Reply to Thread
Page 1 of 2 1 2 LastLast
Results 1 to 12 of 21

Thread: الأساطير ..؟!

  1. #1 الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    الأسطورة
    المصطلح والوظيفة
    فراس السوّاح
    1. المصطلح: مسائل أساسية
    في دراستنا لأية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية، هنالك مسألة تطرح نفسها، ابتداءً، ولا نستطيع السير قُدماً في مهمتنا قبل التوقف عندها ملياً، ألا وهي مسألة المصطلح والتعريف. فبدون هذه الخطوة المبدئية التي من شأنها تعريف الظاهرة وتوضيح حدودها قد يجد الباحث نفسه يلاحق ظواهر بعيدة عن موضوع دراسته، أو ينساق وراء جوانب ثانوية من الظاهرة المعنية على حساب جوانبها الرئيسية. على أن المشكلة التي تواجهنا عندما نحاول أن نستهل دراستنا بتعريف للظاهرة وتوضيح لمصطلحاتها، هي أننا لا نستطيع التوصل إلى تعريف مرضٍ قبل أن نكون قد قطعنا شوطاً واسعاً في تقصي ظاهرتنا. لأن التعريف الذي لا يأتي نتيجة الدراسة المتأنية والمعمقة سوف يعكس أهواء الباحث ومواقفه المسبقة وإسقاطاته الخاصة عوضاً عن أن يكون مرشداً موضوعياً له. من هنا، فنحن أمام مأزق فعلي يتعلق بالمنهج. ذلك أن التعريف المسبق أمر ضروري لغاية توضيح وتحديد مجال البحث. ولكننا، في الوقت نفسه، لا نستطيع التوصل إلى مثل هذا التعريف قبل أن نشبع ظاهرتنا التي نعكف عليها بحثاً وتحليلاً.
    من هنا فإني أرى أن دراسة أية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية يجب أن تتمّ على مرحلتين. تستهدف المرحلة الأولى التوصل إلى تعريف دقيق للظاهرة انطلاقاً من تعريف مبدئي عام وفضفاض، من شأنه حصر مجهود الباحث وتركيزه ضمن قطاع عام أو ظاهرة أشمل تحتوي الظاهرة الأصغر التي نحن بصددها. أما المرحلة الثانية فتعود إلى نقطة البداية مزودة بتعريف واضح ودقيق للموضوع، وتُقبِل عليه مجدداً وقد صار محدداً ومميزاً عن بقية الموضوعات المشابهة له أو المتداخلة معه.

    في مجال الأسطورة، وهي ظاهرة من أهم ظواهر الثقافة الإنسانية، يمكن للباحث أن يبتدئ من التعريف المبدئي التالي فيقول: "إن الأسطورة هي حكاية تقليدية تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية." غير أن التقدم في مسيرة البحث سوف يطلِعنا على العديد من الأجناس الأدبية التي ينطبق عليها هذا التعريف والتي نستبعدها من دائرة الأسطورة تدريجياً وذلك لعدم صلتها بها رغم مشابهتها لها من حيث الشكل، فنتعرف على الخرافة وعلى القصص البطولي وعلى الحكاية الشعبية وغيرها، وجميعها مما يشترك بهذه الدرجة أو تلك في التعريف الذي أوردناه. وكلما سرنا قدماً في مجهود الجمع والتدقيق والمقارنة استطعنا تمييز جنس الأسطورة عن غيره من الأجناس، واقتربنا أكثر فأكثر من تعريف دقيق يمكن الانطلاق منه إلى دراسة الأسطورة كظاهرة ثقافية متميزة ذات خصوصية عالية. وهذا التمييز لا يهم فقط باحثي الميثولوجيا بل وبقية الباحثين في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، وعلى وجه الخصوص تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والبسيكولوجيا، نظراً لما تقدمه أساطير الشعوب لهذه المجالات من مادة غنية تساعدها على فهم وتفسير ظواهر الثقافة الإنسانية الأخرى. يضاف إلى ذلك ما لتوضيح مصطلح الأسطورة من أهمية بالغة بالنسبة لجمهرة القراء المهتمين بهذا الحقل المعرفي.


    ولرب سائل يسأل: لماذا نثير الآن مسألة المصطلح والتعريف بعد أن ظننا المسألة صارت من ماضي البحث، وبعد أن أمضى علم الميثولوجيا أكثر من قرن وهو يبحث وينقب ويصوغ النظريات؟ أليس في العودة إلى هذه المسألة وضع إشارة استفهام حول منهجية البحث الميثولوجي ومعظم منجزاته؟ جوابي على هذا التساؤل هو أني أريد بالفعل أن أضع إشارة الاستفهام هذه حول ما يعتقد الكثيرون بأنه صار في حكم المعروف والموصوف في هذا المجال، وعلى وجه الخصوص تلك المجموعات من حكايا الشعوب التي يقدمها لنا مصنفوها تحت عنوان "الميثولوجيا" من دون أن يختبروا مادتهم على أي معيار من شأنه أن يفرز النص الأسطوري عن غيره من النصوص التي تنتمي إلى أجناس أدبية أخرى مازالت مختلطة بالجنس الميثولوجي الأصيل، حتى في أذهان كثير من المتخصصين. من هذه المجموعات، أخص بالذكر ما يُقدم إلى القراء تحت عنوان "الميثولوجيا الإغريقية"، لأن معظم مادتها لا ينتمي إلى الأسطورة بل اختلط بها لأسباب تتعلق بتاريخ البحث الميثولوجي.
    تبدأ المشكلة، في رأيي، من أن القدماء أنفسهم لم يعملوا على تمييز النص الأسطوري عن غيره، ولا هم دعوه باسم خاص يساعدنا على تمييزه بوضوح بين ركام ما تركوه لنا من حكايات وأناشيد وصلوات وما إليها. ويمكن أن أسوق في هذا المجال مثالين، المثال السومري والمثال الإغريقي. فقد كان للسومريين مكتبات يحفظون فيها الرقم الفخارية تدعى "بيوت الألواح"، وكان لهم نظام للأرشفة يساعد خازن بيت الألواح على جرد محتوياته وخدمة المستفيدين منه. ولكننا إذا نظرنا إلى لوائح أرشيفهم لوجدنا أن النصوص الأسطورية مبعثرة بين البقية، وكأن المؤرشف لم يلمح ما يجمع هذه النصوص إلى بعضها ولم يجد ما يبرر ضمها إلى زمرة واحدة. وقد بقي نظام الأرشفة هذا قائماً حتى أواخر عصر المملكة الآشورية الجديدة، حيث نجد في مكتبة الملك آشوربانيبال النصوص وقد حفظت بعضها إلى جانب بعض دونما عناية بفرزها إلى مجموعات وفق موضوعاتها، وحيث نصوص الحكم والوصايا توجد إلى جانب الصلوات والتراتيل وإلى جانب الأساطير. يضاف إلى ذلك عدم وجود أية إشارة تميز النص الأسطوري الذي غالباً ما كان يتخذ عنوانه من سطره الافتتاحي الأول، شأنه في ذلك شأن بقية النصوص الطقسية أو الملحمية أو الأدبية البحتة. وإليكم بعض العناوين المدرجة في أحد فهارس المكتبات السومرية[1]: 1. "إنليل واسع الإدراك"، وهو بداية ترتيلة مرفوعة إلى الإله إنليل؛ 2. "السيد، إلى أرض الأحياء"، وهو بداية نص جلجامش وأرض الأحياء؛ 3. "إلى أين كنت تذهب"، وهو مأخوذ من السطر الأول لنص أيام الدراسة الذي يقول: "يا ابن المدرسة إلى أين كنت تذهب في الأيام القديمة؟"؛ 4. "الفلاح في سابق الأيام"، وهو مأخوذ من بداية رسالة تتضمن توجيهات موجهة من فلاح إلى ابنه؛ 5. "من الأعلى العظيم إلى الأسفل العظيم"، وهو بداية أسطورة هبوط إنانا إلى العالم الأسفل. نلاحظ من هذه العناوين كيف تم إدراج الأساطير إلى جانب النصوص المدرسية والتعليمات الزراعية وما إليها دون إعطاء خصوصية لأي منها.
    وقد اتخذ جامعو التراث الأدبي الإغريقي الموقف نفسه من الأسطورة عندما جمعوها مع أشتات من الحكايات التي تنتمي إلى أجناس أدبية مختلفة ضمن سِفر واحد. وبما أن هؤلاء الإغريق لم يكونوا خَزَنَة ألواح بل أدباء وجمعة تراث، فقد عمد كل واحد منهم إلى إعادة صياغة ما وصل إليه من هذه الحكايات التقليدية وفق أسلوب أدبي خاص به، ووفق صنعة وخيال تُدخِل على النص المنقول تعديلات لابد منها في أية صياغة أدبية هدفها الإمتاع والمؤانسة، لا التوثيق والتدقيق. ونالت الأسطورة على أيديهم حظها من التعديل والتشذيب، وغابت في خضم الموروث الشعبي المختلِط حابلُه بنابله. وقد نشطت حركة الجمع التراثي بشكل خاص إبان العصر الهيلنستي عقب فتوح الإسكندر المقدوني على يد كتاب من أمثال كاليماخوس Callimachus وأبولونيوس Apollonious، وقلَّدهم في ذلك لاحقاً الشعراء الرومان من أمثال أوفيد Ovid وبروبرسيوس Propertius. وعندما جاء الباحثون الغربيون في العصر الحديث إلى النظر في تلك المجموعات الأدبية أطلقوا على ما حوته اسم الأساطير، وابتدأت مشكلتنا مع المصطلح والتعريف.
    ومما زاد الطين بلاً أن جامعي ومقدمي الميثولوجيا الإغريقية من المحدثين قد عمدوا إلى إعادة صياغة ما كان الجامعون الإغريق والرومان قد أعادوا صياغته في وقتها، وذلك بلغة تروق لقارئ اليوم. وغالباً ما لجأوا إلى المزج بين الروايات المتعددة القديمة للحكاية الواحدة، فجاءت النسخ العصرية للميثولوجيا الإغريقية في حلة لا يربطها إلا أوهى الروابط بأصولها التي كانت متداولة شفاهاً قبل عصر التدوين في اليونان. ولكي أعطي مثالاً عن الجمع العشوائي غير المدقِّق للحكاية الإغريقية التقليدية تحت عنوان "أساطير الإغريق" مما راج في القرن العشرين، أذكر كتاباً شائعاً في الغرب عنوانه "الميثولوجيا" لمؤلِّفته إديث هاملتون. لقد جمعت المؤلفة في كتابها هذا كل ما يخطر بالبال من حكايا إغريقية، تتدرج في الأهمية والجدية من أسطورة خلق العالم إلى حكاية حب بطلها شاب وفتاة صغيران يحول الأهل دون زواجهما فينتحران. ولسوف أتوقف قليلاً عند هاتين "الأسطورتين" – بمصطلح المؤلفة – لأظهر مدى العبث الذي نال من أسطورة التكوين الإغريقية من جهة، ومدى افتقاد قصة الحب تلك إلى أي عنصر من عناصر الأسطورة الحقة.
    تقول إديث هاملتون في مطلع نصها عن أسطورة التكوين الإغريقية ما يلي: "في البدء، كان العماء هاوية لا يُسبر غورها، هائجة كالبحر ومظلمة وجرداء وموحشة"،[2] ثم تتابع: "هذه الكلمات للشاعر ميلتون، ولكنها تعبر بالضبط عما كان الإغريق يعتقدونه في أساس الأشياء وبداياتها. فقبل أن تظهر الآلهة، لم يكن هناك سوى العماء الذي لا شكل له، يحتضن تحته ظلمة كثيفة... كل شيء كان أسود فارغاً صامتاً بلا نهاية، ثم حدثت معجزة المعجزات. فبطريقة غامضة، ومن هذا الفراغ المترامي الخاوي انبثق إيروس أعظم الأشياء طراً. إن الكاتب المسرحي العظيم أريستوفان الساخر يصف هذا الانبثاق بكلمات طالما اقتبسها الكُتاب عنه فيقول: "الليل بجناحيه السوداوين، في قاع الهوة المظلمة العميقة، وضع بيضة في رحم الريح. وبتوالي الفصول انبثق الحب إيروس بأجنحة من ذهب." ثم تتابع: "هكذا إذن، من الظلمة ومن الموت ولد الحب، وبولادته بدأ النظام والجمال يطغيان على العماء وعلى الفوضى، مما مهَّد بعد ذلك لخلق الأرض. وهنا يحاول هسيود، وهو أول إغريقي حاول تفسير كيف بدأت الأشياء فيقول.. إلخ." يشكل نص إديث هاملتون هذا نموذجاً عن العمل التلفيقي في تقديم الميثولوجيا الإغريقية للقارئ الحديث. فالكاتبة هنا لم تكتف بالاقتباس عن الميثولوجيين الإغريق من أمثال هسيود، بل تعدَّتهم إلى مؤلفي الدراما الإغريقية، وتوَّجت ذلك كله بنص للشاعر الإنكليزي ملتون اعتبرته معبِّراً عن ما كان الإغريق يعتقدونه في أساس الأشياء. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما الذي بقي من الأسطورة الإغريقية الأصلية بعد كل هذا الصقل والتحرير وإعادة التحرير؟ – خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الميثولوجيين الإغريق الأوائل الذين ندين لهم بمعظم ما نعرفه عن الأسطورة الإغريق (من أمثال هسيود وهوميروس) لم يكونوا رجال دين ولاهوت بل شعراء.
    إلى جانب أسطورة الخلق هذه، أوردت المؤلفة العديد من الحكايات التي تنتمي إلى الجنس الميثولوجي الأصيل، ولكنها في الوقت ذاته ملأت بعض فصولها بقصص من نوع: لماذا يوجد الذهب في رمال النهر؟ لأن الملك ميداس قد اغتسل في ينبوع نهر باكتولوس ليزيل عنه لعنة اللمسة السحرية التي تحوِّل كل ما يلمسه إلى ذهب، حتى طعامه وشرابه. أو: لماذا ثمار التوت حمراء؟ لأن دم عاشقين قتيلين قد ضرجتهما بالحمرة بعد أن كانت بيضاء مثل الثلج. وما إلى ذلك من القصص التبريري الساذج الذي مازال الفلكلور الشعبي حافلاً به، والذي لم يؤخذ في يوم من الأيام على محمل الجد. وإليكم فيما يلي ملخصاً لحكاية التوت وكيف صار أحمر:
    في قديم الزمان (وبمصطلحنا في القص الشعبي: كان يا ما كان) كانت الثمار الحمراء لشجرة التوت بيضاء كالثلج. وقصة تغير لونها قصة غريبة ومحزنة، ذلك أن موت عاشقين شابين كان وراء ذلك. فقد أحب الشاب بيراموس العذراء الصغيرة ثيسبي وتاق الاثنان إلى الزواج. ولكن الأهل أبوا عليهما ذلك ومنعوهما من اللقاء، فاكتفى العاشقان بتبادل الهمسات ليلاً عبر شق في الجدار الفاصل بين منزليهما. حتى جاء يوم برح بهما فيه الشوق واتفقا على اللقاء ليلاً قرب مقام مقدس لأفروديت خارج المدينة تحت شجرة توت وارفة تنوء بثمارها البيضاء. وصلت الفتاة أولاً ولبثت تنتظر مجيء حبيبها. وفي هذه الأثناء خرجت لبوة من الدغل القريب والدم يضرج فكَّيها بعد أن أكلت فريستها، فهربت ثيسبي تاركة عباءتها التي انقضت عليها اللبوة ومزقتها إرباً ثم ولَّت تاركة عليها آثار الدماء. حضر بيراموس ورأى عباءة ثيسبي فاعتقد بأن الوحش قد افترس حبيبته، فما كان منه إلا أن جلس تحت شجرة التوت وأغمد سيفه في جنبه، وسال دمه على حبيبات التوت ولوَّنها بالأحمر القاني. بعد أن اطمأنت ثيسبي لانصراف اللبوة، عادت إلى المكان لتجد حبيبها يلفظ اسمها قبل أن يموت وعرفت ما حدث، فالتقطت سيفه وأغمدته في قلبها وسقطت إلى جانبه. وبقيت ثمار التوت الحمراء ذكرى أبدية لهذين العاشقين.[3]
    والآن، ما الذي يجمع حكاية هذين العاشقين إلى حكاية ظهور الكون المظلم من العماء البدئي؟ وكيف يمكن لكليهما أن يصنَّف في كتاب واحد تحت عنوان: الميثولوجيا؟
    لقد قدَّمتُ هذه الوقفة عند كتاب مقروء على نطاق واسع بغرض إيضاح طبيعة المشكلة التي تعانيها الدراسات الميثولوجية بسبب غموض المصطلح، وبغرض الإشارة إلى أن مشكلتنا مع المصطلح والتعريف قد نشأت في جزئها الأكبر من مشكلة البحث الميثولوجي مع ما يدعى بالميثولوجيا الإغريقية ومناهج دراستها وتبويبها وتصنيفها. وهذه المشكلة في اعتقادي ستبقى قائمة ما لم يتم الاتفاق على معايير دقيقة لتمييز النص الأسطوري عن غيره من الأقاصيص. وهذا أمر يبدو بعيد التحقق في الوضع الراهن للبحث الميثولوجي. لكنني سوف أتقدم فيما يلي بطرح وجهة نظري في هذه المسألة كما تشكلت لدي بعد تفرغ طويل لدراسة الأسطورة وتاريخ الأديان.
    1. من حيث الشكل، الأسطورة هي قصة، وتحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها. وغالباً ما تجري صياغتها في قالب شعري يساعد على ترتيلها في المناسبات الطقسية وتداولها شفاهاً، كما يزودها بسلطان على العواطف والقلوب لا يتمتع به النص النثري.
    2. يحافظ النص الأسطوري على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن وتتناقله الأجيال مادام محافظاً على طاقته الإيحائية بالنسبة إلى الجماعة. فالأسطورة السومرية "هبوط إنانا إلى العالم الأسفل" التي دُوِّنت كتابة خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد قد استمرت في صيغتها الأكادية المطابقة تقريباً للأصل السومري حتى أواسط الألفية الأولى قبل الميلاد. غير أن خصيصة الثبات هذه لا تعني الجمود أو التحجر لأن الفكر الأسطوري يتابع على الدوام خلق أساطير جديدة ولا يجد غضاضة في التخلي عن تلك الأساطير التي فقدت طاقتها الإيحائية أو في تعديلها.
    3. لا يُعرف للأسطورة مؤلِّف معين لأنها ليست نتاج خيال فردي، بل ظاهرة جمعية يخلقها الخيال المشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها. ولا تمنع هذه الخصيصة الجمعية للأسطورة من خضوعها لتأثير شخصيات روحية متفوقة تطبع أساطير الجماعة بطابعها وتحدِث انعطافاً دينياً جذرياً في بعض الأحيان.
    4. يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة؛ فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان ظهوره مكمِّلاً لا رئيسياً.
    5. تتميز الموضوعات التي تدور حولها الأسطورة بالجدية والشمولية، وذلك مثل التكوين والأصول، الموت والعالم الآخر، معنى الحياة وسر الوجود، وما إلى ذلك من مسائل التقطتها الفلسفة فيما بعد. إن همَّ الأسطورة والفلسفة واحد، لكنهما تختلفان في طريقة التناول والتعبير. فبينما تلجأ الفلسفة إلى المحاكمة العقلية وتستخدم المفاهيم الذهنية كأدوات لها فإن الأسطورة تلجأ إلى الخيال والعاطفة والترميز وتستخدم الصور الحية المتحركة.
    6. تجري أحداث الأسطورة في زمن مقدس هو غير الزمن الحالي. ومع ذلك، فإن مضامينها، بالنسبة للمؤمن، أكثر صدقاً وحقيقية من مضامين الروايات التاريخية. فقد يشكك هذا المؤمن بأية رواية تاريخية، ويعطي لنفسه الحق في تصديقها أو تكذيبها، ولكن الشك لا يتطرق إلى نفسه، إذا كان بابلياً، بأن الإله مردوخ قد خلق الكون من أشلاء تنين العماء البدئي، وبأن الإله بعل قد وطَّد نظام العالم بعدما صرع الإله يم وروض المياه الأولى، إذا كان كنعانياً. ويستتبع لاتاريخية الحدث الأسطوري أن رسالته غير زمنية وغير مرتبطة بفترة ما؛ إنها رسالة سرمدية خالدة تنطق من وراء تقلبات الزمن الإنساني. إن عدم تداخل الزمن الأسطوري بالزمن الحالي يجعل من الحدث الأسطوري حدثاً ماثلاً أبداً. فالأسطورة لا تقص عما جرى في الماضي وانتهى، بل عن أمر ماثل أبداً لا يتحول إلى ماضٍ. ففعل الخلق الذي تم في الأزمنة المقدسة يتجدد في كل عام ويجدد معه الكون وحياة الإنسان؛ وإله الخصب الذي قُتِل ثم بعث إلى الحياة موجود على الدوام في دورة الطبيعة وتتابع الفصول؛ وصراع الإله بعل مع الحية لوتان ذات الرؤوس السبعة هو صراع دائم بين قوى الخير والحياة وقوى الشر والموت؛ وخلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجةً بدم إله قتيل هو تأسيس لفكرة الطبيعة المزدوجة للإنسان وتكوينه من عنصر مادي وآخر روحاني. وحتى عندما تتحدث الأسطورة عن حدث محدد في تاريخ الناس فإن مرامي هذا الحدث تكون خارج الزمن وتتخذ صفة الحضور الدائم. ونموذج هذا النوع من الأساطير أسطورة الطوفان الرافدية. فمع أن السومريين اتخذوا من حادثة الطوفان، التي أبلغت عنها الأسطورة، نقطة في التاريخ يؤرخون بها لما حدث قبلها وما حدث بعدها، إلا أن فحوى الأسطورة لم يكن تاريخياً بالنسبة لهم، لأن الطوفان الذي دمر الأرض من حولهم مرة هو نذير دائم بسطوة القدر وتحذير من الغضب الإلهي البعيد عن أفهام البشر ومن الاطمئنان إلى استمرارية الشرط الإنساني وثبات الأحوال.
    7. ترتبط الأسطورة بنظام ديني معين وتعمل على توضيح معتقداته وتدخل في صلب طقوسه. وهي تفقد كل مقوماتها كأسطورة إذا انهار هذا النظام الديني، وتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الشبيهة بالأسطورة.
    8. تتمتع الأسطورة بقدسية وبسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم. إن السطوة التي تمتعت بها الأسطورة في الماضي لا تدانيها سوى سطوة العلم في العصر الحديث. فنحن اليوم نؤمن بوجود الجراثيم وبقدرتها على تسبيب المرض، وبأن المادة مؤلفة من جزيئات وذرات ذات تركيب معين، وبأن الكون مؤلف من مليارات المجرات، إلخ، وذلك لأن العلم قد قال لنا ذلك. وفي الماضي آمن الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، مثلما نؤمن اليوم، بدون نقاش، بما ينقله لنا العلم والعلماء. وكان الكفر بمضامينها كفراً بكل القيم التي تشد الفرد إلى جماعته وثقافته، وفقداناً للتوجُّه السليم في الحياة.
    اعتماداً على ما قدمته أعلاه، أستطيع أن أخلص إلى التعريف التالي فأقول: "الأسطورة هي حكاية مقدسة، ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان."
    ورغم أن الأقدمين لم يطلقوا على حكاياتهم المقدسة اسماً معيناً ولم يجمعوها في سفر واحد يفرقها عن بقية الحكايات إلا أنهم كانوا يميزون بدقة بين القصص الحقيقية التي ترتبط بالمعتقدات الدينية والقصص الزائفة ذات المضمون الأدبي البحت، مثلهم في ذلك مثل أهل الثقافات الحديثة.[4] لقد أجاب أحد الهنود الحمر من قبيلة إيو–وا (في أواخر القرن التاسع عشر) الباحث الميداني الذي كان يستعلم منه عن أساطير قبيلته قائلاً: "إن هذه لأمور مقدسة ولا أريد الحديث عنها. كما أنه ليست من عادتنا ذكرها إلا في المناسبات الدينية الخاصة، حين يجتمع الناس ويدور بينهم غليون التبغ."[5] ويميز أفراد قبيلة Pawnea بين نوعين من القصص التقليدية، وهما النوع الحقيقي والنوع الزائف. فهم يضعون في مرتبة الحقيقة جميع القصص التي تتناول أصول العالم، وهي قصص أشخاصها كائنات إلهية فائقة. تأتي بعد ذلك في المرتبة مباشرة الحكايات التي تروي المغامرات التي قام بها البطل القومي، وهو فتى متواضع النشأة ما لبث أن أصبح مخلصاً لشعبه فأنقذه من الوحش الهائل، وانتشله من الجوع والفقر، كما اجترح مآثر أخرى عديدة تتصف بالنبالة والكرم. ثم تأتي القصص التي تتعلق بالسحر، وكيف اكتسب هذا الساحر أو ذاك قواه الخارقة، وكيف نشأت المؤسسة الشامانية. أما القصص الزائفة، فهي القصص ذات المضمون الدنيوي البحت، وتدور حول مغامرات وأعمال شخصيات غير مقدسة. والأمثلة على مثل هذا التمييز كثيرة في ثقافات تقليدية شتى ومتباعدة. لهذا السبب تُمنَع رواية الأساطير كيفما اتفق، وتقتصر معرفتها على البالغين ممن وصلوا السن الذي يخولهم استلام أسرار دينهم، حيث يقوم الشيوخ بنقلها إلى الشباب كجزء من الطقوس الخاصة بإعدادهم لاستلام الأسرار. أما القصص الزائفة فيجوز روايتها في أي زمان ومكان.[6]
    إن التعريف الذي سقته أعلاه سوف يساعدنا على تمييز النص الأسطوري، وعلى فرز جنس الميثولوجيا عن بقية الأجناس الأدبية الشبيهة بها. وبشكل خاص، فإن صفة القداسة التي يتمتع بها النص الأسطوري يجب أن تكون الفيصل الأساسي في عملية التعرف على النصوص الأسطورية لثقافة ما وتفريقها عن بقية النصوص. ولسوف أنتقل فيما يلي إلى استعراض أهم الأجناس الأدبية التي تختلط عادة بالأسطورة إلى درجة يصعب معها أحياناً التمييز بينهما.
    لعل الخرافة هي أكثر أنواع الحكايا التقليدية شبهاً بالأسطورة، ولكن العين الفاحصة ما تلبث أن تتبين الفروق الواضحة بين النوعين. تقوم الخرافة على عنصر الإدهاش وتمتلئ بالمبالغات والتهويلات، وتجري أحداثها بعيداً عن الواقع، حيث تتحرك الشخصيات بسهولة بين المستوى الطبيعاني المنظور والمستوى الفوق الطبيعاني، وتتشابك علائقها مع كائنات ماورائية متنوعة مثل الجن والعفاريت والأرواح الهائمة. وقد يدخل الآلهة مسرح الأحداث في الخرافة، لكنهم يظهرون هنا أشبه بالبشر المتفوقين، لا كآلهة سامية متعالية، كما هو شأنهم في الأسطورة. من هنا، فإن الحدود بين الخرافة والأسطورة ليست دائماً على ما نشتهي من الوضوح. وقد يشبه بعض الخرافات الأساطير في الشكل والمضمون إلى درجة تثير الالتباس والحيرة، فلا نستطيع التمييز بينهما إلا باستخدام المعيار الرئيسي الحاسم الذي أثبتناه في تعريفنا للأسطورة، وهو معيار القداسة. فالأسطورة هي حكاية مقدسة يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصدق روايتها إيماناً لا يتزعزع، ويرون في مضمونها رسالة سرمدية موجهة لبني البشر. فهي تبين عن حقائق خالدة وتؤسس لصلة دائمة بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية. أما الخرافة فإن راويها ومستمعها على حد سواء يعرفان منذ البداية إنها تقص أحداثاً لا تلزِم أحداً بتصديقها أو الإيمان برسالتها.
    من الحكايات التقليدية التي يصنفها المؤلفون الغربيون في زمرة الأساطير الحكايات الإغريقية، بينما ينبغي تصنيفها في زمرة الخرافة (وفقاً لما قدمته من معايير التفريق)، تلك الحكايات التي تدور حول الأبطال الخرافيين من الرجال وأنصاف الآلهة، أمثال بيرسيوس وياسون وثيسيوس. فهذه جميعاً حكايات غير مقدسة ولم يتداولها الإغريق كأساطير تحمل رسالة سرمدية من أي نوع لبني البشر. فإذا بحثنا عن أمثلة أكثر قرباً من ثقافتنا العربية، وجدناها في عدد من الحكايات التقليدية مثل سيرة سيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة، وعدد لا بأس به من حكايا ألف ليلة وليلة.
    إن صلة القربى التي تربط بين الأسطورة والخرافة تخلق بينهما حالة تبادل. فقد يلتقط الكهنة، في فترات ضعف المؤسسة الدينية وانهيار المعتقدات الراسخة، حكاية خرافية ويحمّلونها مضامين دينية ويضفون عليها طابع القداسة. وبالمقابل، فقد تؤدي تغييرات عميقة في بنية المعتقدات الدينية إلى زوال القداسة عن أسطورة ما وهبوطها إلى مستوى الخرافة، حيث تستمر في الأدب التقليدي بعد زوال الرابطة التي كانت تشدها إلى نظام ديني معين.
    وكما رأينا في الخرافة، أقرب الأقرباء إلى الأسطورة، فإننا نرى في الحكاية البطولية أقرب الأقرباء إلى الخرافة. ولكن الحكاية البطولية تختلف عن الخرافة في أمرين: أولهما، أن أحداثها أقرب إلى الواقع، رغم المبالغة والتهويل؛ وثانيهما – وهو الأهم – أن البطل فيها يشكل صورة مثالية عن الإنسان وعما هو إنساني، وهي تستثير الرغبة في السامع إلى تحقيق هذه الصورة المثالية، وإن بدرجات قد لا تصل حد النموذج الأعلى الذي ترسمه الحكاية. وهي، على عكس صورة البطل في الخرافة، تطرح نموذجاً متخيَّلاً بعيداً عن الواقع إلى درجة لا يصلح لأن يكون مثالاً يحتذى به على أي صعيد. فلقد قام بيرسيوس في الخرافة اليونانية بقتل المرأة الأفعى ميدوسا التي تحوِّل الرجال بنظرتها إلى حجارة، ثم حطّ بعد ذلك في إثيوبيا حيث أنقذ العذراء أندروميدا المقيَّدة أمام التنين الهائل قرباناً له. وفي الخرافة العربية نجد سيف بن ذي يزن يصرع عشرات الجن بسيفه الذي انتهى إليه من سام بن نوح، ويقضي على الغيلان في واديهم بريشة ديك مسحور، وتلتقطه العفاريت الطائرة في الهواء كلما أحكم عليه الأعداء حصاراً، إلخ. إن مثل هذه المشاهد والأحداث لا تحركها شخصيات إنسانية نموذجية، بل شخصيات مختلقة حُكِم عليها منذ البداية أن تبقى حبيسة في حبكة القصة وخيال السامع دون تفاعل حقيقي مع النفس الإنسانية. أما في الحكاية البطولية، فعلى الرغم من المبالغات التي تغلف أحداثها وشخصياتها، فإن أبطالها بشر عاديون يتحركون في جو إنساني، وأعمالهم هي نموذج سامٍ ومتفوق لما يمكن للأفراد أن يطمحوا إليه، وعواطفهم وانفعالاتهم ليست مما لا يشعر به أو يختبره السامع. من القصص البطولي في التراث العربي نسوق مثال عنترة بن شداد، ومن القصص البطولي الإغريقي حكايات الإلياذة التي تدور حول شخصيات بطولية نبيلة مثل أخيليس وأغاممنون وباتروكلوس وهيكتور. وهي حكايات متفرقة من حيث الأصل تم جمعها فيما بعد إلى نسيج ملحمة واحدة. وأحب أن ألفت النظر هنا إلى أن حضور هذا الإله أو ذاك في هذه الحكايات الإغريقية لا يختلف عن حضور الجني الحارس للبطل في الحكايا العربية الذي يقدم له العون حين الحاجة. ويبقى مسرح الحدث هنا إنسانياً ومشكلاته إنسانية وأبطاله إنسانيون إلى أبعد الحدود.
    فإذا كانت الحكاية البطولية مما يقص أحداثاً تاريخية أو شبه تاريخية، أسميناها بـالحكاية البطولية الإخبارية. ويعتمد هذا النوع الأدبي على عدد من الوقائع التاريخية، ولكنه يراكم فوقها أحداثاً إضافية خيالية إلى درجة يغيب التاريخ معها في ضباب الخيال. إن الحروب الطروادية نموذج للحكاية البطولية الإخبارية، ومثلها تغريبة بني هلال في الأدب الشعبي العربي. فالتغريبة، رغم عنايتها بوصف البطولات الفردية لشجعان بني هلال ولخصومهم على حد سواء، إلا أنها تهدف من وراء ذلك إلى تقديم حدث تاريخي في قالب أدبي مشبع بالخيال.
    ولدينا مصطلحان غربيَّان يمكن تصنيف موضوعهما تحت زمرة الحكاية البطولية أو الحكاية البطولية الإخبارية، هما الليجندة Legend والملحمة Epic. فالليجندة هي قصة غير مُتحقَّق من صحتها تاريخياً رغم الاعتقاد الشعبي بصحتها، ويطغى عليها الخيال وتمتلئ بالمبالغات، وهي تدور غالباً حول حياة أشخاص متميزين ومحبوبين على النطاق الشعبي. وتنتمي قصص حياة وأعمال وكرامات القديسين إلى هذه الزمرة. أما الملحمة، فهي تأليف شعري عالي المستوى يقص سلسلة من أعمال ومنجزات أحد الأبطال، وتجري معالجتها بإطالة وتفصيل على شكل نص مضطرد.
    نأتي الآن إلى الحكاية الشعبية. إن ما يميز الحكاية الشعبية بشكل رئيسي عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية هو هاجسها الاجتماعي. فموضوعاتها تكاد أن تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية، والأسرية منها خاصة. والعناصر القصصية التي تستخدمها الحكاية الشعبية معروفة لنا جميعاً؛ وذلك مثل زوج الأب الحقود، وغيرة الشقيقات في الأسرة من البنت الصغرى التي تكون في العادة الأجمل والأحب، أو غيرة الأشقاء من أخيهم الأصغر المفضل لدى الأب، والذي تجتمع له خصائص الشجاعة والنبالة في مقابل الخسة والحسد والغيرة لدى أشقائه، وما إلى ذلك. والحكاية الشعبية واقعية إلى أبعد حد وتخلو من التأملات الفلسفية والميتافيزيقية، مركزة على أدق تفاصيل وهموم الحياة اليومية. وهي، رغم استخدامها لعناصر التشويق، إلا أنها لا تقصد إلى إبهار السامع بالأجواء الغريبة أو الأعمال المستحيلة، ويبقى أبطالها أقرب إلى الناس العاديين الذين نصادفهم في سعينا اليومي. ففي مقابل القوة الخارقة للبطل في الحكاية البطولية وتصرفاته الفروسية، فإن البطل في الحكاية الشعبية يلجأ إلى الحيلة والفطنة والشطارة للخروج من المآزق والتغلب على الأعداء. كل هذا لا يعني أن العناصر الخيالية معدومة تماماً في الحكاية الشعبية. فهذه العناصر قد تُستخدم في الإثارة والتشويق عندما يقابل البطل غولاً أو جنياً فيستخدم شطارته وحيلته للإيقاع به. إلا أن دخول هذه العناصر في نسيج الحكاية الشعبية لا ينفي طابع الواقعية عنها، مثلما لا يضفي طابع الواقعية على الخرافة وجود أحداث وشخصيات واقعية فيها. ومن حيث أسلوب الصياغة، فإن بنية الحكاية الشعبية هي بنية بسيطة تسير في اتجاه خطي واحد، وتحافظ على تسلسل منطقي ينساب في زمان حقيقي ومكان حقيقي، على عكس الحكاية الخرافية ذات البنية المعقدة التي تسير في اتجاهات متداخلة ولا تتقيد بزمان حقيقي أو مكان حقيقي. وأخيراً فإن الحكاية الشعبية تتميز برسالتها التعليمية التهذيبية، ومعظمها يحمل في ثناياه درساً أخلاقياً ما، وذلك مثل جزاء الخيانة وفضل الإحسان ومضار الحسد وما إلى ذلك.
    إن الحدود بين هذه الأجناس الأدبية التي صنفناها خارج زمرة الميثولوجيا ليست على درجة كافية من الدقة والوضوح. من هنا فإن الباحث في الأدب التقليدي يمكن أن يجزئها إلى زمر أكثر تخصيصاً. وهذا الموضوع يخرج عن دائرة البحث التي حددتها هنا التي تقتصر على رسم الإطار العام لمصطلح الأسطورة، ووضع أهم المعايير التي تفيدنا في التعرف على النص الأسطوري.
    2. وظيفة الأسطورة ودورها في حياة الفرد والجماعة
    تتميز ظاهرة الحياة عن الوسط الطبيعي الذي انبثقت عنه، ويتميز الكائن الحي عن الكائن الجامد، بعدد من الخصائص الجذرية التي يمكن تلخيصها بخصيصة واحدة أدعوها السلوك. فبينما تبدو الظواهر الفيزيائية (= الطبيعانية) منتظمة في شبكة من القوانين التي ترسم حركتها وعلائقها، فإن الكائن الحي، ابتداءً من الأميبا الوحيد الخلية، يبدي "سلوكاً" مستقلاً عن القوانين الناظمة للعالم الفيزيائي. وتتضح استقلالية وحرية هذا السلوك كلما ارتقينا في سلم التطور الطبيعي. فبينما تتحكم الحساسية الحيوية في سلوك الكائن البسيط التركيب، فيما يشبه الفعل وردّ الفعل الفيزيائي، فإن الكائنات المعقدة التركيب تبدو موجهة أكثر فأكثر بـ"الوعي" الذي يحكم علاقاتها بوسطها الطبيعي، حيث تتحول الحساسية الحيوية، كلما صعدنا في سلم الارتقاء، إلى شعور واعٍ موجِّه للسلوك الفردي وللسلوك الجمعي للأنواع الحية. غير أن هذا الشعور الواعي يبقى في أعلى الأشكال الحيوانية ضمن حدود الوعي الانفعالي المباشر الذي لم يتوصل بعد إلى تكوين "الأفكار". ولكن مع استقلال النوع الإنساني تدريجياً عن مملكة الحيوان، ينتقل الوعي من الانفعال المباشر إلى تشكيل الأفكار (= المفاهيم)، ويبدو السلوك موجَّهاً أكثر فأكثر بهذه الأفكار. فهنا تتوسط الفكرة بين الانفعال المباشر والسلوك، ونأخذ بترميز العالم قبل الاستجابة إليه. إن الخرفان الصغيرة تميِّز رائحة الذئب وتفزع لظهوره المفاجئ قبل أن تتكون لديها أية خبرة بهذا الخصوص. أما الإنسان فإنه يستجيب في خوفه لفكرة مسبقة كوَّنها من خلال تأمله لوسطه الطبيعي، وتصنيفه لما هو خطر ولما هو آمن بالنسبة إليه.
    إن تكوين الأفكار هو أول تعبير عن نشاط الترميز الذي يرافق اتساع الوعي وارتقاءه. فهنا تأخذ الانفعالات بالتحول إلى أفكار. وهذه الأفكار تتضح وتنتظم كلما اتسع الوعي في مواجهته مع الخارج، وكلما أخذ بتوصيف هذا الخارج وترتيبه في كل مستوعَب ومفهوم. ثم جاءت الخطوة الحاسمة الثانية عندما انتقل الإنسان إلى ابتكار معادل موضوعي لأفكاره من خلال الكلمات، مع تطويره للُّغة البدائية الأولى. فبعد تكوين "فكرة" أو "مفهوم" عن الشجرة، مثلاً، تختزل عدداً لا يحصى من المعطيات الحسية، المنعزل بعضها عن بعض، تأتي كلمة "شجرة" كمعادل لهذه الفكرة، وتعمل على مَوْضَعَتها في الخارج لتقوم مقام كل الصور التي كوَّناها لأنفسنا عن الأشجار التي واجهت مدركاتنا الحسية. وبذلك يتم الانتقال من الترميز الذاتي، وهو صياغة الأفكار، إلى الترميز الموضوعي، وهو تثبيت هذه الأفكار في الخارج من خلال الكلمات، ومَوْضَعَتها هناك.
    لقد كانت اللغة أول أشكال الترميز الموضوعي التي ابتكرها الإنسان واكتشف معها مقدرته الهائلة على استيعاب ما حوله من خلال تكوين المفاهيم، ثم مَوْضَعَتها في الخارج عن طريق الكلمات، والاستناد إلى هذه الكلمات بعد ذلك من أجل خلق مستوى آخر من المفاهيم أعلى من سابقه، وهكذا دواليك في سلسلة متصاعدة رافقت ارتقاءه وتقدمه.
    وبعد اللغة توصل الإنسان إلى اكتشاف شكل آخر من أشكال الترميز الموضوعي الذي يعمل على تثبيت أفكاره في الخارج هو الفن البصري. كما اكتشف مقدرته الكبيرة على التعامل مع الكلمات واستخدامها في مجالات غير مباشرة وغير نفعية. وهذا ما قاده إلى إنتاج الشعر والأسطورة – أقنومان في نظام رمزي واحد – عمل من خلاله على تحويل ومَوْضَعَة تجربته الانفعالية مع الكون والنفس الداخلية. والإنسان، في ترميزه الأسطوري لهذه التجربة، لا يلجأ إلى التحليل والتعليل الخطي المنظم، بل إلى إنتاج بنية أدبية تحاول من خلال تمثيلاتها وصورها الحركية إعادة إنتاج العالم على مستوى الرمز، وذلك في وحدات أدبية رمزية تعمل على اختزاله ثم تقديمه مجدداً إلى الوعي.
    وفي الحقيقة، فإن كلاً من الفلسفة والعلم، اللذين ولدا من رحم الأسطورة، يقوم بالمهمة نفسها، أي اختزال تجربتنا مع العالم وتقديمه إلى الوعي وقد تم تفسيره وترتيبه. ولكن، بينما يلجأ كلا العلم والفلسفة إلى العقل التحليلي الذي يجزِّئ العالم ثم يعيد تركيبه من أجل فهمه، معتمداً في ذلك على الاختبار والبرهان (العقلي في الفلسفة والتجريبي في العلم)، فإن الأسطورة تضع الإنسان بكلِّيته في مواجهة العالم، بجميع ملكاته العقلية والحدسية، الشعورية واللاشعورية، وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل تقديم رؤية متكاملة لهذا العالم، ذات طابع كلاني يعادل تجربة الإنسان الكلانية وغير المتجزئة معه.
    من هنا، فإن الأسطورة، في المجتمعات القديمة والمجتمعات التقليدية تلعب نفس الدور الذي تلعبه الميتافيزيقا في الثقافات المتطورة التي أعلت من شأن الفلسفة. وهي رغم عدم عنايتها بتكوين المفاهيم والمصطلحات التي اشتهرت بها الميتافيزيقا (وبقية موضوعات الفلسفة)، إلا أنها تدور حول نفس هذه المفاهيم والمصطلحات، وتعالجها على طريقتها متوسِّلة بالرمز ومستنفدة كل حيوية القص والصور الحسية، ومستكملة ذلك كله بالأفعال الطقسية ذات المعنى والمؤدى العميق.
    إن كلاً من الأسطورة والفلسفة والعلم يستجيب على طريقته لمطلب "النظام"، أي لمطلب الإنسان في أن يعيش ضمن عالم مفهوم ومرتب، وأن يتغلب على حالة الفوضى الخارجية التي تتبدى للوعي في مواجهته الأولى مع الطبيعة. فالفلسفة تنتج نظاماً مترابطاً من المفاهيم التجريدية يدّعي تفسير العالم. والعلم يخلق نظاماً من المبادئ والقوانين التي يعتمد بعضها على بعض، وتنتهي إلى ترميز العالم في بنى رياضية عالية التجريد. وفي مقابل هرمية نظام المفاهيم الفلسفي وهرمية نظام القوانين الرياضي العلمي، فإن الأسطورة تعمد من جانبها إلى خلق نظامها الخاص، هو نظام قوامه الآلهة والقوى الماورائية التي يعتمد بعضها على بعض أيضاً، في هرمية متسقة للأسباب والنتائج. وهي إذ تؤنسِن الكون حين تبث فيه عنصر الإرادات الفاعلة والعواطف المتباينة، وترى في كل ظاهرة موضوعية نتاج إرادة أو عاطفة ما، فإنها تصنع صورة لكون حي لا يقوم على مبادئ ميكانيكية متبادلة التأثير، بل على إرادات وعواطف تتبدى في شكل حركي. والأسطورة في سعيها لخلق هذه الصورة، تفتح خزاناً لا ينضب مَعينه من وسائل الترميز، كما تفتح البوابات على مصاريعها بين الوعي واللاوعي، في تجربة كلانية تحافظ على علائق الإنسان الطبيعانية مع عالمه، وعلائقه الثقافية في الوقت ذاته، وذلك قبل أن يتحول الإنسان إلى كائن ثقافي متعالٍ على الطبيعة متمايز عنها.
    من هنا ينبع سلطان الأسطورة وسطوتها على النفس، حتى في دولة العلم العالمية التي نعيشها اليوم. ذلك أن الأسطورة تعطينا ذلك الإحساس بالوحدة: الوحدة بين المنظور والغيبي، بين الحي والجامد، بين الإنسان وبقية مظاهر الحياة. والنظام الذي تخلقه الأسطورة فيما حولها ليس نظام العقل المتعالي الذي يجعل نفسه خارج العالم ثم يفسره عن بُعد وكأنه شيء غريب عنه، بل هو نظام الإنسان المتعدد الأبعاد الذي لا يستطيع أن يرى نفسه خارج العالم الذي يعمل على تفسيره، ويدرك بطريقة ما أن المفسِّر والمفسَّر وجهان لعملة واحدة. إن التمييز الذي يصنعه العقل بين العالم المدرَك والإنسان ما يلبث أن يذوب من خلال الأسطورة التي تعيد الربط بين طرفي الوجود: الإنسان/الوعي، والكون/المادة، وتكشف أمامنا تلك الروابط الجامعة لكل ما يتبدى في الوعي. من هنا، فإن ما يفرق متلقي الأسطورة في القِدم عن دارس نظام فلسفي أو نظرية علمية في العصر الحديث هو أن متلقي الأسطورة لا يشعر بأنه قد أضاف إلى معارفه شيئاً جديداً، وإنما قد غدا أكثر توافقاً وانسجاماً مع نفسه ومع العالم. ذلك أن ما تنقله الأسطورة من معانٍ لا يشبه الوقائع أو المعلومات الدقيقة. إنه إيحاء لا إملاء، وإشارة وتضمين لا تعليم وشرح وتلقين.
    وتعتمد الأسطورة في تقنياتها هذه على استخدام الظلال السحرية للكلمات. فالكلمات في أية لغة ذات وجهين: وجه دلالي يرتبط بالمعاني المباشرة للمسمَّيات، ووجه آخر سحري متلون بظلال متدرجة بين الخفاء والوضوح، قادرة على الإيحاء بمعانٍ غير مباشرة واستثارة مشاعر وأهواء كثيرة. فكلمة شمس، على سبيل المثال القريب، تدلّ على ذلك الجرم السماوي المضيء، ولكنها في الوقت نفسه تعكس في النفس معاني أخرى: فهي الوضوح، وهي الانتظام، وهي الصحو، وهي العقل، وهي الحقيقة، إلى آخر ما هنالك من ظلال لغوية مرتبطة بها. وبالمقابل، فإن القمر هو الأسرار، وهو التلون والتحول والغموض والعواطف الجياشة إلخ.
    لقد استفاد الشعر من هذه الخصيصة السحرية للغة، ومن تلك الصيغ السحرية المتوالدة التي يمكن للغة أن تعبِّر بها. ومن هنا يأتي ذلك الطابع النبوي للغة الشعرية. فالشعر هو السليل المباشر للأسطورة وابنها الشرعي. وقد شق لنفسه طريقاً مستقلاً بعد أن أتقن عن الأسطورة ذلك التناوب بين التصريح والتلميح، بين الدلالة والإشارة، بين المقولة والشطحة. ومن بعدُ أتقن عنها أيضاً كيف يمكن للغة السحرية أن تقول دون أن تقول، وأن تشبعك بالمعنى دون أن تقدم معنى محدداً ودقيقاً، وذلك من خلال رسالة كلانية غير تفصيلية. من هنا نستطيع فهم السبب الكامن وراء هجوم الفلسفة على الشعر في بداية عهدها. فقد رأى أفلاطون في كتابه الجمهورية ضرورة استبعاد الشعراء من الجمهورية الفاضلة التي تقوم على العقل لأن السماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة.
    يمثل تاريخ الفلسفة صراعاً لا هوادة فيه مع الأسطورة. وقد استطاعت الفلسفة التوصل إلى تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة بعد أن أفلحت في الإمساك بتلابيب الأسطورة. ومع ذلك، فإن فلاسفة الإغريق الذين تصدوا لإقامة نظم فلسفية عقلانية على أشلاء الأسطورة لم ينجوا تماماً من سحر البيان الأسطوري. لقد ركز أفلاطون بشكل خاص على أن الخبرة بالقدسي لا يمكن اكتسابها من خلال نشوة صوفية يخلقها الطقس، ولا من خلال رؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة. وهو إذ يدعو ذلك الوجه القدسي للوجود بـعالم المثل، ويرى فيه الخير الأسمى، فإنه يدعو إلى السعي لاكتساب أعلى وأسمى معرفة، وهي معرفة الخير، عن طريق العقل الصاحي الذي يبدأ بمعرفة الجزئيات وترابطاتها، صعوداً نحو مبادئها وعللها الأولى. هذا الطريق الطويل يبدأ عنده بالرياضيات، فالهندسة، فالفلك، في هرمية معرفية متصاعدة. ولكن أفلاطون، رغم محاربته للنزعة غير العقلانية في النفس الإنسانية، التي يعمد الشعر والأسطورة إلى إرضائها، ورغم محاربته للشعر باعتباره مركبة للأسطورة، وبما هو اكتشاف للخواص السحرية للغة، فإنه قد عمد، خارج كتاب الجمهورية، إلى تأليف أساطير من صنعه، مثل أسطورة أسرى الكهف وأسطورة اختيار النفس لمصيرها وأسطورة الحساب بعد الموت، وذلك لغاية شرح وتوصيل أفكاره المجردة، ولعلمه بما للأسطورة من سلطان على النفوس ومن مقدرة على تثبيت الأفكار والمعتقدات. كما أنه قد وافق على صناعة أساطير يجري تلقينها للصغار وفق خطة مدروسة، من شأنها تدريب هؤلاء على تلمس فكرة الخير الكامنة وراء العالم. على أن مثل هذه الأساطير التي يصنعها شخص بعينه وفق خطة مدروسة تفتقد إلى خصيصة النمو التلقائي التي تميز الأسطورة، وتعبيرها عن تجربة جمعية مشتركة. ومثل هذه المحاولات تقدم لنا مثالاً شديد الوضوح على صلة المعتقدات بالأساطير وضرورة الثانية للأولى، بسبب النزوع الطبيعي عند الناس نحو البيان والإيمان، وعزوفهم عن البرهان.
    وقبل أفلاطون بزمن طويل، كان فلاسفة الإغريق الأوائل من أصحاب المدرسة الإيونية قد تأثروا بشكل خاص بأساطير ديانة الأسرار الأورفية وبالعديد من تصوراتها الماورائية. وعلى رأس هؤلاء أنكسمندر الذي يقول فيه بعض دارسيه بأنه قد نزع عن الإله الأورفي عباءته الدينية وحوله إلى مفهوم فلسفي. ونلاحظ بشكل خاص مدى تأثر الفلسفة الفيثاغورية بالأساطير الأورفية إلى درجة يصعب معها أحياناً التفريق بين العناصر الفيثاغورية والعناصر الأورفية، وخصوصاً عندما ننظر إلى الأفكار المتعلقة بتقمص الأرواح، ومبدأ الثواب والعقاب في الحياة الأخرى، وما إليها من الأفكار والمبادئ والتحريمات والرموز المشتركة بين هذين النظامين. ويبدو هذا التأثر بأوضح أشكاله في فلسفة إمبيدوقليس، حكيم صقلية والتلميذ النجيب لفيثاغوراس، التي يعتبرها العارفون بالأورفية بمثابة نسخة دنيوية عنها.[7]
    هذا الطابع السحري للأسطورة، وأثرها الفعال في توصيل الأفكار المجردة وتثبيت المعتقدات، يفسر لنا تلك الوحدة المصيرية بين الدين والأسطورة، مما سأتعرض له بكثير من التكثيف والإيجاز فيما يلي.
    إن الدين في قاعه البسيكولوجي الأعمق هو اختبار للقدسي من خلال حالة انفعالية سابقة على أي تصور عقلاني. وهذه التجربة لا تختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون غيرها، بل يتعرض لها الجميع، وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معها بدرجات متفاوتة أيضاً من القبول والاعتراف. غير أن هذه الخبرة الدينية، الفردية من حيث الأساس والمنشأ، لا تبقى حبيسة البسيكولوجية الفردية، بل يجري عادة تحويلها لتصب في تيار عقيدة مؤسسة ومصوغة في قوالب، تنشأ حولها طقوس وأساطير تلعب دور المرشد والمنظم للخبرة الدينية، وتدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. فهنا تقوم الأسطورة الجمعية بترميز الخبرة الدينية وتعمل على مَوْضَعَتها في الخارج، ثم تأتي الطقوس لتلعب دور المطهر للانفعالات الدينية العنيفة. عند هذا المستوى تتحول التجربة الانفعالية إلى صورة أو إلى مجموعة صور، ويتبلور المعتقد الديني يداً بيد مع الأساطير التي تعيد تقديم الانفعال الديني إلى الوعي وقد تحول إلى معتقد.
    تنشأ الأسطورة، إذن، عن المعتقد الديني وتكون بمثابة امتداد طبيعي له. فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتثبِّته في صيغ تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال. كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يشدُّه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية. ومن ناحية أخرى، فإن الأسطورة تعمل على تزويد فكرة الألوهية بألوان وظلال حية، لأنها ترسم للآلهة صورها التي يتخيلها الناس، وتعطيها أسماءها وصفاتها وألقابها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحدد صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض.
    وبما أن الخبرة الدينية ليست في أساسها خبرة عقلية، بل انفعالية، فإنها لا تتطلب بطبيعتها البرهان ولا تتطلع إليه، وإنما تتطلب معادلاً موضوعياً يُمَوْضِعها في الخارج ويسبغ عليها مشروعية ومعقولية، وذلك من خلال ميثولوجيا تجعل التجربة الدينية مشتركة مع الآخرين مادامت محافظة على طاقتها الإيحائية العالية. وهنا تعمد الأسطورة إلى استنفاد القوى السحرية للغة، إلى أبعد حد ممكن، من أجل مَوْضَعَة خبرة كلانية بالقدسي لا تنفع في توصيلها مفردات اللغة المستمدة من التجربة اليومية. وهذا ما يفسر لنا لماذا لم يعمد كهان الديانات القديمة وأصحاب الرسالات الدينية عبر التاريخ إلى مخاطبة الناس بصيغ البرهان بل بصيغة البيان. إن الاستماع إلى بضع آيات من أي كتاب مقدس (وليكن التاو الصيني أو الأوبانيشاد الهندي أو الزندافيستا الزرادشتي أو المزامير التوراتية أو الإنجيل أو القرآن الكريم) تغني المؤمن عن قراءة مئات الصفحات التي تخاطب عقله بالمنطق والبرهان. ذلك أن مثل هذه الآيات هي صيغ رمزية غير خاضعة للنفي أو الإثبات بالتقصي العلمي أو التحليل الفلسفي، شأنها في ذلك شأن الخبرة الداخلية التي نشأت عنها. من هنا تأتي تلك المناعة التي أظهرها الدين حتى الآن أمام النقد الفلسفي والعلمي، واستمراره فاعلاً ومؤثراً في الحضارة الإنسانية رغم لامعقولية تعبيراته الرمزية.
    إن أي نص فلسفي أو علمي يطرح نظرية لتفسير العالم أو لقطاع محدد من هذا العالم ينبغي أن يصاغ بطريقة يمكن معها اختبار نظريته لإثبات صحتها أو بطلانها، وذلك عن طريق البرهان العقلي المنطقي في الفلسفة، أو الاختبار التجريبي في العلم. وهذا الاختبار يكون أصيلاً بقدر ما يسمح بالإثبات وبالدحض في آن معاً. من هنا فإن قابلية النص الفلسفي أو العلمي للاختبار هي قابليته في الوقت نفسه للإثبات أم للنفي. وإن أي نص غير قابل للدحض من حيث المبدأ هو نص زائف.[8] من هنا يأتي تحايل بعض النظريات العلمية التي تتستر وراء ستار العلم، وخصوصاً في مجال العلوم الإنسانية، عندما يجري تصميمها بطريقة لا يمكن إثبات زيفها. ولعلنا واجدين في نظريات فرويد في التحليل النفسي خير مثال على ذلك. فعقدة أوديب التي يرى فرويد أنها متمكنة من كل إنسان ذكر، وأنها تنضوي على الرغبة في قتل الأب من أجل الاستئثار بالأم، هي شأن لا يمكن دحضه سواء على المستوى المنطقي أم على المستوى الاختباري التجريبي. فإذا أنكر إنسان ما بأنه لم يشعر أبداً بالرغبة في قتل أبيه والاستئثار بأمه، جاءه رد النظرية المحكمة بأنه من الطبيعي أن لا يشعر بذلك لأن هذه الرغبات قد تعرضت لعملية كبت، ولا يمكن الإفصاح عنها إلا عند الرضوخ لعملية تحليل نفسي طويلة.
    يسير النص الديني المتسلح بالأسطورة على خطى هذا النمط نفسه من النظريات الدوغمائية المدعمة والمصممة بطريقة لا يمكن إثبات زيفها. فلقد خرج الفلاسفة الطبيعيون الأوائل، مثلاً، بنظرية عن العواصف الرعدية مفادها أن مثل هذه الظواهر تنجم عن تصادم جزيئات ثقيلة في السحب.[9] وبالطبع فإن هذه النظرية المصممة بطريقة تعرضها للدحض قد دُحِضت بعد التعرف على الكهرباء وأثر الشحنات الكهربائية السالبة والموجبة في تشكيل العواصف الرعدية. أما قول النص الديني المدعم بالأسطورة بأن العواصف الرعدية هي نتاج لغضب الآلهة، فإن مثل هذه النظرية محصن ضد النقض ولا يمكن دحضه بالمنطق الأرسطي أو بالتجربة العملية. وحتى عندما تعترف هذه النظرية الدينية بأن للكهرباء دوراً في إحداث الرعود فإنها تؤكد في الوقت ذاته أن الكهرباء نفسها ليست إلا أداة في يد الإرادة الإلهية، وأن المسبب الأخير للرعد هو الإله الذي يسخِّر خصائص الكهرباء.
    ومن ناحية أخرى، فإن النظرية المفتوحة على الدحض تقدم إرشادات من أجل الممارسة. وهذه الإرشادات إما أن تقودك للتثبُّت من النظرية أو لدحضها. أما النظرية المحصنة ضد النقض فلا تعطيك سوى تعليمات لا يقودك تنفيذها إلى معرفة مدى صحة النظرية من خطئها. وإليكم هذا المثال المبسط عما أقول: لنفرض أن سائلاً سأل عن الطريق إلى الكنيسة، فقال له أحدهم: "استمر مباشرة في هذا الطريق ثم انعطف في الطريق الثاني إلى اليمين وهناك ستجد الكنيسة." إن مثل هذا القول يحتوي إرشاداً لأن السالك بعد بضع دقائق سوف يعرف نتيجة عمله بهذا الإرشاد، فإما أن يجد الكنيسة وإما ألا يجدها. لقد وصل صاحبنا إلى الكنيسة فعلاً وهناك سأل الكاهن عن الطريق إلى ملكوت السماوات. فقال له: "تبرع بكذا لصندوق الكنيسة وأشعل شمعة أمام المحراب إلخ، وحين تموت فإن روحك تذهب إلى ملكوت السماوات." فدفع الرجل وأشعل شمعة وفعل كل ما هو مطلوب من مسيحي مؤمن. ولكن هذه النظرية الثانية لا تقدم الإرشاد للممارسة كما فعلت الأولى عندما دلَّته على الطريق إلى الكنيسة. ذلك أن الموضوع هنا يتعلق، أولاً، بالروح، وهي ليست مما يمكن التأكد منه بأية طريقة عملية، وثانياً، لأن ذهاب الروح إلى الملكوت شأن لا يمكن اختباره بالتجربة. من هنا فإن النظرية لا يمكن إثبات زيفها من صحتها. لقد تلقى الرجل في مثالنا هذا تعليمات عليه أن يثق بها دون مساءلة، ولم يتلق إرشاداً، لأن الإرشاد من شأنه أن يكشف لك عن صحة ما قيل أو عن خطئه. لقد وضعت أمامه تفاصيل الفعل، لكن الهدف الذي يجب عليه تحقيقه من وراء هذا الفعل يقع خارج المعرفة العملية ولا يمكن الجزم بإمكانية تحققه أو عدمها.[10]
    لقد أشرت منذ قليل إلى أن الفلسفة استطاعت تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة انطلاقاً من نقدها للأسطورة. ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال انتصاراً مؤزراً للفلسفة على الأسطورة. فالأسطورة لم تكن معنية بالنقد الفلسفي ولم يكن الفكر الأسطوري يشعر بالتهديد الحقيقي من قبل الفكر الفلسفي بسبب تلك الخصيصة الأساسية فيه، وأعني بها: امتناعه على الدحض، وسيادته على الجانب الانفعالي غير العقلاني في الإنسان. ففي عقر الدار التي نشأت فيها الفلسفة، أي بلاد اليونان، وبعد الفلاسفة الإيونيين الأوائل والسفسطائيين وسقراط وأفلاطون وأرسطو، لم تستمر الديانة الإغريقية التقليدية المتمثلة بعبادات الأسرار، مثل الأسرار الألفسينية والأسرار الأورفية، وحسب، بل إنها ازدادت ازدهاراً وزاد أتباعها بشكل ملحوظ. إضافة إلى ظهور عبادات أسرار جديدة قدمت من الشرق ودخلت عقر دار الثقافة الإغريقية، ومن بعدها الثقافة الرومانية، نذكر منها أسرار سيبيل وسيرابيس وميثرا. من هنا، فإن ما يقال لنا من أن الفلسفة الإغريقية قد وضعت حداً للفكر الديني والميثولوجي هو قول مشكوك بصحته، ويسير مع الفرض القائل بأن الدين هو شكل أدنى من النظر العقلي، وأن الفلسفة هي شكله الأعلى.
    إننا غالباً ما نقبل الرأي القائل بأن تاريخ الفكر الإنساني قد تتابع عبر أربع مراحل هي: السحر، فالدين، فالفلسفة، فالعلم التجريبي. وقد تشكل هذا الرأي انطلاقاً من فرضية هيجل التي تقول بأن عصراً ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية. ثم جاء الأنثروبولوجي البريطاني السير جيمس فريزر ليصوغ نظريته المعروفة حول أصل الدين وعلاقته بالسحر عند جذور التحضُّر البشري، وقدم لنا وجهة نظر محكمة وجذابة بشأن المراحل الأربعة لتطور الفكر الإنساني، جعلتها في حكم البدهية التي يسوقها معظم الكتاب دون إخضاعها للنقد المسبق. غير أن نظرة فاحصة إلى مسار الحياة الفكرية للإنسان تُظهِر لنا بوضوح أن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقة عارضة ما لبثت أن انطفأت أمام مد الفكر الديني والأسطوري، ثم تراجع الفكر الفلسفي قروناً عديدة قبل أن يُبعَث مجدداً في العصور الحديثة، متوكئاً على عصا عربية أبقت على قبس من الفلسفة متقدٍ على الأطراف الخارجية لثقافة دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أم في الثقافة الأوروبية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها له الفلسفة مع فترة مدها الأولى، فقد لبث أسير التصورات الدينية والأسطورية، إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي التي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين وعن الأسطورة، ثم تبع كوبرنيكوس غاليليو، فنيوتن، اللذين كان لهما معاً فضل وضع أسس التفكير العلمي الحديث.
    يقودنا هذا إلى طرح عدد من التساؤلات المشروعة: هل دالت دولة الأسطورة تماماً لصالح دولة العلم الكونية الحديثة؟ وهل انتصرت النزعة العقلانية بعد هذه القرون الطويلة من صراعها مع الأسطورة؟ هل ندرس الأسطورة اليوم باعتبارها ظاهرة ثقافية تمتُّ إلى ماضي الحضارة الإنسانية أو إلى الثقافات التقليدية (التي استمرت قائمة على هامش الخط الرئيسي لتقدم الحضارة الإنسانية حتى العصر الحديث)؟ وهل لم يبق للأسطورة أي أثر محرك في حياتنا الحديثة؟
    لقد تراجعت الأسطورة عن مواقعها القديمة كمركز للحياة الفكرية في المجتمعات، وقامت الفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية بالاستيلاء على معظم ميادينها، وبشكل خاص تلك الميادين ذات الموضوعات التي يمكن إخضاع مقولاتها للبرهان وللاختبار، ولكنها بقيت متحصنة في ذلك الموقع القوي الذي لم تستطع دولة العلم والعقل الحديثة دكَّه حتى الآن، وهو الدين، في تلك المساحة الضيقة من أطروحات الدين التي بقيت عصيَّة على الدحض وعلى الاختبار. فالأديان القائمة اليوم في شتى ثقافات العالم مازالت حريصة على أساطيرها التقليدية التي حافظت على طاقاتها الإيحائية إلى حد ما، وذلك رغم نضوب الفكر الأسطوري الذي كان فاعلاً ومؤثراً في شتى مناحي حياة الثقافات القديمة. ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى قيام اتفاق غير معلن بين الدين والعلم على التعايش وعدم الاعتداء، حيث تُرِكت الطبيعة بقضها وقضيضها إلى المناهج العلمية تُعمِل فيها تجزئة ودرساً وتمحيصاً، وبقي الدين متحصناً في تلك المواقع التي لا يرغب العلم في الاقتراب منها، أو يعلن عدم مقدرته في الوقت الحاضر على التعامل معها. وهنا تلعب المعتقدات الدينية وأساطيرها دوراً إيجابياً وبنَّاءً، باعتبارها وسيلة تواصل فعالة تجمع وتوحد في عالم يجنح نحو التغريب والتفريق.
    في ظل هذا الوضع الراهن من المصالحة بين العلم والدين قد لا يجد عالم الفيزياء غضاضة في الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح والذهاب إلى الكنيسة حيث يشعر لدقائق تقع خارج الزمن الفيزيائي بأن الإله الابن قد تجسد في يسوع وولد من رحم العذراء في بيت لحم لكي يقدم خلاصاً للبشرية. وقد لا يجد أيضاً عالِم مسلم غضاضة في تأدية فريضة الحج والطواف حول الكعبة وتقبيل الحجر الأسود ورجم الشيطان بسبع حصوات. إننا في التعامل مع عالم الظواهر الطبيعية اليوم (وبعد أن اقتنع الدين بحصته من القسمة التي فرضتها المصالحة) نستطيع أن نتخلى كلياً عن أي مفهوم ديني والالتزام بالبرهان المنطقي والتجريبي. أما عندما ننتقل من المجال الطبيعاني الخارجي إلى عالم النفس الرحيب، فإن الدين يؤكد حضوره الآن مثلما أكده في الماضي، لأن الرموز الدينية تبقى على الدوام تعبيراً عن وظيفة نفسية غير عقلانية؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن العلم (بعد اقتناعه بحصته من القسمة أيضاً) قد قصر دوره على البحث في مظاهر العالم وتسخير قوانينه لمصلحة الإنسان، بينما يتطلع الدين إلى ما وراء مظاهر العالم ويبحث في المعنى والغايات النهائية؛ أي أنه يبدأ من حيث ينتهي العلم. وفي الواقع، فإن العلم، عندما يأخذ بتجاوز مظاهر الواقع نحو المعنى والغايات النهائية، يبدأ بالتخلي عن لغته وينتقل إلى التحدث بما يشبه الرؤى النبوية. ذلك أن المعنى ليس شيئاً كامناً في صميم المظاهر، بل هو شيء متعلق بالوعي الإنساني ويضاف إلى المظاهر من خارجها. فالظواهر فقط "تحدث"، ونحن نعطيها ما نشاء من معنى. العالم "يحدث"، أما معناه فكامن فينا. إذ نحن الجنس الحي الوحيد الواعي الذي يتساءل عن المعنى.
    غير أن المشكلة في أديان اليوم هي تحول الأساطير إلى دوغما تخدم إيديولوجيا جامدة لا تقبل التغيير. ففي مقابل الخلق الدائم والتلقائي للأساطير في الزمن الماضي، صارت الأساطير إلى حالة ثابتة تعكس جملة من المعتقدات التي تحرسها المؤسسة الدينية وتعمل على عدم تعريضها للتفسير المنفتح أو التأويل. وهذا ما يهدد بانقطاع التجربة الروحية الداخلية عن تعبيراتها الخارجية، وبتحويلها إلى جملة من القناعات الذهنية السطحية، وإلى جملة من الطقوس التي فقدت فحواها ودورها ومعناها. وهنا يتحول الإيمان الطوعي إلى إيمان مفروض، ويُفتَح الباب واسعاً أمام الهرطقة التي تقطع الأفراد عن تجربتهم الروحية وترميهم في صحراء من الخواء النفسي. وكردّ فعل على هذا الجمود العقائدي، تعمل الأسطورة أحياناً على تجديد نفسها على هامش الدين المؤسساتي، من خلال الخيال الشعبي الخلاق الذي يصنع أساطيره دون رقابة القيِّمين على الأساطير التقليدية في المؤسسة الدينية. ومن الأمثلة على ذلك شيوع أساطير شعبية ذات طابع ديني قوي في بلادنا، ونموذجها أساطير الخضر في بلاد الشام، والسيد البدوي في مصر، وشيوع خرافات الأولياء الذين حلوا محل الآلهة الثانوية في الأساطير القديمة. فهذا الولي للشفاء وذلك لإزالة العقم إلخ. أما في بلاد الغرب، فبعد فقدان مثل هذه الأساطير الشعبية لقوتها الإيحائية اتجه الكثيرون نحو أديان الشرق الأقصى يبحثون فيها عن أساطير ورموز روحية لم تفقد بعد طاقتها الإيحائية، ولم تتحول إلى إيديولوجية ناجزة جامدة، بل حافظت على صلتها بذلك النبع الداخلي الخلاق الذي يجعلنا في تواصل حر ودائم مع القدسي.
    واليوم، لا توجد أساطير حقيقية فاعلة على نطاق واسع في الحياة الفكرية والروحية والأدبية للثقافات الحديثة خارج الأديان القائمة التي جعلت من أساطيرها بنى متحجرة من الماضي البعيد، أشبه بتلك البُنى الحجرية التي تركها لنا الأقدمون من أمثال الزقورات الرافدية والأعمدة التدمرية. غير أن الأسطورة لا تمارس تأثيرها فقط من خلال نصوصها المتداولة بين الناس، وإنما من خلال ذلك النزوع الأسطوري المتجذِّر في البسيكولوجية الفردية والجمعية. من هنا، فإن انحسار الأسطورة عن معظم مواقعها القديمة لا يعني استئصال النزوع الأسطوري الذي يقبع في أعماق النفس متخفِّياً خلف آليات التفكير العلمي والفلسفي. ولهذا النزوع وجه إيجابي بناء، وآخر سلبي قد يكون شديد الأذى والتدمير.
    في جانبه الإيجابي، يعمل النزوع الأسطوري على التخفيف من سلطان النزعة العقلانية التي ترى إلى الكون باعتباره آلة جبارة عمياء، تعمل وفق قوانين أزلية ميكانيكية. فمع مغادرة العصور الوسطى في أوروبا والدخول في العصور الحديثة، أخذ المفهوم القديم عن عالم عضوي حي يتلاشى تدريجياً ليحل محله مفهوم عن عالم ميكانيكي آلي لا حياة فيه. وقادت فلسفة ديكارت وفيزياء نيوتن وفلكيات كوبرنيكوس وتلامذته إلى عكس مسار السعي العلمي وتغيير أهدافه. فبعد أن كان سعي العلم يتجه نحو اكتساب الحكمة وفهم سبل الطبيعة من أجل العيش بوئام معها، تحول سعيه إلى السيطرة على الطبيعة عوضاً عن التكامل معها، وشرع الإنسان في استخدام معارفه العلمية والتقنية من أجل الإخلال بنظام البيئة المستقر منذ القدم. وترافق ذلك مع نظام للقيم المعرفية تم تعميمه على العالم بأسره تقريباً، حل محل النظم المعرفية التقليدية التي تنطلق من الإحساس بالوحدة مع الوسط الطبيعي وبتداخل الظواهر الروحية والمادية.
    وهنا يأتي دور النزعة الأسطورية لدى الإنسان، التي تجد تجسيدها الأكثر إيجابية وحيوية وفعالية من خلال الشعر والفن.
    يقوم الشعر والفن التشكيلي بإعادة برقعة الطبيعة بذلك الستار الصوفي الأخّاذ، بعد أن نزعت الثورة العلمية عنها قدسيتها وكشفت الأسرار عن كثير من مجرياتها. من هنا ضرورة الفن الذي يعيدنا إلى الطبيعة ويعيد وحدتنا معها ككائنات طبيعانية بالدرجة الأولى، كما يعيدنا إلى التأمل في الغايات القائمة خلف المظاهر الكونية المختلفة، ويرجِع إلينا ذلك الحدس الخلاق، والإدراك الباطني للمدهش، والرائع، والفائق، و... القدسي. وإن الفن الذي لا يصدر عن مثل هذا النزوع الميثولوجي المتأصل في النفس هو فقط فن الحواسيب الفائقة التي تقوم الآن بعدد لا يحصى من المهام "الإبداعية"! وإلى جانب الشعر والفن التشكيلي هناك فنون أخرى تمتح من المصدر الميثولوجي الدفين عينه، وعلى رأسها الدراما والسينما. فلقد أخذت الدراما الإغريقية تلعب دوراً هاماً في حياة الناس في بلاد اليونان بعد أن تحولت الأساطير اليونانية الكلاسيكية إلى أدبيات دنيوية ونُزعَت عنها غلالاتها الميثولوجية. وفي العصر الحديث ترافقت نهضة الدراما واستئثارها بعقول الملايين في أوروبا مع الثورة العلمية في القرن السادس عشر والثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وما أحدثته هاتان الثورتان من فراغ ميثولوجي داخلي. وربما لهذا السبب اتجهت الدراما الإغريقية في بداية عهدها إلى النضح من الموروث الميثولوجي التقليدي، وقام شكسبير بابتكار مسرحيات مازالت تحركنا إلى الآن، لأنها نابعة عن نزوع ميثولوجي أصيل كان يواجه به إنسان ذلك العصر طغيان النزعة العقلانية التي تعمل بإصرار على نزع الأسطورة عن كل الموروث القديم، أدبياً كان أم دينياً. أما عن صعود السينما في القرن العشرين وتحريكها لمليارات البشر حول المعمورة فلا يمكن تفسيره إلا بصدور الفن السابع عن نزوع ميثولوجي وسده لحاجات ميثولوجية أصيلة لدى جماهير الناس في كل مكان، حتى غدت السينما بمثابة الصانع الرئيسي لأساطير القرن العشرين.
    وهكذا، فما دامت الأسطورة، باعتبارها ميلاً ونزوعاً، تعمل كخميرة لكل أشكال التعبير الفني، وتضع بين أيدينا منظاراً ملوناً يعيد البهجة والمعنى إلى الحياة، فإن باستطاعتنا الركون إليها واعتبارها مصدراً إيجابياً في إنتاج الثقافة واستهلاكها.
    غير أن النزوع الأسطوري، باعتبار طبيعته غير العقلانية، قد يشكل في بعض الأحيان تهديداً حقيقياً على المجتمعات الحديثة في العديد من المجالات. ففي فترات المحن والشدائد التي يمر بها مجتمع ما، تطفو الأسطورة على سطح الوعي وتنبعث النبوءات القديمة من مرقدها لتفسير حقيقة ما يجري، ويأخذ السياسيون وحتى العلماء بما يشبه الأساطير. في مثل هذا الجو غير العقلاني الذي يجتاح الجماهير قد يجد أصحاب العقول الأكثر رجاحة صعوبة في مقاومة التوجُّه إلى مكان ظهر فيه طيف السيدة العذراء، أو الانضمام إلى الآلاف المؤلفة من المتدافعين للحصول على البركة والشفاء من تمثال قيل أنه يذرف الدمع، أو آخر قيل إن قطرات من الدم تتساقط من مواضع المسامير على كفيه وقدميه. وقد تنبعث من أعماق اللاشعور الجمعي رموز ميثولوجية قديمة تجد تجسيداً لها في ظواهر يسبغ عليها الهوس الجمعي طابعاً إعجازياً وبعداً ماورائياً. من ذلك، على سبيل المثال، ما حدث منذ بضع سنوات في بلدة سورية نائية قيل إنه ظهر فيها تيس يحلب اللبن وإن لبنه يصنع المعجزات ويشفي الأمراض عن طريق الشرب أو الدهن. وهكذا تم بعث إله الخصب القديم تموز من مرقده، وراح أحد رموزه التقليدية يسرح بين أهل القرن العشرين ويوزع بركاته على الناس، وصار المكان مزاراً مقدساً يتقاطر إليه عشرات الألوف.
    وفي صيف عام 1996 تجول كاهن كندي في محافظات لبنان وسورية، معلناً أنه قادر على شفاء الأمراض بإذن الله وبإيمان الناس. وفي كل بلدة حل فيها تعطل نظام الحياة اليومية وترك الجميع بيوتهم ومشاغلهم وتوجهوا إلى مكان إقامة الكاهن، إما للشفاء أو لمشاهدة ذلك العرض المدهش. وقد قال لي شهود عيان أثق بهم أن عدداً لا بأس به من حالات الشفاء قد تم بشكل مدهش في ذلك الجو المشحون بالميثولوجيا وبالإيمان. ولعل من أكثرها لفتاً للنظر أن رجلاً مقعداً كان يشق طريقه وسط الحشود المتدافعة على كرسي ذي عجلات عندما علق في قلب الخضم البشري دون أن يستطيع تقدماً ولا تراجعاً، ولكنه ما لبث أن قام عن كرسيه بعد وقت قصير. لقد نسي جميع هؤلاء المتقاطرين إلى ذلك العرض الميثولوجي أن سيجموند فرويد أعلن قبل مئة عام من الآن، استناداً إلى تجارب سريرية موثقة، أن كل مرض هستيري ذي منشأ نفسي قابل للشفاء بواسطة الإيحاء وعن طريق استنفار القوى الداخلية للإنسان، سواء أكان هذا المرض عمى أم صمماً أم شللاً. وأي جو قادر على استنهاض القدرات الداخلية للمريض خير من هذا الجو المشحون بإيمان عشرات الألوف أو برغبتهم الحقيقية في الإيمان وفي التصديق؟ ولكن النزوع الميثولوجي في النفس الإنسانية يأبى إلا أن يعبر عن نفسه في كل مناسبة تتيحها له شروط هذا العالم الخاوي من الميثولوجيا.
    كما يتجلى النزوع الأسطوري في المجتمعات الحديثة فيما نراه من جنوح جماهير الشباب إلى خلق أنصاف آلهة تسكن على الأرض وتقدم للناس عزاءات صغيرة تعوِّضها عن جفاف الحياة العصرية وغربة الأفراد بعضهم عن بعض فيها. ولنا في نجوم موسيقى الروك الحديثة خير مثال على نزوع الجماهير إلى خلق مثل هذه الشخصيات التي تحيط بها هالة من القداسة جديرة بأي إله شعبي أو قديس أو ولي. إن ما نراه في صالات الروك الهائلة من هوس جمعي ليشير فعلاً إلى نشوء "عبادات"، دنيوية من حيث الشكل، لكنها تتمتع بكل ما للعبادات الدينية من فعل وتأثير، وتصدر عن النوازع الأسطورية المتأصلة في النفس البشرية ذاتها التي جعلت في الماضي الأسطورة ممكنة. يكفي أن تشاهد واحدة من هذه الحفلات المجنونة على شاشة التلفاز، أو تنخرط إذا أسعفك الحظ بواحدة منها، حتى تقتنع بأن عربدات طقوس الإله ديونيسيوس لم تنقطع قط، وأنها مازالت تمارَس تحت أسماء جديدة وبأشكال جديدة كلما ازدادت وحشة ووحدة الشباب في هذا العالم الغريب، وزادت حاجتهم إلى الشعور بالاتحاد والاندماج. فالإنسان الحديث الذي غالباً ما يفخر بعلمانيَّته وعقلانيته هو سليل ذلك الإنسان المتديِّن القديم صانع الأساطير؛ وهو إذ يدير ظهره لأساطيره التي فقدت لديه كل مقدرة على الإيحاء، إنما يعمل على استبدال أساطير مزيفة وطقوس عابثة بها، قد ترضي ذلك النزوع الأسطوري لديه، لكنها لا تجعله في انسجام وتلاؤم مع متطلباته الحقيقية. وهذا ما يجعل الجماهير على الدوام عرضة للوقوع في براثن أساطير حديثة مصممة بشكل مدروس من أجل توجيه الجماهير والسيطرة عليها. ويتجلى ذلك بأخطر صوره في مجال السياسة.
    إن أخطر الجوانب السلبية للنزوع الأسطوري تتبدى في مجال السياسة، وخصوصاً إبان فترات صعود الأنظمة التوتاليتارية. فخلال فترات الاضطراب ومنعطفات التغيير التي قادت إلى صعود هذه الأنظمة، يعمل مفكِّروها على الإفادة من النزوع الأسطوري بما هو نزوع غير عقلاني، فيعمدون إلى فبركة أساطير مدروسة بمهارة يضعونها تحت تصرف أساطين الإعلام، من شأنها استقطاب الأحوال الانفعالية عند الجماهير ومصادرة محاكماتها المنطقية لصالح نزعاتها غير العقلانية. ويعتمد هؤلاء على الاستفادة القصوى من ظلال الكلمات ومن الطابع السحري للغة، وينحتون مصطلحات ذات شحنة عاطفية هائلة تحرك الجماهير وتوجهها نحو الغايات المرسومة. يقول الفيلسوف الألماني إرنست كازيرر: "لقد بدأ العالم السياسي منذ عام 1933 بالقلق من إعادة تسليح ألمانيا ومن احتمال انفجارها دولياً. والواقع أن إعادة تسليح ألمانيا قد بدأ قبل ذلك بسنوات عديدة، وإن لم يكن قد لحظه أحد. إن إعادة التسليح الحقيقية قد حدثت عندما أُعيد إحياء الأساطير. ولم تكن إعادة التسليح العسكري إلا عاملاً مساعداً، نتيجة ضرورية لإعادة التسليح الذي أحدثته الأساطير السياسية. وأول خطوة اقتضت الضرورة القيام بها هي إحداث تغيير في مهمة اللغة. ولو أني قرأت هذه الأيام كتاباً من الكتب الألمانية التي نشرت في ذلك الوقت فإني سأرى أنني لم أعد قادراً على فهم اللغة الألمانية. وهذا أمر مذهل. فلقد تم صك كلمات جديدة، بل وأصبحت الكلمات القديمة تستخدم للدلالة على معانٍ جديدة. ويرجع هذا التغيير إلى أن هذه الكلمات بعد أن كانت تستعمل في أغراض دلالية ووضعية ومنطقية قد أصبح لها الآن دور سحري، قصد به إحداث آثار معينة لتحريك انفعالات معينة. ولكن البراعة في استعمال الكلمة السحرية ليست كل شيء. فلكي تُحدِث الكلمة تأثيرها كاملاً ينبغي أن تضاف إليها طقوس جديدة. وتتميز هذه الطقوس برتابتها وصرامتها وتزمتها، كالطقوس التي نراها في المجتمعات البدائية. ولكل طبقة وجنس وجيل من الأجيال الطقوس الخاصة به. فلا أحد يستطيع السير في الطرقات، ولا أحد يستطيع تحية جاره أو صديقه دون اهتمام بأحد الطقوس السياسية. والعواقب المترتبة على هذه الطقوس الجديدة واضحة. فلا شيء يمكن أن يخمد كل قوانا الفعالة وقدراتنا على الحكم والإدراك النقدي، وينزع عنا الشعور بالشخصية والمسؤولية الفردية، مثل الأداء المضطرد لنفس الطقوس."[11]
    إن الإيديولوجية النازية التي قادت إلى كارثة على مستوى العالم سيطرت على عقول عشرات الملايين من خلال أساطير رثة، مثل "أسطورة الفوهرر الملهم" و"أسطورة العرق الآري المتفوق"، وما إليها من أساطير تم زرعها بمهارة في مجتمع يفتخر بأنه صانع الفلسفة الحديثة في أوروبا ورائد الفكر العلمي والتكنولوجية المتفوقة. وقد عمد مفكِّرو ودعائيو هذه الإيديولوجية منذ البداية إلى نبذ كل ما يمت إلى "البرهان" بصلة، مؤكدين على "البيان" السحري، في كتاباتهم ومنشوراتهم، واستطاعوا خلال فترة وجيزة الولوج من "بوابة اللاعقلانية" المفتوحة دوماً في النفس الإنسانية، فاستولوا على نفوس وعقول أكثر شعوب أوروبا نزوعاً نحو التفكير العقلاني الصارم. يقول أحد مفكري الحركة النازية فيلهلم ستابل: "إن الحركات السياسية التي تلجأ إلى أسلوب الإقناع هي الحركات التي نالت مكانتها أصلاً بالإقناع. أما النازية فإنها إيديولوجية بسيطة وتقوم على أفكار أولية لا تحتاج إلى اللجوء للإقناع".[12] وقد أكد هتلر نفسه، وفي أكثر من مقطع في كتابه المشهور كفاحي، على ضرورة تفادي الإقناع في التوجه إلى الجماهير والتركيز على مخاطبة العواطف والانفعالات. وتميزت أفكاره الساذجة التي طرحها في هذا الكتاب وفي جميع خطبه الشهيرة بعدم قابليتها للبرهان على أي صعيد، وابتعادها عن أبسط الوقائع العلمية. ففي شرحه للنظرية النازية في الأجناس يقول: "إن الإنسانية تنقسم إلى ثلاثة أجناس: 1. الجنس الذي صنع الحضارة، 2. الجنس الذي حافظ عليها وسندها، 3. الجنس الذي يعمل على تدمير الحضارة. أما الجنس الأول فهو الجنس الآري الصانع الوحيد للحضارة. وأما الجنس الثاني فهم الآسيويون من أمثال اليابانيين والصينيين الذين استمدوا الحضارة من الآريين ولم يكونوا خالقين لها. وأما الجنس الثالث فمثاله اليهود الذين ما فتئوا يهدمون منجزات الحضارة الإنسانية.[13] ثم يخلص من هذه الأطروحات وأمثالها، مما لا يقيم وزناً لأي منطق منضبط وحقيقة تاريخية أو علمية، إلى القول بضرورة سيادة العنصر الآري وافتتاحه لعصر جديد في تاريخ البشرية.
    إن من يسخر من أمثال هذه الأساطير السياسية الحديثة اليوم عليه أن يتذكر أن هذه الأساطير نفسها هي التي قادت ملايين الألمان إلى الموت في بطاح روسيا الثلجية وفي صحاري شمال أفريقيا الموحشة. وأن أمثالها جاهز أبداً للتوالد كلما سنحت لها الفرصة وتهيأت الشروط. فبوابات اللاعقلانية الإنسانية جاهزة في كل لحظة للانفتاح على مصاريعها وتدمير كل ما بناه العقل الإنساني بكد وأناة. والنزوع الأسطوري في جانبه البناء قد يتحول في أي وقت إلى ارتماء في حضن الشيطان، ويسمح لكل تلك العفاريت والغيلان أن تنطلق من قماقمها المنسية، لتخرج في أشكال عصرية جديدة وتتربع في سدة السلطان، وتكرس إبليس سيداً بالفعل لهذا العالم.
    إن دراسة الأسطورة وفهمها، من خلال المنظور الذي قدمته في هذا البحث، تتحول إلى دراسة للإنسان، ودراسة الماضي إلى فهم للحاضر واستشراف للمستقبل.


