...
..فقط عندما تساقطت وريقات الشجر..و هوت أرضا شاحبة متيبسة باردة ..ويكأنها الموت في اصفراره...فقط عندما تعرّت الأغصان وتكشّفت متلذّذة ببرود الهواء القارس .. عندها تمكنا من الخروج تنشّقا شيئا يسيرا من نسيمات الخريف شدّا على أيدي بعضهما البعض ..وهمّا خارجا ..أقدامهما الغضّة تدّق بشوق صلبة الأرض القاسية ..تلفحّا بحبّ عميق ..تتسلل نفحاته من بين جنباتهما المصتكة...ترتجف أضلاعهما من رهبة أو رغبة في لقاء مرتقب ..خوف وشوق ..وهيبة ..وفرحة طفولية مرهفة تطرق أفئدتهما تتقافز معها خفقات دافئة .
بقدر ما كان الفراق بعيدا ...وبقدر ما كان الغياب طويلا ...وبقدر ما كان الإشتياق كبيرا ...كان الإنتظار ..ممتدا منذ لحظات البعاد القابعة في ذاكرتهما ..وعمرهما ..صيفه وربيعه ..شتاءه وحتى خريفه بكل الفراغ الذي يحتويه ..
تهادى الليل بوشاحه الأسود يخفي تدفّق مشاعرهما المتباينة ..آمنهم النعاس ..وأغرق النوم كل الخيالات التي كانت تراقص ناظريهما ...تمددا ..بل ..أحاط كل منهما الآخر ضاما إياه معاركا لفحات الخريف المتجمّدة ..
هدأت خواطرهما وسكنت خلجات قلبيهما ...وغفت أعينهما بهدوء...
كان الصباح ضبابيا وكان هو يتلمس طريق العودة ..لم يغمض له جفن ..ولم يسكن له نفس ..لهاثه وطرقات قلبه التعب ..كانت تسبق خطاه ..و تتلهف للقاء ..حاول أن يسند خطاه بجذع تسنّد إليه ..مدّ البصر بصعوبة ..وإذا بشيء مسجى أرضا ..حاول أن يرسم ملامحه ..اقترب ..بحذر ..ببطء..وبهدوء...كانت وجناتهما متوردة ..تضم يد كل منهما يد الآخر ..وابتسامة رضا وطمأنينة ترتسم فوق ثغرهما الدافيء.
ضمّهما بقوة الأب ..ولم يتمالك نفسه من أن تلقي بجسده التعب بجانبهما ...شعر بدفء الصيف ..وتزهّر الربيع ..وارتواء الشتاء ..ونام ..وغفى ..كأجمل ما يكون النوم ..وكأروع ما يكون الإغفاء .