربي وعلى الخصائص الثقافية العربية احد المحاور التي تستنهض ابعاد الشخصية الفردية والقومية العربية.
ولذلك كله من الخطأ الجسيم ومن سوء الفهم اصدار حكم معمم على نوعية شخصيات الافراد والشعوب على اساس سلوك اولئكم الافراد والشعوب في فترة زمنية قصيرة واحدة او في ظرف واحد. ذلك الاساس جزئي، وبالتالي لا يصلح لان يكون مستندا لاصدار حكم معمم. انه جزئي من ناحية قصر المدة الزمنية، وايضا من ناحية عدم شموله لكل الملابسات والظروف التي هي بطبيعتها متنوعة وكثيرة. وهي ايضا متفاعلة، وبالتالي متغيرة. وتفاعلها وتغيرها يجعلانها متنوعة وكثيرة، مما يؤكد الخطأ في اصدار الحكم التعميمي. وفي ضوء ذلك ليس من الصحيح القول ان شعبا من الشعوب افضل او اسوأ من شعب آخر.
وعدم مراعاة ذلك النهج يعني عدم الوعي به، وعدم الوعي هذا نابع من احتجاب حقيقة الامور، وهو الاحتجاب الناشىء عن غسل دماغ الذين ذهبوا ضحية الهيمنة الثقافية على الشخصية الفردية والقومية مدة تمتد عشرات وربما مئات السنين.