    [1] س.ن.كريمر، من ألواح سومر، ترجمة طه باقر، مكتبة المثنى ببغداد، ص ص 375–378.
    [2] إديث هاملتون، الميثولوجيا، ترجمة حنا عبود، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1990، ص89.
    [3] نفس المرجع، ص 151.
    [4]أعني بالثقافات التقليدية الثقافات البطيئة التقدم من الناحية التكنولوجية التي عاشت حتى الزمن الحديث على هامش الخط الرئيسي لتقدم الحضارة الإنسانية. وهذا التعبير بديل عن تعبير "الثقافات البدائية" الذي يتضمن صفة "الانحطاط" في مقابل صفة "الرقي" بالمعنى القيمي لهاتين الصفتين.
    [5] Dorsey, Eleventh Annual Report of the American Bureau of Ethnology, 1889–1890; Cited by J. E. Hrrison in her Themis, University Books, New York 1966, p. 329.
    [6] ميرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة، دار كنعان، دمشق 1990، ص ص 12-13.
    [7] Watter Wili, “The Orphic Mysteries” (in The Mysteries, ed. by Joseph Campbell, Princeton 1978, pp. 83-85.
    [8] أنا مدين بهذه اللفتة إلى الفيلسوف موريس كورنفورث في كتابه الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح، ترجمة فاروق عبد القادر، دار الآداب والثقافة، بيروت 1979، ص16.
    [9] وهذا ما كان والدي يقوله لي وأنا في السادسة من عمري رغم أنه كان إنساناً متعلماً، ربما لأن في هذا التفسير العلمي القديم نوعاً من السهولة في التقبل بالنسبة لعقل طفل صغير.
    [10] المرجع نفسه، ص ص 90-91.
    [11] إرنست كاسيرر، الأسطورة والدولة، ترجمة أحمد حمدي محمود، القاهرة 1975، ص ص 372–375.
    [12] W. Reich, The Mass Psychology of Fascism, Pelican, 1975, p.68.
    [13] Ibid., pp. 110-111.
    Reply With Quote  
     

  2. #2 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    معتقدات الشرق القديم
    وثنية أم توحيد؟


    فراس السوّاح



    واحد، ولا ثاني له. واحد خالق كل شيء
    قائم منذ البدء، عندما لم يكن حوله شي
    والموجودات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود.


    لا تشكل هذه الأسطر جزءاً من ترتيلة خاصة بإحدى الديانات التوحيدية التي نعرفها تاريخياً، التي استحوذت على صفة "التوحيدية" دون بقية الديانات الإنسانية، بل هي جزء من ترتيلة مصرية قديمة، لها متوازيات وأشباه كثيرة في الأدبيات الدينية المصرية تتراوح في قدمها من فجر السلالات إلى نهاية التاريخ الفرعوني. تتابع الترتيلة فتقول:

    أبو البدايات، أزلي أبدي، دائم قائم
    خفي لا يعرف له شكل، وليس له من شبيه
    سرّ لا تدركه المخلوقات، خفي على الناس والآلهة
    سرّ اسمه، ولا يدري الإنسان كيف يعرفه
    سرّ خفي اسمه. وهو الكثير الأسماء
    هو الحقيقة، يحيا في الحقيقة، إنه ملك الحقيقة
    هو الحياة الأبدية به يحيا الإنسان، ينفخ في أنفه نسمة الحياة
    هو الأب والأم، أبو الآباء وأم الأمهات
    يلد ولم يولد. ينجب ولم ينجبه أحد
    خالق ولم يخلقه أحد، صنع نفسه بنفسه
    هو الوجود بذاته، لا يزيد ولا ينقص
    خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون
    عندما يتصور في قلبه شيئاً يظهر إلى الوجود
    وما ينجم عن كلمته يبقى أبد الدهور
    أبو الآلهة، رحيم بعباده، يسمع دعوة الداعي
    يجزي العباد الشكورين ويبسط رعايته عليهم.[1]


    لقد عمد العلامة السير واليس بدج، منذ أوائل القرن العشرين، إلى دراسة مدققة لهذا النص وأمثاله خلال دراسته المتعمقة لديانة ومعتقدات قدماء المصريين، وخلص إلى القول بأن المصريين كانوا قوماً يؤمنون بإله واحد، موجود بذاته، خفيّ، أبدي وأزلي، كلِّي القدرة والمعرفة، لا تدركه الأفهام والعقول، خالق للسماء وللأرض وكل ما عليها، وخالق لكائنات روحانية كانت رسله ومساعديه في تصريف شؤون الكون وهي الآلهة. وقد استمر الإيمان بهذه الألوهة غير المشخَّصة منذ أعتاب التاريخ المصري وحتى نهاياته. ورغم ذلك لم لكن لها في العصور التاريخية معابد أو هياكل، ولم تُصوَّر في أية هيئة شخصية، وإنما بقيت في الأذهان والقلوب بمثابة قدرة كونية لا يحدُّها وصف أو قول. أما الإسم الذي أطلقوه على هذه الألوهة فهو: نِتِر – Neter. وكان يرمز إليها في ما قبل العصور التاريخية في مصر بفأس ذي رأس حجري ومقبض خشبي، وتحيط بالرأس أربطة جلدية أو قماشية لتثبيتها على المقبض. وقد صار هذا الرمز إشارة هيروغليفية للدلالة على مفهوم الألوهة في الكتابة المصرية. ويبدو أن اختيار إنسان ما قبل التاريخ لرمز الفأس كان من قبيل التوكيد على جانب القوة المتبدِّية في هذه الأداة. ويدعم هذا الرأي أن كلمة نِتِر بالذات يمكن أن تعني القوة أو الشدة. وإلى جانب كلمة نِتِر لدينا في الهيروغليفية المصرية كلمة نِتِرو، وتعني تلك الكائنات التي تشترك على نحو ما في طبيعة نِتِر، وتسمى في العادة "آلهة". ولكننا حين ندرس هذه الآلهة عن كثب، نجد أنها ليست إلا صوراً أو تجلِّيات لإله واحد. وكان أعلى هذه الكائنات هو الإله رع، إله الشمس الذي كان الوجه المشخص لتلك الألوهة الخافية المدعوة نِتِر، ورمزها الذي يتوجه إليه الناس بالعبادة. علماً بأن عدداً آخر من الكائنات الإلهية قد ارتقى إلى مرتبة سامية، على مدى التاريخ الديني المصري، أهَّلتهم لتجسيد الألوهة المطلقة مثلما فعل رع.[2]

    ويرى واليس بدج من دراسته للنصوص المبكرة للأسر الحاكمة الأولى إشارات واضحة إلى هذه الألوهة التي تعلو على بقية تجلَّياتها القدسية المتعددة. من هذه الإشارات المقاطع التالية الواردة في نص وصايا كاقمنا ونص وصايا بتحاتب، من عصر الأسرة الرابعة والأسرة الخامسة: 1. إن أفعال الله (= نِتِر) خافية علينا؛ 2. عليك ألا تُفزع إنساناً لأن في ذلك معاكسة لإرادة الله؛ 3. إن الخبز الذي تأكله من عطايا الله؛ 4. إذا كنت مزارعاً فاحرث حقلك الذي أعطاه الله لك؛ 5. إذا نشدت كمال الأفعال يسِّر لابنك مرضاة الله؛ 6. إكفِ عائلتك حاجتها، فهذا واجب على من يؤثرهم الله؛ 7. إن الله يحب الطائعين ويمقت العصاة؛ 8. الولد الصالح نعمة من الله؛ إلخ.

    في تعليقه على هذه الحكم والوصايا يرى واليس بدج بكل وضوح أن الكاتب لم يقصد من كلمة الله/نِتِر، الإشارة إلى واحد بعينه من الآلهة المصرية، وإلا وجب عليه (على عادة النصوص المصرية) أن يخصَّه ويذكر اسمه، وإنما كان يشير إلى الله الواحد الخفي الكلِّي القدرة والمعرفة. أما الآلهة الأخرى التي آمن بها المصريون إلى جانب هذا الإله الأعلى، فجميعها مخلوق وعرضة لعوادي الزمن وللمرض وحتى للموت. أي أن هذه الآلهة (= نِتِرو) رغم كونها مجبولة من طينة مختلفة عن الإنسان، وتفوقه قوة ومعرفة، إلا أنها تشبهه في عواطفه وأهوائه، وتخضع لقوانين هذا العالم المخلوق مثلما يخضع. ففي أحد نصوص الأهرام نجد الملك المؤلَّه أوناس في رحلة صيد إلى السماء يصطاد خلالها بعض الآلهة ويشويهم. وفي نص للملك تحوتمس الثالث (حوالى 1450 ق.م) نقرأ دعاء حاراً يتمنى فيه الملك النجاة من الفناء المقدَّر على البشر وعلى الآلهة. وفي أحد نصوص كتاب الموتى نقرأ أن الآلهة تفنى مثل بقية الكائنات الحية عندما تغادرها الروح. هذه الشواهد وأمثالها تجعل في حكم المؤكَّد أن المصريين القدماء كانوا يفرِّقون بشكل واضح بين الله/نِتِر، والآلهة/نِتِرو المخلوقين من قبله والذين يلعبون دوراً أشبه بدور الملائكة الموكلة إليهم وظائف ومهام محددة.[3]

    غير أن تصور المصريين لهذه الألوهة المطلقة كان مصحوباً بنوع من التشخيص anthropomorphism الذي يجعل الألوهة حاضرة بينهم وقريبة منهم. فقد كان لكل بلدة ومدينة إلهها الخاص الذي تعزو إليه كل صفات وخصائص الإله الواحد. ولكنهم لم يروا في هذه الآلهة جميعاً إلا وجوهاً مختلفة للألوهة الشمولية القدرة والمعرفة نفسها. يدلنا على ذلك أن المتوفى عندما يحضر إلى قاعة الحساب عليه أن يتلو اعترافاته أمام اثنين وأربعين إلهاً، هم آلهة الأقاليم المصرية، قبل أن يَمْثُل أمام الإله أوزيريس قاضي العالم الأسفل (على ما تنص عليه تعاليم كتاب الموتى). وهذا يعني أن نفس الإله كان يُعبَد في كل مدينة أو إقليم تحت أسماء وتجلِّيات متنوعة، وأن الإله المحلِّي قد اتخذ مكانة الإله الأعلى لضرورات عملية. وبتعبير آخر، فإن موضع العبادة المحلية لم يكن إلا هيئة اختار الإله المطلق أن يتجلَّى بها لوقت طال أم قصر، وعلى ما تقتضيه طبيعة الأحوال. بعض هذه الآلهة، ولأسباب متنوعة، خرج من دائرته الضيقة التي نشأت فيها عبادته، واكتسب خصائص ووظائف وصلاحيات آلهة عديدة أخرى، ثم وصل أخيراً إلى المرتبة العليا حيث صار تجسيداً للألوهة المطلقة على مستوى الثقافة بأكملها. من هؤلاء تيمو إله هليوبوليس، وبتاح إله ممفيس، وآمون إله طيبة.[4] وكان رع أول من تسنَّم هذه المرتبة العليا، عندما ظهر في الأفق عند بدء الخليقة في هيئة قرص الشمس. ثم تواحد رع مع آمون إله مدينة طيبة وصار اسمه آمون–رع. وهذه إحدى التراتيل المرفوعة إليه:



    هو الروح القدس الموجود منذ البدايات

    هو الإله المعظَّم الذي يحيا في الحقيقة، وبه يحيا الآلهة

    الواحد الذي صنع كل ما ظهر في البدايات الأولى

    ميلاده سرّ، وأشكاله لا حصر لها، وأبعاده لا تقاس

    كان، عندما لم يكن هنالك شيء

    وفي هيئة القرص شعّ وأضاء لكل الناس

    يقطع السماء بلا تعب، وعزمه في الغد كعزمه اليوم

    عندما يشيخ في أواخر النهار يجدِّد شبابه في الصباح

    بعد أن خلق نفسه، صنع السماء والأرض بإرادته

    لقد كان المياه الأولى، وهو قرص القمر

    من عينيه المباركتين صدر الرجال والنساء

    ومن فمه صدرت الآلهة

    كثيرة عيونه [= البصير] وكثيرة آذانه [= السميع]

    إنه رب الحياة

    الملك الذي يضع الملوك على عروشهم

    الخفي المجهول، حاكم العالم، أخفى من كل الآلهة

    والقرص وكيله وممثِّله.[5]



    تقدم لنا هذه الترتيلة برهاناً ساطعاً على أن عبادة الشمس المصرية لم يكن موضوعها قرص الشمس، بل القدرة الخافية التي تكمن وراءه. هذه القدرة لا تتمثل فقط في القرص وإنما تجد تجسيداً لها في الآلهة المتفرقة التي ليست في حقيقة الأمر إلا وجوهاً للإله الواحد رع. والإله رع بدوره ليس إلا الرمز المنظور للألوهية الكلِّية المحتجبة. نقرأ في ترتيلة أخرى مرفوعة إلى رع ما يلي:



    لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تسري في مساكن آمْنِت. هو ذا جسمك فهو تيمو

    لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تسري في مخبأ أنوبيس. هو ذا جسمك فهو خيبيرا

    لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة، الذي تطول حياته أكثر من بقية الكائنات غير المنظورة. هو ذا جسمك فهو شو

    لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة […] هو ذا جسمك فهو تفنوت

    لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تُنبِت الزرع في مواسمه. هو ذا جسمك فهو جِب

    لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة، الكائن القوي الذي يقضي […] هو ذا جسمك فهو نوت

    لك التسبيح يا رع – أنت القدرة المجيدة التي تنير رأس من يقف أمامك. هو ذا جسمك فهو نفتيس

    لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة، رب الـ[…] هو ذا جسمك فهو إيزيس

    لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة. وأنت مصدر الأعضاء المقدسة. أنت الواحد الذي يهب الحياة للوليد. هو ذا جسمك فهو حورس

    لك التسبيح يا رع. أنت ا لقدرة المجيدة، التي تسكن العمق السماوي. هو ذا جسمك فهو نو.[6]



    إن الإشارة إلى رع أو آمون–رع أو أي إله آخر بصفة الواحد هو تقليد قديم جداً، لدينا شواهد عليه في نصوص الأهرامات العائدة إلى الملكة القديمة وفي العديد من النصوص العائدة إلى عصر الملكة المتوسطة. وكاتب أي نص من هذه النصوص إنما يستخدم صفة من صفات الله المعروفة لديه في مخاطبة إلهه المحلي الذي يمثِّل عنده الله العظيم. وأمثال هذه النصوص، قديمها وحديثها، حافلة بأسماء الله المتعددة، سواء كانت بتاح أم تيمو أم آمون أم رع. نقرأ في كتاب الموتى، الفصل 17، الفقرتين 9 و 10: "إن الإله تيمو في هيئة رع، قد خلق أسماء لأعضائه فصارت هذه الأسماء آلهة انضمت إلى بطانته." من هنا فإن الوحدانية التي تطلق صفة على الواحد الحق الذي خلق نفسه بنفسه وخلق السماوات والأرض وما بينها، لا يمكن تفسيرها من خلال افتراض وجود معتقد توحيدي مشوب بالتعددية لأن مؤلفي مثل هذه التراتيل والصلوات التوحيدية، يُظهِرون منذ البدايات المبكرة معتقداً توحيدياً لا لبس فيه. وهذا ما دعا العالم شامبليون إلى القول منذ عام 1839 بأن "الدين المصري يقوم على معتقد توحيدي صافٍ، يعبِّر عن نفسه خارجياً بصيغ شِرْكية تعددية". بينما قادت التعددية الظاهرية في النصوص المصرية علماء آخرين، من أمثال البروفيسور Tiele، الدارس المدقق للأديان القديمة، إلى القول بأن الديانة المصرية قد قامت في الأصل على معتقد شِرْكي تعدُّدي ثم اقتربت تدريجياً من المفاهيم التوحيدية.[7]

    لم يكن قناع الألوهة المطلقة الذي يتبدَّى من خلاله في عالم الإنسان قناعاً مذكراً على الدوام. فقد لعبت الإلهة إيزيس، أعلى إلهات الثقافة المصرية، دور الإله الواحد الذي يجسِّد الألوهة المطلقة أيضاً، واعتبرها عبادها بمثابة التجلِّي الأنثوي للإله رع نفسه: "إنها رع المؤنث، إنها حورس المؤنث، إنها عين الإله رع"، على ما تردِّد الترتيلة التالية المرفوعة إلى إيزيس من عصر المملكة الحديثة:



    هي ذات الأسماء الكثيرة، الواحدة القائمة منذ البدء

    هي القدُّوسة الواحدة، أعظم الآلهة والإلهات

    ملكة الآلهة جميعاً، ومحبوبتهم الأثيرة.

    نموذج الكائنات طراً، وملكة النساء والإلهات

    إنها رع المؤنث، إنها حورس المؤنث، وعين الإله رع.

    إنها العين اليمنى للإله رع

    التاج النجمي لرع–حورس، وملكة الكوكبات النجمية

    نجم الشعرى الذي يفتتح السنة [8] وسيدة رأس السنة

    صانعة الشروق، تجلس في المقدمة من مركب السماء

    سيدة السماوات، قدوسة السماوات، وواهبة النور مع رع

    الذهبية، سيدة الأشعة الذهبية، الإلهة الوضاءة

    سيدة ريح الشمال، ربة الأرض، والأقدر بين القديرين

    مالئة العالم الأسفل بالخيرات، والسيدة المهوبة هناك

    بالاسم تانيت هي العظمى في العالم الأسفل مع أوزيريس

    سيدة حجر الولادة، البقرة حيرو – سيما التي أنجبت كل شيء

    سيدة الحياة، واهبة الحياة، خالقة كل شيء أخضر

    الإلهة الخضراء. سيدة الخبز، سيدة الجعة، سيدة الخيرات

    سيدة البهجة والفرح، وسيدة الحب البهية الطلعة

    الجميلة في طيبة، والجليلة في هليوبوليس، والمعطاء في ممفيس

    سيدة الرقى والتعاويذ، النساجة الحائكة (للأقدار)

    ابنها سيد الأرض، وزوجها سيد الأعماق. زوجها فيضان النيل

    الذي يجعل النيل يعلو ويرتفع فيفيض في موسمه.[9]



    لقد طرح العلامة واليس بَدْج آراءه حول الديانة المصرية منذ أواخر القرن التاسع عشر في عدد من الدراسات التي نشرها حوالى عام 1898 والتي لقيت في حينها الكثير من الاستغراب والنقد. ثم عاد بَدْج فأكَّد على أفكاره تلك وطوَّرها في كتابه الكلاسيكي الذي صدر في مجلدين عام 1911 تحت عنوان Osiris and the Egyptian Resurrection، وكتابه الآخر Egyptian Religion. منذ ذلك الوقت، ورغم الدراسات الواسعة التي جرت حول أديان وميثولوجيات الشرق القديم الأخرى بعد اكتشاف وقراءة نصوص الثقافة الرافدية وبقية ثقافات الهلال الخصيب، لم ينتبه أي من الدارسين إلى أن هذه الأديان تظهِر شبهاً كبيراً بالديانة المصرية، من حيث شفوف معتقداتها عن نوع واضح من التوحيد لا يخفى على العين المدقِّقة، وإلى أن التعدِّدية فيها ليست إلا الشكل الظاهري الذي يعبِّر به معتقد التوحيد عن ذاته.

    تُظهِر الأدبيات الدينية الرافدية، بشكل خاص، هذا التوجُّه التوحيدي، وخصوصاً ما تعلق منها بالصلوات والتراتيل. فهنا يتم التوجُّه إلى إله كل عبادة محلِّية على أنه الإله الحق وكبير الآلهة وأعظمهم. ولنبدأ أولاً بهذه الترتيلة السومرية للإله إنليل التي كانت تُنشَد في معبده الرئيسي المدعو إيكور في مدينة نيبور (نِفَّر). ونظراً لطول الترتيلة الذي يبلغ حوالى المئة والسبعين سطراً فإني أكتفي فيما يلي بترجمة منتخبات منها تفي بالغرض:



    1. إنليل ذو الكلمة المقدسة والأوامر النافذة

    2. يقدر المصائر للمستقبل البعيد، وأحكامه لا مبدِّل لها

    3. أعينه الشاخصة تمسح الأمصار

    4. وأشعَّته تفحص قلب البلاد

    5. عندما يعتلي الأب إنليل منصَّته السامية

    6. عندما يقوم نونامنير بواجبات السيادة على أكمل وجه

    7. ينحني أمامه آلهة الأرض طوعاً

    8. يتَّضع أمامه الأنوناكي، آلهة الأرض

    9. ويقفون في استعداد وترقب لتنفيذ الأوامر

    10. الربّ المبجَّل في السماء والأرض، العليم الذي يفهم الأحكام

    92. إنليل راعي الجموع المؤلَّفة

    93. راعي جميع الكائنات الحيَّة وحاكمها

    95. عندما يعتلي منصته فوق ضباب الجبال

    96. يزرع السماء غدواً ورواحاً، كقوس قزح

    97. يجعلها تميد كغيمة سابحة

    98. وحده أمير السماء، وحده عظيم الأرض

    99. ووحده ربُّ الأنوناكي المبجَّل

    100. عندما، بكل روع، يقرر المصائر

    101. لا يجرؤ أحد من الآلهة على رفع البصر إليه

    109. لولا إنليل، الجبل العظيم، لم تُبْنَ المدن ولا القرى

    117. ولم يَفِضْ البحر بكنوزه الوفيرة

    118. ولم يضع السمك بيوضه بين أجمات القصب

    119. ولم تصنع طيور الجو أعشاشها في طول البلاد وعرضها

    120. لولاه لم تفتح الغيوم الماطرة أفواهها في السماء

    121. ولم تمتلئ الحقول والمروج بخيرات الحبوب

    122. ولم تطلع الحشائش والأعشاب، بهيَّة، في البوادي

    123. ولم تحمل الأشجار الضخمة في البساتين ثمارها

    124. لولا إنليل، الجبل العظيم

    125. لم يكن للإلهة ننتو أن تجلب الموت، لم يكن لها أن تقتل[10]

    126. ولم يكن لبقرة أن تضع عجلها في الإسطبل

    127. ولم يكن لنعجة أن تضع حملها في الحظيرة

    130. ولم يكن لذوات الأربع نسل ولم يقفز ذكرها على أنثى

    131. إن أعمالك البارعة تثير الروع

    132. ومراميها عصيَّة كخيط متشابك لا يمكن فكُّه

    139. فمن يقدر على فهم أفعالك

    140. أنت قاضي الكون وصاحب الأمر فيه

    141. عندما تنطق، يلوذ الأنوناكي بالصمت

    143. عندما تصعد كلمتك نحو السماء تغدو عموداً وعندما تهبط نحو الأرض تصير قاعدة وأساساً

    150. كلمتك زرع، كلمتك قمح وحبوب

    151. كلمتك ماء الفيض الذي به تحيا البلاد

    170. أي إنليل، أيها الجبل العظيم، لك التسبيح والحمد.[11]



    في ما قدمته أعلاه من هذه الترتيلة الطويلة نجد إنليل يمسك بيديه صلاحيات جميع الآلهة الرئيسية المعروفة في البانثيون السومري. فهو ربّ السماء، وربّ الأرض، وربّ الشمس، وربّ الخصب والزرع، وربّ الماء وواهب الحياة، وربّ الموت. وباختصار، إنه "الله" الذي لا شريك له في السلطان. أما بقية الأنوناكي من آلهة المجمع السماوي فليسوا أكثر من مجمع ملائكة وقديسين، يقفون في حضرة القدرة الإلهية ولا يستطيعون رفع أبصارهم إلى مركز النور الأسمى (انظر الأسطر 7 و 8 و 101)، خميرة الكون الفاعلة، ومصدر وجوده وصيرورته.

    غير أن إنليل لم يكن وحده من ارتدى قناع الإله الواحد الذي يجسِّد الألوهة المطلقة في المعتقد السومري. فها هم كهنة إنانا يرفعون إلهتهم إلى مقام إنليل نفسه، ويقولون لنا في هذه الترتيلة المرفوعة إلى إنانا إنها تعبد في كل معابد المدن السومرية الرئيسية المخصصة أصلاً للآلهة المحلية. وهذا يعني أنهم لا يرون في آلهة المدن إلا صوراً وتجلِّيات للألوهة المؤنثة الكونية، المتمثِّلة في الأم الكبرى القديمة للثقافة الرافدية. وهذه ترجمتي الكاملة للنص:



    أعطاني أبي السماء، وأعطاني الأرض

    إني ملكة السماء، وملكة السماء أنا

    وما من إله قادر على منازعتي

    أعطاني إنليل السماء وأعطاني الأرض

    إني ملكة السماء، وملكة السماء أنا

    أعطاني إنليل الربّوبية

    أعطاني الملك

    أعطاني القتال والمعركة

    أعطاني الطوفان وأعطاني العاصفة

    أعطاني السماء تاجاً

    وربط الأرض إلى قدميَّ نعلاً

    خلع علي طيلسان النواميس الإلهية

    وثبت في يدي الصولجان المقدس

    الآلهة […] إني أنا الملكة

    حولي يتراكض الآلهة، وأنا البقرة البرِّية واهبة الحياة

    أنا البقرة البرِّية التي تتصدَّر الجميع.

    عندما أدخل الإيكور، بيت إنليل

    لا يجرؤ الحراس على منعي

    ولا يقول لي وزيرُه انتظري

    لي السماء ولي الأرض، أنا سيدة المعارك

    في مدينة أوروك، معبد الإيانا، لي

    في مدينة زابالوم، معبد الجيوجونا، لي

    في مدينة أور، معبد إشدام، لي

    في مدينة آداب، معبد العيشارا، لي

    في مدينة كيش، معبد خورساخ كالاما، لي

    في مدينة دير، معبد أماش لوجا، لي

    في مدينة أشاك، معبد آن زاكار، لي

    في مدينة أوما، معبد إيجال، لي

    في مدينة أكاد، معبد أدلماش لي

    فهل هنالك من إله قادر على منازعتي.[12]



    ولدينا صلاة مرفوعة إلى الإلهة إنانا من الكاهنة إنحيدوانا إبنة الملك صارغون الأول ملك أكاد. والصلاة مكتوبة باللغة السومرية (التي بقيت بمثابة لغة مقدسة لفترة طويلة بعد صعود العناصر الساميَّة إلى سدة السلطان)، وفيها توكيد على جوانب القوة والجبروت في شخصية الإلهة. يتألف النص من حوالى 150 سطراً أقدم فيما يلي منتخبات منه:



    1. سيدة النواميس المقدسة، أيها النور المشعّ

    5. من تمسك بيدها النواميس السبعة

    8. من تجمع النواميس المقدسة إلى صدرها

    9. من تنفث السم في الأرض كالتنين

    10. تذوي الزروع عندما تهدرين مثل إشكور [= إله الرعود والمطر]

    11. تأتين بالطوفان من الجبال العالية

    12. تُمطِرين على البلاد لهباً وناراً

    26. وفي معمعان القتال تقضين على كل ما أمامك

    27. أي مليكتي، أنت المبيدة في قوتك

    28. تهجمين كالإعصار الداهم

    30. وترعدين بصوت أعلى من العاصفة الزاعقة

    31. وتعولين بصوت أعلى من الرياح الشيطانية

    34. أي مليكتي، إن الأنوناكي

    35. يهربون أمامك كالخفافيش المرتعشة

    36. لا يصمدون أمام وجهك الغضوب

    37. لا يستطيعون اقتراباً من جبينك المهيب

    38. وما من أحد قادر على تهدئة قلبك المشبوب

    40. أي مليكتي، أنت فرحة مبتهجة الفؤاد

    41. ولكن [غضب] قلبك لا يمكن تهدئته يا ابنة سِنْ

    42. أي مليكتي المعظمة في البلاد، من يفي طاعتك حقها؟

    43. في الأقطار التي لم تعلن لك الولاء يذوي الزرع

    55. ولا تحدِّث المرأة زوجها حديث الحب

    56. وفي ظلمة الليل لا تهمس له كلمات الحنان

    57. ولا تظهر له مكنون الفؤاد

    59. أي مليكتي، أنت أعظم من [كبير الآلهة] آن، من يفي طاعتك حقها؟

    60. وفق النواميس الواهبة للحياة، أنت ملكة الملكات

    61. أنت أعظم من الأم التي ولدتك، منذ خروجك من الرحم

    62. أنت العليَّة الحكيمة، مليكة كل البلاد

    63. يا من تكثِّرين النسل للإنسان وكل الأحياء، أغني بذكرك

    112. أي ربّة الأفق وذروة السماء

    113. إن الأنوناكي يخرُّون أمامك ساجدين

    116. إن الآلهة يقبِّلون الأرض أمامك

    123. أنت يا من تتسعين سعة السماء

    124. أنت يا من تطولين طول الأرض

    153. أي مليكتي، إنانا، المتَّشحة بالفتنة لك الحمد والتسبيح.[13]



    تكمل صلاة الكاهنة إنحيدوانا هذه الصورة التي رسمتها الترتيلة السابقة لإنانا باعتبارها الإلهة العليا الوحيدة. فبعد أن رأيناها تُعبَد في كل المعابد الرئيسية المخصصة لآلهة المدن المحلِّية، نراها هنا تمسك بيدها النواميس السبعة (السطر رقم 5) وهي نواميس آلهة سومر الرئيسية: آن وإنليل وإنكي وننخرساج وسِنْ وأوتو وإنانا نفسها. وهذه النواميس هي التي تمكِّن الآلهة من الحكم وممارسة السلطان. كما أن صلاة إنحيدوانا تنص صراحة على أن مكانة إنانا هي فوق مكانة كبير الآلهة آن (السطر رقم 59). وهذا يعني أنها الأولى في مجمع الآلهة، حيث "يخر الأنوناكي أمامها ساجدين" (السطر رقم 113)، و"يقبِّلون الأرض أمامها" (السطر 116)، و"يهربون أمامها كالخفافيش المرتعشة" (السطر رقم 35).

    ولدينا نص بابلي يتابع رسم صورة الإلهة إنانا (التي صار اسمها عشتار) كسيدة للآلهة، ويصفها بصفات القوة والجبروت نفسها تقريباً. والنص عبارة عن صلاة طويلة أقدم فيما يلي ترجمة لنصفها الأول:



    إليك أرفع صلاتي يا ربّة الربّات ويا إلهة الإلهات

    أي عشتار، يا ربّة البشر أجمعين ومسدِّدة خطاهم

    أي إرنيني المبجَّلة دوماً، عظيمة الإيجيجي آلهة السماء

    أيتها الجبّارة بين الأميرات، عظيم هو اسمك

    أنت حقاً نور السماوات والأرض، أيتها الجبّارة يا ابنة سِنْ

    أنت من يقف وراء الأسلحة الماضية، ويقرر المعارك

    أي سيدتي، يا من تحوز كل القوى الإلهية وتضع تاج السلطان

    أي سيدتي يا من تبسط مجدها وسلطانها فوق الآلهة

    يا نجمة العويل والنواح التي تلقي سيفاً بين الإخوة المتحابين

    ومَن، في الوقت نفسه، ترعى الصداقة والمودَّة

    أيتها الجبّارة، يا سيدة المعارك، يا من تفوق الجبال جلالاً

    أي جوشيا، التي تتّشح بالخوف، التي تلبس الرعب

    أنت من يصدر الأحكام الكاملة، ويصنع مقادير السماء

    أي مكان لا يعلو فيه اسمك؟ أي مكان لا تظهر فيه قدرتك

    لذكر اسمك ترتجف السماء وتهتز الأرض

    لذكر اسمك يرتعد الأنوناكي ويقفون في رَوْع ورهبة

    أهل هذه البلاد، وحشود البشر أجمعين، يعطونك الولاء

    أنت من يقضي بالحق والعدل بين الناس

    وأنت من يعيد حقوق المضطهَدين والمظلومين

    أيتها المشعة بالنور، لبؤة الآلهة، ومخضِعة الغضبى منهم

    أيتها المتألِّقة، يا مشعل السماء والأرض، ونور الناس

    يا ربَّة الرجال والنساء، لا يدرك أحد خططك وأفعالك

    عندما تنظرين إلى الميت يحيا، وإلى المريض يشفى

    ويهتدي بوجهك من يضلُّ به الطريق.[14]



    وفي ترتيلة بابلية أخرى إلى عشتار، نجد الوجه الآخر الصبوح للإلهة في مقابل الوجه الغضوب الذي طالعتنا به التراتيل والصلوات السابقة. فهنا يقدم لنا كاتب الترتيلة عشتار ربَّة للحب والشهوات ويطنب في وصف سحرها وجمالها، مع الحفاظ على مكانتها كسيدة للآلهة. وهذا النص أقصر من سابقه بكثير، أقدم فيما يلي ترجمة لمعظم سطوره:



    لك التسبيح أيتها الإلهة الأكثر روعاً بين الإلهات

    لك التبجيل يا ربَّة البشر وأعظم آلهة السماء

    هي المتَّشحة بالحب والمتع والرغبات

    هي الطافحة حياة وسحراً وشهوات

    في شفتيها حلاوة، وفي فمها الحياة

    بظهورها تكتمل البهجة والسعادة

    هي المجيدة ورأسها يغطيه النقاب

    هيئتها الجمال وفي عينيها الألق

    بيدها تمسك مقادير الأمور جميعاً

    حينما تنظر تخلق فرحاً وسعادة

    هي الروح الحافظ، القوة والعظمة

    تسكن في الحنان والألفة وترعاهما

    تحمي الأمهات، والفتيات الوحيدات، والمستعبَدات

    وبين النساء اسم واحد ينادى به، هو اسمها

    رائعة أحكامها، سامية وقوية

    عشتار ما لها في العظمة من مثيل

    رائعة أحكامها، سامية وقوية

    مكانتها عالية سامية، وكل الآلهة يقصدونها

    كلمتها محترمة نافذة بينهم

    هي الملكة عليهم ينفذون أوامرها على الدوام

    وينحنون بخضوع أمامها، رجالاً ونساءً يوقرونها

    وفي مجمعهم كلمتها هي المسيطرة، هي العليا.[15]



    لقد وُصِفت إنانا في صلاة الكاهنة إنحيدوانا بأنها أعظم من الإله آن، إله السماء وكبير الآلهة ورئيس مجمعهم. ولكن الترتيلة التي سنقدمها بعد قليل تطلق على الإله نانا/سِنْ، إله القمر، اسم آن/آنو بالذات، الأمر الذي يدلّ باعتقادنا على أن لقب آن أو آنو ليس إلا فكرة عن الألوهة السامية، ومنصباً يمكن أن يرتقي إليه أي إله رئيسي من آلهة المجمع. نقرأ في هذا النص المكتوب بالسومرية والأكادية على لوح واحد ما يلي:



    أيها الربّ، بطل الآلهة، من مثلك معظَّم في السماء والأرض

    أيها الربّ نانا، الربّ أنشار، بطل الآلهة

    أيها الأب نانا، الربّ الكبير آنو، بطل الآلهة

    أيها الربّ نانا، الربّ سن، بطل الآلهة

    أيها الأب نانا، ربّ مدينة آور، بطل الآلهة

    أيها الأب نانا، رب التاج الساطع، بطل الآلهة

    أيها الأب نانا، صاحب الملك الكامل، بطل الآلهة

    أنت المولود الذي أنجب نفسه بنفسه، تاماً كامل الهيئة

    أنت الرحم الذي أنجب كل شيء

    الذي يقيم بين البشر في مسكنه المقدس

    الوالد الرحيم في قضائه، من يمسك بيديه حياة البلاد

    أيها الربّ، يا من تملأ قداسته البحر الواسع روعاً، وأعماق السماء

    أيها الأب الذي أنجب البشر والآلهة

    الذي أوجد المقامات والهياكل، وأسس للقرابين والتقدمات

    أنت ربّ الملك، واهب السلطان

    أنت مقرِّر المصائر إلى نهاية الأزمان

    أيها الأمير القدير الذي لا يستطيع إلهٌ سبر قلبه

    شعاعك ينطلق من قاعدة السماء إلى ذروة السمت

    وتفتح أبواب السماء لتهب النور لكل البشر

    أيها الأب الوالد، الذي ينظر بعين العطف إلى كل الأحياء

    أيها الربّ الذي يقدِّر مصائر السماء والأرض

    صاحب الكلمة التي لا يقدر أحد على تغييرها

    أنت المتحكِّم بالماء وبالنار، وليس لك بين الآلهة شبيه

    من المبجَّل في السماء؟ أنت، أنت وحدك المبجَّل

    من المبجَّل في الأرض؟ أنت، أنت وحدك المبجَّل

    عندما تُسمَع في السماء كلماتك، يخر الإيجيجي صاغرين

    وعندما تُسمَع في الأرض كلماتك، يُقبِّل الأنوناكي الأرض أمامك

    عندما تنطلق كلماتك في السماء كالريح، تفيض خيرات الطعام والشراب

    وعندما تستقر كلماتك في الأرض، يطلع كل زرع ونبات

    كلماتك تملأ الحظائر والإصطبلات، وتُغني أحوال البشر

    كلماتك العالية في السماء والخبيئة في الأرض، خافية عن العيون

    كلماتك لا يقدر أحد على فهمها وما لها من مثيل

    أيها الربّ، في السماء سلطانك وفي الأرض بسالتك

    ليس لك بين الآلهة من ندّ ولا من مزاحم.[16]



    لا تترك هذه الترتيلة السومري–الأكادية أي مكان لإله آخر إلى جانب إله القمر نانا. فهو الإله الواحد الذي يجمع بين يديه كل صلاحيات الآلهة الأخرى التي لا تبدو أمامه إلا ظلالاً وأشباحاً لا هوية لها. فهو الرحم البدئي الذي ولد الكون، وهو الذي أنجب الآلهة وأنجب البشر، وهو واهب النور، وهو سيِّد البحر، وهو سيِّد السماء والأرض، المتحكِّم بالماء والنار، وهو إله الخصب الذي يعطي الزرع والنبات، إلخ. ونلاحظ بشكل خاص أن تعبير: "الذي أنجب نفسه بنفسه" (وهو يشبه ما تستعمله التراتيل المصرية) يناقض التصورات الميثولوجية الرسمية التي تجعل من إله القمر نانا ابناً للإله إنليل. فالإله الواحد هنا مولود من العدم وبقواه الذاتية، ومنه صدرت كل الموجودات. إنه يلِد ولم يولَد، ينجب ولم ينجبه أحد، على حد تعبير الترتيلة المصرية التي أوردناها في مطلع هذا البحث (انظر السطر 12 من الترتيلة).أئأأ

    ولدينا صلاة آشورية مرفوعة إلى شمش، إله الشمس، يقول لنا كاتبها إن الآلهة الرئيسية آنو وإنليل وإيا تستمد قوتها وقدرتها على أداء مهامها من إله الشمس. وهذا يعني أنها ليست إلا ظلالاً للقدرة الإلهية الواحدة التي يجسِّدها قرص الشمس. النص قصير، وهذه ترجمة لبعض سطوره:



    أنت نور الآلهة العظمى، نور الأرض الذي يضيء العالم

    تعطي الوحي والإلهام، وفي كل يوم تصنع قرارات السماء والأرض

    شروقك نار باهرة تكسف كل النجوم

    وأنت المتألِّق الذي لا يضاهيه أحد من الآلهة

    آنو وإنليل لا يصدِران قراراً دون موافقتك

    وإيا صاحب أقدار الأعماق ينظر وجهك ويعتمد عليك

    أنظار الآلهة جميعاً شاخصة في انتظار شروقك.[17]



    قبل أن أختم شواهدي النصِّية أعود إلى النصوص المصرية، لأنتخب منها درَّة من دُرَر التراتيل التوحيدية، وهي ترتيلة مرفوعة للإله آمون، من حوالى عام 1300ق.م.



    هو الذي ظهر إلى الوجود في الأزمان البدئية

    آمون، الذي جاء إلى الوجود في الأزمان البدئية

    طبيعته خفية، وغامضة لا يُسبر غورها

    لم يأتِ إلى الوجود إله قبله، ولم يكن معه أحد

    لم يكن معه، في ذلك الوقت، إله ليخبرنا عن شكله

    بلا أم ينتسب إليها، بلا أب يقول: هذا أنا

    صنع البيضة التي خرج منها بنفسه

    روح غامضة في ميلادها، صنع جماله بنفسه، وصنع الآلهة

    مكتنَف بالأسرار، متألِّق في الظهور، وأشكاله لا حصر لها

    يتفاخر الآلهة بانتمائهم إليه، ويَظهرون من خلال جماله

    هو آتوم العظيم المقيم في هيليوبوليس، ورع متواحد بجسمه

    يدعى تانتين، ويدعى آمون الذي ولد من نون [= المياه الأولى]

    هو أجدود الذي أنجب الآلهة البدئية التي ولدت رع

    بداءة الوجود

    روحه في السماء، وهو في العالم الأسفل، ويحكم المشرق

    روحه في السماء، وجسمه في الغرب، وتمثاله في هيرموتيس يبشِّر بظهوره

    واحد هو آمون، وخافٍ عليهم جميعاً

    محجوب عن الآلهة ولا يعرفون لونه

    إنه بعيد عن السماء، ولا يُرى في العالم الأسفل

    لا يعرف أحد من الآلهة شكله الحقيقي

    صورته لا ترسمها الكتابة، وما له من شهود

    من تلفَّظ باسمه، سهواً أم عمداً، يموت من ساعته

    ولا يعرف إله كيف يتوجَّه إليه باسمه

    جَمْعُ الآلهة ثلاثة: آمون ورع وبتاح

    ولا ثاني لهم

    هو الخفيّ باسمه آمون

    وهو الظاهر باسمه رع

    وهو المتجسِّد باسمه بتاح.[18]



    لا أعتقد بأن الفكر التوحيدي اللاحق لهذه الترتيلة قد أضاف جديداً إلى ما ورد فيها من تصوُّرات سامية. ولعل أهم ما يميِّزها عن بقية التراتيل المصرية هو تجاوزها للمفهوم التوحيدي التقليدي إلى مفهوم صوفي يذكِّرنا بالمفاهيم الصوفية المتأخِّرة حول علاقة الذات الخافية بأسمائها وصفاتها، وعلاقة الكون المخلوق بالذات الخافية من خلال تجلِّياتها بالأسماء والصفات. كما تلفت نظرنا بشكل خاص فكرة الإله الواحد المثلَّث التي وردت في نهاية الترتيلة، حيث ورد القول بأن "جمع الآلهة ثلاثة ولا ثاني لهم"، ولم يرد "جمع الآلهة ثلاثة ولا رابع لهم". وهذا يعني أن الإله الواحد مؤلَّف من: الخفي والظاهر والمتجسد. ثلاثة في واحد.

    أكتفي بهذا القدر من الأمثلة التي لا يتيح المجال هنا لأكثر منها، لأخلص إلى القول بأن إنسان الشرق القديم لم يكن يأخذ مسألة تعدُّد الآلهة على محمل الجد، ولم تكن الآلهة المتعدِّدة بالنسبة إليه إلا وجوهاً متكثِّرة للقدرة الإلهية الواحدة. لقد آمن بألوهة منزَّهة يتوسَّل إليها من خلال إله مشخَّص هو إله المدينة أو الإقليم، الذي رأى فيه التعبير الأسمى عن فكرة الألوهة المزروعة في ضمير الإنسان، والسابقة لأي تصوَّر يشخِّص هذه الألوهة ويحدِّدها في كائنات روحانية متفوقة.

    يقودنا هذا الاستنتاج إلى القول بأن مفهوم مجمع الآلهة ليس مفهوماً دينياً بقدر ما هو مفهوم سياسي. فلقد ظهر مجمع الآلهة عقب ترسيخ السلطة المدنية في دويلات المدن وتوسُّع بعض هذه الدويلات عن طريق ضمِّها لأقاليم ريفية مجاورة لم تكن خاضعة من قبل لأية سلطة سياسية مركزية، ثم محاولتها أيضاً ضمّ وإلحاق دويلات–مدن أصغر منها وأضعف. وهذا ما قاد في النهاية إلى قيام الإمبراطورية. ورغم أن مفهوم مجمع الآلهة pantheon قد ساعد على توحيد الجماعات القروية والمدنية التي دخلت تحت لواء حكم مركزي سياسي، والتي يؤمن كل منها بإله خاص يجسِّد عنده مفهوم الألوهة، إلا أنه بقي بمثابة بنية توفيقية تحاول من خلاله كل عبادة محلِّية توكيد سلطة وعلوِّ إلهها الخاص، وترى فيه الإله الأعلى المسيطر على بقية أعضاء المجمع.

    إن استعراض الخصائص والصفات التي عزَتْها الصلوات والتراتيل، كلّ منها إلى إلهها المعني يُظهِر مدى تشابه التعابير والمصطلحات والأوصاف التي استخدمتها في مخاطبة ذلك الإله فهو:

    - ملك الآلهة جميعاً وربّ السماوات والأرض

    - صاحب الكلمة النافذة، ولا مبدِّل لكلماته إلى أبد الدهور

    - يسجد له آلهة الأرض وآلهة السماء ويقبِّلون الأرض أمامه

    - بيده النواميس الإلهية وألواح الأقدار، وإليه تتوجه قلوب البشر

    - ربّ الناس وجميع الكائنات الحية ومصدر حياتهم

    - ربّ الخصب المسؤول عن تأمين معاشر البشر وبقية الأحياء

    - أفعاله خافية عن أفهام البشر والآلهة

    - منه يستمدّ بقية الآلهة مقدرتهم على أداء مهامهم

    - يُعبَد في جميع المعابد المكرَّسة لآلهة المدن المحلية

    - إلخ…

    ولما كان من المستحيل على كل الآلهة الرئيسية أن تمتلك معاً هذه الخصائص والصفات، فإن فكرة مجمع الآلهة تنحلّ في الواقع إلى مفهوم عام وفضفاض، لا يملك تأثيراً فعلياً في الحياة الدينية على المستوى العام والشامل. إذ ماذا يبقى من فكرة المجمع إذا كان كل عضو فيه هو الأعلى مكانة، وإذا كان أعضاؤه يقبِّلون الأرض أمام هذا الإله تارة وأمام ذاك تارة أخرى؟ وما الذي يبقى أيضاً من مفهوم رئيس المجمع، الذي هو آن عند السومريين وآنو عند الأكاديين، إذا كانت كل صلاة تخاطب الإله المعني باسم آن أو آنو؟ لقد خاطبت الصلاة المرفوعة إلى سِنْ، الإله بقولها: "أنت آنو السماء. ومشيئتك الخافية لا يعرفها أحد." وخاطبت الصلاة المرفوعة إلى إنانا، إلهتها بقولها: "أنت أعظم من كبير الآلهة آن." (سطر 59) وخاطبت الصلاة المرفوعة إلى نانا، إلهها قائلة: "أيها الأب نانا، الربّ الكبير آنو، بطل الآلهة." (سطر 3) وهذا يعني أن فكرة رئيس مجمع الآلهة لم تؤخذ على محمل الجد، مثلما لم تؤخذ فكرة تعدُّد الآلهة على محمل الجد أيضاً، وأن أهل كل عبادة كانوا يرون في إلههم رئيساً لذلك المجمع. وبذلك يتم تفريغ ما يدعى بـ"الوثنية" من مضامينها التي خلقتها أفكارنا اللاحقة عنها.

    إن ما يبدو لنا بوضوح، ونحن نلقي هذه النظرة العلمية الحيادية على معتقدات الشرق القديم، ومن موقع غير متأثِّر بأفكار وبمواقف مسبقة، هو أن هذه المعتقدات قد طوَّرت منذ فجر التاريخ مفهوماً مجرَّداً عن الألوهة المطلقة المنزَّهة التي لا يحدُّها إطار ولا تتجسَّد في شكل أو هيئة. وبما أنه لابدّ للإنسان في تعامله مع فكرة الألوهة من وسيط يلخِّصها في عقله ويُمَوْضِع تجربته الداخلية معها في الخارج، فقد ابتكر مفهوم الإله الأعلى الذي خلق نفسه بنفسه وخلق السماوات والأرض وكل نفس حيّة وخلق بقية الآلهة وأوكل إليهم مهمَّات ومجالات فعل ونشاط. لقد ارتبطت فكرة الألوهة بالسماء نظراً لما توحيه القبّة الزرقاء من إحساس بالاتّساع واللانهاية وتجاوز الحدود والأطُر. ثم تجسَّدت في إله أعلى هو إله السماء ورئيس لمجمع الأرباب. إلا أنها بقيت في ضمير الإنسان بمثابة البعد غير المرئي للوجود والقاع الكلي الذي يقوم عليه عالم المظاهر المرئية ويستمد منه كيانه وصيرورته.

    إن الإله آنو أو إيل أو رع، هو فكرة مجردة تحوَّلت إلى إله على هذه الدرجة من التشخيص أو تلك. وكان كل إله من آلهة العبادات المختلفة يعتبر بمثابة آنو العظيم ويُعبَد على أنه الألوهة المطلقة وقد تجسَّدت في شخصية إلهية، من شأنها جعل المطلق قريباً وحاضراً بين الناس، بؤرة يلتقي عندها المتناهي باللامتناهي، وعالم اللاهوت بعالم الناسوت. وبما أن ثقافات الشرق القديم قد بقيت حتى فتراتها المتأخرة تعبِّر عن حكمتها من خلال الميثولوجيا، لا من خلال المفاهيم العقلية والمصطلحات الفلسفية القائمة على التأمُّل المنهجي، فإن معتقداتها الدينية بقيت مغلَّفة بغلالات كثيفة من التصورات الميثولوجية التي تحجب جوهرها وحقيقتها. وهذا ما يفرض على دارسها مزيداً من الانفتاح وسعة الأفق، والتخلي عن الأفكار المسبقة والمغلوطة عن "الوثنية" باعتبارها جاهلية التاريخ الديني للإنسان.

    ولعل متابعة ما ندعوه بـ"الفكر الوثني" في ثقافات أخرى امتد بها العمر، وعاشت في تواصل مع نفسها وجدليَّاتها الداخلية حتى العصور الحديثة، تكشف لنا حقيقة ما لمسناه في "وثنية" المشرق القديم من مفاهيم صلبة تقبع تحت الشكل الأدبي للخيال الأسطوري. من هنا، فإن الجزء الأخير من هذه الدراسة سوف يأخذنا في نزهة قصيرة إلى الشرق الأقصى نستكشف من خلالها، وفي حدود أغراض هذا البحث، أديان ومعتقدات بعيدة عنا كل البعد زمنياً وجغرافياً، لكنها قريبة بالقدر الذي تشفّ عنه وحدة التجربة الروحية للإنسان. لقد طوَّرت تلك الأديان والمعتقدات نظماً من "المفاهيم الذهنية" التجريدية التي ألقت الضوء على المضامين الفلسفية لميثولوجيّتها. وهذا ما يجعلها أقرب تناولاً بالنسبة للعقل الحديث، ويعطي مشروعية لعملية إجراء المقارنة بين المضامين الفلسفية لميثولوجيّتها ومضامين ميثولوجيّات الشرق القديم التي لم تجرِ صياغتها ضمن نظم من المفاهيم الذهنية التجريدية.

    في الثقافة الصينية، لم يأخذ الصينيون عبر تاريخهم مسألة الألوهة المشخَّصة بشكل جدي، ولم يظهروا ميلاً لاعتبار الكون مخلوقاً من قبل شخصية إلهية تتحكَّم بالكون كما يتحكَّم الملك الأرضي بدولته ورعاياه، بل لقد رأوا في الكون ما يشبه الجسد الحي الذي يقوم على تنظيم نفسه بنفسه، وفق آلية ضبط ذاتي.[19] ومع ذلك فقد حفلت الديانة الصينية التقليدية بالآلهة من شتى المراتب والدرجات والاختصاصات. غير أن ما يلفت النظر في أمر هذه الآلهة الصينية هو أنها لا تبدو لنا كشخصيات إلهية ذات وظائف محدَّدة ودائمة، وإنما ككائنات شبحية غير محدَّدة الملامح، تكتسب قوتها من قوة المنصب الإلهي الذي تشغله. فالوظيفة الإلهية هنا هي الثابتة، أما شاغلوها فمتغيِّرون ومتنقِّلون. ففي كل إقليم من الأقاليم الصينية الكثيرة يتم توزيع الوظائف والاختصاصات (كتصريف الرياح وإنزال المطر وقدح البرق وما إليها) بشكل مختلف عن الإقليم الآخر. فإله الرياح في هذا المكان قد يكون إلهاً للأنهار والينابيع في مكان آخر، وإله الرياح هناك قد يكون إلهاً للمطر هنا. وأكثر من ذلك، فإن وضع كل إله في الإقليم نفسه غير ثابت، وعرضة للتغيُّر والتبدُّل. فقد يتم أحياناً ترفيع إله ما إلى مقام أعلى، أو تخفيض مرتبته، أو حتى صرفه من الخدمة نهائياً.[20]

    أما المصدر الحقيقي لقدرة الآلهة الصينية، فهو مفهوم مجرَّد عن ألوهة غير مشخَّصة تتمثَّل في قوة السماء التي يدعونها تي–ين، والتي عُبِدت في الصين منذ أقدم الأزمنة (قارن مع مفهوم نِتِر المصري). وقد تصوَّر الصينيون هذه الألوهة باعتبارها قوة شاملة غير متجسِّدة في إله، تشغل الجهة العليا من قبة السماء، وهي أبعد ما تكون عن التصورات الميثولوجية للإله الأعلى الذي يسيِّر الكون ويديره، لأنها غير مشخصة ولا تتصل بالناس عن طريق كهَّان أو رسل يشرحون إرادتها ويوصلون إليهم شرائعها. فإذا ما أراد الناس فهم مشيئة قوة السماء، كان عليهم أن يلجأوا إلى التواصل معها عن طريق تقنيات الاستخارة والتنبُّؤ والتنجيم. لقد تصوَّر الصينيون قوة السماء بمثابة القوة العظمى التي تعتلي هرم القوى المتجزئة والمنبثَّة في العالم. وهذه القوى المتجزئة يمكن أن تحلّ في شخصيات إلهية معينة، على عكس القوى العظمى الخافية التي تُمِدُّها بالقدرة على الفعل.[21] وعندما يتم تصوُّر قوة السماء بشكل مجرَّد تماماً، وبمعزل عن القبة الزرقاء التي اعتُبِرت أحياناً مظهرها المرئي، فإن مفهوم الـ تي–ين يلتقي مع مفهوم آخر للقوة الإلهية المجردة هو: التاو Tao.

    لعب مفهوم التاو الدور الأهم في الفكر الديني والفلسفي الصيني منذ البدايات المبكرة لتاريخ الصين. ونستطيع متابعة التعبيرات الأولى عن هذا المفهوم وتطوراتها اللاحقة من خلال أشهر كتب الحكمة الصينية المعروف بـ كتاب التغيرات (بالصينية: إي تشنغ، ويكتبه الغربيون I Ching) الذي ساهم عدد من العقول المتميِّزة عبر تاريخ الصين بالتعليق والشرح على متنه، ومنهم كونفوشيوس. يُرمَز لمفهوم التاو في الفكر الصيني بدائرة فارغة هي المبدأ الأول القائم قبل ظهور الموجودات، كما يُرمَز إليه بدائرة تتناوب في داخلها مساحتان متداخلتان، واحدة بيضاء والأخرى سوداء، هي المبدأ الأول بعد ظهور الموجودات عنه (انظر الشكل أدناه). ففي داخل دائرة التاو الفارغة ظهرت قوتان متناوبتان في الحركة، هما قوة الـ يانغ الموجبة وقوة الـ ين السالبة. وعن دوران القوتين بعضهما على بعض ظهرت الموجودات.



    [



    إن الخط الفاصل بين المساحتين في الدائرة، يعبِّر عن ظهور المتناقضات والمتعارضات إلى حيِّز الوجود. فهذا الخط الذي ميَّز القوتين الواحدة منهما عن الأخرى أحدث شرخاً في الفراغ الأزلي المتماثل، وقسمه إلى أعلى وأسفل، ويمين ويسار، وأمام وخلف. لقد ظهر المكان من رحم الهيولى، وانحلت الوحدة السابقة إلى مظاهر ذات قوى متعارضة ومتجاذبة في الوقت نفسه.[22] إن كل ما في الكون هو مزيج من طاقة موجبة وطاقة سالبة. فإذا غلب الـ يانغ كان الشيء ذا طبيعة موجبة، وإذا غلب الـ ين كان الشيء ذا طبيعة سالبة. لهذا جرى تصوير القسم الظليل من دائرة التاو وفيه نقطة منيرة، وتصوير القسم المنير وفيه نقطة ظليلة. فلا الـ يانغ يتجلَّى في حالته الصرفة ولا الـ ين كذلك، لأنه في كل إيجاب شيء من السلب وفي كل سلب شيء من الإيجاب. كما اتخذ القسمان الظليل والمنير وضعاً حركياً دورانياً يدل على التناوب الأبدي بينهما.[23]

    إن ما قدَّمته لنا نصوص الشرق القديم من خلال الصور والأفكار الميثولوجية لا يبتعد في مضامينه الفلسفية عن هذه المضامين التي عبَّر عنها الفكر الشرق أقصوي بلغة المفاهيم concepts. فلقد آمن إنسان الشرق القديم بألوهة خافية شاملة لا تتجسَّد في شخصية إلهية، ثم رأى في قبة السماء التي توحي بالاتساع واللانهاية المظهر المرئي لتلك الألوهة، ثم جسَّد هذا المظهر المرئي في إله مشخَّص هو إله السماء الذي صار رئيس مجمع الآلهة: ايل أو آنو أو رع. ولكن هذا الإله بقي مجرَّد شاغل منصب، وفكرة مجسَّدة في شخصية إلهية. من هنا كان باستطاعة أي إله محلِّي قوي أن يُرفَع إلى هذه المرتبة العليا وينظر إليه على أنه الإله الأعلى وسيِّد مجمع الآلهة. وتبقى مسألة التعدُّدية في جدليَّتها مع الواحدية، أو الواحدية في جدليَّتها مع الألوهة المطلقة الخافية، مجرد ترميز لتجربة الإنسان الروحية، وينبغي ألا تؤخذ بحرفيَّتها وتعبيراتها الميثولوجية الظاهرية.

    وتقدم لنا الديانة الهندوسية مثالاً أكثر وضوحاً على جدليَّة معتقد الشِرْك بمعتقد التوحيد، وعن كونهما وجهان لمعتقد واحد باطنه التوحيد وظاهره التعدُّد. لقد تمتعت الهندوسية بتاريخ طويل غير منقطع، وتطورت عبر عشرات القرون منذ الألف الثاني قبل الميلاد إلى يومنا هذا، محافظة على روحها وزخمها. فبينما تلقت ديانات غرب آسيا من فارس إلى مصر ضربة قاصمة من الفكر الهيليني منذ فتوح الإسكندر (التي تعتبر بمثابة نهاية لما يدعى بتاريخ الشرق القديم)، تبعتها ضربتان أكثر إيلاماً جاءتا من المسيحية ثم الإسلام، فإن الديانة الهندوسية قد تمتعت بكل الوقت اللازم من أجل تطوير نفسها، والتعبير عن معتقداتها بصيغ تجاوزت أساليب التعبير الميثولوجي البحت، واكتسبت طابعاً حِكْموياً من غير أن تتحول إلى فلسفة عقلية صارمة على الطريقة الإغريقية. ورغم أن الميثولوجيا قد بقيت بمثابة القالب الرئيسي الذي حافظ على المعتقدات الهندوسية وانتقل بها من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر، إلا أن الحكماء الهندوس استطاعوا على مرّ القرون تطوير نظام متماسك من المفاهيم الذهنية، عمل يداً بيد إلى جانب الميثولوجيا. ومنذ مطلع القرون الميلادية ظهرت مدارس فكرية متعدِّدة عملت على شرح وتوضيح المضامين الخافية خلف الأردية الفضفاضة للميثولوجيا الهندوسية. وهذا ما لم يتيسَّر لحكماء ثقافات غرب آسيا من بابليين وسوريين ومصريين.

    تُعتبَر الفترة الممتدة بين القرن السادس والقرن الأول قبل الميلاد بمثابة العصر الكلاسي للفكر الفلسفي والديني الهندي. فخلال هذه الفترة تم إرساء القواعد الأساسية للاتجاهين الرئيسيين في الفكر الديني الهندي وهما: اتجاه مستقيمي الرأي (الأورثوذكس) واتجاه الهراطقة. ومن حيث المبدأ، فإن الخلاف الرئيسي بين الاتجاهين يدور حول سلطة أسفار الـ فيدا Veda وقداستها. فبينما يعلي الاتجاه الأول المستقيم من شأن الـ فيدا ويعتبرها بمثابة الوحي المنزَل. فإن الاتجاه الثاني لا يحفل بها ولا يقيم لها وزناً يذكَر. وأسفار الـ فيدا، بشكلها الحالي الذي وصل إلينا، تعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد. وهي تحتوي على خلاصة المعتقدات والطقوس الدينية للجماعات الآرية (= الهندوربية) التي استوطنت شمال الهند منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وفرضت سيطرتها تدريجياً على شبه القارة الهندية قبل أن تذوب تماماً في خضمِّها السكاني. لقد ابتدأ الاتجاه الهرطقي برفض الآلهة المتعدِّدة الموروثة عن الآريين، ثم انتهى به الأمر إلى رفض فكرة الإله بحد ذاتها، مطوراً مفهوماً لاإلهياً في الدين (= atheistic). وقد نشأ عن هذا المفهوم بعد ذلك كل من الديانتين الجاينية والبوذية، اللتين لا تحفلان بالآلهة ولا تريان فيها سوى كائنات خاضعة لشروط هذا العالم الفاني، رغم كونها أكثر قوة وقدرة من جنس البشر، ناهيك عن عدم إيمانهما بوجود إله خالق أعلى. ويبدو أن جذور هذا الاتجاه الرافض للتعدُّدية موجودة في سياق الأفكار الدينية التقليدية لأسفار الـ فيدا. ففي هذه الأناشيد القديمة نتعرف إلى مجموعة من الآلهة التي يتحكَّم كل منها بظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة، ولكن كل واحد منها يلعب دور الإله الأعلى عندما تتوجَّه إليه الصلوات بالشكر والثناء والتسبيح.[24] ورغم أن الإله إندرا نال الحظ الأوفر من صلوات الـ فيدا باعتباره سيد الآلهة ورئيس مجمعهم، إلا أننا نجد في بعض الصلوات مقاطع تستهين بقوته وتلقي ظلالاً من الشك حتى على وجوده. كما نلاحظ في بعض أسفار الـ فيدا، وعلى وجه الخصوص في الأقسام الأخيرة من الـ رج فيدا Rig-veda، إشارات إلى إله غير معلوم يحيط بالكون والكائنات جميعاً. وهو الذي ظهر بقواه الخاصة قبل أن يوجد شيء وتنفس بغير هواء. كما نجد أيضاً إشارات متفرقة إلى نظام خفي للكون يخضع له الكل، بما فيهم الآلهة أنفسهم.[25]

    ورغم أن الهندوسية الكلاسية قد تطورت عن الاتجاه المستقيم، إلا أنها تبدي تحرراً واضحاً من أية دوغمائية تتعلق بطبيعة الإله. وجوهر الدين عندها لا يقوم على الاعتقاد بآلهة بعينها أم بإله واحد، بل على عدد من الأفكار التي لا يصحّ دين الهندوس بغيرها، والتي تجمع مختلف الطوائف الهندوسية على أرضية واحدة مشتركة. أول هذه الأفكار (أو المعتقدات) هو العَوْد للتجسُّد reincarnation، وثانيها هو الـ كارما karma، أي العمل وجزاؤه. فالروح تنتقل من جسم إلى جسم بالموت. والحالة الجديدة التي تصير إليها تتوقف على طبيعة أفعالها في الأعمار السابقة التي توالت عبر ماضٍ لا تُعرَف له بداية، وستتوالى أيضاً في مستقبل لا تُعرَف له نهاية. إن تصرفات الفرد وأفكاره وكلماته ستكون لها تبعات أخلاقية تحدِّد مستقبل حياته الأخرى بعد الممات، مثلما تحدَّدت حياته الحالية بما تم من أفعال في الحياة السابقة. فالروح تنتقل من جسم إلى آخر في دورة أزلية تدعى سمسارا Samsara. وهذه الدورة تتجاوز الإنسان لتطال عالم الظواهر المادية بأكمله. فالزمن عبارة عن عجلة تدور على نفسها، كلما بلغت دورة منتهاها عادت إلى نقطة البداية. ومع كل دورة يفنى الكون راجعاً إلى مياه السرمدية التي نشأ عنها، ثم يعود إلى الوجود مرة أخرى، وهكذا إلى ما لانهاية. ومع ذلك، فإن الانعتاق (= موكشا moksha) من هذه الدورة ممكن للفرد. وهذا الانعتاق هو بؤرة الحياة الدينية عند الهندوسي والغاية التي يطمح إليها من وراء كدحه الروحي. ولكن الطوائف الهندية تختلف في كيفية تحقيق هذا الانعتاق وفي الحالة التي تصير إليها الروح التي تحررت من دورة الولادة والموت.[26]

    يدعو الهنود دينهم بالـ دهارما الخالد Sanatana Dharma، أي سُنَّة الكون الأبدية. وهذه السُنَّة تعني القانون الأخلاقي الذي يحكم علاقات البشر، كما تعني أيضاً القانون الثابت الذي يحكم الكون برمَّته. وبالمعنى الثاني للـ دهارما، تتطابق سُنَّة الكون مع ما نفهمه اليوم من مصطلح القانون الطبيعي، ولكن مع فارق أساسي، وهو أن هذا القانون بالنسبة للفكر الهندي لا يقوم بذاته، وإنما يستند إلى مستوى أعمق للوجود، هو الأرضية السرمدية لكل عرض متغيِّر، ويدعى برهمن Brahman: القاع الكلي غير المشخَّص للوجود، الذي يصدر عنه الكون بكل مظاهره كما تصدر عنه جميع النفوس التي تقيم في الأجسام الحية من كل نوع، وفي الآلهة المتعدِّدة من كل نوع أيضاً. تدعى هذه النفوس الموزعة بين الخلائق أتمان atman. وهي، على تباينها الظاهري، ليست في حقيقة الأمر سوى نفس واحدة هي نفس برهمن المطلق. فمن أفلح في الانعتاق من دورة الـ سمساراأأأأأأ يلتحق بالنفس الكلية هذه ويذوب فيها. ويأتي الانعتاق عن طريق التزام القانون الأخلاقي من جهة، والكدح في سبيل معرفة الحقيقة من جهة أخرى. إن الجهل والعمل السيء يقودان إلى حلول صاحبهما في أرذل أجسام المخلوقات الحية، أما المعرفة والعمل الصالح فيقودان صاحبهما صُعُداً في سلَّم مراتب الكائنات حتى الحلول في الأشكال الإلهية. غير أن حلول الروح في كائن إلهي لا يعني نهاية المطاف، لأن الكائنات الإلهية واقعة مثل البشر في إسار هذا العالم المادي، ومحبوسة أيضاً في دورة الولادة والموت، وعليها أن تكدح في سبيل الخلاص والانعتاق.[27]

    وبهذا تتحصل لدينا ستة مفاهيم أساسية في المعتقد الهندوسي وهي:

    1. سمسارا: الدورة السببية الكبرى، والعالم الذي تتقمَّص فيه أرواح الكائنات

    2. كارما: العمل، وتبعاته الأخلاقية

    3. دهارما: السُّنة الكونية

    4. موكشا: الانعتاق من دورة السببية

    5. برهمن: المطلق، اللامتغيِّر السرمدي الذي يشكِّل القاع الكلي للوجود

    6. أتمان: النفس المتجزِّئة في الكائنات، والنفس الكلِّية في آن معاً.

    ومادامت الأرواح واقعة في إسار المادة ودورة الولادة والموت، فإنها لا تستطيع التعرُّف على الألوهة المطلقة برهمن إلا من خلال قناع تظهر به في هذا العالم، وهو قناع الإله الأعلى المدعو شيفا أحياناً، وفيشنو أحياناً أخرى. أما عندما تفلح الروح في الانعتاق، فإن الوهم الكبير ينجلي وتبدو مظاهر الكون المتنوِّعة والمتجزِّئة وقد توحَّدت في المطلق العظيم. كما يظهر الإله الأعلى المشخَّص، الذي عرفته النفوس خلال دوراتها في الـ سمسارا، على حقيقته: برهمن.[28]

    هذه الصياغة الحِكْموية للمعتقدات الهندوسية تقدم لنا عوناً كبيراً على فهم المعتقد الوثني بشكل عام، ووثنية ثقافات الشرق القديم بشكل خاص. فالآلهة المتعدِّدة ليست إلا وجوهاً للإله الواحد الشمولي. وهذا الإله الواحد ليس إلا تعبيراً عن إحساس أعمق بفكرة الألوهة المطلقة، التي لا تتمثَّل في كائن إلهي من أي نوع. هذا ما قالته لنا نصوص الشرق القديم التي قدَّمنا نموذجاً عنها أعلاه.



    خاتمة

    إن الأصل في الدين هو إحساس متجذِّر في أعماق النفس الإنسانية، إحساس بحضور فائق مختلف عنا وعن ما يحيط بنا، ومتِّصل به أعمق اتصال في الوقت ذاته، حضور تام كامل وكلِّي، ثابت لا يتغيَّر، به تقوم المتغيِّرات ومن ثباته تنشأ المتحوِّلات. وعندما نُخضِع هذا الإحساس للتأمُّل والتفكُّر، تنشأ في الذهن فكرة الإله الواحد التي تتوسَّط بيننا وبين ذلك الحضور القدسي الذي لا نستطيع التعبير عن مواجهتنا الداخلية معه إلا بتوسيط الصور والرموز. هذه الصور والرموز تعني: الميثولوجيا. ومع الميثولوجيا تظهر الآلهة الأخرى إلى الوجود باعتبارها كائنات روحانية تنشأ عن الواحد، ولكنها تخضع لقانون الصيرورة الذي يسري على ما سوى الله. وهذه الكائنات تشترك مع الإنسان بكونها مخلوقة في أوقات معينة من صيرورة التاريخ المقدس، ولكنها تتميَّز عنه بقدراتها غير المحدودة في مجال اختصاصاتها وصلاحياتها، على عكس الواحد الذي أنجب نفسه من العدم، أي منذ الأزل، لأن العدمية والأزلية متطابقان ماداما الحالة التي تسبق انطلاق الزمن. وبتعبير آخر، فإن الإله الواحد هو قناع يبدو به المطلق في الزمن وفي التاريخ. ولكن الزمن والتاريخ يأتيان إلى نهايتهما المحتومة في كل النظم الدينية والميثولوجية. وعندما يأتي الزمن والتاريخ إلى نهايتهما يسقط القناع ويبدو الإله الواحد نفسه بلا ضرورة أو وظيفة، ووهماً من أوهام الصيرورة، عندما تؤول الحيوات والأكوان إلى المطلق العظيم الذي نشأت عنه.

    يدعو الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي هذا القناع بالإله "المجعول". وهو يعني بهذا التعبير تلك الصورة التي نكوِّنها لأنفسنا عن الألوهة. وبما أن هذه الصورة ليست إلا وسيطاً بيننا وبين المطلق، فإنها لا تختلف كثيراً عن الوثن. إنها "وثن" من نوع فكري. وهذه بعض أقوال الشيخ، أقتبسها من فصوص الحكم ومن الفتوحات المكية: "وبالجملة فلابدّ لكل شخص من عقيدة في ربِّه يرجع بها إليه ويطلبه فيها، فإن تجلَّى له الحقُّ فيها أقرَّ به، وإذا تجلَّى له في غيرها أنكره […] فلا يعتقِد مُعتقِد إلهاً إلا بما جعل في نفسه. فالإله في المعتقدات بالجَعْل، فما رأوا إلا نفوسهم وما جعلوا فيها." (فصوص الحكم 10/13) وأيضاً: "فلا يشهد القلب ولا العين أبداً إلا صورة معتقده في الحق." (فصوص الحكم 12/7) وأيضاً: "فليس ثمة إلا عابد وثناً" (الفتوحات 4/186).

    من خلال هذا المنظور، تذوب الحدود الفاصلة بين معتقد الشِرْك ومعتقد التوحيد، وتنمحي الفواصل بين معتقد التوحيد هذا ومعتقد التوحيد ذاك. لأن أي إله، واحداً كان أم متعدِّداً، ليس إلا صورة ذهنية تقف بيننا وبين الوجه الآخر للوجود: الوجه السرمدي الحقّ، الثابت الذي يسند كل متغيِّر ويعطيه صورته. وصورة كل موجود هي صورة وهمية زائلة ما تلبث أن تنطفئ في اللُّجة التحتية التي نشأت عنها. إن الوجود بوجهيه، النسبي والمطلق، أشبه بلُجِّ الغمر العظيم. في السطح تنشأ الأمواج وتنطفئ في حركة دائبة. لكل موجة شكل وقوام وهيئة وهمية توحي بالكيان المستقل إذا نظرنا إليها في صورة فوتوغرافية ساكنة، لكنها ليست في حقيقة الأمر إلا تجمُّعاً عابراً لمجموعة مكوِّنات ما تلبث أن تنحلّ وتؤول إلى الزوال. أما في أعماق الغَمْر العظيم، فلا يوجد إلا السكون والثبات الذي تقوم به كل التغيُّرات الوهمية عند السطح.

    إن ما طرحته من خلال هذه الدراسة. هو مجرَّد مدخل جديد لفهم ما يدعى بـ "الوثنية" عموماً، ووثنية المشرق القديم خصوصاً. وبما أن نظريتي هنا قائمة على استقراء وقائع ملموسة وتفسيرها، لا على تأملات فلسفية مجرَّدة، فإنها نظرية علمية خاضعة للنقد وتسلِم نفسها للإثبات أو للنفي. وكلِّي أمل في أن تجد هذه الأفكار من يعمل على تطويرها من خلال نقد علمي بنّاء، لأن الوقت لا يتيح لي أن أسير بها أبعد من ذلك.





    [1]Wallis Budge, Osiris and the Egyptian Resurrection, Dover, New York, 1973, vol.1, p. 357.

    [2] Wallis Budge, Egyptian Religion, Routledge, London, 1975, chap. 1.

    راجع أيضاً النص العربي للكتاب، الديانة القرعونية، بترجمة نهاد خياطة، دمشق، 1986. ص 13- 17.



    [3] Wallis Budge, Osiris, op. cit., pp. 350-357.

    [4] Ibid., p. 354.

    [5] Ibid., p. 356.

    [6] Wallis Budge, Egyptian Religion, op. cit., chap. 3.

    [7] Wallis Budge, Osiris, op. cit., 358.

    [8] كان ظهور نجم الشعري مؤشراً لابتداء فيضان النيل ولاستهلال الدورة الزراعية الجديدة التي تبتدئ بها السنة المصرية.

    [9] Ibid., vol. 2, pp. 277-278.

    [10] تبدو الأم الكبرى هنا بوجهها الأسود كسيدة للموت. لفهم هذا التناقض في شخصية الإلهة، راجع مؤلفي لغز عشتار، فصل "عشتار السوداء".

    [11]S. N. Kramer, “A Sumerian Hymn”, in James Pritchard, ed., Ancient Near Eastern Texts, pp. 573-576.

    [12] Ibid., pp. 578-579.

    [13]Ibid., pp. 579-581.

    [14] P.J. Stephens, “Sumerio-Akkadian Hymns and Prayers”, in James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, p. 384.

    [15] P. J. Stephens, ibid., p. 383.

    [16] P. J. Stephens, ibid., pp. 385-386.

    [17] P. J. Stephens, ibid., p. 387.

    [18] J. A. Wilson, “Egyptian Hymns and Prayers”, in J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, pp. 238-239.

    [19] Allan Watts, The Two Hands of God, Rider, London, 1978, pp. 66-67.

    [20]Ou. I. Tai, “Chinese Mythology”, in Larousse Encyclopedia of Mythology, p. 380.

    [21] G. Parrinder, World Religions, New York, 1984, p. 244.

    [22] قارن مع التصورات الميثولوجية لأسطورة التكوين البابلية، عندما كانت الآلهة الثلاثة البدئية منكفئة على نفسها في تناغم أزلي، وكيف انحلت هذه الدارة المغلقة فيما بعد إلى مظاهر الكون المختلفة.

    [23] بخصوص كتاب التغيرات، لدينا ترجمة عالمية معتمَدة عن الصينية هي ترجمة العلامة الألماني ريتشارد فلهلم التي نُقِلت إلى عدة لغات أخرى. انظر النص الإنكليزي:

    The I Ching, The Richard Wilhelm translation rendered into English by C. F. Baynes, Princeton, 1977.

    وبخصوص الأفكار الأساسية للتاوية، راجع: لاو–تسو، التاو تي تشينغ: إنجيل الحكمة التاوية في الصين، صياغة عربية للنص بتقديم وشرح وتعليق فراس السواح، دار علاء الدين، دمشق، 1998.

    [24] قارن مع ما خلصنا إليه من دراستنا للصلوات والتراتيل في ثقافات الشرق القديم في كتابنا الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، دار علاء الدين، دمشق، 1997، ص 207-210.

    [25] C. A. James, “Atheism”, in Encyclopedia of Religion, McMillan, London, 1987, vol.1, p. 480.

    حول فكرة النظام الخفي للكون الذي يخضع له الآلهة، أنظر أيضاً الفصل الثاني من كتاب: ألبير شوايتزر، فكر الهند، بترجمة يوسف شلب الشام، دار طلاس، دمشق، 1994.



    [26] P. C. Zaehner, Hinduism, Oxford, 1984, pp. 1-13.

    [27] Ibid., pp. 1-19.

    [28] Ibid., pp. 1-19.

    Reply With Quote  
     

  3. #3 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    الأسطورة والمعنى
    (1 من 2)
    فراس السواح


    لقد قلنا في تعريف الأسطورة بأنها ناتج انفعالي غير عقلاني. أي أنها تصدر عن حالة انفعالية تتخطى العقل التحليلي، لتنتج صوراً ذهنية مباشرة تعكس تلك العقلانية الكلانية بين الذات–الوعي والعالم–المادة. إلا أن الأسطورة ليست انفعالاً صرفاً لأنها توسِّط الأفكار في محاولتها للتعبير عن ذلك الانفعال ومَوْضَعَته في الخارج. فهي، والحالة هذه، نشاط يصدر عن ذهنية لم تتعلم بعد كيفية تجزئة موضوع معرفتها وتحليله ثم إعادة تركيبه. إنها نوع من الحدس بالكلِّيات يُمَوْضِع معرفته الكلية في صور ومشاهد وشخصيات مفعمة برموز ذات دلالات، بعضها يتصل بعالم الوعي وبعضها يتصل بعالم اللاوعي. من هنا فإنها لا تشكل "معرفة" بالمعنى الدقيق للكلمة. فكيف نستطيع اليوم اختراق هذه البنية الرمزية المعقدة من أجل الوصول إلى رسائلها الضمنية؟ وكيف يستطيع العقل الحديث التفاعل مع هذه التركة الثقافية الغريبة عنه كل الغرابة؟

    إننا أمام مشكلة تتعلق بالتفسير. فنحن، رغم إحساسنا اليوم بسطوة الأسطورة ونفاذها إلى أعماقنا لتودع رسالة ما هناك، فإننا غالباً ما نضيع عن فهم هذه الرسالة وإعادة صياغتها بطريقة خطية تنتقل من المقدمات إلى نتائجها. أما لب هذه المشكلة فهو أننا لا نستطيع تجاوز ذلك الناظم الأساسي للعقل الحديث، وأعني به ناظم "البرهان". فلقد أعادت الفلسفة الإغريقية، والفلسفة العربية من بعدها، تشكيل العمليات العقلية للإنسان المتحضر وفق قواعد البرهان المنطقي. ثم تابعت العلوم المختلفة التي استقلت عن الفلسفة هذه المهمة، فنشأ البرهان الرياضي والبرهان التجريبي بجميع صوره وأشكاله، مما قادنا إلى عصر المعلوماتية الراهن. وبما أن البرهان مرتبط عضوياً بعملية التحليل والتفكيك، وبالإدراك المجزِّأ لموضوع معرفته، فإنه أكثر ما يمكن بعداً عن "المنطق" الأسطوري الذي يحدس ولا يحلل، ولا يرى في الجزء إلا صورة عن الكل، وينظر إلى "البرهان" كشأن متضمن في عملية "البيان".

    إلى جانب هذا الانفصال النوعي بين العقل الحديث والعقل الميثولوجي، وهو انفصال يشعر به دارسو الثقافات التقليدية الحديثة، هنالك انفصال من نوع مضاف آخر يشعر به دارسو الثقافات القديمة، هو انفصال القِدَم والانقطاع. إن العالم القديم الذي أنتج الأساطير، وكانت بالنسبة إليه وسيلة تلاؤم وتوازن مع وسطه الفكري الداخلي ووسطه الطبيعي الخارجي، هو عالم بعيد عنا زمنياً، والعديد من حضاراته المنطوية في الزمن السابق قد ظهر أمامنا من تحت الآكام، ولم نكد نعرف عنه شيئاً ولا أسلافنا القدماء من قبلنا. فهذه الحضارات موغلة في القدم، من جهة، ومنقطعة عنا، من جهة أخرى. ولتوضيح مسألة الفرق بين القِدَم والانقطاع أقول بأن عصر الخلافة الأموية هو عصر بعيد عنا كل البعد ولكنه غير منقطع. فنحن متصلون به بسلسلة لم تنقطع واحدة من حلقاتها أبداً، ولم يأتِ في سياق الزمن الواصل بيننا وبينه وقت نسي فيه ناسُه خلفاء بني أمية أو أشعار وأخبار ذلك العصر. أما حضارة سومر، ومثلها إيبلا، فقد ظهرت لنا دفعة واحدة ولم نكن نعرف عنها شيئاً البتة قبل بضعة عقود من الزمان، ولم يكن الأقدمون منا يعرفون عنها أيضاً. فهي بعيدة ومنقطعة في آن معاً.

    ومما يزيد مسألة البعد والانقطاع تعقيداً أن الحضارات التي صنعت الأساطير لم تكن تنتظم في زمان ثقافي متصل ومتجانس، بل إنها تعاني أيضاً من مشكلة التباعد الزمني، والانقطاع بعضها عن بعض في أحيان كثيرة. فالحضارة الآشورية بعيدة عن الحضارة السومرية بُعد الحضارة الآشورية عنا. وسومر منقطعة عن آشور أكثر من انقطاع آشور عنا. لقد كان الآشوريون ورثة ثلاثة آلاف عام من حضارة وادي الرافدين، ومع ذلك فلم يكن بينهم متعلِّم واحد يعرف شيئاً عن الثقافة السومرية وتاريخها وملوكها. ولم تكن النصوص السومرية القليلة الموجودة في مكتبة آشور بانيبال إلا نسخاً عن أصول قديمة لا يعرف أحد شيئاً عن أصلها وفصلها.

    على أننا نجد بعض العزاء في أن المتأخرين من مفكري العالم القديم لم يكونوا في وضع أفضل منا عندما حاولوا تأمل عالم الأسطورة إبان الفترات الأخيرة من تاريخ الشرق القديم، بعدما اقتحمته الثقافة الإغريقية وأحدثت تغييرات عميقة في بنية وأساليب التفكير المشرقي. وهذه نقطة حساسة تتطلب بعض التوضيح بالأمثلة التي أورد أبرزها فيما يلي:

    برغوشا وأسطورة التكوين البابلية
    في القرن الثالث قبل الميلاد، عاش كاهن بابلي اسمه برغوشا، وضع العديد من المؤلفات باللغة اليونانية، وعُرِف باسمه اليوناني بيروسوس. ومن أهم مؤلفات هذا الكاهن كتاب ضخم عن تاريخ بابل وحضارتها، جمع فيه كل ما تنامى إليه علمه من أخبار تواترت إليه عن حضارة شعبه. ولكن هذا الكتاب الهام ضاع، وبقيت منه شذرات في بعض مؤلفات الكتَّاب الكلاسيين، بينها هذه الشذرة التي يتحدث فيها عن أسطورة التكوين البابلية فيقول:[1]


    في البدء لم يكن سوى الظلام والمياه. ثم ظهرت إلى الوجود مخلوقات عجيبة التكوين: رجال ذوو أجنحة ولهم وجهان بدل الواحد. وآخرون ذوو أجسام بشرية ولكن برأسين؛ رأس لامرأة ورأس لرجل. وكانت أعضاؤهم الجنسية مذكرة ومؤنثة معاً. وغيرهم لهم سيقان الماعز وقرونها، أو حوافر الخيل وذيولها. وبالمقابل، كان هنالك حيوانات شتى استعارت أعضاء بشرية، كما استعارت بعضها من بعض أيضاً. وفوق هؤلاء حكمت امرأة اسمها أموركا. والكلمة في اللغة الكلدانية تعني تامتي أي البحر. ثم جاء مردوخ–بل، فصارع المرأة وشطرها نصفين، فجعل من شطرها الواحد أرضاً ومن شطرها الثاني سماءً، وقبض على المخلوقات العجيبة التي تتبعها جميعهاً، وأحلَّ النظام في الكون. ولكن الأرض كانت خربة ومهجورة، فأمر مردوخ بخلق الإنسان من تراب ممزوج بدم إله قتيل ليملأ الأرض. ثم صنع الحيوانات بأجناسها. وبعد ذلك خلق النجوم والكواكب والشمس والقمر.

    مما لاشك فيه أن جزءاً لا بأس به من المعلومات المتعلقة بالمعتقدات البابلية القديمة عن أصل الكون والآلهة قد وصل إلى برغوشا. ولكن الأمر المؤكد هو أن نص أسطورة التكوين البابلية الأساسي، الذي بين أيدينا اليوم، والذي تحدرت منه هذه الشذرات التي أوردها، لم يكن متوفراً بين يديه. فرغم اتفاق رواية برغوشا في كثير من نقاطها مع الأسطورة الأصلية، إلا أن الاختلاف بينها واضح في كثير من الأحداث الرئيسية وترتيبها، وفي اختزال بعضها وغياب بعضها الآخر تماماً. والأهم من ذلك أن نص برغوشا قد قصَّر عن نقل جو الأسطورة ومراميها الأصلية. وهو يبدو لنا اليوم أشبه بتقرير صحفي لمراسل غير متخصص يتحدث عن لوح أثري تم اكتشافه حديثاً. إنه صورة عن فترة النزع الأخير لعالم الديانات الشرقية القديمة، بعد جفاف روحها وانقطاع أصولها.

    ولنقارن الآن نص برغوشا ببعض مقاطع الإينوما إيليش، أسطورة التكوين البابلية، التي يرجع نصها إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، لنلاحظ الفرق بين النص النثري التقريري والنص الأسطوري.[2]

    * برغوشا

    في البدء، لم يكن سوى الظلام والمياه.

    ** الإينوما إيليش

    عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء
    وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض


    لم يكن من الآلهة سوى آبسو، أبوهم

    وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعاً

    يمزجون أمواههم معاً

    * برغوشا

    ثم ظهرت إلى الوجود مخلوقات عجيبة التكوين. رجال ذوو

    أجنحة

    ... ... ...

    ** الإينوما إيليش

    الأم تعامة، خالقة الأشياء جميعاً

    أتت بأسلحة لا تقاوم، أفاعٍ هائلة

    حادة أسنانها مريعة أنيابها

    مُلئت أجسامها بدل الدماء سماً.

    أتت بتنانين ضارية تبعث الهلع

    توَّجتها بهالة من الرعب وألبستها جلال الآلهة.

    يموت الناظر إليها فَرَقاً

    خلقت الأفعى الخبيثة، والتنين، وأبا الهول

    الأسد الجبار، والكلب المسعور، والإنسان العقرب

    عفاريت العاصفة، والذبابة العملاقة، والبيسون.

    أحد عشرة نوعاً من الوحوش أظهرت إلى الوجود

    ... ... ...

    * برغوشا

    ثم جاء مردوخ–بل وصارع المرأة.

    ** الإينوما إيليش
    رفع الهراوة، أمسكها بيمينه


    وربط القوس والجعبة إلى جنبه

    ثم أرسل البرق أمامه

    وملأ جسمه بالشعلة اللاهبة.

    صنع شبكة يحيط بها تعامة

    وصرَّف الرياح تمسك بأطرافها

    ريح الجنوب وريح الشمال وريح الشرق وريح العاصفة.

    خلق الأمهيلو، الرياح الشيطانية، وخلق الإعصار.

    الرياح الرباعية والرياح السباعية والزوابع والرياح الداهمة.

    ثم أفلت الرياح التي خلق

    فهبت من ورائه وهاجت في إثره

    وقد حفت به الآلهة، حفت به الآلهة.

    تدافعت حوله الآلهة، تدافع آباؤه الآلهة.

    [وعند اللقاء في أرض المعركة]

    تلت تعامة تعويذتها وألقتها عليه مراراً وتكراراً

    فنشر الرب شبكته واحتواها في داخلها

    وفي وجهها أفلت الرياح التي تصطخب وراءه.

    وعندما فتحت فمها لابتلاعه

    دفع في حلقها الرياح الشيطانية فلم تستطع إطباقاً

    وامتلأ جوفها بالهواء العاصف.

    ثم أطلق الرب من سهامه واحداً فمزق أعماقها.

    فلما تهاوت أمامه أجهز على حياتها

    وبهراوته العتية فصل رأسها

    وقطع شرايين دمائها

    التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.

    * برغوشا

    وشطرها إلى شطرين جاعلاً من شطرها الواحد أرضاً
    ومن شطرها الثاني سماءً.


    ** الإينوما إيليش

    ثم اتكأ الرب يتفحص جثتها المسجاة

    ليصنع من جسدها أشياء رائعة.

    شقها فانفتحت كما الصدفة.

    رفع نصفها الأول وشكل منه السماء سقفاً

    وضع تحته العوارض وأقام الحرس

    ثم جال أنحاء السماء فاحصاً أرجاءها.

    استقام في مقابل الأبسو [= بحر المياه العذبة]

    قاس الأب أبعاد الأبسو

    وأقام لنفسه نظيراً له، بناءً هائلاً أسماه عيشارا [= الأرض]

    ... ... ...

    أخذ من لعاب تعامة

    فخلق الغيوم وحمَّلها بالمطر الغزير

    وخلق من لعابها أيضاً ضباباً.

    ثم عمد إلى رأسها فصنع منه تلالاً

    وفجر في أعماقها مياهاً

    فاندفع من عينيها نهرا دجلة والفرات

    ... ... ...

    ثم نزع عنها شبكته تماماً

    وقد تحولت إلى سماء وأرض.

    تعطينا هذه المقارنة السريعة صورة حية عن الإينوما إيليش، أسطورة أساطير الثقافة الرافدية، وتقدم لنا مثالاً عن سلطان الأسطورة الحقيقية الذي ينبع من سحر البيان، لا من حبكة البرهان، وأسلوبها المسيطر الذي لا يخاطب العقل بل الوجدان، وذلك في مقابل النص الآخر الذي نزع عن الأسطورة غلالتها الميثولوجية وقدمها كمادة معلوماتية باهتة، تروي بأسلوب موضوعي ومن موضع مفارق.

    فيلون الجبيلي وأسطورة التكوين الفينيقية
    كما قام بيروسوس البابلي بوضع مؤلَّف عن تاريخ البابليين في القرن الثالث قبل الميلاد، كذلك فعل المفكر السوري فيلون الجبيلي في القرن الأول بعد الميلاد، عندما وضع مؤلفاً عن تاريخ الفينيقيين وحضارتهم. ومن المؤسف أن كتاب فيلون هذا قد ضاع كما ضاع كتاب بيروسوس من قبله، ولم تبق منه سوى شذرات قليلة أوردها مؤلفون آخرون في كتبهم. في إحدى هذه الشذرات يروي فيلون عن أسطورة التكوين الفينيقية فيقول:[3]


    في البدء، لم يكن هناك سوى هواء عاصف وخواء مظلم. ثم وقع هذا الهواء في حب مبادئه الخاصة وتمازج. ذلك التمازج دُعِي الرغبة، وهي مبدأ خلق جميع الأشياء. ولم يكن للهواء معرفة بما فعل. وقد نشأ عن تمازج الهواء: موت، الذي كان عبارة عن كتلة من الطين، أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة، وهو بذرة خلق وأصل الأشياء. ثم استضاء الهواء بالتهاب اليابسة والبحر، وسُيِّرت الرياح والغيوم، وهطل المطر على الأرض مدراراً. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتتصادم في الجو، فنشأت البروق والرعود وعلى صوتها أفاقت ذوات الحياة مذعورة، وراحت تتنقل على اليابسة وفي البحر، ذكوراً وإناثاً...

    يتضح من هذا النص الذي يشكل مطلع نظرية التكوين الفينيقية المنسوبة إلى فيلون أن هذا الكاتب كان يحاول استجلاء طبيعة الفكر الأسطوري الكنعاني القديم استناداً إلى معلومات مبعثرة جمعها في قالب تفوح منه رائحة الفكر الفلسفي اليوناني. وهو، في سعيه لإضفاء المصداقية على نصه، قد اخترع شخصية دينية قديمة دعاها سانخونياتن، لم يذكرها أحد قبله، ثم ادعى أنه قد نقل معلوماته عن هذه الشخصية. وفي الحقيقة، إن ما وصلنا من معلومات مباشرة عن الميثولوجيا الكنعانية، سواء في نصوص أوغاريت أم في نصوص فينيقية متفرقة، يلقي ظلالاً من الشك على نظرية التكوين المنسوبة لقدماء الفينيقيين هذه، وعلى معلومات فيلون والمواقف الفكرية التي يصدر عنها. لقد عاش هذا المفكر في بيئة مشبعة بالثقافة الهلنستية، وفي زمن كانت الأسطورة فيه تتلقى أوجع ضربات الفلسفة الإغريقية، فلم يستطع أن يرى إلى الأسطورة إلا بمنظار الفلسفة، وجاء عمله بمثابة مساهمة أخرى في الحرب المعلنة من الفلسفة على الميثولوجيا.

    هذا الحديث عن اليونان يقودنا إلى ما أدعوه بالمشكلة الإغريقية في دراسة الأسطورة.

    المشكلة الإغريقية
    تبدي الثقافة الإغريقية انقطاعات حادة في مسيرتها لم تعرف مثلها ثقافات الشرق القديم. فلقد رأينا منذ قليل كيف أن كاهناً بابلياً من القرن الثالث قبل الميلاد كان قادراً على جمع وتحقيق معلومات عن تاريخ وثقافة بابل، ترجع إلى ما قبل عصره بحوالى ألف وخمسمائة عام. أما إغريق القرن السابع قبل الميلاد (وهو القرن الذي وعى فيه الإغريق أنفسهم تاريخياً) فلم يعرفوا عن ماضيهم القديم ما يتجاوز حدود الحروب الطروادية (أي أواخر القرن الثالث عشر ق م) التي كانوا يعتبرونها بداية لتأسيس الحضارة الإغريقية، وينظرون إليها كماضٍ مغرق في القدم رغم قربها النسبي إليهم. ولكننا نعرف اليوم بشكل شبه مؤكد أن اللغة اليونانية قد دخلت أرض اليونان القارية في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، مع فاتحين ينتمون إلى الجماعات المدعوة بالهندوروبية، وأن دخول هذه الجماعات كان بداية مرحلة حضارية جديدة في أرض اليونان. وهذا يعني أن حوالى ألف عام من تاريخ الثقافة اليونانية كان مجهولاً تماماً لدى إغريق القرن السابع قبل الميلاد.


    ويتجلى انقطاع الثقافة الإغريقية عن ماضيها بشكل واضح في مجال الأساطير والمعتقدات الدينية. يقول هيرودوتس، المؤرخ اليوناني المتوفى عام 425 ق م، إن هسيود وهوميروس، اللذين عاشا قبله بأربعمائة سنة، هما اللذان رسما للإغريق أساطيرهم وصور آلهتهم.[4] وهذا القول الذي أُخِذ على علاَّته زمناً طويلاً لا يعكس بالطبع حقيقة الأمر، ويعطي صورة عن جهل الإغريق بأصول ديانتهم وأساطيرهم. فكل ما كانوا يعرفونه أيام هيرودوتس لم يكن يتعدى في قدمه روايات هذين المؤلفين، اللذين جمعا ونسقا وأعادا صياغة التقاليد التي تواترت إليهما منذ القدم. والمشكلة التي تواجهنا اليوم في دراسة الميثولوجيا الإغريقية هي أننا، رغم معرفتنا الأكيدة بأن هسيود وهوميروس قد قدما لنا النسخة الأخيرة المنقحة عن التقاليد الميثولوجية الأقدم، إلا أننا لا نستطيع اختراقهما وصولاً إلى الأشكال الأصلية، كما فعلنا بخصوص أعمال فيلون الجبيلي وبرغوشا. والسبب في ذلك راجع إلى عدم توفر نصوص أدبية وأسطورية من الفترات السابقة للقرن الثامن قبل الميلاد. ونحن مضطرون هنا إلى الاعتماد على صياغة أدبية للميثولوجيا الإغريقية عبثت بها يد محرريها بشكل حاذق. هذه الصياغة الأدبية التي ابتدأها هوميروس وهسيود، ثم تابعها فيما بعد عدد من المؤلفين الكلاسيين، تمثل انتصار العمل الأدبي على المعتقد الديني، على حد قول مؤرخ الأديان ميرشيا إلياده.[5] فنحن لا نملك أسطورة يونانية نُقِلت إلينا في سياقها الديني الشعائري، وإنما من خلال وثائق أدبية منمقة منقطعة عن خبراتها الدينية الأصلية، أي من خلال ميثولوجيا مجردة من القدسية ومنزوعة عنها صفة الأسطرة. وفيما عدا ميثولوجيات ديانات الأسرار التي نجت من التصرف الأدبي بسبب الطابع المغلق لتلك الديانات، فإني أرى أن معظم التفسيرات التي جهد الميثولوجيون المحدثون في استنباطها للأساطير الكلاسية تشكل جهداً ضائعاً بحق لأنها لم تتعامل مع أساطير أصلية، بل مع نسخة أدبية لا يربطها بالأصول سوى أوهى الروابط. ثم إني أنطلق من هذه المقدمة، التي أطرحها بكل ثقة علمية، إلى القول بأن أية دراسة للميثولوجيا الإغريقية يجب أن تنظر إلى ذلك الركام الأدبي كمصدر ثانوي ومشكوك به وخاضع للنقد، وتلتفت إلى الميثولوجيات الشعبية الخاصة بديانات الأسرار في الثقافة الكلاسية، لأنها الميثولوجيات الوحيدة التي تمثل بحق ما بقي من الميثولوجيا اليونانية الأصلية.

    نعود الآن إلى معالجة مسألة "التفسير"، وإلى تساؤلنا الأساسي المتعلق بكيفية تعامل العقل الحديث مع تلك التركة الثقافية الغربية عنا كل الغرابة.

    الأسطورة بين البسيط والمستغلق

    من خلال الأفكار التمهيدية التي سقتها أعلاه قمت بإلقاء الضوء على عقبتين رئيسيتين نواجههما في فهمنا وتفسيرنا للأسطورة. العقبة الأولى ذاتية، وتتعلق باختلاف آليات تفكيرنا اليوم عن آليات تفكير الإنسان القديم، والثانية موضوعية وتتعلق بالبعد الزمني والانقطاع عن تلك الثقافات التي أنتجت الأساطير. ولكننا رغم العقبات مطالبون بفهم وتفسير هذه التركة الميثولوجية الغنية، لأننا لا نستطيع أن نبقي على هذا المصدر الهام من مصادر الثقافة الإنسانية في دائرة الظل، ولا أن نقول مع بعضهم بأن الأسطورة ليست إلا نتاج طفولة العقل الإنساني القاصر، في مرحلة من مراحل تطوره، وأنها تفتقر إلى أية قيمة إيجابية أو مغزى، لأننا نكون بذلك قد حكمنا على الحضارات الكبرى الغابرة بأنها لم تكن سوى أقنعة للغباء البدائي.

    غالباً ما يبدأ دارسو الميثولوجيا باستعراض ونقد للمدارس الرئيسية التي نشأت منذ أواسط القرن التاسع عشر، من طبيعانية وبراغماتية وبسيكولوجية وبنيوية وما إليها، لينتهوا إلى الوقوف إلى جانب واحد منها، أو التأسيس لنظرية جديدة ينطلقون منها. وهذا ما لن أفعله هنا، لأن منهجي الخاص هو منهج تجريبي لا يقوم على نظرية بعينها تدَّعي الشمول والإطلاق، بل على النظر إلى كل نسق ميثولوجي على حدة، وإلى خصوصية كل أسطورة ضمن هذا النسق الميثولوجي الذي تنتمي إليه. ولسوف ألجأ فيما يلي إلى عرض هذا المنهج التجريبي من خلال تقديم ثلاثة نماذج من الأساطير، تتدرج في تركيبها من البسيط إلى المعقد إلى المستغلق. ثم أجري مع القارئ محاولات في الفهم والتفسير، لنستكشف معاً كيف تتدرج الأسطورة في إسلام قيادها لنا، ونختبر مدى فعالية أدواتنا في التعامل معها. ونماذجنا هذه مستمدة جميعاً من ميثولوجيا الشرق القديم.

    * النموذج البسيط

    هلاك مدينة أور

    يبدأ هذا النص السومري ببكائية للإلهة ننجال، إلهة مدينة أور، تندب فيها مدينتها التي اتخذ الآلهة قراراً سماوياً بتدميرها. أقتطف من مطلعها الأسطر التالية:[6]

    اليوم الذي كنت أخشى، يوم العاصفة،

    يوم العاصفة ذاك، قد كُتِب عليَّ وقُدِّر.

    هبط عليَّ مثقلاً بالدمع،

    يوم العاصفة ذاك، قد كُتِب عليَّ وقُدِّر

    هبط علي مثقلاً بالدمع، هبط عليَّ أنا الملكة.

    اليوم الذي كنت أرتعد منه، يوم العاصفة،

    يوم العاصفة ذاك، قد كُتِب عليّ وقدّر.

    هبط عليَّ مُثقلاً بالدمع.

    جفا الرقاد وسادتي والأحلام،

    لأن الأسى المرَّ قد قُدِّر على أرضي وشعبي.

    سعيت إلى شعبي كما البقرة إلى عِجلها،

    فلم أستطع نشله من الطين.

    لأن الحزن والأسى قد قُدِّرا عليها.

    ستدمَّر أور فوق أساساتها،

    ستفنى أور في مكانها،

    حتى لو نشرت جناحي وطرت إليها.

    بعد المرثية الطويلة التي يُستهَل بها النص، نجد الإلهة ننجال تسعى يائسة لدفع الكارثة عن مدينتها، وتستجدي مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار الحاسم:

    ثم توجهْتُ بتصميم إلى المجمع قبل انفضاضه،

    بينما كان آلهة الأنوناكي[7] جلوساً يتعاهدون.

    جرجرْتُ قدميَّ، فتحت ذراعيَّ.

    ذرفْتُ الدموع أمام آن

    بكيت بحرقة أمام إنليل

    قلت لهما: عسى أور لا تدمَّر،

    عسى مدينتي أور لا تدمَّر، قلت لهما.

    ولكن آن لم يعط دعائي أذناً،

    وإنليل لم يثلج صدري بكلمة،

    بل أصدرا الأوامر بهلاك المدينة،

    أصدرا الأمر بهلاك أور.

    وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.

    وهكذا يصدر القرار من مجمع الآلهة بدمار المدينة وهلاك أهلها، ويعهد مجمع الآلهة إلى إنليل، رب العاصفة، بتنفيذ القرار. وقبل أن يتحرك إنليل لأداء مهمته، يقوم إله القمر نانا، المعبود في مدينة أور، بمحاولة أخيرة من جانبه للدفاع عن المدينة، ويبتهل إلى إنليل بدعاء طويل نقتطف منه بعض أبياته:

    أي أبي إنليل الذي أنجبني.

    أيَّ ذنب جنته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها؟

    أي أبي إنليل الذي أنجبني.

    انشل مدينتي من وحشتها، ضمها إليك ثانية.

    انشل معبدي من عزلته، ضمه إليك ثانية.

    دع اسمك يعلو في أور مجدداً،

    دع أهليها يرتعون في حماك مثلما كانوا.

    ولكن إنليل يجيبه، بعد أن يستمع إليه مطولاً، بأن قرار الآلهة لا رجعة عنه، وأن البشر لم يعطوا ميثاقاً باستمرار الأحوال وراحة البال. لم تقترف أور ذنباً ولكن قد حُمَّ عليها القضاء:

    أجاب إنليل ابنه قائلاً:

    قلب المدينة يبكي، وناي القصب فيها ينوح.

    شعبها يقضي يومه في العويل والصراخ.

    أي نانا، أيها النبيل، عد لشأنك،

    فإنك لن تقايض بالدمع شيئاً.

    حُكمنا لا مبدِّل لكلماته، حكم المجمع.

    لقد مُنحَت أور سلطاناً ولكنها لم تُمنَح دواماً.

    منذ القدم، منذ أن أرسيت البلاد إلي يومها هذا،

    من رأى منكم مُلكاً باقياً؟

    كذا فسلطان أور قد اجتُثَّ وولَّى.

    أما أنت يا نانا، فدع الهمَّ عنك واهجر البلدا.

    بعد ذلك يشرع إنليل في مهمته مستخدماً العاصفة، سلاحه التقليدي الرهيب، وذلك في مقطع وصفي طويل يثير في النفس الرهبة والشفقة. وعندما يرفع إنليل غضبه عن المدينة تكون قد تحولت أنقاضاً:

    جثث البشر مثل كسرات الجرار

    كانت تملأ الطرقات

    الجدران المتينة قد تهاوت،

    والبوابات العالية والمسالك

    قد تكدست فيها الأجداث.

    في الشوارع العريضة التي شهدت الأعياد،

    وفي المرابع الطلقة التي حفلت بالراقصين،

    تراكمت جثث الموتى

    وملأ دم البلاد آبارها.

    يعتبر هذا النص واحداً من عيون الأدب المشرقي القديم، وهو يتألف من حوالى أربعمائة بيت شعري مفعمة بالعاطفة القوية الدافقة والصور المؤثرة المعبرة.[8] أما الحادثة التاريخية التي يمكن أن تكون أساساً لأحداث هذه الأسطورة، فهي الهجوم الكاسح الذي قام به العيلاميون على مدينة أور حوالى عام 2000 ق م، فحاصروها مدة ثم فتحوها واستباحوها بضعة أيام. لكن الأسطورة لا تنظر إلى هذه الواقعة في سياقها الزمني وفي دلالاتها التاريخية، بل تنتقل بالحدث إلى المستوى الميثولوجي وتعالجه على هذا الأساس، فتسخره من أجل تقديم الأمثولة والعبرة، شأنها في ذلك شأن بقية الأدبيات الدينية الشرقية اللاحقة. إن رسالة الأسطورة هنا واضحة كل الوضوح وهي تقول لنا إن عالم الإنسان قائم على الصيرورة والتبدل الدائم، والإنسان لا يكاد يطمئن إلى ثبات وديمومة رغده، حتى يحمَّ عليه قضاء الآلهة بغتة وهو غارق في لهوه ومتع حياته اليومية التي أمِن إلى استمرارها. والدول والممالك لا تقوم وتزدهر فتصل أوج عزتها حتى تأتي ساعة اندحارها. ومدينة أور لم ترتكب ذنباً واضحاً ولكنها أمِنت إلى رغدها وطيبات رزقها ودوام مجدها. ويلخص النص رسالته هذه بكل وضوح في الأبيات التي تقول:

    لقد مُنحَت أور سلطاناً ولكنها لم تُمنَح دواماً.

    منذ القدم، منذ أن أرسيت البلاد إلى يومها هذا،

    من رأى منكم مُلكاً باقياً؟

    كذا فسلطان أور قد اجتُثَّ وولَّى.

    مثل هذه الرسالة الواضحة يقدمها لنا مقطع جميل من ملحمة جلجامش، حيث يقول أوتنابشتيم لجلجامش في اللوح الحادي عشر، العمود السادس:[9]

    هل نشيد بيوتاً لا يدركها الفنا

    وهل نعقد ميثاقاً لا يصيبه البِلى؟

    هل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى دهراً

    وهل ينزرع الحقد في الأرض دواماً؟

    هل يرتفع النهر ليأتي بالفيض أبداً

    وهل يترك اليعسوب شرنقته

    ليدير وجهه للشمس طوالاً؟

    فمنذ القدم لا تُظهِر الأمور ثباتاً

    النائم للميت توأم

    ألا تفشي صورة الموت كليهما؟

    ألا يتساوى الأمير والفقير في حضرة الردى؟

    إن فكرة القضاء والقدر هي فكرة راسخة في الأدبيات الدينية المشرقية. فالقضاء يحُمُّ على المدن المزدهرة وعلى الأفراد وهم في قمة مجدهم وعزتهم؛ وما على الإنسان إلا أن يقبل بالإرادة الإلهية، سواء أكانت مقاصدها واضحة أم خافية. فها هو ذا إبراهيم، في سفر التكوين من العهد القديم، يشفع لمدينتي سدوم وعمورة أمام الرب بعد أن اتخذ قراراً بتدميرهما كما شفع الإله نانا لمدينة أور أمام إنليل: "فتقدم إبراهيم وقال: أفتُهلِك البارَّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتُهلِك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر." ولكن شفاعة إبراهيم تفشل كما فشلت شفاعة نانا: "وإذا أشرقت الشمس على الأرض، دخل لوط إلى صوغر. فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب من السماء، وقَلَبَ تلك المدن وجميع سكان المدن ونبات الأرض." (التكوين 18) وإذا كان إثم المدن في أسطورة سدوم وعمورة ذريعة لإنفاذ القضاء، فإن مثل هذا الإثم يتخذ ذريعة ظاهرية عندما لا يتناسب العقاب مع فداحة الإثم. ففي سفر صموئيل الثاني يقرر الرب إهلاك الشعب لسبب مجهول، فيدفع داود لارتكاب خطيئة من شأنها تعريض الشعب بأكمله لإبادة شاملة: "وعاد فحمي غضب الرب على إسرائيل، فأهاج عليهم داود قائلاً له: إمضِ واحصِ إسرائيل ويهوذا. فقال الملك لرئيس الجيش الذي عنده: طُفْ في جميع أسباط إسرائيل وعدُّوا الشعب فأعلم عدد الشعب." وبعد الانتهاء من عملية الإحصاء، تُحَدِّثُ داودَ نفسُه بأنه قد أخطأ، فيستغفر ربه معترفاً بذنبه، ولكن الرب لا يلتفت إلى توبته: "فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد. فمات من الشعب سبعون ألف رجل... فكلَّم داود الرب وقال: ها أنا أخطأت، وأنا أذنبت. وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟" (صموئيل الثاني 24)

    وفي القرآن الكريم لدينا العديد من الأمثلة والمواعظ عن هلاك المدن الآثمة: "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد." (هود: 82-83) "ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذتْ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يَغْنوا فيها." (هود: 94-95) ولكن أحكام المشيئة الإلهية قد تكون خافية عن أفهام البشر، ويحمُّ القضاء على جماعة دون سبب واضح: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميراً." (الإسراء: 16) فهنا، وعلى العكس من بقية القصص القرآني المتعلق بدمار المدن الآثمة، نجد أن الدمار قد حل على مدينة لم تأثم، بل لقد أثم مترفوها بتوجيه من الرب فحق عليها القول. ذلك لأن على الإنسان ألا يركن إلى دوام منجزاته وهناءة عيشه، وأن يسلِّم بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. وتدور الآية التالية حول نفس الفكرة: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور. أَمِنْتُم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور؟ أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير؟" (الملك: 15-17)

    وحول الاطمئنان إلى دوام منجزات الإنسان وهناءة عيشه، بدل الركون إلى لطف الخالق والتسليم بقضائه، لدينا في القرآن الكريم أيضاً أمثولة ذات مغزى كبير حول قانون التغير الدائم: "واضرب لهما مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنَّتين من أعناب، وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً. كلا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً، وفجرنا خلالهما نهراً وكان له ثمر. فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً. ودخل جنَّته وهو ظالم لنفسه. قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً، وما أظن الساعة قائمة. ولئن رُدِدتُ إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً [...] وأحيط بثمره فأصبح يقلِّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول: يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً." (الكهف: 32-43)

    أنتقل الآن من هذا النوع البسيط من النصوص الذي تسير أحداثه في اتجاه خطي واحد، إلى النوع المركب الذي تسير أحداثه في أكثر من اتجاه، وتتقاطع ضمن بنية أكثر تعقيداً من بنية النوع الأول.

    ** النموذج المركب

    إيتانا والنسر

    وصلنا أقدم نص لهذه الأسطورة من العصر البابلي القديم (2000-1600 ق م)، وذلك من موقع سوسه عاصمة عيلام، كما وصلنا نص آخر من العصر الآشوري الوسيط (1600-1000 ق م)، ونص ثالث من مكتبة آشور بانيبال بنينوى يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، هو أكمل هذه النصوص وأكثرها وضوحاً. ورغم وجود بعض الاختلافات البسيطة بين هذه النصوص الثلاثة، إلا أن الأحداث الرئيسية للقصة واحدة، ويكاد التطابق أن يكون حرفياً بينها عند كثير من السطور والمقاطع. وسوف أقدم فيما يلي ملخصاً للأسطورة اعتماداً على ترجمة ستيفاني دالي الجديدة لنسخة نينوى، في كتابها الصادر عن أوكسفورد عام 1981.[10]أبداً

    تدور أحداث هذه القصة في الأزمان الأولى عندما كان الآلهة يخلقون الجهات الأربع، ويضعون مخططاً لبناء أول مدينة للبشر هي مدينة كيش. فبعد أن انتهوا من أعمال الخلق والتنظيم أسسوا منصب المُلْك، وراحوا يبحثون عن شخص مناسب ينصبونه ملكاً على المدينة، ليكون حاكماً صالحاً للناس فوقع اختيارهم أخيراً على إيتانا:

    الآلهة الكبار، آلهة الإيجيجي صمموا مدينة.

    آلهة الإيجيجي وضعوا لها الأساسات.

    آلهة الأنانوكي صمموا مدينة كيش.

    آلهة الأنانوكي وضعوا لها الأساسات.

    آلهة الإيجيجي صنعوا لها قوالب الآجر.

    <...>

    الآلهة الكبار الذين يقدِّرون المصائر،

    جلسوا، تشاوروا في أمور البلاد،

    بينما كانوا يخلقون جهات العالم الأربع ويصيغون شكلها.

    <...>

    لم يكونوا قد أقاموا ملكاً على الناس قاطبة،

    ولم يكن التاج وعصابة الرأس،[11] حينئذ، قد أُوثقا معاً،

    ولم يكن أحد، بعد، قد لوَّح بصولجان الملك.

    ولم تكن منصة العرش أيضاً قد رُفِعت.

    [بعد ذلك هبط المُلْك من السماء].[12]

    كانت عشتار في ذلك الوقت تبحث عن راعٍ،

    كانت تبحث هنا وهناك عن ملك.

    وإنليل يبحث عن منصة عرش لإيتانا،

    الشاب الذي كانت عشتار لا تني تبحث عنه.

    وهكذا وقع اختيار الآلهة على إيتانا ليكون أول ملك أقيم لحكم الناس، وتنتهي مقدمة النص. بعد ذلك ندخل إلى متن الأسطورة الذي يتألف من جزأين، أو قصتين، ثم الربط بينهما عند مفصل معين في سير الأحداث، لسبب يبدو غير واضح من الوهلة الأولى. فبعد صعود إيتانا على العرش في كيش، نمت شجرة عملاقة وارفة الظلال، وجاءت إليها حية فاتخذت من قاعدتها وكراً لها ولصغارها، ثم حط على قمتها نسر فصنع له ولفراخه عشاً. وقد تعاهد الاثنان على العيش بسلام وعلى اقتسام الرزق فيما بينهما. فإذا اصطاد النسر فريسة جاء بها إلى المكان وترك الحية وصغارها يقتسمونها معه، وإذا اصطادت الحية فريسة جاءت بها أيضاً وتركت النسر وفراخه يقتسمونها معها. ثم وثَّق الطرفان عهدهما هذا بالقسم أمام الإله شمش، إله الحق والعدالة، على احترام الاتفاق وعدم النكث بالعهد. سارت الأمور سيراً حسناً واحترم كل من الحية والنسر اتفاقهما، إلى أن كبر فراخ النسر ولم يعودوا بحاجة إلى رعاية. عندئذ أضمر النسر في قلبه شراً وراح يتحين الفرص لأكل صغار الحية:

    عندما كبر فراخ النسر وشبوا،

    أضمر النسر مكيدة شريرة في قلبه.

    ثم تحدث إلى فراخه قائلاً:

    إني لآكل صغار الحية.

    سيشتعل غضبها علي بالتأكيد

    ولكني سوف أطير عالياً وأختبئ في الأجواء،

    ثم أهبط إلى أعلى الشجرة فقط لأخطف من ثمرها.

    فقال له فرخ مُزغبٌ كثير الحكمة، قال لأبيه:

    لا تفعل ذلك يا أبي، لأن شبكة شمش سوف تمسك بك.

    ولكن النسر لم يستمع لنصيحة ابنه الحكيم، وبينما كانت الحية غائبة عن وكرها نقض النسر عهده وانقض فأكل صغارها ثم هرب. وعندما عادت الحية بصيدها واكتشفت ما فعله النسر، بكت وذرفت دموعها أمام الإله شمش ضارعة إليه أن يثأر لها من النسر. استجاب شمش لدعاء الحية ورسم لها خطة توقع بالنسر. دفع إليها بثور مقيد في الفلاة، عليها أن تقتله وتختبئ في أحشائه. وعندما تحط طيور السماء لتأكل من الجيفة سيأتي النسر بينها أيضاً. وعندئذٍ عليها أن تنبري له وتقبض عليه فتنتزع مخالبه وتنتف ريش أجنحته، ثم ترميه في حفرة عميقة ليموت هناك من الجوع والعطش. تسير الخطة بنجاح وتأتي الطيور لتأكل ويَهُمُّ النسر أن يحط معها ليأكل أيضاً، ولكن فرخه الحكيم يحذِّره من احتمال كمون الحية في بطن الثور لتثأر لصغارها منه. تردد النسر قليلاً، ثم أقدم عندما رأى بقية الطيور تأكل بهدوء وسلام دون أن ترى ما يعكرها، فطار وحط على الثور. عندئذ انقضت عليه الحية من مكمنها فاقتلعت مخالبه ونتفت ريشه ثم ألقته في الحفرة العميقة غير آبهة لتوسلاته، ومضت تاركة إياه لمصيره. راح النسر يتضرع في كل يوم إلى شمش، لعلَّه ينقذه من ورطته. فقال له شمش:

    إنك مخلوق مؤذٍ وشرير، وقد أحزنت قلبي.

    لقد ارتكبت فعلاً مرذولاً من قبل الآلهة، لا يقبل الصفح.

    ها أنت ذا تموت، ولكني لن أقترب منك،

    بل سأقيِّض لك رجلاً، فاطلب منه عوناً.

    هنا تنتهي القصة الأولى وتبدأ القصة الثانية التي تعود بنا إلى إيتانا الصالح. فإيتانا عاقر وقد شارف على الشيخوخة دون أن يُرزَق بغلام يخلفه على العرش، وهو يصلي في كل يوم ويقدم قرابينه إلى الآلهة من أحسن مواشيه، علَّها تنظر إليه بعين العطف وترفع عنه لعنة العقم. ثم يسمع بنبتة مزروعة في السماء تشفي من العقم، فيدعو الإله شمش أن يجعل هذه النبتة في متناول يده. يستجيب له الإله ويدلُّه على مكان النسر الحبيس، فيحرره ويشفيه لقاء أن يطير به إلى السماوات العُلى لجلب نبتة الإخصاب التي تتعهدها هناك عشتار بالرعاية والسقاية. يأتي إيتانا إلى حفرة النسر ويخبره بمشيئة شمش، ثم يعمل على شفائه وتعويده على الطيران مجدداً. وعندما يتعافى النسر يعتلي إيتانا ظهره فينطلق به صُعَداً في طبقات الجو العليا، حتى تبدو الأرض وكأنها بستان صغير ويبدو البحر الواسع وكأنه قدر ماء. ولكن قوى النسر تخور ويعترف بعجزه عن المضي قُدُماً أبعد من ذلك، ثم يهوي عائداً إلى الأرض. لدى رجوعه إلى كيش يرى إيتانا أحلاماً غريبة عن رحلة ثانية إلى السماء، منها الحلم التالي الذي قصَّه على صديقه النسر:

    رأيت أننا نمضي عبر بوابة آنو وإنليل وإيا

    هناك ركعنا معاً، أنا وأنت.

    ثم رأيت أننا نمضي معاً، أنا وأنت

    عبر بوابة سن وشمش وأدد وعشتار.

    هناك ركعنا، أنا وأنت.

    رأيت بيتاً فيه نافذة غير موصدة.

    دفعتها، فانفتحت وولجت منها،

    فرأيت هناك فتاة مليحة الوجه مزينة بتاج،

    وهناك عرش منصوب [...]،

    وتحت العرش أسود رابضة مزمجرة.

    فلما ظهرتُ لها قفزت نحوي.

    عند ذلك أفقتُ من نومي مذعوراً.

    يرى النسر في حلم إيتانا بشارة بنجاح محاولة ثانية لهما في ارتقاء السماء، فيقرران التحليق مجدداً. تنجح المحاولة ويصل النسر بإيتانا إلى سماء آنو، حيث يدخلان بوابة آنو وإنليل وإيا، فيسجدان هناك، ثم يجتازانها إلى بوابة سن وشمش وأدد وعشتار، فيسجدان هناك أيضاً. ثم يفتح إيتانا البوابة ويدخل، وهنا ينكسر الرقيم وتتوقف القصة. ولكن من المؤكد أن الجزء المفقود يقص عن كيفية حصول إيتانا على نبتة الإخصاب والعودة بها إلى الأرض، لأننا نعرف من وثيقة ثبت ملوك سومر أن الملك إيتانا كان أول ملك على كيش بعد الطوفان، وأنه الذي أسس لسلالة كيش الأولى، وأن وريثه على العرش كان ابنه المدعو بالح.

    إن لدينا من الأسباب ما يرجِّح انتماء هذه الأسطورة إلى مطلع عصر السلالات في منطقة سومر (حوالى 2600 ق م). فرغم أن أقدم نص لها – وهو النص البابلي القديم – يرجع إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، إلا أن العثور على عدد من الأختام الأسطوانية التي ترجع إلى العصر الصارغوني (حوالى 2300 ق م)، والتي نرى عليها مشهداً يمثل صعود إنسان ما إلى السماء على ظهر نسر، يؤكد لنا أن أسطورة إيتانا كانت معروفة خلال أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، وأن جذورها تضرب أبعد من ذلك في عصر السلالات الأولى، وحتى زمن قريب من صعود أسرة كيش الأولى، أول وأقوى الأسر الحاكمة في سومر، التي كان ملوكها ينتمون إلى الذخيرة السكانية السامية، لا السومرية، على ما تدل عليه أسماؤهم. ولكن ما معنى هذه الأسطورة، وأية رسالة تحمل لنا؟

    رغم الحيرة التي يسببها لنا احتواء الأسطورة على قصتين غير متجانستين، إلا أن رسالتها واضحة تماماً. ذلك أن الهاجس الرئيسي هنا هو التأسيس لأصل مؤسسة الملكية التي "هبطت من السماء"، على حد تعبير النص البابلي القديم. فأسطورتنا هي أسطورة أصول، وتنتمي إلى تلك الزمرة من أساطير الأصول التي تهدف إلى تبرير المؤسسات الاجتماعية القائمة وتجذيرها في البدايات الميثولوجية الأولى، من أجل إسباغ طابع القداسة عليها. فمطلع النص يعود بنا إلى الأزمان الميثولوجية البدئية، عندما كانت الآلهة تضع اللمسات الأخيرة على الكون الذي خرج لتوِّه من رحم الهيولى البدئية. فكانت مؤسسة الملكية أول ما التفتت إليه بعد أن انتهت من هندسة "المكانأسم"، وشكلت جهات العالم الأربعة ووضعت مخطط أول مدينة للإنسان وأرست لها الأسس. وبعد أن خلقت الآلهة منصب الملك وحددت له شاراته ورموزه، راحت تبحث عن رجل يشغل ذلك المنصب فوجدته في إيتانا الصالح. تنتقل الأسطورة بعد ذلك إلى تجذير مؤسسة الملكية الوراثية أيضاً في الزمن الميثولوجي. فهذه قد هبطت أيضاً من السماء عن طريق نبتة الإخصاب التي جلبها إيتانا من هناك فوهبته ولداً ووريثاً على العرش.

    ولكن ما معنى قصة الحية والنسر؟ ولماذا جُعِلت بمثابة مدخل إلى المتن الأساسي للأسطورة؟ إن القراءة الأولى للنص تغرينا بالنظر إلى قصة الحية والنسر على أنها مجرد حكاية، ذات طابع تشويقي، تم دمجها في السياق العام للقصة الرئيسية لأغراض أدبية محضة. إلا أن التلازم الطويل بين القصتين في جميع النصوص التي وصلتنا للأسطورة، عبر أكثر من ألف عام، يدفعنا إلى استبعاد هذا التفسير القريب والبحث عن تفسير آخر.

    إن مفتاح الولوج إلى سر العلاقة بين القصتين هو التساؤل المشروع الذي يخطر بالبال عقب قراءة النص وهو: لماذا كان على النسر أن يمر بتجربته الأليمة تلك قبل أن يصعد بإيتانا إلى السماء؟ ألم يكن بمستطاع الإله شمش أن يوكل لهذا النسر نفسه أو لغيره مهمة الصعود، دون أن يكون قد تعرض لتلك الأحداث التي أودت به إلى أعماق الحفرة حيث وجده إيتانا؟ إن الجواب على هذا التساؤل متضمَّن في بنية النص نفسه الذي يقول لنا صراحة، ومن خلال توكيده على الربط العضوي بين القصتين، إنه كان على النسر أن يمر بتجربته مع الأفعى قبل أن يكون قادراً على التحليق في طلب نبتة الإخصاب. فهذه التجربة هي التي أهَّلته للمهمة وجعلت منه نسراً مختلفاً عن بقية النسور. فما الذي تضمنته التجربة مع الحية وأية قوى استثنائية أكسبته إياها؟

    تتضمن التجربة مع الحية حدثين مهمين قادا إلى حدث ثالث هو مركز القصة بكاملها. ويمكن تصوير هذه الأحداث الثلاثة وفق المخطط التالي:

    الصعود إلى السماء

    أكل صغار الحية



















    الهبوط إلى قاع البئر



    وإني أرى في الحدثين الأولين مرحلتين في طقس عبور وتعدية Initiation. في المرحلة الأولى يأكل النسر صغار الحية، وفي المرحلة الثانية يُلقى به في قاع حفرة أو بئر عميقة في باطن الأرض. فأما أكل صغار الحية فهو إجراء طقسي يؤدي إلى إكساب النسر قوى تتعلق بالإخصاب، لأن الحية هي رمز للخصوبة في ثقافات الشرق القديم ورمز للشفاء أيضاً. وأما الهبوط إلى قاع البئر المظلم فهو إجراء طقسي آخر مشابه من حيث الغاية. فلقد كان على النسر أن يموت رمزياً في باطن الأرض–الأم، لكي يُبعَث من جديد معافى ومزوداً بقوى تتعلق أيضاً بالإخصاب زوَّدته بها ننخرساج، الأرض. أما الشجرة التي كانت مسرح الصراع بين النسر والحية، فتمثل مبدأ الحياة الذي قوامه قطبان: الموجب والسالب، المبدأ الذكري والمبدأ الأنثوي. وهنا يتجسد المبدأ الذكري في النسر الذي يسكن قمة الشجرة ويطير في السماء، وتجسد الحية المبدأ الأنثوي الملتصق بالأرض. وما الصراع بين النسر والحية إلا تمثيل للتناقض بين المبدئين. لقد هبط النسر أولاً من القمة إلى الأرض حيث جحر الحية، ثم هبط أعمق من ذلك في غياهب البئر حيث رحم الأرض، لينطلق بعد ذلك في طلب النبتة التي تتعهدها بالرعاية عشتار إلهة الخصوبة الكونية. هذا المغزى السرَّاني لعلاقة النسر بالحية يفسر لنا عدم جدية العِقاب الذي تعرَّض له النسر، ومسارعة الإله شمش إلى العفو عنه ليوكل إليه المهمة التي صار الآن صالحاً لها، بعد أن تحول، عبر الطقس الذي مر به، من نسر عادي إلى نسر قادر على إتمام مهام لا يقدر عليها غيره.

    ولإلقاء مزيد من الضوء على التفسير الذي أتقدم به هنا، سوف أستعرض فيما يلي عدداً من التصورات الأسطورية الموازية، المستمدة من الميثولوجيا المقارنة. ففي ميثولوجيا الشعوب في أوروبا الشمالية هناك شجرة كونية عملاقة يتوضع عليها عالم الآلهة وعالم البشر وعالم العمالقة وعالم الموتى. فهي تمد رأسها إلى الأعلى نحو عالم الآلهة وتضرب بجذورها في العالم الأسفل عالم الموتى. ونجد هذا التصور نفسه في ميثولوجيات شمال ووسط آسيا، وفي ميثولوجيات معظم الثقافات الشامانية. ففي الأساطير الفنلندية، تقوم هذه الشجرة باعتبارها مركزاً للكون وتعمل على الربط بين أجزائه وأقاليمه المختلفة. على أوراقها يتغذى الآلهة وبين أغصانها تولد الأرواح. ومن خلال تجديد حياتها تلقائياً، فإنها تعمل على تجديد حياة الكون وعوالمه، وتقدم في الوقت نفسه للإنسان وسائل تحقيق الخلود. وتمثل التقاليد الشامانية شجرة الحياة هذه على هيئة جذع حفرت عليه درجات سلم، تعين الشامان على العروج نحو العوالم العليا في رحلته الوَجْدية، حيث يعبر سلسلة السماوات وصولاً إلى السماء العليا حيث يقيم الآلهة. وفي أحيان كثيرة، نجد أن شجرة الكون، أو الحياة هذه، تسكنها نفس الكائنات التي وجدناها في أسطورة إيتانا والنسر. ففي بورنيو الجنوبية يجري تمثيل الشجرة الكونية وقد سكنت الحية عند قاعدتها وسكن النسر في قمتها. وتقول الأسطورة إن الصراع بينهما يقود إلى تدمير الشجرة، ولكنها تنبعث جديدة مرة أخرى. وفي الميثولوجيا التوتونية هنالك سنجاب ينقل الرسائل العدوانية بين النسر الذي يقيم في قمة الشجرة والحية التي تسكن في قاعدتها.[13]

    *** النموذج المعقد

    أسطورة خصاء آنو

    أسطورة خصاء آنو هي نص حوري يعود إلى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. والحوريون هم شعب تعلَّم لغة خاصة لا تنتمي إلى عائلة اللغات السامية ولا إلى عائلة اللغات الهندوروبية. وقد بدأوا بالتسرب التدريجي من الشمال إلى مناطق الجزيرة السورية خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، واستطاعوا تكوين عدد من المدن القوية فيها. وقد شكل هؤلاء الحوريون القاعدة السكانية العريضة التي قامت عليها مملكة ميتاني القوية بقيادة شرائح عسكرية ذات أصول هندوروبية، اختلطت بالحوريين وجمعتهم في مملكة واحدة. سيطرت مملكة ميتاني على مناطق حوض الخابور الأعلى في سورية، وبلغت أوج قوتها إبان القرن الخامس عشر قبل الميلاد، حيث استطاعت إخضاع معظم مناطق الجزيرة العليا وسورية الشمالية والوسطى، وصارت القوة الثالثة في المنطقة إلى جانب مملكة الحثيين في الأناضول ومملكة مصر في الجنوب. تقول الأسطورة:[14]

    في قديم الزمان، كان ألالوس ملكاً في السماء. وطوال مدة جلوسه على عرش السماء، كان آنوس [=آنو] الأول بين الآلهة، يقف بين يدي ألالوس ويسجد عند قدميه ويقدم له كأس الشراب. مضت تسع سنوات وألالوس ملك في السماء. ولكن في السنة التاسعة، قام آنوس فنازع ألالوس السيادة وقهره في المعركة، فهرب من وجهه وهبط إلى الأرض المظلمة، ثم اعتلى آنوس العرش. طوال مدة جلوسه على العرش كان كوماربي الجبار يقدم له الطعام ويسجد عند قدميه ويقدم له كأس الشراب. مضت تسع سنوات وآنوس ملك في السماء. ولكن في السنة التاسعة قام كوماربي فنازع آنوس السيادة وقاتله مثلما قاتل آنوس ألالوس. وعندما لم يستطع آنوس الصمود أمام كوماربي انتزع نفسه من بين يديه وهرب، وكطير حلق في السماء. اندفع وراءه كوماربي فأمسك بقدميه وجرَّه من هناك ثم عضَّ على قضيبه فانسال سائله المخصب إلى بطن كوماربي. عندما ابتلع كوماربي مَنْي آنوس واستقر في جوفه،[15] استدار آنوس نحو كوماربي مبتهجاً ضاحكاً وقال له: ها أنت ذا سعيد لما أخذته في جوفك، ولكن سعادتك لن تطول، لأني زرعت في داخلك وزراً ثقيلاً. لقد جعلتك تحبل بإله العاصفة النبيل، كما جعلتك تحبل بنهر دجلة الذي لن تطيق حمله، وأيضاً بتاسميشو النبيل (وزير إله العاصفة). ثلاثة آلهة مخيفة زرعت بذورها في بطنك. فامض الآن وانطح رأسك بصخور جبالك. ولما انتهى آنوس من كلامه تابع طريقه نحو السماء واختبأ هناك. عند ذلك بصق كوماربي بعض المادة التي ابتلعها على الأرض فولد منها تاسميشو ونهر دجلة.

    أما كوماربي فقد مضى إلى مدينة نيبور السومرية ليحصل على مشورة إيا، إله الحكمة الرافدي. ولكن النص مشوه في هذا الموضع ولا ندري ما الذي دار بين الطرفين. ثم نرى كوماربي مازال في نيبور يعدُّ الأشهر المتبقية لمدة الحمل، والجنين في بطنه ينمو، إلى أن اكتمل وجاءت ساعة المخاض. ولما لم يكن كوماربي مجهزاً كما النساء لأداء ولادة طبيعية، فإن آلام المخاض تشتد عليه، وإله العاصفة في بطن أبيه لا يجد طريقة للخروج بسلام. وهنا يتدخل الإله المخلوع آنو لمساعدة إله العاصفة، لأنه يعوِّل عليه في الانتقام من كوماربي. وتبدأ مشاورة بين آنوس وبين إله العاصفة الحبيس في الداخل حول الطريقة التي يمكن بواسطتها حل المعضلة. ويجري بحث كل الاحتمالات الممكنة في أفضلية المنفذ الذي يمكن لإله العاصفة شق طريقه عبره. ويبدو أن اختيار المنفذ كان أمراً في غاية الصعوبة، لأن الخروج من إحدى الفتحات، كما نفهم من شذرات الموضع المشوَّه في الحوار، سوف يتسبب في تعطيل عمل العضو أو الحاسة المقابلة عند إله العاصفة عقب ولادته. فالخروج من عين كوماربي سوف يسبب له العمى، والخروج من الأذن سوف يبتليه بالصمم. وهكذا تم استبعاد جميع المنافذ العليا بما فيها جدار الرأس لأن الخروج من الرأس سوف يبلبل عقل إله العاصفة. بعد ذلك يتم بحث احتمالات المنافذ السفلى. فيقترح إله العاصفة أن يقوم بشق مؤخرة كوماربي والنفاذ عبرها، ولكن آنو يستبعد هذا الإجراء ويحذره من مخاطر غير واضحة في السطر المشوَّه. ثم يجري اقتراح الخروج من مكان يدعوه النص بـ"الموضع الحسن" دون تعيين اسمه. وبما أنه لم يبق من المنافذ السفلى سوى السرة والقضيب، فإن هذا الموضع الحسن ينطبق على واحد منهما ولاشك. تشتد الآلام على كوماربي فيأتي إلى حضرة الإله إيا ويتهاوى أمامه من الألم وهو يصرخ كالمجنون: "أخرجوا إليَّ ابني أعطوني ابني لأبتلعه." يرسل إيا في طلب مجموعة من السحرة لأداء طقوس تعين كوماربي على الوضع، فيأتي السحرة فيمددون الإله ثم يقدمون القرابين ويقرؤون التعاويذ، ويعملون جهدهم في الحفاظ على شرج كوماربي من اقتحام ابنه له. يقوم إله العاصفة بمحاولة أخيرة للخروج من مؤخرة كوماربي ولكنه يفشل، عند ذلك يتجه نحو "الموضع" الحسن وينبثق من هناك إلهاً مكتمل القوة والرجولة. (تلي ذلك فجوة في النص). أما ما تبقى من الشذرات فنفهم منها أن آنو المخلوع قد ساعد إله العاصفة على خلع أبيه والاستيلاء على عرش السماء.

    وفيما يتعلق بـ"الموضع الحسن" الذي خرج منه الإله، يرجِّح بعض دارسي هذه الأسطورة، ومنهم G.S.Kirk من جامعة كامبريدج،[16] أن يكون الموضع المعني هو القضيب وذلك لسببين: فالقضيب هو العضو المقابل لعضو الولادة عند المرأة، وهذا ما يجعله أكثر ملاءمة لتقليد العملية عند الرجل. كما أن القضيب، باعتبار دوره في عملية الإخصاب، هو الوحيد الذي يحسُن اقترانه بإله العاصفة بما هو إله للخصب أيضاً.[17] غير أني أرجِّح أن يكون العضو المعني هو السرة لأننا نفهم من الحوار بين آنوس وإله العاصفة أن الخروج من أي موضع في جسم كوماربي سيسبب العطب في العضو المقابل عند إله العاصفة. من هنا فإن من الأجدر أن يكون القضيب هو أكثر الأعضاء استبعاداً، لأنه ما الذي يجنيه إله الخصب من اقترانه بالقضيب إذا كان هو نفسه فاقداً لوظيفة القضيب؟

    والآن، ما الذي يعنيه هذا النص ذو البنية المعقدة المتراكبة؟ لماذا وقعت تلك الانقلابات المتوالية في السماء؟ لماذا عضَّ كوماربي قضيب أبيه وابتلع سائله المخصب؟ ولماذا كان على إله العاصفة أن ينمو في بطن أبيه من دون أم؟

    من الأدوات القوية التي تعيننا على التعامل مع النص الأسطوري المفرد إرجاعه إلى النسق الميثولوجي الذي ينتمي إليه، وذلك لأن هذا النص إنما يكتسب معناه ومغزاه من خلال موقعه في ميثولوجيا الثقافة التي أنتجته، ومن خلال ترابطاته مع الأساطير الأخرى التي تنتظم وإياه في نسق واحد، وذلك مثلما تكتسب الكلمة المفردة معناها ومغزاها من موقعها في سياق الجملة المفيدة. يضاف إلى ذلك ضرورة تحديد الزمرة التي تنتمي إليها الأسطورة ضمن النسق الميثولوجي ذاته، وذلك كأنْ تكون أسطورة أصول وتكوين، أو أسطورة خصب، أو أسطورة طقسية من نوع خاص، الخ. وهذا التحديد يعتمد على معاينتنا المبدئية للشكل في ضوء معارفنا السابقة والخبرة المكتسبة في هذا الميدان.

    وبتعبير آخر، فإنه من غير المجدي في المرحلة الأولى من الإقبال على النص تفسير أسطورة مصرية، مثلاً، عن طريق المقارنة مع أسطورة إغريقية، أو النظر إلى أسطورة إفريقية على ضوء الميثولوجيا البابلية. بل لابد، أولاً، من النظر إلى الأسطورة في ترابطاتها المحلية ضمن نسقها وضمن زمرتها. فإذا أتممنا هذه المهمة المبدئية استطعنا بعدها الانطلاق إلى إجراء المقارنات البعيدة منها والقريبة، ولكن ضمن نظام صارم في الوقت ذاته، يبتعد بنا عن تلمس المشابهات السطحية التي تقود إلى نتائج متسرعة، ويبقي على فهمنا لأية أسطورة نتخذها لغاية المقارنة ضمن بيئتها والثقافة التي أنتجتها. إن مثل هذا المنهج الصارم في المقارنة يجب أن يحل محل المنهج القديم الذي اختطه السير جيمس فريزر في موسوعته المعروفة: الغصن الذهبي The Golden Bough في أوائل القرن العشرين، ومارس تأثيراً على سلسلة من الباحثين في الأنثروبولوجيا النظرية والميثولوجيا، كان أولهم روبرت بريفو Robert Breffualt في كتابه The Mothers، وآخرهم جوزيف كامبل Joseph Campbell في ثلاثيته The Masks of God، حيث يتم تقديم الفكرة الأسطورية، ثم إتباعها بحشد من الأمثلة الموضِّحة المستمدة من ثقافات متباعدة، والمنتَزَعة من سياقاتها وترابطاتها المحلية.

    وفيما يتعلق بنص خصاء آنو الذي بين أيدينا، فإننا لا نستطيع أن ندرسه على الخلفية الثقافية الحورية، وذلك لندرة النصوص الحورية، وخصوصاً الأدبية والأسطورية منها. فنحن لا نملك حتى الآن سوى نصين ميثولوجيين حوريين مكتوبين باللغة الحثية. من هنا لابد لنا من اللجوء إلى ربط نصنا بأكثر الأنساق الميثولوجية قرباً إليه، وهو النسق الأكادي–البابلي. فلقد تجاور الحوريون مع سكان وادي الرافدين، ومارست الثقافة الأكادية على الحوريين تأثيراً أكبر من تأثير الثقافة السورية. يدلنا على ذلك استخدام اللغة الأكادية في كتابة معظم الوثائق الحورية–الميتانية، وتداخل بانثيون الآلهة الحورية مع بانثيون الآلهة البابلية.

    ومن ناحية ثانية، فإن الصلة الوثيقة بين الجماعات الحورية والجماعات الهندوروبية التي وفدت إلى مناطق الحوريين، بعد قدوم هؤلاء بفترة قصيرة، وشكلت طبقة حاكمة في مملكة ميتاني التي كان الحوريون قاعدتها السكانية، تدفعنا إلى البحث عن روابط ثقافية حورية–هندوروبية يمكن لها أن تضيء جوانب من موضوعنا، وإلى أخذ نسقين ميثولوجيين هندوروبيين بعين الاعتبار، هما النسق الحثي والنسق الإغريقي. فلقد شهد النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد عدداً من التحركات والهجرات لجماعات رعوية محاربة تتكلم بلغات هندوروبية. فإلى آسيا الصغرى توجهت الجماعات التي عُرِفت تاريخياً باسم الحثيين، وإلى مناطق الجزيرة والشمال السوري توجهت الجماعات التي عرفت باسم الميتانيين، وإلى أرض اليونان القارية توجهت الجماعات التي حملت إليها اللغة الإغريقية. ويغلب الظن أن الحوريين والميتانيين والحثيين والإغريق كانوا يتشاركون مناطق السكن نفسها، قبل أن يبدأوا تحركاتهم الكبرى.

    هذا عن النسق. وأما عن الزمرة التي تنتمي إليها أسطورة خصاء آنو، فإن النص لا يخفي لأول وهلة شبهه من حيث البنية العامة بأساطير التكوين في كل من بابل واليونان، ولكننا لا نعثر على ما يشبهه في الميثولوجيا الحثية، لأن ما نعرفه حتى الآن عن الميثولوجيا الحثية لا يحتوي على نص متكامل في الأصول والتكوين. من هنا فإن مقارنة أسطورة خصاء آنو بأساطير التكوين البابلية والإغريقية سوف تقدم لنا الإضاءات اللازمة على النص.

    تقوم أسطورة التكوين البابلية على عنصر الصراع بين أجيال الآلهة. وهذا الصراع يعكس ثلاثة عصور متتابعة تؤدي في النهاية إلى استتباب نظام الكون بعد خروجه من رحم الهيولى. ففي البدء كان العماء المائي ممثلاً بثلاثة آلهة هي تعامة، الماء المالح والأم الأولى، وآبسو، الماء الحلو والزوج الأول، وممو الذي ينتج عنهما والذي نرجِّح أن يكون الضباب المنتشر فوقهما. ثم أخذت هذه الآلهة البدئية تتكاثر، فنشأ عنهما أولاً الثنائي لهمو ولهامو (اللذان يمثلان في تفسير المدرسة الطبيعانية الطمي والرواسب المائية). وعن هذين نشأ الثنائي أنشار وكيشار (اللذان يمثلان في تفسير المدرسة الطبيعانية الجانب السماوي والجانب الأرضي من خط الأفق).[18] ثم أنجب أنشار وكيشار بكرهما آنو، وأنجب آنو ابنه إيا الذي كان واسع الحكمة شديد الدهاء والذكاء وأكثر قوة وعتياً من آبائه. وقد كان هذا الجيل الثاني من الآلهة في حالة حركة دائبة، يصخبون في جوف تعامة ويسببون الأرق والإزعاج للإلهة القديمة، حتى فكرت بإفنائهم والتخلص من ضجيجهم لتعود إلى حالة السكون الأولى. وبعد التشاور في الأمر قرر آبسو شن حملة على الجيل الثاني، ووقف إلى جانبه ممو؛ أما تعامة فآثرت الحياد لعدم رغبتها في قتل أبنائها. فبادر الجيل الثاني إلى تعيين إيا قائداً عليهم. وعندما التقى الجمعان قام إيا بإلقاء تعويذته السحرية على آبسو، فشلَّت حركته؛ ثم عمد إليه فقتله وأسر وزيره ممو. وفوق آبسو الماء العذب أقام إيا مسكنه وعاش فيه مع زوجته دومكينا. وفي بيت الأقدار هذا، كما يصفه النص، ولد مردوخ، بكر إيا ودومكينا، الذي يصفه النص بقوله: "تخلب الألباب قامته، تلمع كالبرق عيناه، يخطو بعنفوان ورجولة. بفن بديع تشكلت أعضاؤه. لا تدركه الأفهام ولا يحيط به خيال."

    ابتهج الآلهة بمقدم مردوخ وأعلوه فوقهم جميعاً. خلق آنو الرياح الأربعة وسلَّمها إليه، فراح مردوخ يصرِّف الرياح ويحدث فيها الأمواج التي اضطربت لها تعامة، فصارت قلقة حائرة تحوم على غير هدى. والآلهة البدئية الأخرى نسيت الراحة في خضم العواصف الهائجة، فجاءت إلى تعامة تحرضها على القتال والانتقام لزوجها القتيل. خلقت تعامة أحد عشر نوعاً من الوحوش المخيفة وجهزت جيشاً وضعت على رأسه الإله كينغو، وتهيأت لشن المعركة. أما الآلهة الشابة من الجيل الثالث فقد لجأت إلى مردوخ وأسلمته القيادة بعد أن تنصَّل منها أفراد الجيل الثاني. ولما التقى الجمعان اضطربت صفوف جيش تعامة لمرأى مردوخ وخارت قواهم. فتقدم مردوخ واشتبك مع تعامة في معركة منفردة. رمى عليها شبكته التي تحملها الرياح الأربعة، ثم أفلت في جوفها الرياح الشيطانية فتهاوت عند قدميه. عند ذلك عمد إلى قتلها، وشقَّها إلى نصفين صنع من واحدهما السماء ورفعها إلى الأعلى، وأرسى الآخر فصنع منه الأرض. ثم التفت بعد ذلك إلى صنع بقية أجزاء الكون وتنظيمه. وأخيراً صنع الإنسان من تراب ممزوج بدم الإله كينغو الذي جرى إعدامه. وكان هذا آخر عمل مبدع قام به.[19] ومعه ابتدأت سيادة الجيل الثالث من الآلهة على الكون.

    رغم عدم تشابه الأحداث في الأسطورتين البابلية والحورية، واختلافهما في التفاصيل، إلا أنهما تقومان على فكرة أساسية واحدة هي فكرة الصراع بين أجيال الآلهة. ففي الأسطورة البابلية تتابع ثلاثة أجيال من الآلهة هي جيل آبسو فجيل إيا فجيل مردوخ، وهذا التتابع هو تمثيل رمزي لكيفية خروج الكون من مرحلة الهيولى الساكنة والعماء الذي لاشكل له، إلى مرحلة التشكل والتكون، فمرحلة التنظيم. وفي الأسطورة الحورية تتتابع أربعة أجيال هي جيل ألالوس فجيل آنوس فجيل كوماربي فجيل إله العاصفة. وتفيدنا مقارنة الأسطورتين في فهم مغزى الصراع الذي يدور بين أجيال الآلهة في الأسطورة الحورية. فهذا الصراع ليس سياسياً يهدف إلى السيطرة على عرش السماء، وإنما هو أيضاً نوع من التمثيل الرمزي لمراحل تنظيم العالم في التصورات الحورية. ورغم الشكل المختزل للأسطورة الحورية وعدم احتوائها على تفاصيل مشابهة لتفاصيل الأسطورة البابلية، فإنها يجب أن تُدرس وتفهم على هذا الأساس.

    وتقدم لنا أسطورة التكوين الإغريقية من جانبها نموذجاً أقرب من حيث البنية والأحداث إلى نموذج الأسطورة الحورية. يقول هسيود في كتابه أصول الآلهة: "في البداية لم يكن سوى العماء المائي المظلم المتسع بلا حدود. من هذا العماء ظهرت جيا الأرض الراسخة الأثداء. وبعدها ظهر إيروس الحب الذي دخلت قدرته في صلب الأشياء والكائنات جميعاً. كما ولد من العماء أريبوس الهاوية المظلمة، وولد الليل، ومنهما ولد الأثير والنهار. ثم إن جيا، أول الآلهة، خلقت الجبال العالية والبحر الواسع بأمواجه المتناغمة، وأنجبت دون زوج بكرها أورانوس السماء المتوجة بالنجوم، فغطاها من جميع جهاتها وتزوجته. وعن قران الأرض والسماء ظهر الآلهة التيتان. إلا أن هؤلاء لم يروا النور لأن أورانوس كان يبقي على أولاده سجناء في أعماق أمهم الأرض غير عابئ بتوسلاتها. وعندما ولدت جيا كرونوس، اتفقت معه على التخلص من أبيه وتحرير إخوته. كمن كرونوس عند فوهة رحم الأرض ومعه منجل حاد زودته به أمه، وعندما أقبل أورانوس لمضاجعة زوجته مساءً وأولج فيها، انبرى له كرونوس وخصاه بالمنجل ثم رمى بأعضائه التناسلية بعيداً. سالت الدماء من الجرح النازف وسقطت على التربة فولدت منها الإيرينيَّات، ربات الانتقام، والعمالقة، وحوريات الدردار. أما الأعضاء المفصولة فقد وقعت في البحر وتسربت منها المادة المخصبة فصارت زبد البحر الذي تمخض وأنجب أفروديت. وبذلك ينتهي عصر أورانوس ليبدأ عصر كرونوس.

    تزوج كرونوس من أخته رحيا التي خرجت من باطن الأرض مع بقية الآلهة التيتان. ولكن سلوك كرونوس حيال أولاده لم يكن بأفضل من سلوك أبيه. فبعد صعوده إلى سدة السلطان أخذ يبتلع أولاده من رحيا حال ولادتهم، خوفاً من منازعة أحدهم له مثلما فعل هو بوالده. وهكذا كبر وترعرع الجيل الثاني من الآلهة في جوف أبيهم كما كبر وترعرع الجيل الأول في جوف أمهم. وعندما ولدت رحيا آخر أبنائها زفس، كانت عازمة على الاحتفاظ به، فدفعت إلى كرونوس حجراً ملفوفاً في قماط فابتلعه معتقداً أنه المولود الجديد. أما زفس فقد أخفته أمه في جزيرة كريت وعهدت به إلى الحوريتين إدراستيا وإيدا ابنتي ملك الجزيرة. وعندما كبر صمم زفس على العودة والانتقام من أبيه. وهناك أجبره على أخذ شراب جهزته الإلهة ميتيس، سبب له الإقياء الذي ساعد إخوة زفس على الخروج من جوف أبيهم. ثم نفاه إلى أقاصي الأرض حيث أقام هناك بعيداً عن مشاكل العالم.[20]

    تكشف هذه الأسطورة الإغريقية عن تشابه في البنية العامة وفي العناصر الرئيسية مع الأسطورة الحورية، على ما تبينه المقارنة التالية:

    1ً.

    · جيا أول الآلهة تنجب أورانوس–السماء، وتتزوجه.

    · ألالوس أول الآلهة وأبوهم ينجب آنوس–السماء الذي يخدمه طيلة تسع سنوات.

    2ً.

    · أورانوس يسود على الكون ويسجن أولاده في باطن الأرض جيا، وبينهم كرونوس آخر مواليد جيا.

    · يتمرد آنوس على ألالوس فيقصيه عن العرش ويحكم بدلاً عنه.

    3ً.

    · يتمرد كرونوس على أبيه ويخصيه بمنجل حاد عندما أقبل لمضاجعة أمه.

    · يتمرد كوماربي على أبيه ويعض على قضيبه بأسنانه.

    4ً.

    · ينسكب دم الجرح من أورانوس وينسكب على الأرض وينتج عن تلاقح الدم والتربة العمالقة وآلهة أخرى.

    · يبتلع كوماربي سائل أبيه، ثم يبصق منه على الأرض فينتج عن تلاقح الأرض والسائل إلهان. أما بقية المادة فتنزل إلى بطن كوماربي وتنتج بذورها إله العاصفة، الذي ينمو في بطن أبيه.

    5ً.

    · كرونوس يسود ويبتلع أولاده. كما يبتلع زفس رمزياً عن طريق ابتلاعه لحجر ملفوف في قماط، بينما يشب زفس في مخبئه حتى بلوغه سن الرشد.

    · كوماربي يسود وإله العاصفة ينمو في بطنه حتى يبلغ الرشد في شهر المخاض.

    6ً.

    · يتشاور إله العاصفة مع آنو حول أفضل طريقة للخروج من بطن كوماربي.

    · تتعاون الآلهة ميتيس مع زفس بإعدادها شراباً مقيئاً يساعد الآلهة الحبيسة على الخروج من فم كرونوس، بما فيهم الحجر الذي ابتلعه على أنه زفس نفسه.

    7ً.

    · كرونوس يتقيأ أولاده بالإكراه وزفس يقهره وينفيه. زفس يسود.

    · إله العاصفة يخرج بالقوة وبعون تعاويذ إيا السحرية فيقهر أباه وينفيه. إله العاصفة يسود.

    نلاحظ من هذه المقارنة مدى تشابه الأسطورتين في البنية العامة وتوافق عناصرهما الرئيسية. ورغم أن زفس في الأسطورة الإغريقية قد نجا من الابتلاع نتيجة حيلة دبرتها أمه، إلا أني أرجح أن ابتلاع الحجر هو عنصر مستحدث على الشكل الأصلي للأسطورة، وأنها كانت تتضمن في الأصل قيام كرونوس بابتلاع زفس، ثم خروج هذا على رأس إخوته بطريقة ما. ذلك أن خدعة جيا تبدو لي فكرة مستمدة من الفولكلور الشعبي، وواهية الصلة بالأفكار الميثولوجية الأصلية.

    وكما قلنا عند مقارنتنا مع الأسطورة البابلية، فإن الأسلوب المختزل للنص الحوري، وخلوه من التفاصيل التي يمكن أن تضيء لنا ماهية كل عصر من العصور المتتابعة، وما يقابله من التحولات الكونية التي قاد تسلسلها إلى تنظيم الكون، يخفي طابعه العام كنص في أصول العالم وتنظيمه. إلا أن البنية المشتركة بين النص الحوري والنص الإغريقي يجب أن توجِّه أنظارنا إلى رؤيته في الإطار العام لأساطير الأصول وتنظيم العالم ودراسته على هذا الأساس.

    غير أن الأسطورة الحقيقية لا تُسلِم نفسها لمستوى واحد من التفسير لأنها تقوم في الأصل على عدة مستويات من الطرح الرمزي، الأمر الذي يفرض علينا بالمقابل أن نعمد إلى حفريات تخترق المستوى الأول للتفسير لتصل إلى المستويات التحتية للطرح الأسطوري. وفي حالة أسطورتنا المركبة هذه، فإن تفسيرنا المبدئي لا يفي كل عناصر الأسطورة حقها من التوضيح. فصراع الأجيال يمكن أن يجري دونما حاجة إلى ابتلاع الأولاد في الأسطورة الإغريقية وإقامتهم في بطن أبيهم حتى بلوغهم سن الرشد، وأيضاً دونما حاجة إلى حبل ذكري وولادة غير طبيعية في الأسطورة الحورية. فكيف نفسر هذه العناصر في الأسطورتين؟

    إني لا أستطيع تلمس أي معنى لهذه العناصر الغريبة في الأسطورتين إلا من خلال صراع الثقافة الأمومية القديمة مع الثقافة الذكرية البطريركية الجديدة، ومنعكسات هذا الصراع في الميثولوجيا. والفكرة التي تقوم عليها هذه العناصر هي فكرة الحمل الذكري التي نستطيع التعرف عليها في أكثر من أسطورة إغريقية.

    إن عنصر ابتلاع السائل المنوي والحمل بإله العاصفة في الأسطورة الحورية يعادل، من حيث القيمة الرمزية، عنصر ابتلاع الأولاد في الأسطورة الإغريقية. وكلا هذين العنصرين يخدم فكرة الحمل الذكري، وهي بقية ميثولوجية من بقايا الصراع الكبير بين الميثولوجيا الذكرية والميثولوجيا الأمومية، الذي عكس ذلك الصراع الاجتماعي الحاسم عند مطلع التاريخ، عندما كانت المجتمعات الإنسانية تنتقل من الثقافة القروية إلى الثقافة المدنية.[21] فالإله الذكر في الأساطير التي تقوم على هذه الفكرة يدَّعي لنفسه أهم وظيفة من وظائف الأنثى ويثبت أنه قادر على الحمل أيضاً. وغالباً ما يكون هذا الحمل حملاً من الدرجة الثانية، أي أن المولود الإلهي الجديد يدخل في جسد الأب بعد خروجه من رحم الأم، حيث يقيم فترة كافية تطهِّره من آثار الأمومة وتقطع روابطه بكل ما تمثله الأم من قيم أنثوية. لقد عاش الآلهة التيتان من أولاد الأرض جيا في رحم أمهم وترعرعوا هناك في فترة حمل طويلة استمرت حتى شبُّوا عن الطوق. وهؤلاء التيتان هم آلهة الثقافة الأصلية في بلاد اليونان قبل قدوم القبائل الهندوروبية إليها. أما الآلهة الأوليمبيون من إخوة زفس، وهم الآلهة الحقيقيون للقبائل الإغريقية الهندوروبية ذات التقاليد البطريركية، فقد خرجوا من رحم الأم رُضَّعاً ليكبروا ويشبوا عن الطوق في جوف أبيهم. وإذا كانت الأم قد أعطتهم الحياة البيولوجية فإن الأب هو الذي وهبهم الحياة الثقافية.

    ولدينا أسطورتان إغريقيتان أخريان تقومان على عنصر الحمل الثاني الذكري، هما أسطورة مولد ديونيسوس وأسطورة مولد أثينا. في أسطورة مولد ديونيسوس تطلب سيميلي من زوجها زفس أن يظهر لها في هيئته الأصلية كإله للصواعق والبروق. وعندما يفعل ذلك تموت سيميلي هلعاً من المنظر المخيف وتهبط إلى العالم الأسفل وهي حامل بديونيسوس. يستطيع زفس إنقاذ الجنين من بطن أمه، ولكن قبل اكتمال نموه، ثم يعمد إلى شق فخذه فيودع الجنين هناك ويخيط الشق عليه. يُكمِل الجنين ما تبقى له من شهور الحمل، ثم يخرج إلى الحياة في ولادة ثانية بعد أن أمضى قسماً من أشهر الحمل في رحم أمه وقسماً آخر في فخذ أبيه. أما في أسطورة مولد أثينا، فإن زفس يقوم بابتلاع ميتيس أولى زوجاته والإلهة الفائقة الحكمة، وذلك إثر نبوءة حذرته من أنها حامل بمولود سوف يتحدى سلطانه. تُكمِل ميتيس فترة حملها في جوف زفس ثم تلد الإلهة أثينا التي صعدت إلى رأس أبيها تحاول الخروج دون جدوى. انتاب زفس صداع أليم بسبب اضطراب أثينا في رأسه، وهنا تطوَّع الإله الحداد هيفستوس لحل المشكلة وعمد إلى شجِّ رأس زفس بفأس، ومن الجرح العميق خرجت أثينا في عدة الحرب الكاملة.

    ولرب سائل يسألنا هنا: كيف ينطبق تفسيرنا لفكرة الحمل الثاني على الإلهة أثينا وهي امرأة؟ ولتوضيح هذه النقطة يجب أن ننظر إلى شخصية أثينا كما رسمتها الميثولوجيا الإغريقية. فأثينا هي ربة الحرب، وربة الذكاء والحصافة، وحارسة المدن الحصينة، وحامية البنائين والنحاتين وأصحاب الحرف. لم تتزوج ولم يخفق قلبها بحب أحد بل حافظت على عذريتها ولم يقربها رجل. تمثلها الأعمال الفنية دائماً في عدة الحرب الكاملة.[22] فأثينا، والحالة هذه، أقرب لأن تكون فكرة مجردة منها لإلهة محددة مشخصة. إنها الأفكار التي تصدر عن عقل الرجل، والذكاء البراغماتي الذي يصنع بواسطته تقاليد المدينة. إن الرجل يحبل ويلد أيضاً كما المرأة ولكنه يلد الأفكار التي تصدر عن رأسه كما صدرت أثينا عن رأس أبيها. إنه الحمل على المستوى الثقافي الذي يعادل حمل المرأة على المستوى البيولوجي الطبيعاني. من هنا قامت هذه الأسطورة البطريركية بتكريس "الفكرة" كمولود ذكري، يتكون في جوف الرجل ثم يخرج من رأسه بعد أن تطهَّر من آثار الأمومة وتنقَّى من شوائبها. لقد ذهب عالم النفس المعروف سغموند فرويد إلى القول بأن الأنثى في المجتمع الذكوري تملك في لاوعيها حسداً للذكر على امتلاكه للقضيب. ولكن يبدو أن الرجل كان يملك في لاوعيه حسداً للمرأة بسبب مقدرتها على توليد الحياة بالحمل والإنجاب، وذلك قبل أن يوطد سيطرة قيمه الذكرية في مجال المجتمع والسياسة، فكان عليه أن يثبت من خلال الأسطورة مماثلته لها في هذه الوظيفة الأساسية.

    ولعلنا واجدين في طقوس العبور التي يخضع لها الفتيان في بعض الثقافات التقليدية، ما يوضح الخلفية الثقافية التي يقوم عليها عنصر الحمل الذكري، بما هو تطهير للمولود من آثار الحمل الأمومي، وهو العنصر الميثولوجي الذي وصل أعلى درجات التطرف في أسطورة خصاء آنو الحورية، عندما حمل كوماربي مباشرة من قضيب أبيه، فنما في بطنه إله العاصفة في غنى عن الحمل الأولي في رحم امرأة. فلدى العديد من القبائل البدائية،[23] يُترَك الأطفال الذكور في عهدة أمهاتهم منذ الولادة إلى سن البلوغ. ثم يخضع الفتى الذي قارب سن البلوغ إلى طقس تطهيري رمزي، يخلصه من شوائب الفترة التي قضاها في رعاية أمه وفي بيئة نسائية بحتة، ويهيِّئه للانضمام إلى عالم الرجال. يأتي ممثلون عن رجال القبيلة فينتزعون الفتى من بيت أمه ويعزلونه في كوخ خارج القرية، حيث يخضع لأنواع مختلفة من التابو المتصل بعالم النساء. وبين الحين والآخر يعود الرجال إليه فيؤدون حوله طقوساً خاصة تساعده على الولادة الجديدة من عالم النساء إلى عالم الرجال. وأخيراً يخرج من معتكفه ليغدو عضواً كاملاً في جماعة الذكور البالغين. وفي أول خروج له من عزلته غالباً ما تتضمن الإجراءات الطقسية قيام الفتى بتأدية حركات رمزية أمام أمِّه من شأنها الإيحاء بانقطاعه نهائياً عنها وازدرائه للعالم النسائي.

    نأتي الآن إلى النوع الرابع من الأساطير، وهو النوع الذي يستعصي على التفسير، ولا نستطيع حياله إلا الخروج بافتراضات تبقى أفضل من "الفوز من الغنيمة بالإياب"، على حد قول المثل المعروف.

    *** *** ***








    [1] Alexander Heidel, The Babylonian Genesis, Phoenix, Chicago: 1970, pp. 77-78.

    [2] من أجل مقاطع الإينوما إيليش انظر ترجمتي الكاملة للنص عن المرجع السابق في مؤلفي مغامرة العقل الأولى.

    [3] L. Delaport, “Phoenician Mythology”, in: Larousse Encyclopedia of Mythology, pp. 82-83.

    [4] تاريخ هيرودوتس، بترجمة حبيب فندي بسترس، بيروت 1886، 2: 54.

    [5] ميرشيا إلياده: مظاهر الأسطورة، بترجمة نهاد خياطة، دار كنعان، دمشق 1991، ص 149.

    [6] قمت بترجمة هذه المقاطع عن منتخبات جاكوبسن في كتابه:

    Th. Jacobsen, The Treasures of Darkness, Yale: 1976, p. 87 ff.

    [7] الأنوناكي هم آلهة السماء ويقابلهم الإيجيجي آلهة الأرض. ولكن الكلمة قد تستعمل للدلالة على جمع الآلهة من النوعين.

    [8] هناك ترجمة كاملة للنص قدمها كريمر ضمن موسوعة نصوص الشرق القديم:

    J. Pritchard, edit., Ancient Near Eastern Texts, Princeton: 1969. pp. 455-463.

    [9] انظر ترجمتي الكاملة للملحمة في مؤلفي جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة، دار علاء الدين، دمشق 1996.

    [10] Stephanie Dallay, Myths from Mesopotamia, Oxford: 1991.

    [11] كان التاج في ذلك الوقت يتألف من قبعة محدبة القمة ومن عصابة تلتف حولها عند الجبهة.

    [12] حشرت هذا النص هنا نقلاً عن النص البابلي القديم. أنظر ترجمة E. A. Speiser في موسوعة Ancient Near Eastern Texts، المرجع السابق، ص 114، البيت رقم 14.

    [13] R. E. Davidson, Gods and Myths of Northern Europe, Penguin: 1964, pp. 190-194.

    [14] أقدم فيما يلي ترجمة كاملة للقسم الأول من النص، وتلخيصاً للقسم الثاني منه، وذلك بسبب تشوه اللوح الذي يحتوي على بقية النص وعدم وضوح العديد من سطوره. وقد اعتمدت هنا ترجمة A.Goetze في موسوعة:

    J. Pritchard, edit., Ancient Near Eastern Texts, pp. 120-121.

    [15] من الممكن أن يكون كوماربي قد ابتلع قضيب آنوس، لأن الباحث Goetze لم يكن واضحاً تماماً في ترجمته لهذه النقطة. انظر المرجع ص 120 السطر 25.

    [16] G. S. Kirk, Myth, Its Meaning and Function, Cambridge: 1970, p. 216.

    [17] يعتمد كيرك في رأيه هذا على ترجمة غوتز للسطر الذي يعلق فيه كوماربي على الاقتراح المتضمن الخروج من الموضع الحسن. وهو سطر غير واضح بسبب التشوه، أورده غوتز في المرجع السابق على الوجه التالي: "إذا خرجت من الموضع الحسن فإن امرأة سوف..." ويفهم كيرك من هذا أن العطب لن يصيب الموقع الحسن – وهو القضيب – بل المرأة التي سيضاجعها إله العاصفة.

    [18] انظر تفسير جاكوبسن في دراسته لأسطورة التكوين البابلية.

    [19] انظر النص الكامل في مؤلفي مغامرة العقل الأولى والمرجع رقم 1 من هذا البحث.

    [20] Guirand, “Greek Mythology” in Larousse Encyclopedia of Mythology, pp. 87-91.

    [21] يجب ألا يؤخذ هذا الطرح في إطار زمني وتاريخي دقيق، لأن القبائل الرعوية ذات النزعة العسكرية المحاربة تتبنى أيضاً معتقدات وأساطير ذكرية بطريركية.

    [22] Ibid, p. 107.

    [23] J. E. Harrison, Themis, University Books, New York: 1966. pp.35-38.


    Reply With Quote  
     

  4. #4 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    الأسطورة والمعنى
    (2 من 2)


    فراس السواح

    النموذج المستغلق
    1. أسطورة إنكي وننخرساج


    البطلان الرئيسيان في هذه الأسطورة السومرية التي ألخصها هنا هما: إنكي إله الماء العذب والحكمة، وننخرساج الأم–الأرض. عاش إنكي وننخرساج عند مطلع الأزمان في أرض دلمون، الجنة النقية الطاهرة التي لا يعرف ساكنوها الألم والمرض والشيخوخة ولا يعتدي فيها مخلوق على آخر. ولكن الأرض كانت قاحلة؛ فطلبت ننخرساج من زوجها إنكي أن يجري الماء في الجزيرة، ففعل ذلك بمعونة إله الشمس وإله القمر، فاخضرَّت الأرض وارتوى الزرع. ثم أخرج إنكي قضيبه وروى الأخاديد في الأرض، وغمر حقول القصب، وأمر رسوله وتابعه إيسموند بألا يسمح لأحد أن يقترب من السبخات المائية. بعد ذلك ضاجع إنكي زوجه فحملت منه. وبعد تسعة أيام يعادل كل منها شهراً كاملاً أنجبت إنكي الفتاة ننمو التي ترعرعت بسرعة إلى طور الصبا. وبينما كانت الفتاة تتجول عند السبخات المائية رآها إنكي، فقطع بمركبه إلى الضفة الأخرى وضاجعها هناك. حملت ننمو من أبيها، وبعد تسعة أيام يعادل كل منها شهراً كاملاً أنجبت الفتاة ننكورا. وبينما كانت ننكورا تتجول في السبخات المحظورة جاءها إنكي وضاجعها فحملت منه. وبعد تسعة أيام يعادل كل منها شهراً وضعت الفتاة أُتُّو. ولكن قبل أن يعمد إنكي إلى إغواء البنت الجديدة تقول لها ننخرساج بألا تستسلم له قبل أن يأتيها بأنواع معينة من الخضار والثمار من الأراضي الصحراوية البعيدة، بينها العنب والخيار. ويبدو أنها كانت تعتقد بعدم قدرة إنكي على استنبات تلك المناطق. ولكن إنكي يفيض بمائه على الأراضي البعيدة ويرويها، ويقوم بستاني لا نعرف هويَّته برعاية النباتات حتى تكبر وتنمو فيأتي بها إلى إنكي. يقدم إنكي النباتات إلى أُتُّو فتستسلم له. ولكن ننخرساج تسرع إليهما وتنتزع بذور إنكي من بين ساقي الفتاة. لا ندري ماذا فعلت ننخرساج ببذور إنكي لأن النص ينتقل مباشرة من انتزاع البذور إلى القول بأن ثمانية أنواع من النباتات قد ولدت منها. نمت النباتات وكبرت. وبينما كان إنكي يتجول مع تابعه إيسموند، وقع بصره على النباتات الغريبة فسأله عن أسمائها؛ فكان كلَّما ذكر له اسم واحدة منها اقتلعها له فأكلها، وذلك "لكي يعرف أسماءها ويقدِّر مصائرها"، على حد قول النص. وهكذا دواليك حتى أتى عليها جميعاً. تثور ثائرة ننخرساج لفعلة إنكي وتلعنه قائلة: "إلى آخر أيامك لن أنظر إليك بعين الحياة." ثم تختفي.

    يقع إنكي مريضاً إثر لعنة ننخرساج، وتستوطن جسمه ثمانية علل بعدد النباتات التي أكلها. يؤدي مرض إنكي إله الماء إلى قحط يعمُّ الأرض، فيجزع الآلهة ويبحثون عن ننخرساج يلتمسونها، لعلها ترفع لعنتها عن إنكي فلا يجدونها. وأخيراً يتطوع الثعلب للبحث عنها فيجدها. وعندما تحضر إلى مجمع الآلهة يمسكون بأطراف عباءتها ويرجونها أن ترفع لعنتها عن إنكي فتستجيب. تعمد ننخرساج إلى وضع إنكي في فرجها ثم تسأله عن الذي يؤلمه:

    ننخرساج أجلست إنكي في فرجها:

    - ما الذي يوجعك يا أخي؟

    - إن […] يوجعني

    - لقد استولدتْ لك الإلهة آيو

    - ما الذي يوجعك يا أخي؟

    - إن فكي يوجعني

    - لقد استولدتْ لك الإلهة ننتولا

    - ما الذي يوجعك يا أخي؟

    - إن أسناني تؤلمني

    - لقد استولدتْ لك الآلهة ننسوتو

    - ما الذي يوجعك يا أخي؟

    - إن فمي يؤلمني

    - لقد استولدتْ لك الإلهة ننكاسي [...]

    وتستمر هذه الحوارية حتى تستولد ننخرساج ثماني إلهات للشفاء بعدد أوجاع الإله إنكي الذي يسترد صحته وعافيته. وتنتهي الأسطورة على هذا النحو.[1] ورغم أن النص شديد التكثيف والإيجاز عند هذه النقطة، إلا أننا نفهم منه أن ننخرساج تستولد إلهات الشفاء الثمانية هذه من بطن إنكي، وأن هذه الإلهات هي النباتات الثمانية التي أكلها فتحولت في بطنه إلى كائنات إلهية تحاول الخروج إلى الحياة. وربما لهذا السبب قامت ننخرساج بوضع إنكي في فرجها ليكون قادراً على إطلاق النبات من جوفه فيما يشبه الولادة الطبيعية.

    يقع هذا النص في حوالى 270 سطراً، وهو خالٍ تقريباً من النقص والتشوهات وواضح الكلمات والصيغ والتعابير، وخالٍ من الإشكالات اللغوية. ومع ذلك فإن التأمُّل في معناه يضعنا أمام جدار مُصْمَت، لا نافذة فيه ولا باب. فما الذي تقصد أن تقوله هذه السلسلة من الأحداث التي تنتقل بنا من شيفرة إلى أخرى؟ وأي معنى يكمن خلف هذا النص الذي يتسلسل دون روابط منطقية، ودون سببية مقنعة؟

    لاشك أن التحليل المتأني يساعدنا على فهم أجزاء متفرقة من النص، ولكن دون أن نستطيع ربط هذه الأجزاء في النهاية بما يساعدنا على استيعاب الرسالة الإجمالية. من الجوانب الواضحة مثلاً أن الجنة الأولى التي تم زرعها في الأرض إنما نتجت عن اتحاد الماء بتربة الأرض، أي زواج إنكي–الماء من ننخرساج–الأرض. فنحن في مطلع النص أمام أسطورة تنتمي إلى ميثولوجيا الأصول والتكوين. وهي تبدأ بوصف كمال البدايات قبل أن يتطرق الفساد إلى مظاهر العالم ويدخل في نسيج الحياة. كما أننا أمام تأسيس لفكرة صلة العلاقات الجنسية بخصب الأرض وتبادلها تأثيراً سحرياً تراحُمياً. فزواج إنكي من ننخرساج يأتي بعد سلسلة من نشاطات إنكي الإخصابية. وهذا الزواج يعمل بدوره على الإيحاء للطبيعة بالإخصاب. وفي نهاية النص نجد أنفسنا أمام جانب إيتيولوجي تبريري يفسر كيفية ظهور إلهات الشفاء ووظيفتهن في علاج الأمراض.

    قد تشعرنا هذه التفسيرات بالرضى وتشغلنا عن بقية التفاصيل، أو تعطينا مبرراً لتجاهلها، كما تجاهلها الآخرون من دارسي هذه الأسطورة. وهذا ما لن نفعله هنا. فماذا عن قيام إنكي بمضاجعة ابنته، ثم حفيدته، فابنتها أيضاً؟ ما الذي تمثله هذه الإلهات الثلاثة المدعوات ننمو وننكورا وأُتُّو؟ لماذا هرعت ننخرساج ونزعت بذور إنكي من رحم أُتُّو؟ لماذا ابتلع إنكي بناته الثماني، وهي النباتات التي نمت من بذوره المنتزعة من رحم أُتُّو؟

    إن استعراض أهم التفسيرات التي قُدِّمت لهذا النص يدلُّنا على مدى غموضه واستعصائه وبقاء رسالته خفية على مناهجنا وطرائقنا في التفكير.

    في كتابه الصادر عام 1963 تحت عنوان السومريون، لم يضف الباحث المرموق في السومريات صموئيل نوح كريمر أي جديد في تفسير هذه الأسطورة على ما قدمه عام 1943 في كتابه الميثولوجيا السومرية. فبدلاً من السعي إلى إلقاء أضواء جديدة على النص، نراه يتابع ويوسِّع عقد المقارنات بين النص السومري وأسطورة الفردوس التوراتية: فجنة إنكي وننخرساج تشبه في براءتها الأولى جنة آدم وحواء؛ والمياه التي فجَّرها إنكي لسقي دلمون تشبه النهر الذي فجَّره يهوه في جنة عدن والذي تفرع إلى أربعة أنهر؛ واللعنة التي نزلت على إنكي من جراء أكله النباتات الثمانية تشبه اللعنة التي نزلت على آدم من جراء أكله من ثمار شجرة المعرفة... ثم يسير كريمر شوطاً أبعد في عقد مثل هذه المقارنات الواهية عندما يعقد صلة بين اسم حواء في النص العبري واسم إحدى إلهات الشفاء، تلك المدعوة نن–تي التي استولدت لشفاء ضلع إنكي. فالاسم بالسومرية يعني سيدة الضلع، حيث المقطع الأول نن يعني "سيدة"، والثاني تي يعني "ضلع". كما أن الاسم في الوقت نفسه يعني سيدة الحياة أو التي تحيي، لأن المقطع تي يؤدي أيضاً معنى صنع الحياة. وبذلك تشبه هذه الإلهة حواء التي ولدت من ضلع آدم. فهي سيدة الضلع، ويفيد اسمها معنى صنع الحياة في الوقت نفسه.[2] ونحن لو سلَّمنا جدلاً بمشروعية مثل هذه المقارنات، فإننا لا نجد فيها ما يلقي ضوءاً على النص السومري. وكريمر نفسه لم يخلص منها إلى نتيجة واضحة، إضافة إلى أنه قد تفادى تماماً معظم العناصر الغامضة في النص.

    أما ثوركيلد جاكوبسن، الباحث المعروف الآخر في السومريات، فيقدم لنا في كتابه كنوز الظلمات[3] تفسيراً ذا طابع عمومي يقفز فوق التفاصيل. يرى جاكوبسن أن الأسطورة ترجع في أصولها إلى الألف الرابع قبل الميلاد، حين تأسست في جنوبي وادي الرافدين شبكة من القنوات المائية أحدثت انقلاباً اقتصادياً كبيراً قام على الإفادة القصوى من ماء النهرين الكبيرين. من هنا فإن العنصر الرئيسي الذي تقوم عليه الأسطورة هو زواج إنكي، الذي يمثل ماء النهر، من ننخرساج، التي تمثل حقول الطمي التي تحف به. فإنكي–الماء يفيض في جزء من السنة ليروي الحقول اللحقية الممتدة على الضفتين، ثم يعود تدريجياً إلى سريره الأصلي تاركاً التربة ننخرساج بعد أن لقَّحها. وأثناء انحساره يكشف عن أرض مخصبة أخرى تنتج بدورها نباتات جديدة هي إلهات النبات الثلاثة ننمو وننكورا وأتو. وفي انتظار عودة النهر مرة أخرى إلى الفيضان، يكون إنكي مريضاً والإلهة ننخرساج التي لعنته مختفية عن الأنظار، حتى يعثر عليها الثعلب وتعود لشفاء المريض.

    يتَّبع هذا التفسير – بدقة متناهية – منهج جاكوبسن الذي يمكن أن ندعوه بمنهج المجاز الطبيعاني، الذي يجعل من ظواهر الطبيعة شخصيات إلهية، ويرى إلى الأسطورة باعتبارها بنية رمزية تقابل، نقطة نقطة، جانباً من العالم الطبيعاني. ورغم أن تفسيره هنا يبدو جذاباً للوهلة الأولى ومنسجماً مع روح المنهج المستخدم، إلا أننا سرعان ما نتبيَّن أنه قفز فوق العديد من التفاصيل المهمة، شأنه في ذلك شأن كريمر. ولسوف أحاول من جانبي تقديم تفسير يطمح إلى شمولية أكثر، ويعمل على الإحاطة بمعظم التفاصيل التي تركها الآخرون، والربط فيما بينها على نحو مقنع. ولكن مع الاعتراف مسبقاً بالتقصير عن بلوغ الأرب.

    إن نصاً على هذا القدر من الغرابة والتعقيد ذو بنية متراكبة تتطلب منا أن ننظر إلى مستوياتها من زوايا مختلفة، بحيث تعطينا كل زاوية مستوى للفهم مختلفاً ومكملاً للمستويات الأخرى. فالنص، كما رأى جاكوبسن محقاً، هو نتاج فترة مبكرة من الثقافة السومرية، كانت خلالها مشغولة بتأسيس البنى التحتية لنظام ري وإنتاج زراعي دام فترة ألفين من السنين على أقل تقدير. والشخصيتان الرئيسيتان هنا هما الماء والتربة، بالإضافة إلى ما نجم عن علائقهما من مظاهر تنتمي إلى عالم الطبيعة والنبات. وهذا هو المستوى الأول لفهم الأسطورة. أما المستوى الثاني فتأمُّلي فلسفي؛ ومفتاحنا إليه هو الحالة التي كانت عليها أرض دلمون في البدايات الأولى، والحالة التي صارت إليها بعد ذلك، مع النظر إلى سلسلة الأسباب والنتائج التي قادت إلى تبدل الأحوال. فأرض دلمون، كما يصفها مطلع النص، هي: "مكان طاهر، مكان نظيف، مكان مضيء. حيث لا يفترس الأسد ولا يفترس الذئب. حيث لا يعرف أحد رمد العين ولا أوجاع الرأس. حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة والمرأة من العجز. حيث لا وجود لمنشد يندب ولا لجوَّال ينوح." ولكن ما الذي حل بهذه اليوتوبيا البدئية بعد ذلك؟ لقد هُزَّت أركانُها وتضعضعت أسسُها، فحلَّ الشقاق محلَّ الوئام، والمرضُ محلَّ الصحة الدائمة، وتنازعُ الإرادات محلَّ التناغم المطلق والانسجام. وباختصار، نحن هنا أمام سقوط ذريع من عصر البراءة الذي وصفتْه الميثولوجيا السومرية في نصوص أخرى، ومنها هذا النص:

    في تلك الأيام، لم يكن هناك حيَّة ولا عقرب ولا ضبع.

    لم يكن هناك أسد ولا كلب مسعور ولا ذئب.

    لم يكن هناك خوف ولا رعب.

    لم يكن للإنسان منافس.

    في تلك الأيام كانت شوبور، أرض المشرق،

    أرض الوفرة وشرائع العدل.

    وسومر، أرض الجنوب، ذات اللسان الواحد،

    أرض الشرائع الملكية.

    وأوري، أرض الشمال، الأرض التي يجد فيها كلٌّ حاجته.

    ومارتو، أرض الغرب، أرض الدعة والأمان.

    وكان العالم أجمع يعيش في انسجام تام،

    وبلسان واحد يسبح الكل بحمد الإله إنليل.[4]

    أما عن الأسباب التي قادت إلى هذا السقوط، فنراها في خطيئتين. الأولى: معاكسة الطبيعة، والثانية: الإفراط.[5] فإنكي يهجر زوجه ثم يستنفد قواه في تحويل مياهه من قنواتها ليسقي بها الأراضي البعيدة الصحراوية. أما ننخرساج فتردُّ على أفعاله غير الطبيعية والمفرطة بفعل آخر متطرِّف وغير طبيعي، حين تنزع بذوره من رحم أُتُّو، فيدفعه ذلك إلى أكثر الأفعال تطرفاً وبعداً عن الطبيعة، حين يلتهم بناته واحدة أثر أخرى. وتكون النتيجة حصول تصدُّع في بنية العالم الفردوسي وظهور المرض، وهو علامة الاختلال الأولى في الحياة وبوابة الموت.

    وبما أن المرض يتطلب الدواء والشفاء، فإن الأسطورة تتابع سرد الأحداث التي قادت إلى ظهور الشفاء كنقيض ومعارض للمرض. وهنا لابد من عكس مسار الأفعال الشاذة وغير الطبيعية التي قادت إلى الاختلال. فإنكي الذي يحمل في بطنه حملاً شاذاً ثماني بنات يجب أن يدخل في فرج ننخرساج ليستطيع إنجاب بناته بطريقة أقرب إلى فعل الولادة الطبيعية. وبعد دخوله تقوم ننخرساج باستيلاد البنات واحدة إثر أخرى؛ وكل واحدة منهنَّ موكلةٌ إليها خصيصةُ شفاء مرض من الأمراض التي يعاني منها إنكي.

    وأحب أن أضيف هنا أن ولادة إلهات الشفاء تحمل في طياتها جانباً إيتيولوجياً تبريرياً، هدفتْ الأسطورة من ورائه إلى تبرير الخواص الشفائية التي تتمتع بها بعض النباتات. فإلهات الشفاء الثماني اللواتي ظهرن إلى الوجود لسن، من حيث الجوهر، سوى نباتات خضعت لعملية تحويل رمزي زوَّدتها بخصائص سحرية من شأنها مقاومة المرض والدفاع عن الحياة. لقد ابتلع إنكي نباتات عادية وحمل بها في بطنه "لكي يعرف اسمها ويقرر مصائرها"، على حد قول النص، ثم دخل إلى فرج ننخرساج حيث أطلقها إلى الحياة، وقد تحولت إلى إلهات شافية ولدت من أعماق الماء ومن رحم الأرض بعد عملية تحويلية معقدة. وكل نبتة شافية اكتشفها الإنسان بعد ذلك هي، على نحو ما، سليلة لإحدى هذه النباتات السحرية البدئية التي ظهرت في الأزمان الأولى. وهذا هو المستوى الثالث لفهم الأسطورة.

    ولدينا أخيراً مستوى رابع هو مستوى سحري طقسي. وإني أرجِّح أن يكون هذا النص بمثابة تعويذة تساعد على الشفاء من الأمراض. ومفتاحي لهذا التفسير هو الشبه الواضح في البنية بين نصِّنا هذا ونصوص أخرى دعاها نُسَّاخها تعاويذ لشفاء المرض، أورد منها فيما يلي نصين:

    النص الأول وثيقة بابلية يذكر كاتبها أنه استنسخها عن وثيقة قديمة وردت فيها تعويذة لشفاء وجع الأسنان. وهذه ترجمتي للنص:

    بعد أن خلق آنو السماء

    وبعد أن خلقت السماء الأرض

    والأرض خلقت الأنهار

    والأنهار خلقت المستنقعات

    والمستنقعات خلقت دودة السوس

    مضى السوس باكياً إلى الإله شمش

    وذرف الدمع في حضرة الإله إيا قائلاً:

    "ماذا تعطيني لطعامي؟

    وماذا تعطيني لشرابي؟"

    [فأجابه إيا:]

    "سأعطيك شجر التين الناضج

    أو أعطيك شجر المشمش."

    [فقال السوس:]

    "بماذا يفيدني شجر التين؟

    بماذا يفيدني المشمش؟

    دعني أصعد وأتخذ لي مسكناً

    بين الأسنان وعظام الفك

    حيث امتص دماء الأسنان

    وأنخر فيها

    عند جذور وعظام الأسنان."

    [يلي ذلك سطر موجه للطبيب المعالج]

    "أدخل الإبرة وأمسك بقدمه [=السوس]."

    لأنك نطقت بهذا أيها السوس، فليسحقك إيا بجبروت يديه.

    [حاشية]

    - تعويذة ضد وجع الأسنان

    - الطريقة: أحضر بيرة وزيتاً وامزجهما

    - أُتْلُ التعويذة ثلاث مرات وضع المزيج على الأسنان.[6]

    ولدينا تعويذة بابلية أخرى كانت تُتْلى عند النزول في ماء الفرات للحصول على الشفاء. وهذه ترجمتها:

    تعويذة:

    أيها النهر، يا مبدع الأشياء كلها.

    عندما حفر مجراك الآلهة الكبار،

    حَفُّوا ضفافك بكل ما هو حسن وطيب.

    وفيك أقام إله الأعماق إيا مسكنه،

    ووهبك فيضان الماء الذي لا يقاوَم.

    كما وهبك الإلهان إيا ومردوخ

    غضباً نارياً وجلالاً وروعاً.

    أنت قاضٍ في مشاكل البشر[7]

    أيها النهر العظيم، أيها النهر المبجل،

    يا نهر المقامات المقدسة،

    يا من بمائك يأتي الشفاء، تقبَّلْني.

    انتزع ما بجسمي وارمِه إلى ضفافك.

    ارمِه إلى ضفافك [أو] دَعْه يغور في أعماقك.[8]

    إن البنية العامة لنص إنكي وننخرساج، بصرف النظر عن تفصيلاته، تتألف من ثلاث واحدات أساسية هي: 1. عودة إلى الأصول وكمال البدايات؛ 2. دخول الفساد إلى الكون وظهور المرض؛ 3. ظهور الشفاء. وهذه البنية ذاتها نجدها في تعويذة السوس ووجع الأسنان. فالنص يرجع في مطلعه إلى البدايات الأولى، عندما خلقتْ السماءُ الأرضَ، والأرضُ خلقتْ الأنهارَ، إلخ... ثم يشرح كيفية ظهور مرض الأسنان، وينتهي إلى وصف العلاج الذي يتم بعون الإله إيا الذي أنجب إلهات الشفاء في أسطورتنا. كما تنتظم تعويذة النهر وفق بنية مشابهة، ولكن باختصار أشد. فهي تعود أيضاً إلى البدايات التي تم عندها إبداع الأشياء كلِّها، وتنتهي بالاستحمام في ماء النهر الذي يقيم الإله إيا في أعماقه، والذي يصل اللحظة الراهنة للمريض بتلك البدايات الكاملة الأولى.

    إن المواقف الفكرية التي تقوم وراء هذا النوع من الطقس السحري المرافق للعلاج الطبي تنطلق من اعتقاد الإنسان القديم بأن المرض، كعلامة من علامات الاختلال في الطبيعة، يمكن شفاؤه عن طريق انتزاع المريض من سياق الزمن الحالي والعودة به إلى الخلف في اتجاه معاكس نحو كمال البدايات – يوم لم يكن هناك ألم وشيخوخة وعجز. هذه العودة إلى البدايات تجعل القوى الإلهية الخالقة حاضرة هنا والآن من أجل مدِّ يد العون إلى المريض. ونحن أمام هذا الطقس المصغَّر يجب أن نتذكر نموذجه الأساسي الأكبر، ألا وهو طقوس رأس السنة الجديدة التي تنطلق من المواقف الفكرية عينها. ففي أعياد رأس السنة يقوم الكهنة في بابل بتلاوة أسطورة التكوين البابلية كاملة، ثم يجري تمثيلها درامياً من أجل تجديد العالم الذي بَلِيَ في السنة الماضية وإعطائه دفعة خلاقة جديدة في سنة أخرى قادمة، عن طريق استحضار القوى الإلهية الخلاقة التي أبدعت الكون في الأزمان الأولى. والمعنى العميق للطقس هنا، لا يتصل بإحياء ذكرى تلك الأحداث الميثولوجية العظمى، أحداث الأصول والبدايات والتكوين، بل بتكرارها وجعلنا معاصرين لها، فنستمد منها القوة على التجديد والاستمرار وتصحيح علامات الاختلال في حياة الإنسان.[9]

    وفي الثقافات التقليدية نعثر على ممارسات طقسية تقوم على المواقف الفكرية عينها من مسألة الأصول والبدايات والقوة الشفائية التي يتضمنها استحضار زمن الأصول. ففي أوستراليا تروي قبيلة الكاليولا كيف جرح العجوز فينامون نفسه جرحاً بليغاً في أثناء انشغاله بصنع قارب. عندئذ عمد إلى تلاوة التعاويذ التي تسترجع أزمان الأصول، فتلا نشأة الحادثة التي أدت إلى جرحه، ولكنه لم يتذكَّر الكلمات التي تحكي قصة أصل الحديد، وهي الكلمات التي يمكنها أن تشفي الجرح الذي أحدثته الأداة الحديدية الحادة. ثم بعد أن التمس العون من سحرة آخرين صاح فينامون: "الآن تذكرت أصل الحديد!" ثم بدأ يتلو التعويذة التالية:

    الهواء هو الأول بين الأمهات.

    الماء بكر الإخوة والنار ثانيهم،

    والحديد أصغر الثلاثة سناً.

    إن أوكو، الخالق العظيم،

    فصل الأرض عن الماء وأطلع الشمس في الأقاليم،

    لكن الحديد لم يكن قد وُلِد بعد.

    وهكذا ولدت الحوريات الثلاث

    اللائي صرن أمَّهات الحديد.[10]

    والفكرة من وراء هذه القصة هي أن العلاج لا يؤتي مفعوله إلا إذا عُرِف أصل الداء وأصل الدواء. وهذه فكرة شائعة لدى العديد من الثقافات النقلية. فكل تلاوة سحرية يجب أن تتقدَّمها تعويذة تحكي أصل الدواء المستعمل. وهم يقولون صراحة في مطلع أناشيدهم الطقسية هذه أنه إذا لم يُرْوَ أصل الدواء لا يجوز أن يُستعمَل. وهنا تبدأ التعويذة بالعودة إلى زمن الأصول وكيف قامت المرأة الأولى بزراعة النبتة الشافية، إلخ.[11]

    ولدى جماعة البهيل Bhils البدائية في الهند، هناك طقس مُعَدٌّ للشفاء، يقوم بموجبه ساحر القبيلة بتطهير المكان المحيط بمرقد المريض، ثم يعمد إلى رسم مندلا mandala، وهي دائرة ذات خصائص سحرية تزمر إلى الكون في تمامه. ورغم أن التعاويذ التي تُتلى في هذه المناسبة لا تشير صراحة إلى خلق العالم، إلا أن المندلا المرسومة بطحين الذرة قرب المريض تنوب مناب تلاوة الأسطورة، وتؤدي غرضاً شفائياً بجعلها المريض يعاصر رمزياً عملية الخلق، ويمتلئ بتلك القوى البدئية الهائلة التي جعلت الخلق ممكناً في الأزمان البدئية.[12]

    ولدى جماعة الناواهو، الهندية أيضاً، طقس للشفاء يتألف من سرد أسطورة التكوين الأصلية، يعقبها سرد لأساطير الأصول الفرعية، ثم تنفيذ رسوم على الأرض ترمز إلى مراحل الخلق والتاريخ الميثولوجي للإله. ولدى جماعة الناخي في الصين قرب التيبت عدد من التعاويذ الطقسية ذات الغرض الشفائي. وهي تبدأ بذِكْر ولادة الكون ثم ظهور المرض ثم الأدوية الشافية. تبدأ إحدى التراتيل بالمطلع التالي: "عندما في البدء لم تكن السماوات والأرض والشمس قد ظهرت، والنباتات والقمر والنجوم أيضاً، عندما لم يكن شيء مما كان بعد ذلك." تلي ذلك قصة خلق العالم وولادة الشياطين ثم ظهور المرض، فظهور الشَمَن Shaman الأول الذي جلب معه الأدوية الشافية. وتبدأ أنشودة طقسية أخرى على النحو التالي: "في الوقت الذي ظهرت فيه السماء وظهرت النجوم والشمس والقمر، وظهرت الأرض والنباتات، إلخ." وبعد الانتهاء من سرد تفاصيل الخلق، تأتي الأنشودة إلى سرد قصة طويلة عن أصل الأدوية وكيف صارت في حوزة رئيس الأرواح الشريرة، ثم تسرد قصة ميلاد الشَمَن الأول، وكيف صار إلى وظيفته هذه، وكيف جعل الأدوية متاحة للجميع. ففي أحد الأيام رجع الشَمَن إلى بيته ليجد والديه ميتين، فعزم على الذهاب بحثاً عن دواء يمنع الموت. بعد مخاطر ومغامرات كثيرة وصل إلى موطن رئيس الأرواح وسرق الأدوية العجيبة التي يحتفظ بها. وبينما هو هارب من المطاردة وقع على الأرض فتناثرت الأدوية على التربة ونبتت منها أعشاب الشفاء.[13] وفي ثقافتنا الشعبية الإسلامية تتمتع قراءة المولد النبوي بقوة الأصول. فنحن عندما نستعيد قصة مولد الرسول (ص)، إنما نستحضر من جديد قوى فائقة مقدسة، ونستشعر وجودها بيننا لتعيننا على الأمر الذي من أجله يُقرَأ المولد، شفاءً كان، أم دفعاً لبلاء، أم استنزالاً للبركات.

    أخيراً، وقبل نهاية المطاف، لديَّ استطراد قصير حول عنصر دخول إنكي في فرج ننخرساج، ثم خروجه منه في ولادة جديدة مع نباتات الشفاء. لقد تجاهل السيد كريمر في ترجمته للنص السومري هذا العنصر تماماً، إذ ترجم السطر المعني على الوجه التالي: "ثم قامت ننخرساج بوضع إنكي قرب فرجها." وللأمانة العلمية فقد أشار في الحاشية إلى أن التعبير في السومرية يشير إلى أنها قد وضعته في فرجها. وإننا نرى هنا، أن عنصر الدخول في جوف ننخرساج–الأرض هو عنصر مكمل لعنصر الرجوع إلى البدايات والأصول. ذلك أن فكرة العودة إلى الرحم تحمل بحد ذاتها نوعاً من الرجوع إلى الخلف، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالرجوع إلى رحم الأرض، خالقة الجنس البشري في الميثولوجيا المشرقية، وأم الآلهة جميعاً في التصورات الميثولوجية المبكرة. نقرأ في نص بابلي عن خلق الإنسان، حيث لُقِّبت ننخرساج (التي تظهر هنا باسمها الآخر مامي) بالرحم الأم:

    أنت عون الآلهة، مامي، أيتها الحكيمة

    أنت الرحم الأم

    يا خالقة الجنس البشري

    اخلقي الإنسان فيحمل العبء

    ويأخذ عن الآلهة عناء العمل.[14]

    وإذا كان تفسيرنا للأسطورة على أنها نوع من تعويذة الشفاء صحيحاً، فإننا نرجِّح أن المريض كان يمر بطقس رمزي من شأنه الإيحاء برجوعه إلى رحم الأرض، كما رجع إنكي. وهنا نستطيع أن نقارن عنصر دخول إنكي في رحم الأرض، في أسطورتنا، بعنصر هبوط النسر إلى رحم الأرض أيضاً، عندما لبث في قاع البئر مدة طويلة قبل أن يكون قادراً على استعادة صحته واكتساب قوى ذات علاقة بخصائص الإخصاب. كما تضيء لنا المقارنة مع الطقوس الشائعة لدى الثقافات النقلية وبعض الثقافات الراقية جوانب هامة من موضوعنا.

    لدى العديد من المجتمعات النقلية، تتضمن طقوس التَّعْدِيَة initiation التي يمر بها الفتيان من أجل العبور بهم من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج سلسلة من الأفعال الرمزية التي تخوِّل المرشح للتَّعْدِيَة إلى جنين بغية توليده ثانية. فهو يعود إلى الرحم من خلال إقامته في كوخ مظلم، أو دفنه في حفرة صغيرة ضمن بقعة مقدسة، متواحدة مع رحم الأرض–الأم. وهذه الولادة الثانية هي التي تجعل من الفتى عضواً مسؤولاً في مجتمعه. هذه الخصيصة التجديدية للعودة إلى الرحم تُستَخدَم أيضاً في الشفاء. ففي الهند مازال الطب النقلي، إلى يومنا هذا، يقوم بشفاء المرض وتجديد شباب الشيوخ عن طريق دفنهم في حفرة داخل الأرض لها هيئة الرحم. وفي الصين يتمتع طقس العودة إلى الأصول بتأثير شفائي كبير. ويولي المذهب التاوي هناك أهمية كبيرة لتمرين يدعى التنفس الجنيني. وتتم ممارسة هذا التمرين بالتنفس ضمن دائرة مغلقة كما يفعل الجنين، ومحاكاة دوران الدم وحركة الأنفاس من الأم إلى الطفل وبالعكس. وتقول المقدمات النظرية لهذا الطقس إنه، بالعودة إلى الأساس وبالعودة إلى الأصل، نطرد الشيخوخة ونعود إلى الحالة الجنينية.[15]

    بعد هذه الوقفة المطوَّلة عند هذا النص نتساءل: هل استطعنا الولوج إلى الأسطورة وتلقي رسالتها، أم بقينا نراوح مع بقية المفسِّرين عند العتبة؟ أترك الجواب للقارئ الذي أتعبته معي (الذي كان، ربما، يظن قراءة الميثولوجيا نوعاً من الاسترخاء الذهني والإصغاء إلى عجائب الحكايا الممتعة) وأنتقل إلى تقديم نص آخر ينتمي إلى النوع المستغلق، على الرغم من بساطة بنيته وجاذبية أحداثه.

    2. إنانا وشجرة الحلبو

    يبتدئ هذا النص السومري الحيوي والمؤثر بأسلوبه وإيقاعه الشعري الداخلي بمقدمة في التكوين وخلق العالم:

    في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى.

    في الليالي الأولى، في مطلع الليالي الأولى.

    في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى.

    في الأيام الأولى، عندما جرى خلق كل ما يلزم.

    في الأيام الأولى، عندما جاءت المشيئة بكل ما يلزم.

    عندما جرى خَبْز الخبز في المقامات المقدسة.

    عندما جرى أكل الخبز في بيوت البلاد.

    عندما تم إبعاد السماء عن الأرض.

    عندما تم فصل الأرض عن السماء.

    عندما تم تعيين اسم الإنسان.

    عندما اضطلع آنو بالسماء.

    عندما حُمِلَت أريشكيجال إلى العالم الأسفل غنيمة.

    عندما أبحر، عندما أبحر.

    عندما أبحر الأب يطلب العالم الأسفل،

    انهمرت على الملك الحجارة الصغيرة،

    انهمرت على إنكي الحجارة الكبيرة.

    الحجارة الصغيرة التي تُرمَى باليد،

    والحجارة الكبيرة التي تُقذَف بالقصب المهتز،

    ملأت قاع المركب، مركب إنكي،

    غمرته في انقضاضها كعاصفة داهمة.

    هاجم الماء الصاخب مقدمة المركب

    مثل ذئاب مفترسة.

    وهاجم الماء الصاخب مؤخرة المركب

    مثل أسودٍ كاسرة.

    هنا تنتهي المقدمة، لتبدأ الأسطورة بالمطلع التالي:

    في تلك الأزمان، شجرةٌ، شجرة حلبو

    زُرعت على ضفو نهر الفرات.[16]

    لقد كبرت شجرة الحلبو (معنى الاسم غامض الدلالة) على شاطئ النهر ترتوي من مائه، إلى أن جاء يوم هبت فيه ريح الجنوب بقوة واقتلعت الشجرة فرمتها إلى الماء الذي حملها. وفيما كانت الإلهة إنانا "تهيم على وجهها خائفة من كلمة الإله آن وكلمة الإله إنليل"، على حد التعبير الحرفي للنص، وقع بصرها على الشجرة فأعجبتها، وانتشلتها عائدة إلى بستانها الخصب حيث غرستها هناك، ثم راحت تعتني بها لكي تصنع من خشبها عرشاً لجلوسها وسريراً لمضجعها. وبمرور الأيام، كبرت الشجرة، ولكنها لم تورق ولم تزهر لأن ثلاثة كائنات غريبة احتلتها. فقد آوت إلى قاعدة الشجرة حيَّة هائلة لا يؤثر فيها سحر ولا تعويذة، فجعلت لها وكراً هناك، واتخذ من قمتها طائر الزُّو مسكناً له ولصغاره (ويدعى أيضاً إمدوجد، وهو طائر أسطوري عملاق معروف بعدائه للآلهة)، وفي الوسط أقامت ليليث، شيطانة القفار. فراحت الفتاة المرحة إنانا تبكي وتذرف الدمع. مضت إنانا إلى أخيها أوتو إله الشمس طالبة عونه على استرجاع شجرتها، ولكن أوتو لم يهتم للأمر. فمضت إلى جلجامش ملك أوروك وسألته العون فاستجاب لها. وضع جلجامش عليه درعه وحمل فأسه فجاء إلى الشجرة حيث صارع الحيَّة وقتلها بفأسه. ولما رأى الطائر ما حلَّ بالحية فرَّ بصغاره إلى الجبال البعيدة. أما ليليث فقد قوَّضت بيتها وعادت إلى القفار. عندئذٍ عمد جلجامش إلى الشجرة فاجتثَّها وقدَّمها إلى إنانا لتصنع منها عرشاً وسريراً. وبالمقابل، فقد كافأته إنانا بأن صنعت له من قاعدة الشجرة بكُّو، ومن قيمة الشجرة مكُّو. ومعنى هاتين الكلمتين غامض، غير أن مترجم النص السيد كريمر يرجِّح أن تكونا طبلاً وعصا الطبل.

    على هذا النحو تنتهي أسطورة إنانا وشجرة الحلبو، لتبدأ بعدها أسطورة جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل. ويربط عنصر الأداتين الموسيقيتين (البكُّو والمكُّو) بين الأسطورتين، بحيث تبدأ أسطورة جلجامش وإنكيدو من استلام جلجامش للأداتين اللتين تسقطان منه بعد قليل من كوة في الأرض إلى العالم الأسفل. وبما أن محرِّر ملحمة جلجامش البابلية قد تعامل مع الأسطورة الثانية بشكل مستقل عن الأسطورة الأولى، ودمجها في نهاية قصته، حيث شكلت اللوح الحادي عشر والأخير من الملحمة، فإني أرجِّح أنه قد استند في ذلك إلى تقليد آخر يفصل بين الأسطورتين ويتعامل مع كل منهما على حدة. وهذا ما سوف ألجأ إليه هنا، فأتعامل مع أسطورة إنانا وشجرة الحلبو كنص مستقل عن أسطورة جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل.

    لا يأتي استغلاق هذه الأسطورة من بنيتها المركبة، ولا من غرابة حوادثها وتداخلها، أو من غموض عقدتها القصصية. فنحن هنا أمام حكاية تبدو بسيطة للوهلة الأولى. وهي تسير باتجاه خطي واحد وصولاً إلى العقدة التي تتمثل في استيلاء الكائنات الثلاثة على الشجرة. ثم يتم حل العقدة بطريقة مألوفة في عدد من الأساطير الرافدية الأخرى، وصولاً إلى النهاية السعيدة وحصول إنانا على بغيتها. كل هذا يجعل قارئ هذا النص يتناوله كـ"حدُّوتة" عادية لا تحمل رسالة مهمة. غير أن أول ما يصرف نظرنا عن بساطة القصة هو تلك المقدمة في الخلق والتكوين المؤلَّفة من جزئين، بأسلوبها الجَزِل وإيقاعها الموسيقي المؤثر. فكل ما في هذه الافتتاحية الفخمة يهيئنا لتوقع حدوث أمر جَلَل ما. يضاف إلى ذلك أن الأسطورة الرافدية قد عوَّدتنا على أن استرجاع الأصول والعودة إلى البدايات هو مقدمة لقول شيء مهم أو الكشف عن سر من الأسرار. إن كل فعاليات الخلق والتكوين في القسم الأول من المقدمة، وما جرى لإنكي وهو يبحر لمقاومة قوى العالم الأسفل في الجزء الثاني من المقدمة، ينتهي إلى سطر واحد هو بداية القصة: "في تلك الأزمان، شجرة، شجرة حلبو" – الأمر الذي يدل على أن هذه الشجرة، وما جرى لها، هي الشأن المركزي، وهي التي من أجلها وُضِعَت المقدمة. فهل يسعفنا تأمُّل هذه المقدمة في إلقاء الضوء على أول مستويات هذه الأسطورة.

    تمارس الأسطر الثلاثة الأولى من المقدمة تأثيراً سحرياً على السامع يساعد على وضعه خارج زمانه اليومي المعتاد، بطريقة تشبه ما تفعله بنا الفكرة الموسيقية الأولى من مقطوعة سيمفونية:

    في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى

    في الليالي الأولى، في مطلع الليالي الأولى

    في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى

    بعد ذلك يأتي النص إلى سرد كيفية ظهور الكون ووضع أسس التحضُّر، وذلك بثلاث صيغ تكرر كل واحدة سابقتها بطريقة مختلفة:

    في الأيام الأولى، عندما جرى خلق كل ما يلزم

    في الأيام الأولى، عندما جاءت المشيئة بكل ما يلزم

    عندما جرى خَبْز الخبز في المقامات المقدسة

    يُجمِل النص في السطر الأول والثاني عملية الخلق بتعبير "كل ما يلزم"، ويشير في السطر الثالث إلى أصول التحضُّر بتعبير "خَبْز الخبز". ذلك أن صنع الخبز وأكله هو الذي يميِّز الإنسان المتحضر عن سَلَفِه الهمجي. وأما الصيغة الثانية فتؤدي المعنى نفسه، ولكن مع بعض التوضيح:

    عندما تم إبعاد السماء عن الأرض

    عندما تم فصل الأرض عن السماء

    عندما تم تعيين اسم الإنسان

    إن تعبير "كل ما يلزم"، الذي تكرر في السطر الأول والثاني من الصيغة الأولى، يجري تفصيله هنا في السطرين عينهما، حيث نرى كيف تم الخلق بإبعاد السماء عن الأرض وفصل الأرض عن السماء. أما أصول التحضُّر فيشار إليها في السطر الثالث بتعبير "تعيين اسم الإنسان". ثم تتابع الصيغة الثالثة لتعطينا مزيداً من التفاصيل:

    عندما اضطلع آنو بالسماء

    عندما اضطلع إنليل بالأرض

    عندما حُملت أريشكيجال إلى العالم الأسفل غنيمة[17]

    إن الكون الذي أصبح الآن متمايزاً عن الكتلة الهيولية الأولى قد أُعطِيَ معنًى روحانياً، وحلَّت به الآلهة تديره. فآنو قد اضطلع بشؤون السماء في السطر الأول، وإنليل قد اضطلع بشؤون الأرض في السطر الثاني. أما السطر الثالث الذي أُفرِد في الصيغتين الأوليين للحديث عن الإنسان وأصول التحضُّر، فإنه يعلمنا هنا عن مصير الإنسان: الموت، الذي ظهر عقب تمايز العالم الأسفل عن العالم الأعلى وتخصيصه كمكان لأرواح الموتى، وتعيين أريشكيجال حاكمة عليه.

    بعد ذلك يبتدئ الجزء الثاني من المقدمة، ويفيدنا بأن إنكي قد أبحر بمركبه نحو العالم الأسفل، وحصلت مواجهة بينه وبين قوى العالم الأسفل لم تُحسَم. وينتقل النص بعد ذلك مباشرة إلى القول:

    في تلك الأزمان، شجرة، شجرة حلبو

    زُرِعَت على ضفة نهر الفرات

    شربت وسُقِيَت بماء الفرات

    ما الذي تشير إليه تلك المواجهة غير الحاسمة بين إنكي–الماء والعالم الأسفل؟ إن كل ما أستطيع استنتاجه من هذه المواجهة التي تُرِكَت مفتوحة هو أن إنكي، باعتباره ممثلاً للقوى التي تدعم الحياة، والعالم الأسفل الذي يفغر فاه لالتهام الحياة، هما تمثيلان لقطبين متعارضين ومتعاونين، لا يستوي الوجود الإنساني إلا بتعارضهما وتعاونهما. لقد حاول الماء، بعد أن أحيا الأرض بما عليها من كائنات، أن يشق طريقه نحو العالم الأسفل الأجرد المظلم العقيم ليحييه كما أحيا العالم في الأعلى، ولكن تقدُّمه قد أُوقِف. ولذلك نجد أن الماء العذب يكمن في الأعماق، عند المستوى الفاصل بين سطح الأرض والعالم الأسفل؛ ومن هناك يصدر على شكل أنهار وينابيع وآبار، ولكنه لا يستطيع الغوص أكثر من ذلك لأن قوى العُقْم تقف له بالمرصاد منذ تلك الأزمنة الميثولوجية الأولى.

    من تلك المواجهة الأولى بين قوى الخصب وقوى العقم ينتقل النص إلى ظهور شجرة الحلبو التي تمثل الحياة الزراعية في شكلها الخام البدئي الذي لم يخضع بعد إلى تنظيم. ونظراً لعدم وجود من يعتني بالشجرة البرية، فقد اقتلعتها ريح الجنوب، وطافت فوق المياه، إلى أن انتشلتها إنانا وزرعتها في بستانها. وهنا يجب أن نلاحظ أن النص لا يقدم لنا إنانا في صورة الإلهة المكتملة، المسيطرة فعلاً على نفسها المتحكِّمة في حياتها، بل في صورة الصبيَّة الغضَّة التي تهيم خائفة من كلمة الإله آن وكلمة الإله إنليل، والتي لم تحصل بعد على رموز سلطانها. وهي، عندما تقوم بزراعة الشجرة في بستانها وتأخذ في العناية بها، فإنها تأمل أن تعطيها هذه الشجرة أهم رمزين من رموز سلطانها على الخصب والحب. وها هي ذي تفكر بصوت مسموع قائلة:

    متى تصير الشجرة عرشاً مثمراً أجلس عليه؟

    متى تصير الشجرة سريراً مثمراً أضطجع عليه؟

    على أن انتقال الشجرة من الحالة البرية إلى الحالة المدجَّنة قد ساعد على نموها، ولكنه لم يساعد على إوراقها وإزهارها، لأن ثلاثة كائنات تنتمي إلى قوى العماء والفوضى والموت قد حلَّت فيها. فطائر الزو معروف بمقاومته لقوى النظام التي سادت بعد التكوين، وهو لا يدَّخر وسعاً في خلخلة نظام الكون كلما سنحت له الفرصة (على ما نعرف من نصوص بابلية لاحقة). أما ليليث فهي شيطانة جميلة لها أجنحة ومخالب الطير، تنتمي إلى قوى العالم الأسفل وتسكن القفار والخرائب. وأما الأفعى فإنها لا تظهر هنا كوكيلة للخصب، بل كوكيلة لقوى الفوضى والدمار. وهي من النوع "اللوياتاني" الذي يجب على إله الخصب قتله قبل أن يسيطر فعلاً على قوى الإخصاب. ومثالها الحية ذات الرؤوس السبعة التي صرعتها الإلهة عناة. نقرأ في نصوص بعل وعناة المقطع التالي:

    الآن تريد أن تقتل لوتان، الحية الهاربة

    الآن تريد أن تجهز على الحية الملتوية

    شالياط العتيَّة ذات الرؤوس السبعة

    وفي مقطع آخر:

    ألستُ التي قضت على التنين؟

    ألستُ التي سحقت الحية الملتوية ذات الرؤوس السبعة؟[18]

    لاتستطيع إنانا حيال الموقف الجديد إلا البكاء وذرف الدموع. وعندما يخذلها الإله أوتو، يخف لنجدتها جلجامش فيقتل الأفعى ويطرد الطائر والشيطانة. وبذلك تتخلَّص الحياة النباتية من تأثير قوى الفوضى وقوى الموت، وتغدو جاهزة لأن تكون مقراً لعرش ألوهة الخصب، وجاهزة لأن تكون مضجع ألوهة الحب والجنس. وباستلام الإلهة إنانا رموز سلطانها على هذين المجالين، المتمثِّلة بالكرسي والمضجع، تدخل الحياة النباتية طور الزراعة المنظمة تحت رعاية إنانا التي تحولت الآن من فتاة خائفة إلى سيدة مكتملة ومسيطرة على الخصب والحب.

    يبقى أمامنا عنصر هام بحاجة إلى إيضاح. لماذا جاءت المعونة من جلجامش ملك أوروك، ولم تأت من الإله أوتو أو أية شخصية إلهية أخرى؟ وما هو الدور الرمزي الذي يلعبه جلجامش هنا بمساعدته إنانا على استكمال دورها كإلهة للخصب والحب وسيدة على عالم الطبيعة المدجَّنة؟

    لا توجد أمامنا سوى نافذة واحدة نستطيع الولوج منها إلى رمزية الدور الذي يلعبه ملك أوروك هنا في مساعدته لإنانا، الإلهة الرئيسية لمدينة أوروك. وهذه النافذة هي طقوس الزواج المقدس Hierogamy. فبموجب هذه الطقوس المؤسَّسة منذ عصور ما قبل الأسرات، كان على ملك أوروك أن يلعب دور الإله دوموزي ويتزوج من الإلهة إنانا مرة كل عام، فيلتقيان في غرفة مُعَدَّة لهذا الغرض تقع في أعلى برج المعبد. وأغلب الظن أن كبيرة كاهنات إنانا كانت تنتظر الملك هناك في غمرة الاحتفالات، فيصعد إليها وينام معها، وأن الاعتقاد السائد كان يذهب إلى أن روح الإلهة تحل في الكاهنة وروح الإله تحل في الملك. ومن لقائهما تنبثق قوة خصب كونية تساعد على دفع دورة الفصول، وإحلال الخصب في الطبيعة وفي الكائنات الحية. ويبدو أن الأسطورة هنا تجعل من جلجامش أول ملك لأوروك، ومؤسِّساً لطقس الزواج المقدس. وليس عونه لإنانا على تأسيس عرشها واستكمال سريرها إلا مقدمة لدوره المقبل كزوج طقسي لها – الأمر الذي يرجح أن الأسطورة في نصِّها الأقدم قد دُوِّنت إبان حكم الملك جلجامش، أي فيما بين القرن السادس والعشرين والقرن الخامس والعشرين قبل الميلاد. ومن الممكن أيضاً أن الصيغة الأكثر قدماً للأسطورة، التي ترجع إلى ما قبل عصر الأسرات، أي إلى الألف الرابع قبل الميلاد، كانت تجعل من دوموزي نفسه بطل الرواية؛ ثم حلَّ محلَّه فيما بعد بديلُه الطقسي.

    خاتمة
    لقد حاولنا في الصفحات المحدَّدة لهذا البحث أن نبحث عن "المعنى" في عدد من الأساطير المنتقاة من تراث الشرق القديم، وذلك وفق منهج تجريبي لا يلتزم بموقف مسبق أو بمدرسة من مدارس التفسير. وكان غرضنا من ذلك أن نُظهِر أن للأسطورة "نظاماً" داخلياً متماسكاً ينضوي على رسالة ما، رغم ما يبدو عليها من تفكك ظاهري أحياناً، لا ينسجم مع مفهومنا الحديث عن "النظام". هذه الرسالة، كانت يفهمها ويستوعبها الإنسان القديم الذي لم يكن بحاجة طبعاً إلى القيام بمثل ما نقوم به لكي يفهم أساطيره ويستوعب رسائلها. إن أحد الفروق الهامة بين فكرنا الحديث وفكر الإنسان القديم هو أننا لا نستطيع فهم ظاهرة بكلِّيتها إن لم نعمد إلى تفكيكها ومعرفة أجزائها المستقلة جزءاً جزءاً. وكلما اعتقدنا أننا فهمنا الأجزاء عند مستوى معين انتقلنا إلى المستوى الأعلى، وهكذا وصولاً إلى الفهم الكلِّي اعتماداً على السير الخطي من مرحلة إلى أخرى. وذلك على عكس الإنسان القديم الذي كان يرى إلى الظاهرة بكلِّيتها، ويحدس أنها لا تستمد الأجزاء عنده معناها إلا من الكل. من هنا، فإن "المعنى" الذي نحاول الكشف عنه في الأسطورة باستخدام أدواتنا التحليلية يبقى ظلاً باهتاً للمعنى الميثولوجي الخفي في النص.


    إن مشكلتنا مع "المعنى" في الأسطورة ناجم عن مفهومنا للمعنى. ولتوضيح هذه النقطة أستعير مثالاً من اللغة. فنحن عندما نريد توضيح معنى كلمة من الكلمات فإننا نورد عدداً آخر من الكلمات أو الجمل المفيدة التي تعمل على تكوين المعنى في الذهن. وهذا ما تفعله القواميس عادة عندما تُستَشار بخصوص كلمة ما فتحيل إلى كلمة أخرى أو كلمات، ثم تلحِقُها بجمل مركبة. ورغم ذلك، فإن إحساسنا بالكلمة يبقى إحساساً مباشراً، وهي تستثير فينا من الانفعالات المختلفة ما لا تستطيع الكلمات المفسِّرة خلقه. فإذا استشرت القاموس بخصوص كلمة "نار" مثلاً لقال لك: اشتعال، حريق، توقُّد... إلى آخر ما هنالك من مترادفات تحاول نقل المعنى المطلوب. ولكن حاول في ليلة مظلمة أن توقد في الخلاء ناراً وتلبث ساكناً أمامها تحدِّق فيها. عند ذلك فقط يمكن لك أن تستلم سرَّ الكلمة دون وسيط، لأنك تكون قد تجاوزت الكلمات والمترادفات ونفذت إلى سرِّ الشيء. وهذا ما يجب علينا أن نفعله حيال الأسطورة لننفذ إلى سرها دون وسيط.

    إن الأسطورة، من حيث شكلها، هي وسيط رمزي لمَوْضَعَة الانفعال الداخلي في الخارج، من خلال وسيط رمزي آخر هو الكلمات. ولكننا عندما نأتي إلى التحليل والتفسير فإننا نلجأ إلى وسيط ثالث، إلى جملة أخرى من الكلمات تعمل على شرح الجملة الأصلية؛ في الوقت الذي يجب علينا فيه أن نزيح تلك الجملة الأصلية وصولاً إلى الحالة الانفعالية التي أنتجت الأسطورة. أي أننا نتأمل الأسطورة كما تأمَّلنا النار ونفذنا إلى سرِّها دون وسيط. وهذه مهمة صعبة تنقلنا من "البحث" إلى ما يشبه "التصوف".

    *** *** ***






    [1] اعتمدت في ترجمة هذا الملخص على ترجمة كريمر الكاملة للنص. انظر مساهمة كريمر في موسوعة نصوص الشرق القديم:

    J. Pritchard, ed., Ancient Near Eastern Texts, Princeton, New Jersey, 1969, pp.38-40.

    [2] S. N. Kramer, The Sumerians, University of Chicago, 1963, pp.148-149.

    [3] Th. Jacobsen, The Treasures of Darkness, Yale University, 1976, p.113.

    [4] S. N. Kramer, Sumerian Mythology, Harper and Row, New York, 1961, p.107.

    [5] أنا مدين هنا بفكرتي "الإفراط" و"معاكسة الطبيعة" للباحث ج .س. كيرك. وقد طورت هذه الفكرة بما يخدم تفسيري الخاص. انظر كتابه:

    G. S. Kirk, Myth, Its Meaning and Function, op. cit., pp. 96 – 98.

    [6] Alexander Heidel, Babylonian Genesis, op. cit., pp. 72-73.

    [7] إشارة إلى ما يدعى بتحكيم النهر المذكور في شريعة حمورابي.

    [8] Op. cit., p. 75.

    [9] عالج مؤرخ الأديان المعروف مرسيا إلياده فكرة العودة إلى كمال البدايات في عدد من كتبه، منها ثلاثة مترجمة إلى العربية هي: المقدس والدنيوي، أسطورة العود الأبدي، مظاهر الأسطورة، بترجمة نهاد خياطة. ويمكن لمن شاء مراجعة أي واحد منها للتوسع في هذا الموضوع.

    [10] ميرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، بترجمة نهاد خياطة، دار كنعان، دمشق 1991، ص 19.

    [11] المرجع نفسه، ص 19.

    [12] المرجع نفسه، ص ص 27-28.

    [13] المرجع نفسه، ص ص 28-33.

    [14] A. E. Speiser, “Akkadian Myths” (in J. Pritchard, ed., Ancient Near Eastern Texts, p. 99.

    [15] ميرسيا إلياد، المرجع السابق، ص ص 77-80.

    [16] S. N. Kramer, The Sumerians, University of Chicago, 1963, pp. 199-202.

    [17] في كتابه القديم الصادر عام 1948 ترجم كريمر هذا السطر على الوجه التالي: "أخذ كور الإلهة أريشكيجال غنيمة له" واعتقد بأن كلمة "كور" الواردة هنا، التي تدل على العالم الأسفل، كانت في الأصل تدل على كائن أسطوري يسيطر على العالم الأسفل، وأن هذا الكائن قد اختطف أريشكيجال، مثلما اختطف هاذِس بيرسفوني في الأسطورة الإغريقية. ولكن كريمر تخلى عن فهمه هذا في كتبه اللاحقة. وجاءت ترجمته الأخيرة للسطر على الوجه الذي أثبتُّه أعلاه: "عندما حُمِلَت أريشكيجال إلى العالم الأسفل غنيمة"، دون أن يبيِّن من هو الذي حمل أريشكيجال إلى العالم الأسفل. وإني أرجِّح أن السطر البلاغي المختصر جداً أراد أن يقول بأن الآلهة قد حملت أريشكيجال إلى العالم الأسفل غنيمة لها. أي أن العالم الأسفل كان حصَّتها من تلك القسمة. وقد تبنَّيت من جهتي في كتابي الأول مغامرة العقل الأولى تفسير كريمر القديم. أما هنا فإني أرفض ترجمته القديمة وأشكك بالثانية، مرجِّحاً التفسير الذي قدَّمته لتوِّي، والذي يتلاءم مع روح النص وأسلوبه.

    [18] C. H. Gordon, Ugarit, Norton Library, New York, 1967.
    Reply With Quote  
     

  5. #5 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    ميلاد الشيطان
    زرادشت: نبي التوحيد، نبي الثَنَوية


    فراس السوّاح

    مقدمة تاريخية
    منذ مطلع الألف الثاني ق م أخذت الشعوب المعروفة تاريخياً باسم الشعوب الهندآرية بالانسياح من مواطنها الأصلية في السهوب الأوراسية نحو آسيا الصغرى وأوروبا والهند وإيران. وقد وصلت طلائع الهندآريين إلى الهضبة الإيرانية خلال أواسط الألف الثاني ق م، ثم أخذت بالاستقرار تدريجياً في ثلاث مناطق رئيسية، بحسب عشائرها، وهي: منطقة ميديا، ومنطقة فارس، ومنطقة بارثيا. في مطلع الألف الأول ق م حكمت ميديا سلالة ملكية بدأت بتوحيد الممالك الإيرانية الصغيرة منذ القرن الثامن ق م، ثم أفلحت في بسط سلطتها على كامل إيران عقب تحالفها مع بابل وتدميرهما آشور خلال عامي 614–612 ق م. دام سلطان الميديين قرابة قرن من الزمان، إلى أن قام قورش ملك فارس بالتمرد على حميه ملك ميديا عام 549 ق م، وأخضع ميديا وبقية المناطق الإيرانية، وأسَّس لحكم أسرة قوية عُرِفَت باسم الأسرة الأخمينية. بعد أن استتبت له الأمور في إيران أخذ قورش بالضغط على الحدود الشرقية للإمبراطورية البابلية، إلى أن سقطت بابل العاصمة في يده عام 539 ق م وانفتحت أمامه بوابة آسيا الغربية، فتابع مسيرته غرباً حتى استولى على جميع مناطق النفوذ البابلية في بلاد الشام وآسيا الصغرى، ثم أكمل ابنه قمبيز ضمَّ مصر بعد ذلك بقليل. وبذلك ابتدأ عصر جديد في منطقة الشرق القديم هو عصر الإمبراطورية الفارسية التي حكمت أصقاعاً مترامية الأطراف، تمتد من البنجاب في الهند شرقاً إلى حدود اليونان القارية وحدود الصحراء الغربية في مصر غرباً. دامت هذه الإمبراطورية قرابة قرنين من الزمان، إلى أن انتهت على يد الإسكندر المقدوني عام 331 ق م.

    في عام 280 ق م قامت في مملكة بارثيا ثورة على حكم السلوقيين السوريين من خلفاء الإسكندر بقيادة الزعيم أرشق الذي حرر بارثيا أولاً، ثم بقية المناطق الإيرانية، وأسَّس لحكم أول أسرة بارثية. بعد وفاة أرشق قام خلفاؤه بمتابعة الضغط على القوات السلوقية، حتى دفعوا بها إلى ما وراء نهر دجلة. وفي عهد الملك ميتراديس الأول وخليفته ميتراديس الثاني تم إجلاء السلوقيين إلى ما وراء نهر الفرات، فامتدت الإمبراطورية البارثية من حدود الهند شرقاً إلى نهر الفرات غرباً. امتد العمر بهذه الإمبراطورية أجلاً طويلاً، وذلك من أواسط القرن الثاني ق م إلى أوائل القرن الثالث الميلادي عندما عادت السلطة مجدداً إلى فارس. فقد قام حاكم منطقة فارس المدعو بابك بالثورة على البارثيين وأعلن فارس مملكة مستقلة. ثم خلفه ابنه أردشير الأول الذي التقى بآخر ملوك البارثيين في معركة فاصلة وقتله عام 226 م. وأردشير الأول هو مؤسِّس الأسرة الساسانية التي حكمت الإمبراطورية الفارسية قرابة أربعة قرون. من أشهر ملوك الساسانيين خسرو أنوشروان، المعروف لدى العرب بكسرى أنوشروان. وقد ارتقى هذا العاهل الكبير العرش عام 531 م وحكم زهاء خمسين عاماً. وبعد وفاته شهدت البلاد فترة من الاضطرابات توالى خلالها على العرش عدد من الملوك الضعفاء انتهوا بالخلع أو القتل، إلى أن ولي العرش يزدجرد الثالث عام 632 م؛ فقد استطاع هذا العاهل القوي ضبط الأمور بيد من حديد وسار بالبلاد نحو عهد من الطمأنينة والاستقرار. إلا أن العرب الذين ظهروا على المسرح الدولي في ذلك الوقت ما لبثوا أن غنموا سورية عام 636 م، ثم توجهوا لقتال يزدجرد في معركة القادسية الحاسمة. وبعد معركتين تاليتين شقَّ العرب طريقهم نحو الهضبة الإيرانية. ومع حلول عام 652 كانت سيطرتهم على إيران تامة تقريباً.

    زرادشت
    يُعتبَر زرادشت واحداً من أهم الشخصيات الدينية التي أثَّرت على مجرى الحياة الروحية عبر تاريخ الحضارة. ولا تكمن أهمية هذا النبي والمعلِّم الأخلاقي الكبير في مدى الانتشار الجغرافي والزماني للديانة الزرادشتية التي قامت على وحيه وتعاليمه بقدر ما تكمن في مدى تأثير أفكاره على الديانات العالمية اللاحقة.

    لا توجد بين أيدينا مصادر تاريخية مباشرة تعيننا على رسم سيرة كاملة لحياة زرادشت، ولكننا نستطيع رسم ملامح عامة لها اعتماداً على المصادر الإغريقية التي تعود إلى القرنين السادس والخامس ق م وعلى المصادر الزرادشتية ذاتها، وأهمها مجموعة الأناشيد التي وضعها زرادشت نفسه، المدعوة بالـغاثا، ومجموعتين من الأدبيات الزرادشتية معروفتين باسم الـأفستا والـأفستا الصغرى، وتحتويان على تعاليم زرادشت وأحاديثه الشفوية التي تُنوقِلت عبر الأجيال وعلى شروح وتعليقات اللاهوتيين الزرادشتيين. وقد تم تدوين هاتين المجموعتين خلال الفترة الساسانية بعد قرون طويلة من التداول الشفهي.

    رغم أننا نفهم من الأفستا الصغرى أن زرادشت عاش وبشَّر برسالته قبل عصر الإسكندر بثلاثة قرون، أي فيما بين أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس ق م، إلا أن الباحثين في تاريخ الزرادشتية مختلفون في تاريخ ميلاد المعلِّم. فبينما يرجع به فريق من الباحثين إلى أواسط الألف الثاني ق م استناداً إلى التحليل الفيلولوجي لِلَهجة أناشيد الغاثا التي تشفُّ عن بُنى لغوية مغرقة في القدم فإن فريقاً ثانياً يقبل بالمعلومة الأفيستية ويحدِّد ميلاده في أوائل القرن السادس ق م، ويطابق بين اسم الملك فشتاسبا الذي يتكرر في أناشيد الغاثا واسم والد الملك قورش المدعو هيستابس. وهنالك فريق ثالث يؤرِّخ لمولد زرادشت في مطلع الألف الأول ق م، حوالى عام 900 تقريباً؛ وحجة هذا الفريق قِدَم لهجة أناشيد الغاثا، من جهة، وعدم تعرضها، ولو بالإشارة العابرة، إلى ذكر مملكة الميديين أو الأخمينيين، من جهة ثانية. يضاف إلى ذلك ما تكشف عنه الدراسة المدققة للأناشيد من وجود نظام سياسي كان سائداً خلال حياة الكاتب، يقوم على الإمارات الصغيرة التي لا تخضع لسلطة سياسية مركزية؛ ومثل هذا النظام لم يكن ممكناً بعد عام 900 ق م. هذا التاريخ المتوسط لميلاد نبي الزرادشتية يلقى الآن تأييد معظم الباحثين. أما عن المنطقة التي ولد بها المعلم وعاش سنوات يفاعه إلى أن جاءه وحي النبوة فإن الآراء تتفق على وقوعها في المناطق الشرقية المتطرفة والبعيدة عن المراكز الحضرية التي كانت تعيش على الرعي وتربية الماشية.

    عندما ولد زرادشت، على ما تقصُّه الأدبيات الزرادشتية اللاحقة، احتفلت كل مظاهر الطبيعة، وحدثت سلسلة من المعجزات التي رافقت ذلك الحدث المهم في تاريخ الكون وتاريخ الإنسانية. أما الشيطان فقد هرب واختفى من على وجه الأرض؛ ثم ما لبث أن أرسل زبانيته لإهلاك الرضيع. فلما اقتربوا منه تكلم في المهد وتلا صلاةً للربِّ طردت الشياطين. وعندما شب على الطوق جاء الشيطان لكي يجربه ووضع في يده سلطان الأرض كلِّها مقابل تخلِّيه عن مهمته القادمة، ولكن زرادشت نهره وأبعده عنه.[1]

    انخرط زرادشت منذ يفاعه في الكهنوت وصار كاهناً على دين قومه (وهو دين هندإيراني شبيه بدين أسفار الـفيدا الهندية). وكان ينتمي إلى فئة خاصة من الكهان تدعى زاوتار، يتميز أفرادها بسعة العلم والخبرة في الشؤون الدينية، ولا يُرسَمون كهنة إلا بعد خضوعهم لتدريب طويل يتمرسون إبانه بشتى المعارف اللاهوتية والفنون الطقسية. غير أن هذا الكاهن ما لبث أن انشق على المعتقدات التقليدية التي نشأ عليها وأحدث انقلاباً دينياً كان له أعمق الأثر على الحياة الروحية لإيران وللإنسانية على حدٍّ سواء. فعندما كان زرادشت في الثلاثين من عمره جاءه وحيُ النبوة من السماء يأمره بالتبشير والدعوة إلى دين الله الحق. فبينما كان الكاهن الشاب يشارك في إحدى المناسبات الطقسية دعت الحاجة إلى بعض الماء، فتطوَّع زرادشت لجلبه ومضى إلى النهر القريب حيث خوَّض حتى ركبتيه وملأ وعاءه. وبينما هو خارج من الماء،[2] تجلَّى له على الضفة كائن نوراني، فخاف لدى رؤيته وهمَّ بالرجوع. ولكن الكائن كلَّمه وطمأنه قائلاً بأنه فوهو ماناه، أحد الكائنات الروحانية الستة التي تحيط بالإله الواحد أهورا مزدا وتعكس مجده. ثم أخذ الملاك بيد زرادشت وعرج به إلى السماء حيث مَثُل في حضرة أهورا مزدا والكائنات الروحانية المدعوة بالأميشا سبنتا؛ وهناك تلقَّى من الله الرسالة التي وجب عليه إبلاغها لقومه ولجميع بني البشر.

    بعد تلقيه الرسالة انطلق زرادشت يبشر بها في موطنه وبين قومه مدة عشر سنوات، ولكنه لم يستطع استمالة الكثيرين إلى الدين الجديد. فلقد وقف منه الناس العاديون موقف الشك والريبة بسبب ادعائه النبوة وتلقي وحي السماء، بينما اتخذ منه النبلاء موقفاً معادياً بسبب تهديده لهم بعذاب الآخرة، ووعده للبسطاء بإمكانية حصولهم على الخلود الذي كان وقفاً على النخبة في المعتقد التقليدي. ولما يئس النبي من قومه وعشيرته عزم على الهجرة من موطنه، فتوجَّه إلى مملكة خوارزم القريبة، حيث أحسن ملكها فشتاسبا استقباله، ثم اعتنق هو وزوجته الزرادشتية وعمل على نشرها في بلاده. ولكن ملوك المناطق المجاورة طالبوا فشتاسبا بنبذ الزرادشتية والرجوع إلى دينهم التليد، وانتهزوا الفرصة للإغارة على حدود بلاده، فدخل معهم في حروب طاحنة خرج منها منتصراً. وبذلك تم فتح الطريق أمام الزرادشتية للانتشار التدريجي.

    عاش زرادشت عمراً مديداً، ووجد الوقت الكافي لنشر رسالته والعمل على تبسيط تعاليمه الأولى التي أوردها في الأناشيد، وذلك بلغة تقرِّبها إلى أفهام عامة الناس وتستميلهم إليها. تزوج ثلاث مرات وأنجب ثلاثة ذكور وثلاث بنات؛ وكانت ثالث زيجاته من ابنة الوزير الأول لمملكة خوارزم. بعد وفاة الملك فشتاسبا سادت الفوضى في المملكة وفقد زرادشت سنده وحاميه؛ فكان عليه أن يكافح ويصمد بقواه الخاصة؛ وهي مهمة حققها بنجاح بعد نضال شاق وطويل. إلى هذه الفترة العصيبة يرجع قانون العقيدة الزرادشتي الذي يجب على المؤمن فهمه وإعلانه لدى دخوله في الدين الجديد، وفي مقدمته الشهادة التي تقول: "أشهد أني عابد للإله أهورا مزدا، مؤمن بزرادشت، كافر بالشيطان، معتنق للعقيدة الزرادشتية، أمجِّد الأميشا سبنتا الستة، وأعزو لأهورا مزدا كل ما هو خير." لدى نطقه بهذه الشهادة يكون الفرد قد انسلخ عن الدين القديم وصار عضواً في جماعة المؤمنين.

    ذاع صيت زرادشت في العالم القديم. فاعتبره الإغريق سيداً للحكمة وللمعارف السرَّانية؛ وعزا إليه الفيثاغوريون تأثيراً مباشراً على معلِّمهم فيثاغوراس؛ ونظر إليه فلاسفة الأكاديميا بإكبار وإجلال باعتباره مؤسِّساً لفلسفة الثنوية؛ ثم رأت فيه المسيحية المبكرة مبشراً بقدوم السيد المسيح بسبب تعاليمه حول المخلِّص المنتظر الذي سيأتي في آخر الأزمان.[3] وعندما ظهرت المدارس الغنوصية في سورية ومصر خلال القرون الأولى للميلاد وجدت في زرادشت واحداً من معلِّميها الكبار. ثم جاء ماني، المعلِّم الثاني لمعتقد الثنوية، فاعتبر زرادشت ثالث الأنبياء العظام الذين سبقوه، إضافة إلى موسى ويسوع. وفي العصور الحديثة أصبح زرادشت موضع اهتمام الأوروبيين منذ عصر النهضة. وكان الفيلسوف الألماني نيتشه من أكثر الفلاسفة المحدثين إعجاباً به، واستعار اسمه لحكيم كتابه هكذا تكلم زرادشت.

    المعتقد الزرادشتي
    يتميز المعتقد الزرادشتي بابتكاره لمفهوم الوحدانية الثنوية. وصفة الثنوية هنا لا تلغي صفة الوحدانية، لأن مفهوم الثنوية الزرادشتي يقف في تعارض مع مفهوم التعددية، ولكنه لا يتعارض مع الوحدانية، بل يتلازم معها؛ ذلك أنه يقدم أكثر التفسيرات منطقية لوجود الشر في العالم. فأهورا مزدا واحد لا ثاني له في الألوهة، خالق كل ما هو خيِّر وحسن، ولكنه ليس مسؤولاً عن وجود الشر في العالم، ولم يكن ليرتضي وجوده منذ البداية؛ بل لقد سعى إلى مكافحته بكل السبل والوسائل؛ ولسوف ينتصر عليه في معركة تمتد على مدى تاريخ الكون والإنسان. وستشهد نهاية هذا التاريخ غلبة جند الحق على جند البهتان واختفاء الشيطان وأعماله إلى الأبد.

    خلق العالم الروحاني
    في البدء لم يكن سوى الله – أهورا مزدا: وجود كامل وتام وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها. ولكن هذه الألوهة اختارت أن تخرج من كمونها وتُظهِر سواها إلى الوجود؛ فكان أول خلقها روحان توأمان هما سبنتا مانيو وأنغرا مانيو. ولكي يكون لهذين الروحين وجود حقيقي مستقل عن خالقهما فقد خصَّهما الله بالحرية التي استخدماها منذ صدورهما عنه، فاختار سبنتا مانيو الخير ودعي بالروح القدس، واختار أنغرا مانيو الشر ودعي بالروح الخبيث، ثم راح يتحفز للانقضاض على خلق الله القادم ويقاوم كل عمل حسن له.

    هذا الخيار البدئي كان بمثابة النموذج الأسبق لكل خيار أخلاقي لاحق يقوم به الإنسان، دونما جبرية أو قدرية من أي نوع؛ إذ إن الإنسان سوف يُخلَق حراً أيضاً، والحرية سوف تقوده إلى الاختيار؛ والاختيار هو جوهر الأخلاق. وبذلك يقوم المعتقد الزرادشتي على ثلاثة عناصر رئيسية هي: الحرية والاختيار والمسؤولية الأخلاقية. إن صيرورة الوجود بكامله سوف تعتمد على كيفية استخدام الذوات الواعية من أهل السماء والأرض لهذه المعطيات. يقول زرادشت في أحد أناشيد الغاثا:

    الحق أقول لكم، إن هناك توأمين يتنافسان منذ البداية. اثنان مختلفان في الفكر وفي العمل. فروح خبيث اختار البهتان وثابر على فعل الشر، وروح طيب اختار الحق وثابر على فعل الخير ومرضاة أهورا مزدا. وعندما تَجابَه الاثنان لأول مرة أبدعا الحياة ونقيضها. ولكن عندما تحين النهاية فإن من اتبع البهتان سوف يُرَدُّ إلى أسوأ مقام، ومن اتبع الحق فسوف يُرَدُّ إلى أسمى مقام.

    وبعد الخيار الأخلاقي للتوأمين كان لابدَّ من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع مفتوح. ورغم أن الله كان قادراً منذ البداية على سحق أنغرا مانيو ومحق الشر في مهده، إلا أنه قرر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقرَّه وأقام عليه خليقته، وآثر السير بخطته التي تقوم على مقاومة الشر استناداً إلى ذات المبدأ الذي أنتج الشر وهو الحرية. وهنا عمد، بمعونة الروح القدس سبنتا مانيو، إلى إظهار ستة كائنات نورانية قدسية إلى الوجود؛ فشكلت بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام، ويُدعَوْن بالأميشا سبنتا، أي "الخالدون القدُّوسون". وقد أوجدهم الله من روحه كمن يشعل الشموع من مشعل متقد، على حدِّ تعبير أحد مقاطع الأفستا. وتدل أسماؤهم على أنهم ليسوا إلا خصائص مجسِّدة للإله؛ فهم: فوهو ماناه (الفكر المستقيم)، وآشا فاهشتا (الحقيقة الناصعة)، خشاترا فاريا (الملكوت القادم)، وسبنتا أرميتي (الإخلاص)، وهورفتات (الكمال)، وأمريتات (الخلود). وقد شارك هؤلاء الخالق في ما تلا من أعمال الخلق والتكوين، وصاروا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين الناس وجميع مظاهر الوجود. ثم إن الأميشا سبنتا خلقوا عدداً من الكائنات القدسية الطيبة تدعى بالأهورا؛ فعهد إليهم أهورا مزدا بمهامهم وأوكلهم مكافحة الشر، كلاً في مجال. وبالمقابل فإن أنغرا مانيو استنهض عدداً من الكائنات المتفوقة تدعى بالدايفا، وعمد إلى تضليلهم، فانحازوا إلى جانبه وراحوا يتهيأون للانقضاض على كل عمل طيب يصدر عن الله. وبذلك تم تكوين عالم الملائكة وعالم الشياطين قبل أن يظهر العالم المادي.

    فوق الروحين المتنافسين وفوق فريق الدايفا والأهورا،[4] يسمو أهورا مزدا في عليائه متجاوزاً ثنائيات الخلق؛ ولكنه يعمل، في الوقت نفسه، على دعم قوى الخير لتدخل في منافسة عادلة مع قوى الشر. نقرأ في نشيد آخر من أناشيد زرادشت المدعوة بالغاثا:

    هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر يا أهورا مزدا.

    من هو أبو الحقيقة منذ أقدم الأزمان؟

    من رسم للشمس مسارها وللنجوم؟

    من جعل القمر يتناقص ويتزايد – مَن إن لم يكن أنت؟

    هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر.

    من يمسك الأرض ويرفع السماء من فوقها فلا تقع؟

    من فرش الزرع وأجرى الماء؟

    من قَرَن جياداً مطهَّمة إلى عربة الريح وعربة السحاب تجرها؟

    من خلق الأفكار الخيِّرة – من إن لم أنت؟

    هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر، أيها الإله الحكيم:

    أيَّةُ صَنعة مبدعة خلقتْ الصحو والنوم؟

    من سخَّر الليل والصباح والظهيرة تذكرة للناس بمهامهم؟

    من سخَّر البقر والأنعام لرخاء الناس؟

    من يزرع في القلب احترام الوالدين؟

    إني أسألك، أيها الإله الحكيم، لأنشر معرفتك بين الأنام.

    فأنت العقل الطيب وخالق كل شيء.

    بعد أن تأسَّس الشر على المستوى الروحاني عرف أهورا مزدا أن القضاء على الشيطان وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، لأن عالم المادة سيكون بمثابة المسرح المناسب للصراع بين جند الحق وجند البهتان. ولسوف يعمد أنغرا مانيو إلى مهاجمة خلق الله بكل ما أوتي من قوة لأنه خلق طيب وحسن. ولكن هذا الهجوم سوف يفتُّ في عضده تدريجياً، حتى يفقد قوته وسلطانه في آخر الأمر، ويُحسَم الصراع لصالح الخير في نهاية التاريخ. عندها يتم تخليص الكون إلى الأبد من شوائب الشر ليعود كوناً حسناً وطيباً إلى الأبد.

    الزمن الكوسموغوني
    سار خلق الله للكون على درجتين، الأولى تدعى مينوغ، وهي حالة من الوجود المثالي غير المتحقق في شكل مادي؛ والثانية تدعى جيتنغ، وهي حالة الوجود المادي المتحقق في أشكال ذات قوام وخواص. والحالة الثانية خيرٌ من الحالة الأولى لأنها انتقلت بالكون من حالة الهيولى إلى حالة الثبات والنظام. وهذا ما يميز خلق الله عن خلق الشيطان، وقدرة الله عن قدرة الشيطان الذي لا يستطيع منحَ ما يخلقه القوامَ والمادةَ ويخرج به إلى حيز الوجود الفعلي. ونحن هنا أمام رؤية فلسفية جديدة لا ترى في المادة حالة دنيا من أحوال الوجود، بل أنبل وأسمى أشكال الوجود. أما ما يبدو لنا من قصور وشواش في صيرورة العالم المادي فليس إلا نتيجة لامتزاجه بعناصر الشر التي جاءت من الشيطان؛ وهي عناصر مؤقتة التأثير سوف يتخلص منها العالم، إنْ عاجلاً أم آجلاً. وتنعكس هذه الرؤية للعلاقة بين المادة والروح على نظرة الزرادشتية إلى الإنسان في روحه وجسده. فروح الإنسان ليست أسمى من جسده، والجسد ليس منبعاً للشرور ولا رداءً مؤقتاً نسعى إلى التخلص منه من أجل الالتحاق بالعوالم الروحانية، بل هو الشرط الأمثل الذي يحقق للروح حياة ذات معنى. لذا فإن الأرواح، عندما تنفك عن أجسامها بالموت، فإنها تبقى في حالة انتظار تحن إلى الاتحاد بأجسادها من جديد في يوم البعث الأخير. من هنا تستبعد الزرادشتية كلَّ ممارسات الزهد والتقشف الهادفة إلى تعذيب البدن طمعاً في تخليص الروح من آثامه، لأن على الإنسان أن يكافح الشر بروحه وجسده معاً، وأن يبقيهما في أفضل حالة تمكِّنهما من أداء هذه المهمة على أفضل وجه.

    ولقد انتقل العالم من درجة المينوغ إلى درجة الجيتنغ على ست مراحل زمنية: في البداية خلق الله السماء من صخر بلوري، ثم خلق الماء، فالأرض، فالحياة النباتية، فالحياة الحيوانية؛ وأخيراً خلق الإنسان الأول. وفيما يتعلق بالأرض – وهي بؤرة الكون – فقد أقام الله حولها سلسلة جبال شاهقة تتصل بشروش تحتية بجبل يقع في مركز الأرض يدعى جبل هارا؛ ومنه تنطلق أرواح الموتى في رحلتها إلى السماء. ثم قسَّم الأرض إلى سبعة أقاليم، جميعها أراضٍ سهلية لا التواء فيها ولا وهاد ولا تلال. أول هذه الأقاليم يدعى خافي نيراينا؛ وهو وحده المأهول بالسكان، وحوله تتوزع الأقاليم الستة الأخرى. وصنع بحراً يغطي الأرض لجهة جنوبها، وفي وسطه جبل مصنوع من جبلَّة السماء. ومن البحر فجَّر نبعين غزيرين شكَّلا نهرين كبيرين هما دايتا ودانها اللذان يحدان الجهة الشرقية والجهة الغربية للإقليم المسكون. وزرع في البحر شجرة تحتوي على البذور المعروفة بأنواعها، تدعى شجرة كل البذور، وشجرة أخرى تدعى شجرة الشفاء والحياة الأبدية.

    بعد انتهاء أهورا مزدا من صنع الكون قام أنغرا مانيو من فوره بالانقضاض عليه، لأن حالة الوجود المتحقق جيتنغ أكثر عرضة للتخريب والبعثرة والإفساد من الحالة غير المتحققة مينوغ. اقتحم أنغرا مانيو الجزء الأسفل من قبة السماء فشوَّهها، ثم انتصب مثل الحية وقفز نحو تجمعات النجوم، فشتَّتها وأحلَّ الاضطراب في نظام السماء. ثم غطس في البحر، فأفسد ماءه بالملح؛ وتوجَّه نحو الينابيع، فجففها؛ وإلى السهول الخضراء، فأذبل مزروعاتها، ونشر فيها الصحارى، وبث فيها الأفاعي والعقارب وكل دابة مؤذية؛ وانقض على النار فلوثها بالدخان، وعلى الإنسان الأول فذبحه. وهكذا زرع الشيطان الموت والفساد في خلق الله. ورغم أن الأميشا سبنتا قد تصدت للهجوم وباشرت إصلاح ما خربه الشيطان، إلا أن العالم لن يعود إلى سابق عهده من النقاء والطيبة لأن الفساد قد عشَّش فيه. لقد أخذ الأميشا سبنتا نبات الأرض اليابس، فطحنوه، ثم نثروه، فحملته الرياح إلى الجهات الأربعة. ثم دفع الأميشا الرياح فحملت الغيوم وأنزلت المطر، فنبتت من ذرور الزرع اليابس حياة جديدة. ثم أخذوا بذور الإنسان الأول القتيل فطهَّروها بضوء الشمس وزرعوها في التربة، فخرجت منها نبتة انطوت أوراقها على الزوجين البشريين الأولين ماشيا وماشيو. وعندما افترقت عنهما الأوراق كانا ملتصقين في وضعية العناق، لا يُتبيَّن منهما الذكر من الأنثى؛ فنفخ فيهما الله روحاً، فانتصبا أمامه بشرين سويين، وقال لهما: "أنتم الإنسان، وأنتم سلف العالم. خُلقتما كاملين، فحافظا على الفكر الحسن والكلمة الحسنة والعمل الحسن، ولا تخضعا للشيطان." ثم جاء الملائكة وعلَّموهما إشعال النار واستخدامها، وألبسوهما ثياباً من جلد، كما علَّموهما استخراج المعادن وصنع السكاكين والأدوات وغير ذلك من الفنون اللازمة لحياة الإنسان.

    بعد ذلك التفت الأميشا سبنتا إلى بقية مظاهر الطبيعة التي زُرِعت فيها سموم الشر لترميمها؛ ولكن أنغرا مانيو لم يترك لهم فرصة لإتمام عملهم على أحسنه، فراح يهاجم العالم بكل قواه بمعونة بقية جند الظلام؛ فجلبوا الأمراض والآلام على الكائنات الحية وصنعوا كل نقيصة مادية. ثم تسلَّلوا إلى عقل ماشيا وماشيو، فزرعوا بذور كل نقيصة أخلاقية. فتصدَّى لهم الأميشا وجندهم، واستمر الصراع بين الفريقين بلا هوادة وبلا كلل. هذا الصراع لن تكون له نتائج إيجابية إلا بعون الإنسان الذي يجب عليه أن يعي مسؤولياته الخلقية في هذه الحياة، ويدعم قوى الخير بفكره وقوله وفعله؛ فبدون عون الإنسان لن يتم حسم هذا الصراع الكوني ودفع التاريخ إلى مرحلته الأخيرة عندما تتم تنقية الوجود المادي والروحاني مما داخَلهما من خبث.

    مراحل التاريخ وظهور المخلِّص
    لقد عرف أهورا مزدا، الذي يطال علمُه البدايات والنهايات، أن آخرة الشر قادمة لا ريب فيها، فوضع خطة للقضاء عليه تتدرج على ثلاث مراحل، يؤشِّر كل منها لطور من أطوار الزمن.

    1. فقد خلق أهورا مزدا العالم في أحسن تقويم وأطيب صورة ممكنة، واستمر على هذه الحالة ردحاً من الزمن كان الشيطان خلالها نائماً؛ وهذه هي المرحلة الأولى، مرحلة الخلق الكامل.

    2. في المرحلة الثانية يهاجم الشيطان خلق الله ويبث فيه سمومه، فيختلط الخير بالشر؛ وهذه هي مرحلة الامتزاج.

    3. في المرحلة الثالثة تبدأ عملية الفصل بين الخير والشر التي تنتهي بدحر الشيطان ورهطه، ليعود الكون كاملاً وطيباً إلى الأبد، ويأتي التاريخ إلى نهايته ليعقبه زمن سرمدي، لا تتناوبه المتناقضات والمتعارضات، وينتفي منه المرض والألم والحزن والموت.

    ولقد ابتدأت المرحلة الثالثة بميلاد زرادشت، وتأتي إلى خاتمتها بميلاد المخلِّص المدعو شاوشنياط (أو شاوشيانز) – وهو الذي يقود المعركة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. وسوف يولد المخلِّص من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة هناك إلى اليوم الموعود. وبذلك تُفتتَح فترة التاريخ الأخير بزرادشت، وتُختتَم بمخلِّص أو مهدي من نسله تحمله أمه حملاً معجِزاً. ورغم المعجزة الإلهية التي قادت إلى ولادة هذا المهدي فإنه يبقى إنساناً مولوداً من أبوين بشريين، لأن خلاص العالم في النهاية هو مسؤولية الإنسان، ويقوده ابن الإنسان الذي سيعلن عن نفسه في الوقت المناسب، فيلقي الرعب في قلوب جند الظلام ويطاردهم في كل مكان ويمحو أثرَهم من الأرض.

    تعود فكرة المخلص إلى أناشيد زرادشت القديمة. فلقد بشَّر بقرب انتهاء مرحلة التمازج، وحلول مرحلة الفصل الأخيرة، وقَرَنَ ذلك بقدوم المخلِّص، وألمح في أكثر من موضع في مجموعة الغاثا إلى أنه سيأتي من بعده ليُحِلَّ الحق ويدحر البهتان. وقد دخلت هذه الفكرة في صلب العقيدة الزرادشتية منذ بداياتها. ولكن الفكرة اتخذت أشكالاً جديدة خلال الفترات اللاحقة. ففي العصر الأخميني قال اللاهوتيون بظهور ثلاثة مخلِّصين، وذلك في نهاية كل ألفية من الألفيات الأخيرة من عمر الزمن الأرضي. في نهاية الألفية الأولى يظهر المخلص المدعو أوخشيا تريتا؛ وفي نهاية الألفية الثانية يظهر المدعو أوخشيا تنيما؛ وفي نهاية الألفية الثالثة يظهر المخلص شاوشنياط، من نسل زرادشت من عذراء البحيرة. لكن هذه التصورات اللاهوتية اللاحقة لم تتأصل في صميم المعتقد الشعبي، وبقي الناس مثبتين قلبهم على المخلِّص الأخير منتظرين ظهوره.

    التصورات الإسخاتولوجية (الآخروية)
    يرتبط معتقد نهاية التاريخ ارتباطاً وثيقاً بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية. فبعد أن دخل الموت في نسيج الحياة خلال فترة التمازج بين الخير والشر صار الموت من نصيب كل كائن حي، وبوابة عبور من حالة الجيتنغ المادية إلى حالة المينوغ الروحانية الهلامية القاصرة. فالأرواح بعد مغادرة الأجسام عقب الموت تبقى في برزخ المينوغ تنتظر يوم القيامة بشوق وترقُّب لكي تلتقي بأجسادها التي تبعث من التراب. يحدثنا زرادشت في أناشيد الغاثا عن مصير الروح بعد الموت وأحوالها إلى زمن البعث والنشور. فبعد مفارقتها الجسم تَمثُل الروح أمام ميترا قاضي العالم الآخر (وهو رئيس فريق الأهورا الذين يشكلون مع الأميشا سبنتا الرهط السماوي المقدس) الذي يحاسبها على ما قدمت في الحياة الدنيا من أجل خير البشرية وخير العالم. ويقف على يمين ميترا ويساره مساعداه سرواشا وراشنو اللذان يقومان بوزن أعمال الميت بميزان الحساب، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين وسيئاته في الأخرى. وهنا لا تشفع للمرء قرابينُه وطقوسه وعباداته الشكلانية، بل أفكاره وأقواله وأفعاله الطيبة. فمن رجحت كفة خيره كان مآله الفردوس، ومن رجحت كفة شره كان مثواه هاوية الجحيم. بعد ذلك تتجه الروح لتعبر صراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتسع أمام الروح الطيبة، فتسير الهوينى فوقه إلى الجهة الأخرى نحو بوابة الفردوس، ولكنه يضيق أمام الروح الخبيثة، فتتعثر وتسقط لتتلقَّفها نار جهنم. هناك أنغرا مانيو نفسه يسوم المذنبين سوء العذاب. أما من تساوت سيئاته وحسناته فيعبر الصراط إلى مكان وسط بين النعيم والجحيم، حيث يستمر في وجود باهت كظل شبحي بلا إحساس.

    هذا وتقدِّم شروح اللاهوتيين الزرادشتيين مزيداً من التفاصيل حول هذه القيامة الفردية. فبعد أن يوارى الميتُ مثواه الأخير تمكث روحه عند رأسه ثلاث ليال تتأمل في حسناتها وسيئاتها. وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة إن كانت من الصالحين، أو شياطين العذاب إن كانت من الكافرين، فيسومونها سوء العذاب. وفي اليوم الرابع تُساق الروح إلى جلسة الحساب؛ وبعد اجتياز امتحان الميزان الذي يقرر مكانها تتجه إلى الصراط، وهو عبارة عن جسر يشبه السيف: فإذا كان العابر روحاً خبيثة فإن السيف يستدير بطرفه الحاد نحو الأعلى، فتخطو الروح عليه ثلاث خطوات، هي الفكر السيئ والقول السيئ والعمل السيئ، وعندما تحاول الخطوة الرابعة تنزلق إلى مهاوي جهنم؛ أما إذا كان العابر روحاً طيبة فإن السيف يستدير بطرفه العريض لتعبره الروح إلى الطرف الآخر بسلام. وفي رواية أخرى، نجد أن الصالح، بعد خطوته الأولى على الصراط، تهب عليه ريح عطرة آتية من الجنة، وعند منتصف الصراط تظهر له فتاة في ريعان الصبا لم تقع العين في الحياة الدنيا على أجمل منها، فيسألها: "من أنتِ؟" فتقول: "أنا عملك الطيب." ثم تأخذ بيده إلى الجنة. وأما الإنسان الطالح، فبعد خطوته الأولى على الصراط تهب عليه ريح نتنة من أعماق الجحيم، وعند منتصف الصراط تظهر له عجوز شمطاء نتنة لم تقع العين على أقبح منها، فيسألها: "من أنتِ؟" فتقول: "أنا عملك السيئ." ثم تقبل عليه وتعانقه، فيهويان معاً إلى الجحيم.

    يتألف الجحيم من عدة دركات، يقع أسفلها في مركز الأرض، حيث يتكاثف الظلام حتى يمكن إمساكه باليد، وحيث يتصاعد نتنٌ لا تطيقه نفس بشرية أو شيطانية. فيستقبل كل درك أهلها حسب فداحة ذنوبهم، وتُقدَّم لهم من صنوف العذاب ما يوازيها. أما السماء فتتصاعد على ثلاث درجات تقابل الفكر الحسن والقول الحسن والعمل الحسن. فالدرجة الأولى عند خط النجوم، والثانية عند خط القمر، والثالثة عند خط الشمس. فتصعد الروح هذه الدرجات تباعاً وصولاً إلى السماء العليا غارو–ديمانا، أو مسكن الغناء، وهناك تقيم في بركة وسلام إلى يوم الحساب الأخير.

    بظهور المخلص شاوشنياط تحل الأيام الأخيرة وتقترب الساعة: يوم تلفظ الأرض ما أُتخِمَت به من عظام الموتى خلال مراحل التاريخ الثلاثة، ويُفرَغ الجحيم والفردوس من سكانهما ليعودوا إلى الحشر العظيم. هناك يلتقي من مات منذ آلاف السنين بمن بقي حياً إلى يوم الدينونة، ليأتي الجميع إلى الحساب الأخير. في ذلك اليوم، يسلِّط الملائكة ناراً على الأرض تذيب معادن الجبال وتشكل نهراً من السائل الناري ما من أحد إلا وارده. فأما الأخيار فيعبرونه كمن يخوض في نهر لبن دافئ؛ وأما الأشرار فينجرفون في التيار الذي يفنيهم ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم. ويكون جند الظلام قد اندحروا في المعركة الفاصلة مع جند النور واستؤصلت شأفتهم، فيغوص في نهر النار إلى أعماق الجحيم حيث لجأ أنغرا مانيو ومن بقي معه، فيلتهمهم جميعاً ويتم التخلص من آخر بقايا الشر. كما أن الجحيم نفسه يتطهر مثلما تطهرت بقية أجزاء الكون، ويغدو إقليماً من أقاليم الأرض الزاهرة. عند ذلك يعيش الذين عبروا نهر النار سالمين في أرض جديدة وتحت سماء، هي نفس الأرض ونفس السماء وقد تطهَّرتا وصارتا نقيتين إلى الأبد. ثم يقوم أهورا مزدا بسقيا هؤلاء الأخيار شراب الخلود الذي يجعل أرواحهم وأجسادهم في اتحاد أبدي، ويغدون خالدين في جنة وِسعُها السماوات والأرض، كل بقعة فيها ربيع أخضر دائم، وتحتوي على كل شجر وثمر وزهر.

    الأخلاق والعبادات
    الواجب الخلقي
    يقف الإنسان على قدم المساواة مع الأميشا سبنتا وبقية الكائنات القدسية في مسؤوليته عن مكافحة الشر في العالم. وعليه بالدرجة الأولى أن يُعنى بأخيه الإنسان وببقية مخلوقات الأرض لأنهم جميعاً صنعة الله الواحد. كما عليه أن يراعي جسده وروحه معاً. وتتحقق رعاية حقوق الجسد باتباع الفرد لقواعد النظافة والصحة العامة والاعتدال في الأكل والمشرب وتجنب الإفراط في كل شيء. أما رعاية حقوق الروح فتتحقق باتباع النظام الأخلاقي السليم الذي اختطَّه النبي والذي، رغم تشعبه، يتلخَّص في ثلاثة عناصر هي: الفكر الحسن، فلا يتداول الفرد في عقله إلا الأفكار الطيبة ويستبعد الأفكار الخبيثة؛ والقول الحسن، فلا يصدر عنه سوى الكلام الطيب؛ والعمل الحسن الذي يفيد به نفسه وعائلته ومجتمعه، ولا يبادر إلى ما فيه أذية مخلوق قط. فالإنسان هو أنبل خلق الله، وعليه أن يستخدم ما وهبه الله من وعي وذكاء لأجل الارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في آخر الزمان. كما أن الخلاص الذي يسعى إليه الإنسان ليس فقط خلاصاً فردياً من ربقة المواد إلى دار الخلود، ولا حتى خلاصاً جمعياً للإنسانية طراً، بل هو خلاص للعالم بأسره، لأن الإنسانية تتخذ مكان المركز في خلق الله، وعليها وحدها تقع مسؤولية تحرير هذا الخلق بكامله من سلطة الشيطان.

    الطقوس والعبادات
    كانت الديانة الأصلية التي أسَّس لها زرادشت ديانة بسيطة لا تعتمد إلا القليل من الطقوس والشكليات الدينية. وفيما عدا الأساطير القليلة الأساسية المتعلقة بنشأة عالم الخير وعالم الشر، وتلك المتعلقة بالمخلِّص ونهاية الزمن، لم يكن للميثولوجيا دور في المعتقد الزرادشتي. وحتى هذه الموضوعات الأسطورية الأساسية لم تُعالَج في أناشيد الغاثا بأسلوب القص الميثولوجي، وإنما بالإشارات الموجزة والصور الشعرية البالغة التأثير، الأمر الذي ترك شخصياتها أقرب إلى المفاهيم المجردة منها إلى الشخصيات المجسدة.

    دعا زرادشت المؤمنين إلى خمس صلوات في اليوم، تقام عند الفجر والظهيرة والعصر والمغرب ومنتصف الليل. وتتخذ صلاتا الظهيرة ومنتصف الليل أهمية خاصة لأن منتصف النهار هو الوقت الذي تكون فيه قوى النور في ذروة سيطرتها على العالم الذي يشبه عندها ما كان عليه في كمال البدايات؛ أما منتصف الليل فهو الوقت الذي تكون فيه قوى الظلام في ذروة فعالياتها. يقوم المؤمنون لإيقاد النار دعماً لقوى النور ولترتيل الصلوات، وتسبق الصلاة عملية الوضوء التي تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين. بعد ذلك يقف المصلي منتصباً مسبل الذراعين في حضرة أهورا مزدا، ويتلو في صلاته مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا كان زرادشت نفسه يتلوها في صلاته. ولكن بمرور الوقت، وبغياب لهجة الغاثا القديمة عن الاستخدام اليومي، عمد الكهنة إلى إضافة نشيد طقسي منظوم بلهجة أكثر حداثة يُدعى الـياسنا، ويتألف من فصول قصيرة تحاكي في بنيتها أسلوب الغاثا. وبينما تكون عينا المصلي مثبتتين على النار المقدسة أمامه يقوم بحلِّ شاله ويمسك به بكلتا يديه؛ وفي نهاية الصلاة يقوم المصلي بإعادة الشال إلى وسطه فيلفه ثلاث مرات، ثم يعقده من الأمام ومن الخلف إشارة إلى عناصر الأخلاق الزرادشتية الثلاثة. وهذا الشال هو الشارة التي يميز بها الزرادشتيون أنفسهم؛ كما أن حله وإعادة ربطه هو فعل طقسي يرمز إلى تمسك المؤمن بتعاليم النبي وتذكرها على الدوام.

    تتجلَّى بساطة الديانة الأصلية التي بشَّر بها زرادشت في غياب الهياكل والمعابد والمذابح. فلقد منع زرادشت تشييد أماكن خاصة للعبادة لأن الله موجود في كل مكان ويمكن التوجُّه إليه بالصلاة في أي مكان طاهر. كما منع النبي صنع الصور والمنحوتات لأهورا مزدا ولبقية الكائنات القدسية السماوية. لذا فقد خلت المراكز الحضرية للمملكة الأخمينية من المعابد الضخمة التي عرفتها بقية ممالك المنطقة المشرقية؛ كما سار الملوك الأخمينيون الأوائل على خطى المعلِّم في تحريمهم للتماثيل والصور، فكانت الصلوات تقام في البيوت أو في أماكن مخصصة للعبادة في الهواء الطلق ومزودة بموقد للنار المقدسة. وقد ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوتس (485-425 ق م) أن الفرس كانوا يحتقرون المعابد ويرون فيها خطيئة لأن الله الذي لا تسعه السماوات والأرض لا يسكن في بيت مصنوع بيد الإنسان.[5] ويصف الجغرافي والمؤرخ الأغريقي سترابو (64 ق م - 23 م) بقايا معبد أقامه الملك قورش، فيقول إنه كان عبارة عن تلة في الهواء الطلق محاطة بجدار يصعدها المؤمنون للصلاة. ولكن أردشير الثاني (401-359 ق م) الذي جاء بعد قورش بأكثر من قرن ونصف خرج على هذه التقاليد، فكان أول من بنى المعابد الضخمة على الطريقة البابلية وصنع صوراً للكائنات السماوية. وهذا ما تبيِّنه لنا آثار العاصمة الفارسية القديمة.

    استطاع أردشير الثاني استمالة فريق من الكهنة إلى معابده فراحوا يقودون فيها الصلوات. إلا أن فريقاً آخر عارض ذلك ورأى فيه انتهاكاً للمعتقدات التقليدية. وقد بدأ الكهنة المعارضون، بدعم من الجماهير المؤمنة، يردون على هذا الإجراء بإقامة معابد لهم تتصدرها شعلة النار المقدسة بدلاً من تماثيل الآلهة؛ وبذلك ظهرت لأول مرة معابد النار في إيران. وشيئاً فشيئاً أخذت نار المعبد تكتسب قدسية خاصة بها بعد أن كانت مجرد رمز للألوهة الخافية، وأخذ أهل الديانات الأخرى يصفون الزرادشتيين بأنهم عبدة النار. ومثل هذا الوصف لم يَرِدْ في كتابات المؤرخين الذين تحدثوا عن إجلال الإيرانيين للنار دون أن يصلوا حد القول بعبادتها. لقد قاد نشوء معابد النار إلى إحداث تغييرات عميقة في الديانة الزرادشتية. فبعد البساطة التي ميَّزت الممارسات الدينية في السابق انتشرت المعابد الدينية الضخمة الباذخة، ونشأت طبقة جديدة من الكهنة المتفرغين لطقوس النار التي زادت تعقيداً بمرور الزمن وبعداً عن بساطة الطقوس الأصلية. وقد عُرِفَت هذه الطبقة من كهنة النار تاريخياً باسم ماجي Magoi، وباليونانية Μάγοι (مفردها Μάγος)، وبالعربية "مجوس".



    (أعلى) حجر منحوت نحتاً بارزاً يعود إلى الفترة الأخمينية يظهر فيه كاهن يضع كمامة وهو يؤدي طقساً أضحوياً. (أسفل) كاهن زرادشتي معاصر يضع كمامة مماثلة وهو يخدم نار المعبد.


    طقوس الموت
    شغلت طقوس الموت حيزاً هاماً من الطقوس الزرادشتية بعد عصر النبي. وهي تقوم على نظرة زرادشت إلى الموت على أنه من نواتج فعاليات الشيطان في العالم. فأجسام الأحياء تنتمي إلى عالم أهورا مزدا، أما جثث الموتى فإلى عالم أنغرا مانيو؛ فهي خبيثة ونجسة، لا فرق بين جثة إنسان وجيفة حيوان، ولا بين جثة إنسان صالح وجثة إنسان شرير. إن لمس أية جثة هو مصدر للنجاسة، وعلى من احتك بها أن يتطهر بالماء. كما أن أي جزء مقتطع من جسم الحي، مثل قصاصات الشعر والأظافر، هو جزء ميت ويجب عدم الاحتكاك به. وبالمثل أيضاً، فإن نَفَس الزفير الذي يطلقه الكائن الحي من رئتيه هواء ملوث بالموت، على عكس نَفَس الشهيق الذي يحمل الحياة. لهذا كان كهنة النار يضعون كمامات قماشية على أفواههم عندما يقتربون من الشعلة المقدسة. وجميع الحيوانات التي تتغذى على الجثث مثل النمل والذباب والكلاب والضباع وما إليها هي حيوانات نجسة يجب قتلها أينما وجدت لأنها وكلاء للشيطان. وقد قاد تابو الموت هذا إلى إفراز جماعة من الاختصاصيين بشؤون التخلص من الجثث، وهم الذين يقومون بطقوس الجنازات ويعرفون كيف يتطهرون عقبها. أما عن الدفن فإن صرامة تابو الموت كانت تحظر وضع الموتى على تراب الأرض مباشرة كي لا تلوثه؛ فكانت الجثة تُسجَّى على مصطبة حجرية في سفح جبل أو في منطقة نائية مهجورة، حيث تُترَك مكشوفة في العراء حتى تتحلَّل بتأثير العوامل الطبيعية أو انقضاض الجوارح عليها. وبعد فترة كافية لتحلُّل الجسم تُدفَن العظام تحت التراب في انتظار يوم النشور.

    قواعد الطهارة

    لم تضاهِ الزرادشتيةَ قبلها ملَّةٌ في الحفاظ على طهارة الجسم والملبس والمأكل. ويأتي حرصُ الزرادشتي المبالغ فيه على النظافة من اعتقاده بأن الفساد والتحلُّل والعفونة وكل أنواع القذارة هي من عمل أنغرا مانيو. من هنا فإن النظافة والبعد عن الاحتكاك بكل ما هو قذر وملوث شأن يعادل الصلاة والعمل الطيب لأن في التزام قواعد الطهارة محاربة لقوى الشيطان ووقوفاً إلى جانب الرحمن. وبذلك يستطيع الإنسان المساهمة في محاربة الشر الكوني من خلال أدائه لأصغر واجباته اليومية.

    لا يمكن سرد جميع قواعد النظافة التي راكمتْها الشريعة الزرادشتية عبر العصور، وإنما يفي بالغرض التعرُّضُ لأهمِّها، وهي المتعلقة بالطعام والماء والنار والدم. فالطعام ينبغي أن يُحضَّر وفق قواعد صارمة تمنع احتكاكه بأي مصدر للقذارة، كما ينبغي أن يُؤكَل في خشوع مثلما تُؤدَّى الطقوس الدينية، لأن كل مكوِّناته هي بشكل أو بآخر من مخلوقات الله الأخرى. وأما الماء فيجب التأكد من كونه نظيفاً وطاهراً وأنه قد نُضِحَ من مصدر غير ملوث قبل استهلاكه في الشرب والطبخ والاغتسال. وفيما يتعلق بالنار المنزلية أو النار الطقسية فإن وقودها يجب أن يقتصر على القش والعيدان والحطب وألا يُحرَق فيها الروث والقمامة وما إليها. وبدلاً من حرق فضلات المنازل فإنها تُنقَل إلى أماكن بعيدة خاصة، حيث تجري معاملتُها بالسوائل الحامضية. ويشكل الدم مصدراً للنجاسة في حال سيلانه من الجسم لأن هذا السيلان شكل من أشكال اختلال الحالة الفسيولوجية السليمة للكائن الحي وعرضٌ من أعراض اقتحام قوى المرض والموت. وعلى المتلوث تطهير نفسه بوسائل شتى تختلف باختلاف كمية الدم ومكان الجرح وملابسات الإصابة. كما أن على النساء في فترة الطمث عدم ممارسة الطبخ والأعمال المنزلية ومراعاة عدد من قواعد الغُسل والطهارة.

    وبما أنه يصعب على المرء تجنب الاحتكاك بمصادر النجاسة تجنباً مطلقاً فقد وضع فقهاء الشريعة أصولاً معينة للتطهُّر بما يتناسب مع درجة التلوث. وغالباً ما يوصى المتنجس بالاغتسال بالماء من رأسه إلى أخمص قدميه. غير أن بعض درجات التلوث تستدعي الاستعانة بالكاهن الذي يقوم بتلاوة الآيات المقدسة ويسير بالمتنجس أعبر مراحل تطهيرية متعددة قد تستمر بضعة أيام. وتَشغَل هذه الإجراءات التطهيرية وكيفية تطبيقها حيزاً من برامج إعداد وتدريب الكهنة الذين يجب عليهم أنفسهم مراعاة أدق وأصعب قواعد النظافة والطهارة.

    التطور التاريخي
    بعد وفاة زرادشت بقيت تعاليمه الأصلية التي بثها في أناشيد الغاثا بمثابة الإنجيل الذي يحفظ جوهر الدين ويجمع المؤمنين حول العقيدة والأخلاقيات والشعائر الزرادشتية. ونستدل من لهجة الغاثا المغرقة في القدم أنها حُفِظَت في شكلها الأصلي، دون أن يمسسْها تعديل جوهري، عبر التداول الشفهي الطويل السابق لعصر التدوين. ولكن الشكل الأدبي الرفيع الذي صيغت فيه الأناشيد وأسلوبها المختصر البليغ دعا الكهنة إلى التوسط من أجل شرحها وبسط وتطوير أفكارها للناس العاديين. وقد تراكمت هذه الشروح تدريجياً حتى شكَّلت مصدراً آخر من مصادر الدين الزرادشتي؛ وبذلك ولدت مجموعة الأفستا والأفستا الصغرى اللتان اتخذتا شكلهما شبه التام نحو نهايات الفترة الأخمينية. ثم تطلبت الأفستا بدورها الشرح والتفسير، فنشأ على هامشها كتاب الـزند، أو الـزندأفستا (أي الشروح والتعليقات على الأفستا).

    لم تدوَّن هذه الأدبيات الدينية خلال الفترة الأخمينية بسبب عزوف الكهنة عن استخدام الكتابة لحفظ النصوص المقدسة لأنهم رأوا في الكتابة شأناً دنيوياً واعتبروها تدنيساً للنص. ولكن الأفستا صارت مهددة بالضياع عقب غزو الإسكندر المقدوني وما تلاه من فترة النفوذ السلوقية، فأمر الملك البارثي فلاكش (حوالى عام 60 ق م) بجمع أسفارها من شتى المناطق ومقارنتها من أجل تثبيتها كتابة في صيغتها النهائية المعتمدة. غير أن هذه المهمة لم تنجَز كاملة إلا في عصر الملك الساساني كسرى أنو شروان، عندما تم تدوين الأفستا في واحد وعشرين جزءاً يتصدَّرها الجزء الخاص بأناشيد الغاثا.

    ولقد لعب كهنة الماجي، أو المجوس، دوراً مهماً في تحرير وتطوير الأفستا. وهؤلاء المجوس ينتمون إلى قبيلة ماجي، وهي قبيلة متخصصة في الشؤون الدينية، أغلب الظن أنها من أصول ميدية. ويرجح بعض الباحثين أن المجوس كانوا على الديانة الإيرانية التقليدية، ثم تحولوا إلى الزرادشتية حتى لا يخسروا مكانتهم الاجتماعية، وبثوا فيها الكثير من معتقداتهم وأفكارهم وطقوسهم القديمة. لهذا السبب عُرِفوا في العالم القديم، في استقلال عن الدين الزرادشتي، باعتبارهم حكماء متضلِّعين بالسحر والتنجيم والمعارف السرَّانية. لقد أدخل المجوس العديد من آلهة الديانة الهندإيرانية القديمة إلى المعتقد الزرادشتي، كما تبنُّوا بعضاً من آلهة البانثيون الرافدي، وعلى رأسها عشتار التي اتخذت في إيران اسم أناهيتا، أي "البتول". وأخذت عبادة أناهيتا بالانتشار منذ عهد الملك الأخميني أردشير الثاني الذي كان أول من بنى المعابد وصنع صوراً للكائنات القدسية. كما وسَّع المجوس مفهوم زرادشت عن قوى النور وقوى الظلام، وبنوا حوله لاهوتاً متكاملاً عن مجمع الملائكة ومجمع الشياطين؛ فصارت الملائكة التي تعمل تحت إمرة الأميشا سبنتا تعد بالآلاف، وكذلك الشياطين التي تعمل تحت إمرة أنغرا مانيو. وتحوَّل الأميشا سبنتا من قوى مجرَّدة غير مشخَّصة إلى كائنات إلهية، لكلٍّ منها وظيفة محددة في نظام الكون والطبيعة، وصارت فروض العبادة والتقديس تُقدَّم إليها بما هي كذلك. ومن أهم التحريفات التي أدخلها المجوس على العقيدة الزرادشتية أنهم جعلوا أنغرا مانيو على قدم المساواة مع أهورا مزدا، ونظروا إليهما كخصمين متصارعين منذ البداية. وبذلك تحول أهورا مزدا من إله يسمو فوق الروحين المتنافسين اللذين صدرا عنه إلى طرف مباشر في الثنوية الكونية.

    وفي العقيدة الزورفانية، التي طورها فريق من المجوس، صار أهورا مزدا وأنغرا مانيو (الذي اتخذ اسم أهريمان) ابنين توأمين للإله زورفان، وهو الزمان. وقد عهد زورفان إلى أهورا مزدا بمهمة خلق العالم ليغدو مسرحاً للصراع المكشوف بين قوى الخير وقوى الشر، وحدَّد لصراعهما فترة محددة تنتهي بغلبة أهورا مزدا على خصمه أهريمان. وبقي زورفان بمثابة العلَّة الأولى والإطار الذي تجري ضمنه أحداث الكون. وقد انتقلت هذه العقيدة من هرطقة تعيش على هامش زرادشتية الأفستا إلى دين رسمي للدولة في عهد الساسانيين، حوَّل الزرادشتية من ديانة عالمية تتوجه لجميع بني البشر إلى ديانة قومية خاصة بإيران. وهذا ما أضعف موقف الزرادشتية تجاه الديانات العالمية اللاحقة، وخصوصاً المانوية ثم المسيحية فالإسلام.

    خلاصة: ميراث الزرادشتية

    رغم امتلاك الزرادشتية لكل مقومات الديانة الشمولية العالمية إلا أنها لم تمارس نشاطاً تبشيرياً خارج إيران بعد موت معلِّمها. ومع ذلك فقد انتشرت الأفكار الزرادشتية شرقاً وغرباً، ودخلت في نسيج الديانات اللاحقة لها، حتى وصلت تأثيراتها إلى بوذية المهايانا في الصين. أما تأثيراتها المشرقية فتُعزى بالدرجة الأولى إلى عودة المهجَّرين الذين سباهم ملوك آشور وكلدان. فلقد طالت سياسة التهجير كل المناطق الواسعة الواقعة تحت سيطرة آشور، من إيران والخليج العربي، صعوداً إلى جبال طوروس، هبوطاً نحو الساحل الفينيقي، ووصولاً إلى حدود مصر. وقد وصلنا حتى الآن 150 نصاً آشورياً جاءت فيها عمليات ترحيل واسعة النطاق والشعوب التي طالتها هذه العمليات والمناطق التي تم تهجيرها إليها؛ ومنها نعرف أن الجزء الأكبر من عمليات الترحيل كان باتجاه مناطق آشور الرئيسية في مدن العاصمة آشور وكالح ونينوى ودور شاروكين. وعندما دمر الكلدانيون آشور تابعوا سياسة السبي والتهجير، ولكنْ على نطاق أقل بكثير. ثم ورث الأخمينيون الإمبراطورية الكلدانية، وأعلن الملك قورش من بابل بيانه المشهور الذي يتضمن السماح للشعوب المسبية بالعودة إلى مواطنها. ولكن هذه العودة لم تتم بين ليلة وضحاها، بل استغرقت أكثر من قرن من الزمان، وهي فترة كافية لاحتكاك المسبيين بالفرس عن قرب والتأثر بأفكارهم الدينية.

    قدمت الزرادشتية عدداً من الأفكار الجديدة على تاريخ الدين، بعضها ما زال فاعلاً ومؤثراً في الحياة الروحية لمليارات البشر في شتى أنحاء المعمورة، وأهمها:

    1. التاريخ الدينامي: حيث يسعى الزمن بين بداية محددة، هي زمن الخلق والتكوين، ونهاية محددة، يعقبها تحويل كامل للوجود بأسره إلى مستوى ماجد وجليل يليق بخلق الله. ففي مقابل مفهوم التاريخ المفتوح للديانات الشرقأوسطية، والتاريخ الدائري المغلق للديانات الهندية والشرقأقصوية، قدم زرادشت مفهوماً عن تاريخ ذي معنى، يسعى أبداً نحو غاية مثلى يحققها الكون والطبيعة والمجتمع الإنساني من خلال عملية تطوير وتطهير دائبة ومتصاعدة.

    2. الطبيعة الأخلاقية للوجود: فالإله الأعلى إله أخلاقي، والعلاقة بين الله والإنسان علاقة أخلاقية بالدرجة الأولى. أما الطقوس والعبادات فليست وسيلة لإظهار الخضوع للخالق، بل هي تنقية للنفس من شوائب الشر وتقويتها على مقاومته. ثم إن الأخلاق تتجاوز علاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بأخيه، لتغدو مبدأ مزروعاً في صميم الخليقة بأكملها. فالكون ذو معنى أخلاقي، وصيرورة الوجود قد اكتسبت طابعاً أخلاقياً منذ البداية.

    3. تعاون الله والإنسانية: الإنسان شريك الله في المشروع الكوني الرامي إلى مكافحة الشيطان واستعادة كمال البدايات. إن أقصى ما يصبو إليه الإنسان في ديانات الشرق القديم هو اكتناه مشيئة الآلهة والتطابق معها خلال حياة لا معنى لها ولا غاية وزمن مفتوح على اللانهاية. كما أن أقصى ما يصبو إليه الإنسان في ديانات الشرق الأقصى هو فهم العالم وليس إصلاحه. فالعالم غير قابل للإصلاح، وهو يسير وفق قوانين أزلية ثابتة في دورة تكرارية أزلية–أبدية. أما الزرادشتية فترى أن العالم قابل للإصلاح والتغيير بشكل جذري؛ ومسؤولية هذا الإصلاح تقع على عاتق الإنسان بالدرجة الأولى.

    4. وحدانية الإله: رغم وجود اتجاهات توحيدية واضحة في الديانات السابقة على الزرادشتية، سواء في مصر أم سورية وبلاد الرافدين، إلا أن زرادشت كان أول من قدم مفهوماً صافياً عن التوحيد وصاغه في عقيدة متماسكة ومتكاملة.

    5. أصل الشر وفكرة الشيطان: رغم وجود الكائنات الماورائية الشريرة في جميع المعتقدات الدينية عبر التاريخ، إلا أن زرادشت كان أول من تصور وجود مبدأ كوني للشر، هو علة الفساد والنموذج البدئي لكل الشرور المتبدِّية في العالم، وجسَّد هذا المبدأ في شخصية ماورائية كبرى. وبذلك قدمت الزرادشتية أول تفسير مقبول لوجود الشر في العالم. ورغم قوة الشيطان ومنازعته للرحمن السلطةَ على العالم، إلا أنه ليس إلهاً أزلياً ولا خالداً، ولسوف يؤول إلى الخسران أخيراً. وبذلك يكون المعتقد الزرادشتي ثنوياً في نظرته إلى العالم في حالته الراهنة التي تمتزج فيها عناصر الخير بعناصر الشر، وتوحيدياً صافياً في نظرته إلى جوهر الكون وحقيقته ومآله.

    6. حرية الإنسان: عندما خلق الله الكائنات السماوية والكائنات البشرية وَهَبَها الخاصية الأساسية التي تميز الوعي عن المادة الجامدة، وهي الحرية، لأن الوعي بدون الحرية ليس إلا شكلاً آخر من أشكال وجود الجمادات. فالإنسان مخيَّر في حياته ولا يخضع لأية جبرية. وحريته هذه تستدعي مسؤوليته، كما تستدعي في النهاية محاسبته، لأن كل مسؤول محاسَبٌ؛ ولا حساب حيث لا مسؤولية.

    7. مفهوم الإنسانية: لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني يظهر في الزرادشتية مفهوم واضح عن "الإنسانية". فالإنسانية ليست تجمعاً لأفراد يُعنى كلٌّ منهم بمصيره ويسعى لخلاص خاص به، بل هي مجتمع موحَّد بجميع فئاته وقومياته وأقاليمه، يلعب دوراً واحداً في حركة التاريخ ومآله.

    8. المسيائية: يتوَّج كفاح الإنسانية ضد الشر بظهور المخلِّص. وهذا المخلِّص، رغم تفوقه وكماله، إلا أنه إنسان حقيقي، ومن أبوين بشريين، رغم ميلاده الإعجازي من بذور زرادشت المحفوظة في البحيرة. إنه، بشكل ما، نموذج الإنسان الأسمى الذي أنتجته الإنسانية عبر مخاضها الطويل لكي يتوِّج مهمتها. هذه التصورات الدينية المتعلقة بالمخلِّص المنتظر دُعِيَت لاحقاً بـ"المسيائية"، نسبة إلى كلمة مسيَّا، وهي كلمة آرامية–عبرانية تعني المسيح المنتظر في آخر الدهر.[6]

    9. مصير الروح: تشبه التصورات الزرادشتية حول مصير الروح التصورات الأوزيرية في الديانة المصرية إلى حد بعيد. فأرواح الموتى تغادر أجسامها بعد الموت لتتجه إلى مكان الحساب حيث توزَن حسناتُها وسيئاتُها: فإما إلى نعيم وإما إلى جحيم. ولكن الأوزيرية لم تربط مسألة الثواب والعقاب بتصور واضح عن حركة التاريخ لأنها رأت في الزمن سيالة مفتوحة على اللانهاية، شأنها في ذلك شأن بقية المعتقدات الشرقأوسطية. أما الزرادشتية فقد وضعت فكرة الثواب والعقاب في سياقٍ مفهومٍ ومتَّسقٍ عن تاريخ دينامي ذي معنى وغاية، وربطتْها بمفهوم الحرية والمسؤولية؛ كما ربطت مسألة الخلود بالتصورات الآخروية عن نهاية الزمن وتجديد العالم.

    10. نهاية الزمن وتجديد العالم: ليست فكرة فناء العالم وتجديده بالفكرة الغريبة تماماً في تاريخ الدين. ففي العديد من ميثولوجيات العالم القديم نجد أن العالم يفنى إما بطوفان شامل أو بنار سماوية، ثم يعود سيرته الأولى. وفي الهندوسية يتم تدمير العالم وإعادة خلقه عقب كل دورة كونية كبرى. ولكن جديد الزرادشتية هو تقديمها، لأول مرة، مفهوماً عن نهاية العالم مرتبطاً بنهاية الزمن ونهاية التاريخ. فالعالم لا يفنى لكي يعود سيرته الأولى ضمن نفس الزمن الخطي أو الزمن الدوري التناوبي، لأن نهاية العالم تعني في الزرادشتية تغييره جذرياً والخروج به من الزمن ومن التاريخ إلى السرمدية. يضاف إلى ذلك أن تجديد العالم يترافق مع البعث العام للأجساد وعودة الأرواح للقاء أجسادها والاتحاد بها اتحاداً أبدياً لا ينفصم – وهي فكرة جديدة كلياً على تاريخ الدين.

    هذا هو ميراث الزرادشتية الذي يجعل منها نقطة علام بارزة في تاريخ الدين الإنساني؛ حتى إنه يمكن معها تقسيم هذا التاريخ إلى ما قبل الزرادشتية وما بعدها.

    *** *** ***

    مراجع المادة المعلوماتية المستفاد منها لهذا البحث
    - Boyce, Mary, Zoroastrians, Routledge, London, 1985.

    - Campbell, Joseph, Occidental Mythology, Penguin, London, 1977, p. 189 ff.

    - Gonoli, Gerardo, “Zoroastrianism,” in: Encyclopedia of Religion, McMillan, London, 1987, vol. 15.

    - New Encyclopedia Britannica (The), 15th Edition.

    - Noss, J. B., Man’s Religions, McMillan, London, 1974, p. 336 ff.

    - Zaehner, R. C., The Down and Twilight of Zaroastrianism, Panta & Sons, London, 1961.






    [1] هذه المواجهة بين المخلِّص والشيطان نجدها أيضاً في الأدبيات الدينية البوذية والمسيحية. فعندما كان البوذا جالساً جلسة التأمل الأخيرة التي قادته إلى المعرفة المطلقة أرسل رئيس العفاريت الشريرة مارا زبانيته الذين أحاطوا بالشجرة التي يجلس تحتها المعلم، فحاولوا إخافته وبث الرعب في قلبه بكل الوسائل، لكنه بقي هادئاً مستغرقاً في تأمله الباطني. ثم هبط مارا بنفسه ورماه بكل أسلحته، ولكنها تحولت إلى براعم زهور معلقة حول رأسه في الهواء. وما إن حلَّ الصباح حتى استنارت جنبات البوذا بالعرفان واخترق بعقله وروحه جوهر الحقيقة. وفي إنجيل متى نقرأ أن إبليس أخذ يسوع إلى البرية، بعد أن هبط عليه الروح القدس، ليجرِّبه. وبعد أربعين يوماً: "ثم مضى به إبليس إلى جبل عالٍ جداً وأراه جميع ممالك الدنيا ومجدها، وقال له: أعطيك هذا كلَّه إن جثوت لي ساجداً. فقال يسوع: اذهب يا شيطان! لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد." (متى 4: 7-10)

    [2] قارن مع هبوط الروح القدس على يسوع وهو خارج من النهر بعد تعميده بماء الأردن في إنجيل متى 3، ومرقس 1.

    [3] لم تكن النجمة التي ظهرت في الشرق وقادت المجوس الثلاثة إلى مهد يسوع في بيت لحم إلا إشارة إلى تحقيق نبوءة زرادشت (راجع إنجيل متى، الإصحاح الثاني).

    [4] حول تسمية الأهورا والدايفا تجدر الإشارة إلى أن زرادشت قد استعار هاتين التسميتين من الديانة الهندإيرانية القديمة؛ فالأهورا (= أسورا) هم الآلهة الطيبة والدايفا (= ديفا) هم الآلهة الشريرة.

    [5] قارن في خطبة اسطفانوس في أعمال الرسل بقوله: "على أن العليَّ لا يسكن في بيوت صنعتها الأيدي، كما قال النبي: يقول الرب: السماء عرشي والأرض موطئ قدميَّ. أيَّ بيت تبنون لي؟ أم أياً يكون مكان راحتي؟ أليست يدي قد صنعت هذا كلَّه؟" (7: 48-50)

    [6] الـ"مسيَّا" بالمعنى الأصلي هو الممسوح بالزيت. وكان طقس المسح بالزيت في التوراة وقفاً على مختاري الرب الذين اصطفاهم لحكم إسرائيل؛ ثم سرى هذا الطقس فيما بعد على الكاهن الأكبر.
    Reply With Quote  
     

  6. #6 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    الأسطورة والتاريخ

    (1 من 2)


    فراس السوَّاح


    الأسطورة حكاية مقدسة، يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصحة وصدق أحداثها. فهي، والحالة هذه، سجلٌّ لما حدث في الماضي وأدَّى إلى الأوضاع الحالية والشروط الراهنة. وهذا ما يعقد صلة قوية بين الميثولوجيا والتاريخ، باعتبارهما ناتجان ثقافيان ينشآن عن النوازع والتوجُّهات ذاتها، رغم ما بينهما من اختلافات تجعلهما يبدوان وكأنهما نظامان مستقلان لا يربط بينهما رابط. فالأسطورة والتاريخ ينشآن عن التوق إلى معرفة أصل الحاضر، ولكنهما يفترقان في القيمة التي نسبغها على ذلك الأصل. فهو أصل قدسي عند الأسطورة، وأصل دنيوي مفرغ من الأسْطَرَة عند التاريخ. بتعبير آخر فإن الأسطورة تنظر إلى التاريخ باعتباره تجلياً للمشيئة الإلهية. أما التاريخ فينظر إلى موضوعه باعتباره تجلياً للإرادة الإنسانية في جدليَّتها مع قوانين فاعلة في حياة الإنسان الاجتماعية. وهذا يعني أننا أمام نوعين من التاريخ: تاريخ مقدس وتاريخ دنيوي.

    يقتصر التاريخ المقدس على سرد كيفية تجلِّي "الإلهي" في الزمان والمكان الدنيويين، والكشف عن فعاليات الكائنات الماورائية في الأزمان الميثولوجية الأولى، وما نشأ عنها في عالم الإنسان. إن كل فعل من أفعال الإنسان بالنسبة للفكر الأسطوري، أو أية ظاهرة من ظواهر الطبيعة، لا تتمتع بقيمة ذاتية، بل إن قيمتها وحقيقيَّتها تنبع من حقيقة تقع خارج الملموس والمحسوس، من بوادر أولى متجذِّرة في زمن الأصول. فالجنس البشري محكوم عليه بالكدِّ والمشقة لأن الآلهة قد خلقته ليحمل عبء الكدح عنها (على ما نعرفه من نصوص رافدية عديدة)؛ والمؤسسات الاجتماعية، مثل الملكية الوراثية والكهنوت وما إليها، قائمة وتتمتع بقوة ونفوذ لأنها نزلت من السماء (على ما نعرفه من أسطورة آدابا وأسطورة إيتانا والنسر)؛ والمرض قد حلَّ في جسم الإنسان بسبب خطيئة الإله إنكي (على ما نعرفه من أسطورة إنكي وننخرساج)؛ وصار الموت مصيراً لكل إنسان حيٍّ بسبب خطيئة ارتكبها الإنسان الأول (على ما نعرفه من أسطورة آدابا البابلية وأسطورة خلق الإنسان التوراتية)؛ والشرُّ موجود في نسيج العالم بسبب تمرد ملاك في السماء وتحوله إلى شيطان يحكم مملكة الظلام (على ما نعرفه من المعتقدات المسيحية والإسلامية)؛ إلى آخر ما هنالك من أفعال وأحداث قادت إلى تكوين الصورة الحالية لعالم الإنسان.

    هذا التوق إلى معرفة أصول وجذور الشرط الراهن هو الذي يكمن وراء هوس المجتمعات الحديثة بالتاريخ. فتاريخ الكون، الذي صار موضوعاً لعلم خاص، يرجع بنا القهقرى إلى نقطة البدء الأولى، إلى لحظة الانفجار الأعظم الذي تولدت عنه المجرَّات وما زالت تفرُّ في كل اتجاه بسرعات خيالية؛ وتاريخ كوكب الأرض يرجع إلى أربعة مليارات ونصف من الأعوام، عندما دخل كوكبنا في مداره حول الشمس؛ وتاريخ الحياة يرجع إلى ثلاثة مليارات ونصف من الأعوام، عندما ظهرت الخلية الأولى في مياه المحيط المالح؛ وتاريخ الإنسان، ككائن طبيعاني، يرجع إلى أربعة ملايين من الأعوام عندما كانت إحدى فصائل الرئيسات تستقل لتسير في خط تطوري بلغ ذروته في هيئة الإنسان العاقل؛ وتاريخ الإنسان، ككائن ثقافي، يرجع إلى ابتكار الأدوات واستخدامها من أجل التكيف مع البيئة، ثم يسير بعد ذلك عبر عدد من العصور الموسومة بنوعية تقنياتها، وصولاً إلى عصر المعلوماتية الذي نعيشه الآن.

    وباختصار فإن الماضي يُبعَث بكامله وبكلِّيته من خلال أعظم عملية لاستنهاض التاريخ عرفتها البشرية. كل ذلك لأن الإنسان يحاول الآن، أكثر من أي وقت مضى، فهم نفسه.

    إن كلاً من الأسطورة والتاريخ هو وسيلة يفهم الإنسان من خلالها نفسه ويعي شرطه. وإن توقنا الآن لقراءة التاريخ وفهمه ينشأ عن الموقف القديم ذاته الذي كان يدفع أسلافنا لتلاوة الأساطير والاستماع إليها. ولكن ما يميز هذين النظامين بعضهما عن بعض، بشكل أساسي، هو أن الفكر الحديث قد أحلَّ أفعال الإنسان وقوانين التطور، كمحرك للتاريخ، محلَّ مشيئة الآلهة وأفعالها. وبما أن موضوعنا الأساسي في هذا البحث هو الأسطورة باعتبارها تاريخاً مقدساً فإننا سنلفت، فيما يلي، إلى اكتناه "منهجية" هذا التاريخ والمواقف الفكرية والعاطفية التي يقوم عليها.

    يمكننا تمييز ثلاث مراحل في التاريخ الذي تكشف عنه الأسطورة:

    1. السرمدية السابقة على فعالية الألوهة

    2. الزمن الكوسموغوني، أي زمن الخلق والتكوين

    3. زمن الأصول والتنظيم

    لا تعلن الألوهة عن نفسها إلا عند دخولها في الزمن وفي تاريخ الكون والإنسان، وذلك مع قيامها بفعل الخلق الأولي الذي مدَّ المكان، وأطلق الزمان، وقاد إلى ظهور الكون من رحم العماء. إن فعل التكوين الذي منح العالم وجوده هو الذي يقفز بالألوهة، في الوقت نفسه، من حالة الكمون في السرمدية الساكنة إلى حالة الوجود أيضاً. والألوهة، بإظهارها لما عداها، قد أظهرت نفسها في مقابله. ذلك أن الإله الأزلي القابع فيما وراء الزمن الجاري هو إله نظري افتراضي؛ ومثل هذا الإله لا يباشِر وجوده الفعلي إلا عندما يبتدر الزمن ويعلن عن فعالياته الواضحة فيه، فيقوم أو يشارك في خلق الكون أو في النشاطات الخاصة بتنظيمه. فالميثولوجيا، كما يقول الفيلسوف المعاصر إرنست كازيرر، تقوم على مفهوم زماني لا مكاني.[i] والأسطورة الحق، تبعاً لذلك، لا تتشكل عندما يكوِّن الإنسان في ذهنه صوراً للآلهة، بل عندما يعزو لهذه الآلهة بداية محددة في الزمن، وعندما تباشر فعالياتها وتنبئ عن وجودها في سياق زمني – أي عندما يتحول الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها.

    تقع الأحداث التي تقصُّها أساطير التكوين عند الحد الفاصل بين السرمدية والتاريخ، أي في الزمن الكوسموغوني، زمن الخلق الذي يُظهِر ما دون الخالق إلى الوجود. ومع الانتهاء من فعل الخلق نغادر هذا الزمن الكوسموغوني، ويدخل الإنسان وآلهته معاً في الزمن الخطِّي الذي يسير من الماضي إلى المستقبل عبر الحاضر، أي في الزمن التاريخي. وهنا يعقب فعل الخلق البدئي مجموعة أخرى من الفعاليات المبدعة للألوهة تنشط في الأزمان الميثولوجية الأولى الواقعة عند جذور الزمن التاريخي، أي أزمان الأصول والتنظيم. وهذه الفعاليات تسجِّلها لنا الزمرة التي نطلق عليها عادة اسم "أساطير الأصول"، التي تعمل على تأسيس وتأصيل كل ما هو قائم، سواء على المستوى الطبيعاني أم على المستوى الثقافي.

    تقدم لنا معتقدات وأساطير الشرق القديم أمثلة واضحة عن هذه المراحل الثلاثة للتاريخ المقدس. لنعد إلى الإينوما إيليش، ونبدأ بها، لأن مطلعها يعطينا وصفاً بالغ الحيوية والتأثير للمرحلة الأولى من التاريخ المقدس ومرحلة كمون الألوهة:

    عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء

    وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض

    لم يكن [من الآلهة] سوى آبسو، أبوهم

    وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعاً

    يمزجون أمواههم معاً.

    لقد أفلح هذا المقطع، إلى حدٍّ غير مسبوق حتى الآن، في نقل انطباع ميثولوجي شديد التأثير على السامع أو القارئ، ووضعه، بسيكولوجياً، في لب "مفهوم" السرمدية الساكنة المنكفئة على نفسها، المكتفية بذاتها. وهو، باختياره للماء جوهراً لهذه "الكيانات" الأزلية الثلاثة، قد أكد على حالة الهيولى السابقة لكل شكل، لأن الماء هو أكثر العناصر من حولنا تمثيلاً لما لا شكل له ولا قوام ولا أبعاد. إنه "اللاشكل" و"اللانظام" بكل امتياز. كما أن اختتام الإيقاعات الأربعة الأولى لهذا المقطع الاستهلالي بالإيقاع الخامس ("يمزجون أمواههم معاً") يؤكد على أن هذه الكيانات المؤلفة من الأب الأزلي والأم الأزلية والابن الأزلي هي كيانات غير مستقلة، بل متمازجة متداخلة، دون حدود تفصل بينها. أي بالمفاهيم اللاهوتية المركَّبة: ثلاثة في واحد. لأنه لا معنى لقيام ثلاثة كيانات مائية مستقلة، بينما هي، في الآن ذاته، في حالة تمازج واختلاط أزليين.

    ينتقل النص بعد ذلك إلى المرحلة الثانية من التاريخ المقدس، مرحلة الزمن الكوسموغوني الذي يصدر فيه الكون عن الهيولى، والزمن عن السرمدية، ويصف عتبة ذلك الزمن. فقد أخذت هذه الكتلة الهيولية الأولى بالتمايز تدريجياً عن طريق التناسل، وصدر عنها الجيل الثاني من الآلهة. ومع ظهور هذا الجيل تبدأ إرهاصات الزمن ونقترب من البرزخ الكوسموغوني. ويعبِّر النص عن إرهاصات الزمن بالضجيج الذي يصدر عن الآلهة الشابة الجديدة، في مقابل ذلك الصمت المطلق الذي كان سمة للأزلية الساكنة. ففي أعماق الماء، المتمازج في صمت وسكون، أخذ هؤلاء بالصخب والحركة جيئة وذهاباً، فهزُّوا جوف تعامة وسبَّبوا لها الأذى كما سبَّبوا الأرق لآبسو وممو. لقد حدث شرخ في الحالة السكونية لا سبيل لرأبه:

    وتجمَّع الصحب المؤلَّهون

    أزعجوا بحركتهم تعامة.

    نعم، لقد هزُّوا جوف تعامة

    يروحون ويجيئون في مسكنهم المقدس.

    فتوجَّه آبسو بالقول إلى تعامة:

    لقد غدا سلوكهم مؤلماً لي.

    في النهار لا أستطيع راحة ولا في الليل رقاداً.

    لأدمرنَّهم وأضع حداً لفعالهم،

    فيخيم الصمت، ونخلد بعدها إلى النوم.

    ولكن هيهات. فالكون يستعد للقفز من رحم الهيولى ولا سبيل إلى النوم، لأن الحركة قد انطلقت وما من وسيلة لإيقافها. وهكذا اصطدم الصمت والسكون بالضجيج والحركة، ونشأت معركتان قادتا إلى ابتدار التاريخ. قاد المعركة الأولى الإله إيا (=إنكي) ضد آبسو وممو، فقتل الأول وأسر الثاني. وقاد المعركة الثانية الفاصلة الإله مردوخ، بكر الإله إيا، فقتل تعامة وشطرها نصفين، رفع واحدهما سماء وأرسى الثاني أرضاً. فنشأ الشكل عن الهيولى، والنظام عن الفوضى المائية، وانطلق الزمن. والنص واضح هنا كل الوضوح في إظهار ترافق التكوين مع ظهور الزمن. ففي نهاية اللوح الرابع من الإينوما إيليش ينتهي مردوخ من رفع السماء وبسط الأرض، وفي بداية اللوح الخامس ينتظم الزمن:

    خلق محطات لكبار الآلهة:

    أوجد لكلٍّ مثيله من النجوم؛ علامات خط السمت.

    وحدد السنة وقسَّم أجزاءها.

    ولكلٍّ من الإثني عشر شهراً أوجد ثلاثة أبراج [كوكبات].

    وبعد أن حدد بالأبراج أيام السنة،

    خلق كوكب المشتري ليرقُبَ واجباتها [أي الأيام].

    فلا يقصِّر أحدها أو يتماهل...

    إلخ...

    ثم أخرج القمر فسطع بنوره، وأوكل إليه الليل

    وجعله حلية له وزينة، وليعين الأيام:

    أن اطلع كل شهر دون انقطاع مزيَّناً بتاج...

    إلخ...[ii]

    وبعد أن يطمئن مردوخ إلى انتظام سير الزمن يلتفت إلى نشاطات التنظيم والأصول؛ ونغادر المرحلة الثانية الكوسموغونية إلى المرحلة الثالثة:

    بعد أن أوكل بالأيام إلى شمش [=إله الشمس]،

    أخذ من لعاب تعامة وخلق منه [... ...]

    خلق منه الغيوم وحمَّلها بالمطر.

    دفع الرياح وأنزل الغيث.

    وخلق من لعابها أيضاً ضباباً.

    ثم عمد إلى رأسها فصنع منه تلالها،

    وفجَّر في أعماقها مياهاً،

    وفجَّر منها عيوناً وأحيا آبارا.

    وتنتهي هذه النشاطات ببنائه لمدينة بابل ولمعبدها الكبير المدعو إيزاجيلا المخصص لعبادة الإله مردوخ. ولا يبقى سوى خلق الإنسان الذي سيكون خليفة مردوخ على الأرض ووكيل سلطانه فيها:

    توجَّه الآلهة بالسؤال لبكرهم مردوخ:

    بعد كل ما صنعت يداك،

    لمن ستَكِل سلطانك؟

    وفوق الأرض التي ابتدعتها يداك

    لمن ستَكِل حكمك؟

    يخلق مردوخ الإنسان من دم الإله كينغو، قائد جيش تعامة والمحرض الرئيسي على القتال ضد الآلهة الشابة، ويفرض عليه السعي في مناكب الأرض ليعمل فيها ويحصِّل قوته وقوت الآلهة التي حرَّرها مردوخ من العمل. كما يرسي له أسس الطقوس والعبادات ويعلِّمه خشية الآلهة. ثم يُتبِع ذلك بعدد من النشاطات التنظيمية التي ترسِّخ أسس التحضُّر الإنساني، حيث نقرأ في المقاطع الأخيرة من النص التي تعدد أسماءه الخمسين وتقرن بكل اسم عملاً جليلاً من أعماله:

    إينبيلولو، واهب الخيرات هو.

    الجليل الذي منح لكلٍّ اسمه.

    نظَّم المرعى وموارد الماء.

    فجَّر الأرض عيوناً، وأجرى المياه أنهاراً.

    ليمجَّد ثانياً على أنه إيبادون، الذي يروي الحقول.

    الذي نظَّم السدود والقنوات، ورسم خطوط المحراث.

    ربُّ الظلال الوفيرة والمحاصيل الكثيرة.

    واهب الثروة الذي أغنى المساكين.

    مانح الذرة ومُنبِت الشعير، يتولَّى أمور الأهراء.

    يحفظ تماسك العائلة، مصدر كلِّ أمر حسن...

    إلخ...

    وفي نص بابلي آخر عن التكوين والأصول، مؤلف من أربعين سطراً، نقرأ في الأسطر الأخيرة من الفعاليات التنظيمية للإله مردوخ التي أعقبت فعاليات الخلق والتكوين ما يلي:

    صنع قالب الآجر، وأنتج مكعباته.

    بنى البيت وبنى المدينة

    بنى المدينة وأسكن فيها البشر.

    بنى مدينة نيبور، وبنى فيها معبد الإيكور.

    بنى مدينة أوروك وبنى فيها معبد إينانا.

    إلخ...[iii]

    وفي الميثولوجيا السومرية الأقدم لا نجد اهتماماً بمسألة الخلق والتكوين بقدر الاهتمام بمسائل الأصول والتنظيم. فبينما تتم الإشارة بشكل عابر إلى بعض تفاصيل فعاليات الآلهة في صنع العالم فإن الميثولوجيا السومرية تتوقف بشكل مطوَّل عند فعاليات الآلهة في مطالع التاريخ، في الأزمان الميثولوجية التي تلت الزمن الكوسموغوني، وقيامها بتنظيم شؤون العالم والمجتمع الإنساني. فأسطورة إنكي وننخرساج [راجع: معابر، "الأسطورة والمعنى"، الإصداران الخامس والسادس] تقع ضمن هذا النوع من الفعاليات التاريخية للألوهة. ومثلها في ذلك أسطورة إنكي وننماخ التي تحكي عن قيام إنكي بخلق الإنسان بمعونة الإلهة ننماخ (وهو اسم آخر لننخرساج)، وتخلص من ذلك في النهاية إلى التأصيل للشيخوخة والموت. وفيما يلي ملخص لهذه الأسطورة:

    بعد الانتهاء من خلق العالم، جاء الآلهة إلى إنكي طالبين منه أن يخلق لهم من يحمل عنهم عبء العمل ويقوم على خدمتهم، فيقوم إنكي بخلق الإنسان، تساعده في ذلك أمه نمو، المياه الأولى، وننماخ الأرض–الأم. تغرف نمو قبضة من طين مياه الأعماق، ثم تعجن الطين وتشكِّله تحت إشراف إنكي، بالتعاون مع ننماخ. وبعد الانتهاء من صنع نموذج الإنسان الأول تقوم ننماخ بإعطائه صورة الآلهة. وعلى حد تعبير النص: "إن علقت عليه صورة الآلهة." احتفالاً بهذه المناسبة أقام إنكي وليمة عامرة دعا إليها بقية الآلهة. وبعد أن شرب إنكي وننماخ الكثير من الخمر، قامت ننماخ بصنع ستة نماذج بشرية من الطين نفسه، ولكنها تحمل عاهات مختلفة، وتحدَّت إنكي أن يجد لها عملاً مناسباً ومكاناً في المجتمع. ففعل إنكي ذلك على أكمل وجه. ثم إن إنكي قام من جهته بصنع نموذج لبشري واهن لا يستطيع حتى تحريك ذراعه، واسمه بالسومرية يعني "أيامي موغلة في البعد" (يوحي لنا هذا الاسم بأن إنكي قد خلق الشيخوخة وأرذل العمر). تحدى إنكي ننماخ أن تجد لمخلوقه هذا وظيفة ومكاناً في المجتمع، ففشلت وثار غضبها عليه، فلعنته لعنة عظيمة غاصت به إلى أعماق الأرض. أما بقية النص فغير واضحة للقراءة.[iv] ورغم ذلك فإن رسالته واضحة وتتعلق بتفسير أصل الشيخوخة، مثلما تعلقت رسالة أسطورة إنكي وننخرساج بأصل المرض. فإذا كان الإنسان قادراً على التعامل مع عاهاته وتشوهاته فإنه يبقى عاجزاً عن فعل أي شيء تجاه الشيخوخة التي لم تستطع الإلهة–الأم فعل شيء إزاءها بعد أن أظهرها إنكي إلى الوجود.

    ويبدو أن الإله إنكي كان أكثر الآلهة فعالية في أزمان التأصيل. فلدينا أكثر من نص يصف نشاطاته في التأصيل والتأسيس، وأهمها النص المعروف لدى الباحثين بعنوان إنكي ينظِّم العالم. في هذا النص نجد إنكي يطوف أرجاء العالم ويقرر لكل قطر مصائره وينشر فيه التقاليد الحضارية، مظهِراً إلى الوجود كل ما هو نافع ومفيد لحياة الإنسان. عند الجزء الواضح للقراءة من اللوح الفخاري يصل إنكي إلى بلاد سومر فيعلي من شأنها فوق جميع الأقطار؛ ثم يقف عند مدينة أور (التي كانت عاصمة سومر خلال فترة تدوين هذا النص) فيقرر لها مصيرها ويجعل منها دُرَّة البلدان؛ ثم يتابع إلى بلاد ملوحا فيباركها، وإلى نهري دجلة والفرات فيملؤهما ماءً نقياً ويخلق فيهما السمك، وعلى الشطآن ينثر القصب ويَكِله إلى الإله إينبيلولو؛ ثم يلتفت إلى البحر فينظِّم شؤونه ويَكِله إلى الإلهة سيرارا؛ ثم إلى الرياح فيوجهها في مساراتها ويَكِلها إلى الإله إشكور، صاحب القفل الفضي الذي يضبط بواسطته هطول الأمطار؛ ثم إلى شؤون الزراعة وما يتصل بها من أدوات، فيخلق المحراث والنير، ويَكِل إلى الإله إنكمدو القنوات والسواقي؛ وفي المدن يهتم بالعمران فيقيم للآجرِّ إلهاً خاصاً، ويحفر الأساسات ويرفع الجدران، ويعين الإله شداما للإشراف على أعمال البناء؛ ثم يملأ السهول بالعشب والمرعى، وينثر فيها قطعان الماشية، ويعيِّن لشؤونها الإله سوموقان؛ ثم يملأ الحظائر باللبن والزبدة ويعيِّن عليها الإله الراعي دوموزي. وعند هذه النقطة يتشوَّه النص ويغدو غير قابل للقراءة.[v] غير أن هذا الجزء الواضح من النص يكشف عن هوية أسطورتنا باعتبارها تاريخاً مقدساً متكاملاً للحضارة الإنسانية، ولمنطقة سومر على وجه التحديد. وهذا التاريخ الحضاري لا يقوده الإنسان، بل الفعالية الإلهية التي توجِّه التاريخ. فالإله إنكي هو الذي ابتدر الزراعة، وهو الذي صنع أدواتها الأولى، وهو الذي حفر قنوات الري، وهو الذي صنع الآجر وأشاد البيوت والمدن، إلخ. أما الإنسان فليس إلا عنصراً منفعلاً في هذا العالم، لا يمارس إلا الدور الذي ترسمه له الآلهة.

    وفي الميثولوجيا المصرية نستطيع متابعة مراحل التاريخ المقدس نفسها، أي من السرمدية إلى الزمن الكوسموغوني إلى زمن الأصول والتنظيم في مطالع التاريخ. تتمثل السرمدية في الأوقيانوس المائي البدئي نون، الذي يعادل الأمواه الثلاثة المتمازجة في الإينوما إيليش. فوق هذه المياه البدئية كانت تحوِّم روح لا شكل لها ولا هوية؛ ثم تركَّزت في داخل هذه الروح تدريجياً كل أشكال الوجود، وصار اسمها أتوم. والاسم، باللغة المصرية، يعني العدم، ويعني في الوقت نفسه الاكتمال. وفي لحظة معينة انبثق آتوم من هذه الهيولى الأولى وتجلَّى تحت اسم رع ومعه ابتدأ الزمن الكوسموغوني. فقد أنجب رع توأمان هما: الهواء شو والرطوبة تفنوت. وأنجب هذان الزوجان بدورهما السماء نوت والأرض جِبْ. ومن زواج السماء والأرض ولد أوزيريس وإيزيس وسيت.[vi]

    مع الانتهاء من الزمن الكوسموغوني ندخل زمن الأصول الذي يلعب فيه الإله أوزيريس الدور الرئيسي. كان أوزيريس أول ملك في الأرض، وقد كرَّس نفسه، منذ البداية، لتنظيم شؤون العالم، مبتدئاً مهمته بمصر، حيث أبطل العادات الهمجية السائدة، وعلَّم الناس كيفية صناعة الأدوات الزراعية واستخدامها في استنبات القمح والشعير، كما علَّمهم أكل الخبز وشرب النبيذ والجعة وبناء البيوت والموسيقى، وأسَّس للديانة الأولى وعلَّم البشر عبادة الآلهة. وبعد أن أرسى التقاليد الحضارية في مصر أوكل إلى زوجته إيزيس حكم البلاد وسافر إلى آسيا وبقية أرجاء المعمورة ليعلِّم البشر في كل مكان ما علَّمه للمصريين، مستميلاً إليه الناس باللين والمحبة، ناشراً تعاليمه بواسطة الأغاني والموسيقى. ثم قفل عائداً إلى مصر وحكمها بالعدل والقسط.[vii] عند هذه النقطة ينتهي الطور الأول من حياة أوزيريس ويبدأ الطور الثاني. ذلك أن هذه اليوتوبيا التي صنعها هذا الإله ما كانت لتدوم طويلاً. لقد دخل الشرُّ المسرحَ الكوني ممثلاً بالإله سيت، الأخ التوأم لأوزيريس. كان سيت يُكِنُّ لأخيه حسداً وضغينة منذ البداية، ويعمل خفية على تخريب كل ما يبنيه. وفي السنة الثامنة والعشرين من حكم أوزيريس، دبَّر سيت له مكيدة فقتله غيلة ووضع جثمانه في صندوق خشبي ألقاه في النيل الذي حمله إلى البحر. فتقوم زوجه إيزيس بالبحث عن الصندوق في كل مكان، وتجده أخيراً في مدينة جبيل الكنعانية، و\فتعود به إلى مصر، حيث تخبئه مؤقتاً في مستنقعات الدلتا. يعرف سيت بعودة الصندوق فيبحث عنه ويجده، ثم يمزِّق جثة أوزيريس إلى أربعة عشرة قطعة يوزِّعها في طول البلاد وعرضها. ولكن إيزيس تهب ثانية للبحث عن أجزاء زوجها، فتجدها وتجمعها بعضها إلى بعض، ثم تنفخ فيها الحياة. يُبعَث أوزيريس من الموت، لكنه لا يفضل البقاء في عالم دبَّ فيه الفساد، ويهبط مختاراً إلى العالم الأسفل ليغدو حاكماً هناك وقاضياً يحاكم الموتى في دنياهم الثانية، بينما يتابع ابنه حورس مقارعة عمه سيت، ويستمر الصراع بين القوتين الكونيتين: قوة النور والخير وقوة الظلام والشر.

    في هذه الأسطورة المصرية نقف، مرة أخرى، أمام رؤية الإنسان القديم للتاريخ باعتباره تجلياً لفعاليات الآلهة في الزمن، وللوضع الراهن للإنسان، باعتباره نتاجاً لما باشرتْه القوى الإلهية في الأزمنة الميثولوجية التي تلت الخلق والتكوين. غير أن الميثولوجيا المصرية تضيف إلى هذه الرؤية للتاريخ عنصراً جديداً لم نألفه في الميثولوجيا المشرقية قاطبة قبل ظهور الزردشتية. فالإنسان محكوم بصراع كوني بين قوة الخير وقوة الشر، انطلق عقب الخلق والتكوين وابتداء تاريخ الإنسان والآلهة. وعلى الفرد أن يختار الوقوف إلى جانب إحدى هاتين القوتين ويعبِّر من خلال سلوكه في الحياة عن خياره وموقفه. وبما أن الإله الذي استهلَّ تاريخ الإنسان ووضع الملامح العامة لأصول التحضُّر البشري هو عينه الإله الذي استحال حاكماً في العالم الأسفل وقاضياً يحاسب الموتى على ما قدَّمت أيديهم في الحياة الدنيا، ويقرر مصيرهم بين النعيم والجحيم، فإن التاريخ بأكمله يغدو مجالاً لامتحان البشر في عالم الصراع الكوني هذا. ويغدو الخلق والتكوين وصيرورة الزمن مجرد مقدمة للوقفة الأخيرة التي يقفها الميت أمام الميزان المنصوب في قاعة أوزيريس المدعوة بقاعة العدالة، قاعة معاة.

    هذه الفكرة المصرية عن معنى التاريخ وغاياته سوف تظهر بأشكال شتى في المعتقدات المشرقية، ابتداءً من الزردشتية في القرن السابع قيل الميلاد، وما تلاها من الديانات المعروفة تاريخياً باسم الديانات السماوية. فههنا لا يتوقف التاريخ المقدس عند زمن الأصول وما يعقبه من تداخلات عرضية للمشيئة الإلهية في حياة المجتمعات الإنسانية (الطوفان السومري, هلاك مدينة أور، إلخ.)، بل ينسحب هذا التاريخ على صيرورة الزمن كاملة، بدءاً من التكوين وانتهاءً بالقيامة الأخيرة التي تؤشر لنهاية الزمن وعودة الحياة إلى السرمدية التي نشأت عنها.

    ترسم الميثولوجيا التوراتية صورة للسرمدية السابقة على التكوين أشبه بالصورة التي رسمتْها الميثولوجيا المصرية عندما كانت روح بلا هوية أو شكل تحوِّم فوق المياه الأزلية. ففي البدء لم يكن سوى لُجَّة ماء وظلمة وروح الربِّ يرفُّ فوق سطح الغمر (التكوين 1: 1-2). ثم تقرر الألوهة الخروج من حالة الكمون هذه، فتُظهِر نفسَها من خلال خلق مظاهر الكون الذي يكتمل في خمسة أيام. وفي اليوم السادس يقوم الإله، الذي وعى نفسه الآن من خلال الكون الذي صدر عنه، بخلق الإنسان. ذلك أن فعل الخلق نفسه، وظهور الكون عن الخالق، لا يكفي في حدِّ ذاته لكي يستكمل الإله الخالق إظهار نفسه. فلقد صار الآن ذاتاً واعية، وهو في حاجة إلى ذات واعية مثله، لأن الكون، بكل عظمته، يبقى، بدون مثل تلك الذات، خلقاً أصماً ليس بمقدوره أن يعكس عظمة الخالق وحضوره في الزمن. أما الإنسان فإنه المخلوق الوحيد الذي يتمتع بالوعي والذي بمقدوره أن يحس بذلك الحضور الفائق للإله ويتملَّى عظمته. وهكذا ظهر الإنسان، وكان خلقه بمثابة آخِر الفعاليات المبدعة للألوهة في الزمن الكوسموغوني. وقد استراح الخالق في اليوم السابع الذي يقع على الحد الفاصل بين الزمن الكوسموغوني والزمن التاريخي.

    بعد ذلك تبدأ فعاليات الألوهة في زمن الأصول وبدايات التاريخ. نقرأ في الإصحاح 2 من سفر التكوين: "كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الربَّ الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل على الأرض. ثم كان ضباب يطلع ويسقي كل وجه الأرض [...][viii] وغرس الرب الإله جنَّة في عدن شرقاً ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب الإله من كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر." تلي ذلك قصة خلق المرأة الأولى من ضلع آدم، ووصيَّته لهما أن يأكلا من كل شجر الجنة، إلا شجرة معرفة الخير والشر. يليها قصة إغواء الحية لحواء بالأكل من ثمار الشجرة، وكيف أعطت آدم ليأكل منها أيضاً، وما تبع ذلك من خسرانهما للجنَّة وطردهما إلى الأرض ليعملا فيها وذرِّيتهما.

    من قراءة قصة الأصول هذه نلاحظ كيف تم القفز فوق معظم تفاصيل الأصول التي ركزت عليها الميثولوجيا المشرقية السابقة، في مقابل التركيز على أصل واحد هو: أصل الخطيئة –

    لأن التاريخ، من وجهة نظر التوراة، هو تاريخ للخطيئة بامتياز. ويسير عبر النمط المتكرر التالي:

    خطيئة ? عقاب جماعي رادع ? توبة ? خطيئة ? إلخ...

    إن كل ما يتلو خروج آدم وحواء من الجنة والدخول في زمن الأرض ليس إلا إبانة عن المشيئة الإلهية في التاريخ. فمن قابيل وهابيل، إلى تكاثر الناس وتجمُّعهم في بابل ثم تشتيتهم في بقاع الأرض، إلى الطوفان العظيم، إلى اختيار الإله لشعبه الخاص، ومسيرة هذا الشعب عبر كل المصائب والمحن التي أحاقت به بسبب خطاياه، وصولاً إلى دمار الهيكل الأول، وما تلاه من سبي، فعودة، فدمار ثانٍ، جميعها فصول في ميثولوجيا توراتية تفصح عن مقاصد الإله في حياة الناس، ويتخذ كل حدث فيها معناه ومغزاه من هذه الصلة التي لا تنفصم مع الإرادة الإلهية. من هنا فإن ميثولوجيا الأصول هنا ليست وقفاً على الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، بل تنسحب على جميع فصول الكتاب الذي يمكن اعتباره بحق كتاباً في ميثولوجيا الأصول ومثالاً على التاريخ المقدس بامتياز. إن قارئ التوراة المطلع على تاريخ منطقة الشرق القديم يلاحظ بسهولة تامة كيف تجاهل محرِّرو الأسفار التوراتية تاريخ هذه المنطقة برمَّته، ولم يركزوا إلا على تلك السلسلة من الأحداث التي قادت إلى تشكيل مملكة داود وسليمان (التي نعرف الآن بشكل مؤكد أنها لم توجد في يوم من الأيام[ix])، ثم إلى انهيارها، فإلى قيام مملكتي إسرائيل ويهوذا، فالسبي الآشوري والبابلي، فالعودة من أجل انتظار المسيح، ملك اليهود الأرضي الذي سيمهِّد الطريق لحلول مملكة الربِّ التي يديرها الإله بشكل مباشر. هذه السلسلة من الأحداث لا تتخذ معناها من خلال السياقات الحقيقية لتاريخ المنطقة، ولا من خلال علاقة النتائج بأسبابها الفعلية، بل من خلال سلسلة من السياقات الميثولوجية القائمة على تداخل المشيئة العُلوية في التاريخ. إن ما يُدعى بـ"التاريخ التوراتي" ليس، في حقيقة الأمر، إلا مجموعة فصول في ميثولوجيا توراتية، تبدأ بالتكوين وخطيئة الإنسان الأولى، وتنتهي بقيام ملكوت الربِّ على الأرض.

    وفي المعتقدات الإسلامية نستطيع تتبُّع مراحل التاريخ المقدس في كتاب الله وسُنَّة رسوله. لدينا، بهذا الصدد، حديث شريف يعبِّر أبلغ تعبير عن حالة الكمون التي كانت عليها الألوهة قبل أن تتجلَّى من خلال فعل الخلق. فقد سئل رسول الله (ص): "أين كان الله قبل أن يخلق خلقه؟" فأجاب: "كان في عماء. ما فوقه هواء وما تحته هواء، وخلق عرشه على الماء."[x] ("العماء"، في اللغة، هو الغيم الرقيق الأبيض.)

    هذه الألوهة المتسربلة بالسرمدية قد أعلنت عن نفسها وتجلَّت من خلال فعل التكوين الذي جعلها حاضرة ومعروفة في وعي المخلوق. نقرأ في حديث قدسي: "كنت كنزاً مخفياً لا أُعرف، فخلقت الخلق، فبه عرفوني."[xi]

    ولدينا آية كريمة تشرح الأحوال الثلاثة المتعاقبة للألوهة، من السرمدية، إلى الزمن الكوسموغوني، إلى التاريخ. نقرأ في سورة هود 7: "وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً." فمنذ الأزل، لم يكن سوى الذات الإلهية والماء المخلوق. ثم خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام. وبعد الخلق يبدأ التاريخ، وهدفُه زجُّ الإنسان في الامتحان الكبير بين الخير والشرِّ ("ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً")، بانتظار نهاية الزمن يوم القيامة الذي يشهد تدمير الكون وحشر الناس جميعاً إلى ربِّهم من أجل الحساب. لقد خلق الله الإنسان ووهبه الحرية في الاختيار بين الخير والشرِّ اللذين تمايزا بعد عصيان إبليس وخطيئة آدم: "ونفسٍ وما سوَّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكَّاها وقد خاب من دسَّاها" (الشمس 7-10). من هنا فإن حركة التاريخ تدور حول محور قوامه: الرحمن والإنسان والشيطان. فكلما طغى الشيطان قوماً، فزاغت قلوبهم عن معرفة الله وعبادته، جاءهم نذير من عند ربِّهم يردُّهم إلى جادة الصواب. ويتتابع تاريخ الإنسان بكامله وفق نمط متكرر:

    هداية ? غواية ? رسالة سماوية ? هداية ? إلخ...

    وقد يتبع الرسالة السماوية، في حال استمرار العصيان، قصاص سماوي عاجل: "وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً" (الإسراء 10)؛ "وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسُنا بياتاً أو هم قائلون" (الأعراف 4)؛ "ما أهلكنا من قرية إلا كان لها منذرون" (الشعراء 208)؛ "وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمَهلِكِهم موعدا" (الكهف 59).

    ورغم أن القرآن الكريم قد سرد أحداث الماضي، منذ الخليقة إلى البعثة المحمدية، دون أن يضعها في سياق كرونولوجي، حيث بقي القصص القرآني معلقاً في فضاء تاريخي وجغرافي تام،[xii] إلا أن وجهة النظر القرآنية في التاريخ واضحة كل الوضوح. إنه صيرورة تدفعها رحمة الخالق الذي جعل الإنسان حراً في اختيار مصيره، ولكنه بقي في الوقت ذاته حريصاً على هدايته وحسن آخرته: "يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" (يس 30). "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور" (لملك 2). تعطف هذه الآية الكريمة الأخيرة على سابقتها التي تقول: "وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام. وكان عرشه على الماء. ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً". فالتاريخ، الذي ابتدأ بالخلق والتكوين وظهور الموت وتمايز الخير والشر، يسير في اتجاه خطِّي حثيث نحو نهايته في يوم القيامة والحساب؛ وهدفه اختبار الإنسان ومعرفة مدى التزامه بالمهمة الموكلة إليه على الأرض كخليفة للخالق. وليس الحساب إلا إعادة للتوازن الذي أخلَّ به البشر عبر التاريخ من خلال أفعال الإنسان الخبيثة. غير أن ما يميِّز هذا التاريخ المقدس، الذي يشفُّ عن المشيئة الإلهية في عالم البشر، عن مثله في المعتقد التوراتي هو أن مسرح المشيئة الإلهية لم يعد مقتصراً على شعب مختار واحد، وإنما اتَّسع ليشمل الإنسانية جمعاء. ومعرفة هذا التاريخ هو نوع من العبرة تساعد الأفراد والجماعات على التوافق مع أهدافه وغاياته.

    وفي المسيحية تتخذ واقعة التجسُّد – تجسِّد الألوهة في التاريخ – من خلال يسوع ابن الإنسان مكان البؤرة في تاريخ الكون وتاريخ البشرية. وانطلاقاً من هذه الواقعة تجري قراءة التاريخ صعوداً نحو الخلق والتكوين وهبوطاً نحو نهاية العالم. وسوف أقدِّم فيما يلي لمحة موجزة عن هذا التاريخ المقدس، كما رسمه آباء الكنيسة في العصور الوسطى، اعتماداً على الإشارات المتفرقة في الأناجيل وفي كتابات الرسل. إن من يقرأ أعمال أولئك الآباء المؤسِّسين، من أمثال القديس أوغسطينوس وتوما الإكويني وديونيسوس، يلاحظ إلى أيِّ حد كان الفكر المسيحي في العصور الوسطى يتجاهل (أو لعله لم يكن يعرف) كل ما يقع خارج هذا التاريخ المقدس من أحداث العالم.

    "في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله. والله كان الكلمة. به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان" – على ما نقرأ في مطلع إنجيل يوحنا. في غياهب السرمدية كانت الألوهة منكفئة على ذاتها، ومنضوية على ثلاثة كيانات إلهية، هي الآب والابن والروح القدس. وبقدر ما كانت هذه الكيانات مستقلة بعضها عن بعض كانت متَّحدة في الجوهر، مشكِّلة كلاً لا ينفصم، هو الإله السرمدي الواحد. ومنذ الأزل كان الابن يتولَّد على الدوام من الآب، والروح القدس يصدر عن كليهما. وكان الابن موضع محبة الأب، والروح القدس هو المحبة التي تسري بين القطبين، مغلِقة دارة الألوهة المكتملة المكتفية.[xiii] ورغم أن الله، في تناغمه السرمدي هذا، كان في غنى عن خلق كل ما سواه، إلا أن دارة المحبة المنكفئة على نفسها قد فاضت، حتى جاء وقت قرر فيه الله أن يُظهِر إلى الوجود أول أشكال خلقه. فصدر أمر الكلمة. ونشأ عن أمر الكلمة صنف من المخلوقات الخالدة هم الملائكة. توضعت هذه المخلوقات في أفلاك حول الذات الإلهية، كنقاط ضوء تعكس أشكالاً لا حصر لها من ذلك الإشعاع المركزي الذي وهبها الحياة.[xiv] ومنذ البداية، أُوكلت لهؤلاء الملائكة مهمة مزدوجة: الأولى هي التنعُّم بمجد الخالق، والثانية هي التوسُّط بينه وبين الكون المخلوق الذي سيظهر بعدهم إلى الوجود.[xv]

    ولقد جاء الملائكة إلى الوجود ككائنات حرة الإرادة، لأنه بدون الحرية لم يكن لهؤلاء أن ينجزوا مهمتهم التي خُلِقوا لها، وهي القدرة على المحبة. فالمحبة التي هي جوهر الألوهة لا معنى لها إذا لم توهب عن حرية وعن اختيار. وقد كان الله على علم أكيد بكل ما تنضوي عليه هذه الحرية من مخاطر، لأن الكائن الحرَّ في أن يحبَّ حرٌّ أيضاً في أن يكره، وما من شيء يضمن الكيفية التي سيستخدم بها حريَّته. وأكثر من ذلك، كان الله على علم أيضاً بأن نعمة الحرية هذه سوف يستغلها بعضهم في العصيان وفي مخالفة المشيئة الإلهية. ولكن الغاية الأخيرة المزروعة في صلب مخطَّط الخلق كانت على درجة من الروعة تجعل مثل هذه المخاطر مبرَّرة. وهكذا كان. فمن بين الملائكة المقربين في الفلك الأول، ظهر ملاك استخدم حريته في التمرد والعصيان، وأحدث شرخاً في ذلك الكمال البدئي.

    كان اسم ذلك الملاك لوسيفر. والاسم يعني "ناشر الضياء". وكان الأكثر جمالاً وبهاءً بين رهط الملائكة وذروة من كمال صنعة الخالق. أمعن لوسيفر النظر إلى قلب الثالوث الأقدس, وأخذ يشارك الألوهة معرفتها للمستقبل، ثم رأى ما أدهشه وسبَّب له صدمة كبيرة: رأى أن الله كان يُعِدُّ مكاناً أعلى منزلة لمخلوق جديد مصنوع من جسد مادي، وأن هذا المخلوق سوف يفوقه في سلَّم المراتب السماوية. وأكثر من ذلك، أن امرأة ستغدو ملكة عليه وعلى بقية الملائكة (أي السيدة مريم بعد صعودها إلى السماء)، وأن الإله الابن سوف يحلُّ في جسد بشري من جنس هذا المخلوق الجديد. عندئذٍ، وبدافع من حريته الكاملة، قرر تفضيل مجده الملائكي على الغاية الإلهية، والعصيان على تقديم الطاعة لمن هو أدنى منه مرتبة؛ وذلك رغم علمه بما سيجرُّه عليه هذا العصيان من لعنة أبدية. أعلن لوسيفر تمرُّده، ووقفت إلى جانبه آلاف مؤلفة من الملائكة الآخرين، بعد أن نقل إليهم ما عرف من أمور المستقبل.[xvi] وتبع الجميع لوسيفر مديرين وجوههم عن بؤرة النور الأعظم، فقادهم إلى تخوم الظلمة التحتية التي تترامى فوق العدم، حيث تحوَّل لوسيفر إلى إبليس وأتباعه من الملائكة الساقطين إلى شياطين. ثم رسم إبليس له ولهم مهمتهم المقبلة، وهي معاكسة عمل الخالق وتخريب ما هو صالح، وعلى وجه الخصوص إفساد الذي كان عليهم في الأصل إجلاله وتقديره.

    بعد ذلك تستمر خطة الخلق انطلاقاً من الماء، وهو أول ظهور مادي غير متمايز. فمن الماء صنع الله السماء والأرض وبقية مظاهر الكون والطبيعة في ستة أيام انتهت بخلق الإنسان.[xvii] أخذ الخالق حفنة من تراب الأرض وصنع منها آدم على صورته، ثم نفخ في أنفه نسمة الحياة، فجاء نموذجاً للإنسان الكامل الذي أراده خالقه. وقد وهبه الله حرية الإرادة، مثلما وهبها للملائكة من قبله، وجعله سيداً على الأرض وعلى جميع مخلوقاتها. وجاء إليه بكل ما يدبُّ على الأرض أو يطير في السماء أو يسبح في الماء، فعرضهم أمامه صنفاً صنفاً، فأعطى آدم لكل صنف اسمه.[xviii] وبما أن آدم كان خليفة الله على الأرض، فقد غرس من أجله في الأرض جنة تُناظِر الجنة السماوية، وفجَّر فيها نهراً ينقسم إلى أربعة فروع، وأنبت في وسطها شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر. ثم خلق الله المرأة من ضلع آدم لتكون له رفيقاً، وأمرهما أن يأكلا من جميع شجر الجنة، ولا يقربا شجرة المعرفة، لأنهما إن أكلا منها سيلحقهما الموت عاجلاً أم آجلاً. ولكن الإنسان يستعمل حريته في معصية خالقه، مثلما فعل لوسيفر والملائكة الساقطون من قبله، ويأكل من الشجرة المحرمة بتحريض من إبليس الذي تسلل إلى الجنة في هيئة حية. فكان عقابه الطرد من الجنة إلى الأرض القاحلة ليعمل فيها ويكدُّ من أجل لقمته. ومنذ ذلك الوقت ظهر الألم والمرض ودخل الموت في نسيج الحياة بسبب خطيئة الإنسان الأصلية.

    لقد كان الله على علم، منذ البداية، بأن الحرية التي مُنِحت للوسيفر وللإنسان سوف تُستخدَم في المعصية التي تزرع بذرة الفساد في صميم الخلق. من هنا فقد أضمر الله، منذ البداية أيضاً، خطة لتصحيح ذلك كلِّه من شأنها تقديم الخلاص للإنسان وللعالم. لقد قرر أن يتجسَّد في الوقت المناسب في العالم المادي كأحد مخلوقاته، ويدخل في دورة الحياة والموت التي صنعها بنفسه، لكي يقدِّم للعالم خلاصاً ويحرِّره من اللعنة القديمة. وهكذا تجسَّدت الألوهة في زمن الناس، وهبط الإله الابن من السماء، فعاش على الأرض ردحاً في جسد يسوع الناصري المولود من السيدة العذراء، وكابَدَ شقاء البشر وتعرَّض للعذاب الذي انتهى بالموت على الصليب. وبذلك افتدتْ الذبيحة الإلهية – وهي القربان الكامل – الإنسانَ، وفتحت أمامه باب الخلاص والدخول في الأبدية. من هنا كانت واقعة التجسُّد مركز التاريخ – تاريخ الكون وتاريخ الإنسان.

    خلال الفترة التي جرى خلالها تشكيل اللاهوت المسيحي وبَلْوَرَتُه على يد آباء الكنيسة، وخصوصاً فيما بين القرنين الثامن والرابع عشر للميلاد، كانت قراءة التاريخ بالنسبة للفكر الغربي تعني فقط التأمل في رمزية هذه الرواية المقدسة. انطلاقاً من هذا الموقف الفكري جرت قراءة كتاب التوراة (الذي صار الآن يُدعى بـ"العهد القديم") بشكل معكوس، أي ابتداءً من قدوم المسيح، واعتُبِرت كل أحداثه بمثابة صور مسبقة ونبوءات لما تلاها. فقصة الخلق وسقوط الإنسان لم تُقرأ في ضوء مضامينها الميثولوجية، بل على ضوء اللاهوت المتطور لعقيدة التثليث، ولمبادئ الخلق والتكوين التي رسمها كبار اللاهوتيين. أما بقية المفاصل الرئيسية في الرواية التوراتية فقد وُضِعت في تقابل وتناظر مع أحداث العهد الجديد، باعتبارها ممهِّدة ومفسِّرة لها: شجرة المعرفة تقف في تقابل مع شجرة الصليب؛ ويسوع هو آدم الثاني الذي به يحيا الجميع، في مقابل آدم الأول الذي به مات الجميع؛ ومريم العذراء هي حواء الثانية التي حملت بثمرة البقاء، مقابل حواء الأولى التي حملت بثمرة الفناء؛ وحادثة الخروج من مصر التي حملت خلاصاً أرضياً لشعب إسرائيل، تقابل حادثة بعث المسيح الذي حمل خلاصاً روحياً للإنسانية؛ وتضحية إبراهيم بابنه إسحاق وقبول هذا لها، تقابل تضحية الإله الآب بابنه وقبول هذا لها؛ ومملكة داود وسليمان التي تشكل ذروة الرواية التوراتية، تقابل ملكوت الربِّ المقبل الذي سيحققه السيد المسيح في نهاية الأزمان، إلخ.

    انطلاقاً من هذه الرؤية إلى التاريخ لم يكن الفكر الغربي المسيحي يرى إلى الأحداث السابقة على المسيحية إلا باعتبارها فترة مظلمة لم يعرف الناس خلالها الله إلا من خلال ظلال قاتمة لا تعكس مجده الحقيقي، بما في ذلك المدة التي تغطيها أحداث العهد القديم بأكملها. فالتاريخ يبدأ بآدم، ثم يبدأ بداية أخرى جديدة بالمسيح؛ وليس الزمن الفاصل بين هاتين البدايتين إلا شكلاً من أشكال "الجاهلية" الإنسانية، حيث كانت البشرية تنتظر المخلِّص. لقد عكس قدوم المخلِّص مبدأ السبب والنتيجة في الصيرورة التاريخية. فبدلاً من أن يُقرأ الحاضر في ضوء الماضي باعتباره نتيجة منطقية له صار الحاضر (أي تجسُّد المسيح) سبباً لكل الأحداث الماضية التي صارت تُفهم على ضوئه.

    ***









    [i] Ernest Cassirer, The Philosophy of Symbolic Forms, Yale, New Haven, 1977, vol. 2, pp. 104-105.

    [ii] انظر النص الكامل ومراجعه في مؤلفي مغامرة العقل الأولى.

    [iii] Alexander Heidel, The Babylonian Genesis, Phoenix Books, Chicago, 1970, p. 63.

    [iv] من أجل هذا الملخص انظر مساهمة كريمر بفصله عن الميثولوجيا السومرية في الكتاب الذي أشرف على تحريره وساهم فيه عدد من الاختصاصيين:

    S. N. Kramer, ed., Mythologies of the Ancient World, Anchor, New York.

    وانظر أيضاً مساهمة جاكوبسن بفصله عن الميثولوجيا الرافدية في كتاب:

    H. Frankfort, ed., Before Philosophy, Pelican, London, 1964.

    [v] S. N. Kramer, Sumerian Mythology, Harper, New York, 1961, pp. 59-61.

    [vi] J. Viaud, “Egyptian Mythology,” in Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London, 1977. p. 11.

    [vii] من أجل المادة المعلوماتية عن دورة حياة أوزيريس انظر المرجع السابق، ص 16-18.

    [viii] أقفز هنا فوق قصة خلق الإنسان لأنها مكررة, وقد وردت في الإصحاح الأول.

    [ix] حول الدلائل العلمية القاطعة على عدم وجود مملكة داود وسليمان، بل حتى على استحالة أن تكون قد وُجِدت، راجع: فراس االسوَّاح، آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي، دار علاء الدين، دمشق، 1995.

    [x] أخرجه الترمذي في جامعه في التفسير، 8/270 برقم 3108، عن ابن رزين.

    [xi] يتكرر هذا الحديث في كلام الصوفية. قال السخاوي في كشف الخفاء: "قال القاري أن معناه صحيح ومستفاد من قوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون،" أي "ليعرفون"، على رأي ابن عباس.

    [xii] أي أن القرآن الكريم لم يحدد زمان ومكان وقوع أحداث القصص القرآني. فنحن لا ندري فعلاً أين تقع "عاد إرم ذات العماد"، أو "ثمود الذين جابوا الصخر بالواد"، ولا الزمن الذي تم فيه تدمير هاتين المدينتين، استناداً إلى النص القرآني وحده. كما أننا لا نستطيع، مهما دققنا في نصوص القصص القرآني، أن نعرف الفترة الزمنية الفاصلة، مثلاً، بين بعثة النبي موسى وبعثة عيسى. فهذه الفترة قد تكون مائة سنة وقد تكون ألفاً.

    [xiii] قارن مع مطلع الإينوما إيليش: "عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض. لم يكن [من الآلهة] سوى آبسو أبوهم، وممو، وتعامة التي حملت لهم جميعاً. يمزجون أمواههم معاً." والمقارنة هنا لا تهدف إلى إظهار تأثُّر التصورات اللاهوتية المسيحية بالتصورات الرافدية، بل التنويه إلى وحدة الفكر الإنساني وتشابه آليات التفكير عند الإنسان، بصرف النظر عن الزمان واختلاف البيئة والمكان.

    [xiv] قارن أيضاً مع ما يلي مطلع الإينوما إيليش: "في ذلك الزمان خلق الآلهة في أعماقهم لخمو ولخامو وأطلقوا عليهما اسميهما. وقبل أن يكبر لخمو ولخامو جاء إلى الوجود انشار وكيشار. ثم أنجب إلخ...".

    [xv] الملخص الذي أقدمه هنا يعتمد على العرض المفصل للاهوت المسيحي في كتاب:

    Allan Watts, Myth and Ritual in Christianity, Thames and Hudson, London, 1987.

    [xvi] قارن مع تمرُّد الجيل الثاني من الآلهة على الثالوث البدئي في الإينوما إيليش.

    [xvii] قارن مع الإينوما إيليش في فصل المياه البدئية إلى سماء وأرض، وما تلا من خلق مظاهر الطبيعة والحياة، انتهاءً بالإنسان.

    [xviii] إن قيام آدم بتسمية جميع المخلوقات عملية ذات دلالتين: الأولى أن آدم قد ابتكر اللغة؛ والثانية أن آدم، بتسميته للمخلوقات، قد اكتسب السيطرة عليها، لأن معرفة اسم كائن ما هي مفتاح التحكم به في المعتقدات القديمة (هذه نقطة سنتحدث عنها في حينها).
    Reply With Quote  
     

  7. #7 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    الأسطورة والتاريخ
    (2 من 2)


    فراس السوَّاح


    نعود الآن من هذه الجولة التي استعرضنا خلالها عدداً من نماذج التاريخ المقدس، لنقول بأن كل ما سقناه أعلاه، يشير إلى رغبة الإنسان القديم في الاحتفاظ بنوع من الذاكرة الجمعية التي تعطي وجوده في هذا العالم امتلاءً ومعنى. فهذه الفترة القصيرة التي يحياها الفرد أو الجيل ليست معلقة في الفراغ، بل هي نقطة في سياق طويل ذي مغزى حفظته الأساطير. فالأسطورة تزود الإنسان بذاكرة تاريخية تعطيه إحساساً بأن لحياته وجوداً مبرراً. بدون هذه الذاكرة يصير الإنسان إلى حالة أشبه بالموت – لأن نسيان الماضي نوع من أنواع الموت. فالموت نسيان. والموتى الهابطون إلى العالم الأسفل، في الميثولوجيا الإغريقية، يشربون في طريقهم من نبع النسيان لكي يقضوا حياة الآخرة بدون ذاكرة، أي بدون تاريخ. غير أن ما يفرق الذاكرة الجمعية الأسطورية عن الذاكرة الجمعية الأخرى التي يصنعها علم التاريخ هو محتوى كل منهما (كما ألمحنا إلى ذلك في الجزء الأول). فالتاريخ الأسطوري لا يحفل بغير الأحداث الناجمة عن تداخل عالم الآلهة بعالم البشر، وهو يُغفِل الأحداث الدنيوية العادية، ولا يرى فيها ما يستحق العناية بجمعها وحفظها وتذكُّرها. فإذا ما قُيِّض لحادثة ما، أو شخصية ما، أن تخلَّد في الذاكرة فإن ذلك لن يتأتى إلا عن طريق أسْطَرَتها ورفعها من مستوى الواقع إلى مستوى الحدث الميثولوجي. فملوك المدن الإغريقية القدماء، من أمثال عوليس وأغاممنون ومينيلاوس، وأبطالها الخالدون، من أمثال أخيلياس وباتروكلوس، لم تصل أخبارهم سماع الإغريق إلا بعد إلباسهم حلَّة ميثولوجية أصيلة. ومن بين جميع ملوك سومر القدماء، لم تحتفظ الذاكرة الشعبية إلا بسيرة جلجامش، ملك مدينة أوروك، الذي خُلِّد بواسطة الأسطورة، لا بواسطة التاريخ. ومثله الملك سيف بن ذي يزن عند عرب ما قبل الإسلام، والملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة لدى الأنكلوساكسون.

    إن الأشخاص التاريخيين، والأحداث التاريخية بشكل عام، لا ترسخ في الذاكرة الجمعية للإنسان القديم إلا لفترة وجيزة من الزمن، لا تلبث بعدها أن تتلاشى أو يتغير وجهُها بفعل الأسطورة. ففي دراستنا لنص دمار مدينة أور السومرية (راجع "الأسطورة والمعنى"، معابر، الإصدار الخامس) رأينا كيف تم انتزاع هذه الحادثة من سياقها التاريخي ومن جملة ترابطاتها الواقعية ونقلها إلى المستوى الميثولوجي. فالنص لم يذكر أية معلومات عن هوية الجيش الغازي، ولا عن المقدمات التاريخية التي قادت إلى حصار المدينة واستباحتها، بل اكتفى بوصف الدمار الذي حلَّ بالمدينة، والمحاولات اليائسة التي قامت بها إلهة المدينة وإلهُها من أجل إقناع مجمع الآلهة بالتراجع عن قرارهم في تدمير أور. وينطلق محرِّرو التوراة من الموقف الفكري نفسه عندما يصفون دمار أورشليم وترحيل أهلها إلى بابل، تاركين القارىء في جهل تام بالظروف والملابسات التاريخية التي أدَّت إلى حصار المدينة وتدميرها – وذلك لأن هذه المصيبة قد حلَّت بقرار إلهي من الربِّ، عقوبة على آثام أهل يهوذا ومعصيتهم. والحادثة برمَّتها ليست موضع تأمل تاريخي، بل تأمل ديني. وبما أن هذه المدينة لن تعود إلى سابق عهدها أبداً فإن الرؤى المسيحية اللاحقة تختتم الأسطورة بنزول أورشليم جديدة من السماء لتتحقق على الأرض. نقرأ في رؤيا يوحنا 21: 2: "وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الربِّ، مهيأة كالعروس المزيَّنة لرجلها."

    إن عناية الإنسان القديم بالتاريخ المقدس وتجاهله للتاريخ الدنيوي قد دفع به إلى تجاهل دوره تماماً في حركة التاريخ. فهو يعزو إلى الآلهة كل المنجزات الحضارية والابتكارات التكنولوجية التي قادت عملية الارتقاء والتقدم. فالإله، لا الإنسان، كان أول فلاح، وأول راعٍ، وأول من حلب البقر وصنع الزبدة والجبن، وأول من طحن وخَبَز الخبز، وأول من صنع المحراث. نقرأ في نص سومري يحكي عن أصل الحبوب وأصل تأهيل الماشية، فيُرجِعها إلى الإله لهار الذي كان أول من ربى الماشية، وإلى أخته أشنان التي كانت أول من زرع الحبوب:

    في تلك الأيام، قال إنكي لإنليل:

    "أي أبتي إنليل. لهار وأشنان

    اللذان خُلِقا في الدولوج (= بيت الخلق)،

    دعنا ننزل بهما من الدولوج."

    وهكذا، تنفيذاً لكلمة إنكي وإنليل المقدسة،

    هبط لهار وأشنان من الدولوج.

    من أجل لهار أقام إنليل وإنكي حظيرة

    وقدَّما له علفاً، عشباً ونباتاً و [...]

    ومن أجل أشنان بنيا بيتاً،

    وقدَّما لها المحراث والنير.

    فأقام لهار في حظيرته

    راعياً تفيض الخيرات من بين يديه.

    ووقفت أشنان في الحقل بين محاصيلها.

    من خيرات السماء أنتج لهار وأشنان،

    وإلى مجمع الآلهة قرَّبا خيراتهما،

    وإلى الأرض وهبا نسمة الحياة.[1]

    وفي نص سومري آخر نجد أن المعول – وهو الأداة اللازمة لكل نشاط بنَّاء – قد صنعته الآلهة في بداية الأمر، ثم أعطته بعد ذلك لأهل سومر من أجل استخدامه. يبتدىء النص بافتتاحية عن الخلق والتكوين، على عادة أساطير الأصول الرافدية:

    إن الإله الذي أخرج إلى الوجود كل شيء نافع،

    الإله الذي لا مُبَدِّل لحكمه وقضائه،

    إنليل الذي أنْبَتَ البذور من الأرض،

    قام بإبعاد السماء عن الأرض،

    فجعل هنالك مجالاً ترتع فيه المخلوقات.

    في نيبور، عماد السماء والأرض، قام بـ [...]،

    وأخرج المعول إلى الوجود. وبذلك حلَّ اليوم

    الذي فرض فيه العمل وقرَّر المصائر.

    وعلى المعول والسلَّة أسبغ القوة.

    بعد ذلك يصنع إنليل قالباً يقوم الآلهة باستخدامه من أجل خلق الإنسان. وتمتلىء بلاد سومر بالناس، فيقدم لهم إنليل المعول ليستخدموه في أعمال البناء والعمران.[2]

    إضافة إلى جهل الإنسان القديم بأصول ابتكاراته التكنولوجية، كان جاهلاً بأصل مؤسَّساته وقوانينه وتشريعاته؛ فهذه جميعاً قد جاءت من السماء وابتدرتها الآلهة من أجله. وأكثر من ذلك، فإنه لم يكن يعرف الكثير عن أصل وتطور ونمو المدن التي شيَّدها أسلافه الأولون، وكان يعتقد أن مدنه التي يسكنها قد بنتها الآلهة في سالف الأزمان وسكنت فيها قبل أن يسكن البشر، وبنت لأنفسها هناك بيوتاً وقصوراً ومعابد. إن الإشارات الموجودة في النصوص الميثولوجية المشرقية حول هذا الموضوع أكثر من أن تحصى. فمدينة نيبور (نِفَّر) بناها الإله إنليل، كما يقول لنا أحد النصوص (أوردتُه في الجزء الأول من هذا البحث)؛ وأوروك، كبرى مدن سومر في مطلع عصر الأسرات، هي "صنعة يد الآلهة"، على حد تعبير نص ملحمة جلجامش في لوحها الأول؛ وبابل العظيمة، بمعابدها التي تناطح أبراجها السحاب، بناها الإله مردوخ، على ما تنقله إلينا أسطورة التكوين البابلية في لوحها السادس؛ ومدينة إيريدو، أول وأقدم المدن في وادي الرافدين، بناها الإله إنكي بيتاً لسكنه. نقرأ في أسطورة سومرية حول هذا الموضوع:

    بعد أن تفرقت مياه التكوين،

    بعد أن ظهر اسم البركة في السماء،

    بعد أن غطت الأعشاب والنباتات وجه الأرض،

    ربُّ الأعماق، الملك إنكي،

    إنكي، الربُّ الذي يقرِّر المصائر،

    بنى بيته من فضة ولازورد.

    بعد ذلك يتوجَّه إنكي إلى نيبور، مدينة إنليل، ليحصل من هناك على بركات أبيه. وبعد أن يتلقَّى إنليل هدايا ابنه، يقف بين الآلهة ويشيد بمدينة إنكي:

    قال إنليل لآلهة الأنوناكي:

    "أيها الآلهة الواقفون من حولنا.

    لقد بنى ابني بيتاً، الملك إنكي بنى إريدو،

    وكجبل رفعها فوق الأرض،

    وفي مكان طيب أقامها.

    إيريدو، المكان الطاهر الذي لا يدخله أحد،

    بُنِيَت بفضة وزُيِّنت بلازورد،

    وبيته في عهدة القيثارات السبع كُرِّس للتراتيل."[3]

    فإذا كان للإنسان بعد ذلك أن يباشر بنفسه أي فعل خلاق فإن الفعل يسير على غرار فعل سابق مشابه قامت به الآلهة؛ وهو إذ يبني معبداً أو سوراً أو مدينة، فإنما يفعل ذلك وفق صورة مسبقة رسمتها الكائنات العليا: فالملك غوديا السومري بنى معبد المدينة في لجش وفق تصميم مرسوم على لوح أطلعه عليه الإله نيدابا في الحلم؛ وعندما قام الملك الآشوري ببناء مدينة نينوى، فعل ذلك وفق الخطة المرسومة في هيئة القبة السماوية منذ الأزمنة السحيقة.[4] وفي كتاب التوراة يقوم الربُّ بإطلاع موسى على صورة المسكن المؤقت الذي سوف يصنعه له: "فيصنعون لي مقدِساً فأسكن بينهم، بحسب جميع ما أنا مُريك من شكل السكن وشكل جميع آنيته. كذلك فاصنعوا لي." (الخروج 25: 8-9) وبعد ذلك يتلقَّى داود تعليمات مفصَّلة عن تصميم هيكل أورشليم: "جميع ذلك تلقَّيته مكتوباً بيد الربِّ، لأفهم جميع أعمال الرسم." (1 أخبار الأيام 28: 19) وهذا الرسم قد هيَّأه الرب منذ البدء، على حد قول الملك سليمان الذي تلقَّى من ابنه داود مخطط الهيكل ليعمل على بنائه: "وأمرتني أن أبني هيكلاً في جبلك المقدس، ومذبحاً في مدينة سكناك، على مثال المقْدِس الذي هيأتَه منذ البدء..." (سفر الحكمة 9: 8) وقبل أن تُبنى مدينة أورشليم بيد الإنسان، كان هنالك أورشليم سماوية من صنع الله. وهي التي يتكرر ذكرُها في أسفار الأنبياء (مثل سفر طوبيا 8: 16، وأشعيا 59: 11، وحزقيال60)؛ وهي التي رآها يوحنا نازلة من السماء كالعروس المزيَّنة لرجلها، في المقطع الذي أوردناه أعلاه من رؤيا يوحنا.

    انطلاقاً من هذا الموقف الفكري نفسه، يعزو الإغريق كلَّ إبداع أدبي وفني يصدر عن الإنسان إلى ربات الفنون والموسيقى اللاتي يُلهِمْن الشعراء والرسامين والنحاتين، كما يعزو عرب الجاهلية كل إلهام شعري إلى مصدر ما ورائي يتمثل عندهم بجنيات وادي "عبقر".[5] وما زلنا، إلى يوم الناس هذا، نعزو كل إبداع إنساني إلى "إلهام" يأتي من خارج الإنسان، ولا ينبع من داخله. وهذه بقية من تلك التركة الميثولوجية التي لا تنظر إلى الإنسان باعتباره صانعاً لماضيه وحاضره، بل باعتباره أداة لتنفيذ الخطط الإلهية.

    هذا التجاهل لحقيقة ما جرى في الماضي، واستبدال تاريخ مقدس تكشف عنه الأساطير به، جعل الإنسان القديم خارج الصيرورة التاريخية، بدون ذاكرة دنيوية ذات محتوى له معنى ومغزى. ولا أعني هنا أن المجتمعات القديمة لم تحتفظ على الإطلاق بذاكرة دنيوية، وإنما أعني، بالدرجة الأولى، أن هذا الذاكرة الدنيوية، في حال وجودها، لم تلعب دوراً في مساعدة الإنسان على فهم حاضره باعتباره نتاجاً صرفاً لأفعاله ومنجزاته الماضيات. فالعبرة هنا ليست فيما نحفظه عن الماضي، بل في المعنى الذي نسبغه على ذلك الماضي وفي القيمة التي نعطيها له. وليس المهم هو ما نسجِّله عن الأخبار السالفة، أو ما نتذكره من إنجازات الجماعات والأفراد، بل اعتقادنا بأثر ما نسجِّله أو نتذكره على صيرورة التاريخ، وبمدى فعالية المجهود الإنساني كمحرِّك للتاريخ. بتعبير آخر، كيف ننظر إلى التاريخ الدنيوي في مقابل التاريخ المقدس.

    لقد ابتدأت الكتابة التاريخية كجنس مستقل عن الأسطورة، عندما لم يعد الإنسان القديم يرى في الأحداث الماضية، أو الأحداث الحاضرة، تدخلاً ماورائياً من أي نوع. عندئذٍ بدأ التاريخ يتجرد من قدسيَّته، وأخذ الإنسان يبحث في الأسباب والنتائج من خلال روابطها وصلاتها الدنيوية الواقعية، وولد علم التاريخ الذي حلَّ محل الأسطورة في صنع الذاكرة الجمعية، وقاد إلى تعريف الإنسان بدوره الأساسي في صنع نفسه، وبأهمية نشاطه الخلاق على حركة التاريخ. ورغم أن هذه القفزة جاءت نتيجةً من نتائج صراع الفلسفة مع الأسطورة في الثقافة الإغريقية، وما نجم عن ذلك من ظهور المؤرخين الإغريق الأوائل، إلا أن المقدمات البعيدة لنشوء الكتابة التاريخية أنجزتْها ثقافةُ الشرق القديم. فمنذ أواسط الألفية الثالثة ق م كانت الممالك السورية والرافدية تحتفظ بأرشيف ملكي متنوع الموضوعات، يحوي عدداً لا بأس به من الوثائق التي تعطي صورة عن الأحداث الجارية، وفيها وثائق يمكن اعتبارها بحق نموذجاً جنينياً للكتابة التاريخية. من هذه الوثائق نصٌّ يغطي قترة طويلة من التاريخ البابلي تقدَّر بحوالى سبعة قرون، تبدأ بصعود صارغون الأكادي (حوالى عام 2300 ق م) وتنتهي بقدوم الكاشيين الذين أنهوا حكم أسرة حمورابي في بابل. وهذه ترجمتي للنص نقلاً عن الباحث ليو أوبِّنهايم:

    صارغون، ملك أكاد، صعد على العرش في عهد عشتار.[6] لم يكن له مضارع أو معارض، فنشر هيبته المرعبة فوق كل البلاد. عَبَر البحر في الشرق، وقهر بلاد الغرب برمَّتها، وفي السنة الحادية عشر من حكمه جعلها لساناً واحداً، وأقام لنفسه نصباً تذكارياً هناك، ثم جلب جزية الأقطار عبر النهر على الأطواف. أسكن موظفي بلاطه حوله في مساحة تبلغ خمسة فراسخ مضاعفة، وسيطر على أرجاء البلاد بلا منازع. حمل على بلاد كالازا فجعلها خراباً وأطلالاً، ولم يترك مكاناً يعشِّش فيه الطير. في زمن شيخوخته قامت المدن المحكومة بثورة عليه، وضربت الجيوش حصاراً حوله في أكاد. ولكن صارغون شنَّ هجوماً عليهم مفاجئاً، فهزمهم وسحق جيوشهم الجرارة. ثم قامت ضده بلاد سوبارنو بقضِّها وقضيضها، ولكنها ما لبثت أن خضعت أمام جبروت قواته؛ فعمل على توطين قبائلها الرحَّل في الأرض وجاء بممتلكاتهم إلى أكاد. بعد ذلك عمد صارغون إلى إزاحة التربة عن أساسات مدينة بابل، وبنى فوقها مدينة أخرى قريبة من أكاد. فثار غضب الإله العظيم مردوخ بسبب هذا التدنيس، وقضى على شعب صارغون بالمجاعة، مشيحاً بوجهه عنهم، وحرم صارغون من الراحة في قبره.

    نارام سن، ابن صارغون، حمل على مدينة أبيشال فحاصرها ونقب سورها، ثم قبض بنفسه على ملكها وعلى نبلائها. كما حمل على بلاد ماجان وقبض بنفسه على ملكها.

    شولجي، ابن أورنمو، أوْلى مدينة إيريدو الواقعة على البحر عناية كبيرة. ولكنه سلب ممتلكات بابل ومعبدها ودنَّسها، فثار غضب الإله مردوخ وحكم على جثمانه بالدنس.

    إيرا إميتي، ملك إيسين، وضع البستاني بل أبني على العرش كملك بديل، ووضع على رأسه التاج. ولكن الملك مات في قصره وهو يتناول الطعام، فبقي البستاني على العرش وجرى تتويجه ملكاً.[7]

    إيلي شامو، كان ملكاً على بلاد آشور في زمن سومو آبو ملك بابل.

    حمورابي ملك بابل، جمع جيشه وحمل على رم سن، ملك أور، فقهره. ثم قهر بعدها مدينة لارسا، وأخذ ممتلكاتها إلى بابل [...]

    شمسو إيلونا، ابن حمورابي وملك بابل، جمع جيشه وسار ضد رم سن، فقهر أور ولارسا، وقبض عليه حياً في قصره. ثم حمل على [...] وألقى الحصار عليها [ فجوة واسعة في الرقيم].

    إيليما إيلوم [...] الماء [...] بنى [...] ولكن شمسو إيلونا حمل عليه [...] وملأت جثثهم البحر. بعد ذلك، شن شمسو إيلونا حملة أخرى على إيليما إيلوم وشتت جيشه.

    أبيشي، ابن شمسو إيلونا، قام [...] وفكر في أن يحتجز مياه دجلة. نفذ خطته بوضع ردمٍ في النهر، ولكنه لم يستطع القبض على إيليما إيلوم.

    في أيام شمسو ديتينا، قامت بلاد حاتي بحملة على أكاد. إيا جميل، ملك بلاد البحر، قام بحملة على عيلام. وبعده، قام أولام بورياش، أخو كاشتلياش ملك الكاشيين، بحملة على بلاد البحر وقهرها.

    آغوم ابن كاشتلياش، دعى جيوشه وحمل على بلاد البحر فقهر دُر–إيا، وهدم معبد إيا هناك.[8]

    نلاحظ من قراءتنا لهذا النص أن الكاتب لم يحاول تقديم مسرد متكامل لتاريخ المنطقة خلال الفترة الزمنية التي يغطيها النص، بل اختار بعض العلامات البارزة في ذلك التاريخ، تاركاً الكثير من الفجوات الزمنية الواسعة فيما بينها. كما أنه لم يعمل على تحليل الأحداث وفهمها في سياقاتها التاريخية الصحيحية، ومن خلال علاقة الأسباب بالنتائج، ناهيك عن اعتماد التفسيرات اللاهوتية في النظر إلى أسباب تفكُّك وانحلال الدول والممالك. ومع ذلك فإن أمثال هذا النص من نماذج الكتابة شبه التاريخية هي التي مهَّدت لجنس الكتابة التاريخية التي ظهرت أولاً في اليونان، ثم في أقطار الشرق القديم. فبعد هيرودوتس وثوكيديدس وغيرهما ممَّن باشروا الكتابة التاريخية في الغرب منذ مطلع القرن الخامس ق م، ورأوا إلى الأحداث الماضية والحاضرة في معزل عن المعنى الديني، ظهر في ثقافتنا الشرقية أيضاً عددٌ من المؤلفين الذين باشروا نوعاً من الكتابة التاريخية المستقلة عن الأسطورة بهذا المقدار أو ذاك – ومنهم بيروسوس (برغوشا) البابلي، وفيلون الجبيلي، ومانيتو المصري. لكن الكتابة التاريخية لم تتحول إلى علم مستقل تماماً وملتزم بمناهج البحث والتقصي إلا في الثقافة الغربية الحديثة ابتداءً من القرن التاسع عشر. إن الذاكرة الإنسانية تُبعَث اليوم على أوسع نطاق ممكن في محاولة جبارة تطمح إلى استعادة الماضي برمَّته: ماضي الثقافة، وماضي الحياة، وماضي الكون – لمعرفة من نحن، ولماذا نحن على ما نحن عليه الآن، وإلى أين نسير.

    غير أننا يجب أن نتذكر بأن هذا المشروع الإنساني الضخم مدين بأصوله للأسطورة. وعندما نتذكر ذلك يجب أن نحذر: نحذر من الانبثاقات اللاواعية للأسطورة وتسرُّبها إلى علم التاريخ، متسربلةً برداء علمي يُخفي معالمَها الأصيلة. فرغم كل المنطلقات العلمية التي تصدر عنها الكتابة التاريخية الحديثة، فإن نوعاً من النزوع الأسطوري الخفي يبقى كامناً وراء عمل المؤرخين من جهة، ووراء فهم قرَّاء التاريخ وتفسيرهم لما يُقدَّم إليهم من مادة. ويتضح ذلك بشكل جليٍّ عندما يتم بعث التاريخ القديم كجزء من مشروع قومي شامل، حيث يتحول الهوس القومي إلى هوس تاريخي، وبالعكس. ومثالنا على ذلك ما تم إبان صعود الحركات القومية الحديثة شرقاً وغرباً، عندما كُتِب التاريخ وجرى تفسيره انطلاقاً من الأوضاع الراهنة، في عملية معكوسة: أي أن الماضي صار يُقرَأ في ضوء الحاضر، وليس العكس. وهذا منطلق ميثولوجي صرف، أشرنا إلى بعض نماذجه في موضع آخر من هذا البحث. وتعبِّر هذه النزعة عن نفسها بطريقة خاصة، لدى الأمم المستضعَفة التي تحاول الاستناد إلى عصورها الذهبية الخالية من أجل استمداد العون على مواجهة أوضاعها المتردِّية الراهنة، وعلى تجاوز عقدة النقص والإحساس بالاضطهاد وبالعجز. ذلك أن قراءة التاريخ، شأنها في ذلك شأن قراءة الأسطورة، ترمي الإنسان خارج اللحظة الراهنة لتضعه في زمن حقيقي غير متخيَّل،[9] يمنحه القوة ويعطيه الإحساس بأنه سليل ذلك البطل أو وريث تلك المرحلة الذهبية التي تُؤمَلُ استعادتُها. بذلك يحيلنا التاريخ الدنيوي، مرة أخرى، إلى التاريخ المقدس وقد ألبِس حلَّة جديدة تليق بالعصر.

    أخيراً، هنالك سؤال ينطرح عند هذه المرحلة الختامية من بحثنا هو: إلى أي حدٍّ يمكن للتاريخ المقدس أن يشفَّ عن تاريخ دنيوي؟ وهل نستطيع تلمُّس حوادث تاريخية تحت المستوى الظاهر للحوادث الأسطورية؟

    لقد قلت في موضع سابق من هذا البحث إن الأحداث والشخصيات التاريخية لا تخلد في الذاكرة الشعبية إلا من خلال الأسْطَرَة. وهذا يعني أننا قادرون على تلمس أحداث تاريخية وراء عملية السرد الميثولوجي في العديد من النصوص الأسطورية التي هدفت، من حيث الأساس، إلى الانتقال بسلسلة من الأحداث من مستوى الواقع إلى مستوى الأسطورة. غير أن المعلومات التاريخية التي نستطيع استخلاصها من الأسطورة لا يمكن الركون إليها في عملية إعادة بناء تاريخ ثقافة ما، ما لم تجرِ مقاطعتُها مع المعلومات المستمَدَّة من مصادر أخرى، كتابية كانت أم أركيولوجية، وذلك وفق منهج علمي منضبط. ولكي أجعل هذه المسألة واضحة أمام القارىء، سوف أعمد إلى عرض واحد من النماذج الأسطورية المشرقية التي قادتني دراستُها إلى اكتشاف النواة التاريخية التي قامت عليها حبكتُها الميثولوجية. ونموذجنا هنا هو النص السومري المعروف لدى الباحثين بعنوان إنكي وإنانا الذي أقدِّم فيما يلي ترجمتي الكاملة له،[10] متعةً القارىء وفائدةً له في آن معاً:

    إنكي وإنانا
    نقل تقاليد الحضارة إلى أوروك
    في مطلع هذا النص نجد الإلهة إنانا، المعبود الرئيسي لمدينة أوروك في مستهلِّ عصر السلالات الأولى (مطلع الألفية الثالثة ق م)، تستعد للسفر إلى موطن الإله إنكي، ربِّ الأعماق المائية العذبة والمعبود الرئيسي لمدينة إيريدو العريقة التي كانت المركز الرئيسي للثقافة العبيدية السابقة على الثقافة السومرية في وادي الرافدين الجنوبي:


    إنانا وضعت على رأسها الشوجارا – تاج السهول،

    ومضت إلى حظيرة الأغنام، جاءت إلى الراعي.

    هناك أسندت ظهرها إلى شجرة التفاح.

    وعندما أسندت ظهرها برز فرجُها بهجةً للناظرين.

    فرحت إنانا بفرجها الرائع، وأثنت على نفسها، ثم قالت:

    "أنا ملكة السماوات، سوف أزور إله الحكمة.

    سوف أمضي إلى الآبسو، المكان المقدس لإريدو،

    وأقدم فروض التبجيل لإله الحكمة في إيريدو،

    وأتلو صلاةً لإنكي عند أعماق الماء العذب."

    ثم اتَّخذت إنانا طريقها وحيدة.

    هدف هذه الرحلة، كما سوف يتضح بعد قليل، هو رغبة إنانا، إلهة مدينة أوروك، في الحصول على ألواح نواميس الحضارة التي يحتكرها إنكي، إله مدينة إريدو، منذ القدم. وتدعو النصوص السومرية هذه النواميس بالـ"مي" Me؛ ومن امتلكها من الشعوب حاز قصب السبق في ميدان الحضارة وانتقل من البدائية إلى المدنية.

    عندما صارت على مقربة من الآبسو،

    ذاك الذي اتَّسعتْ أسماعه،

    ذاك العليم بالـ"مي" – نواميس السماء والأرض،

    ذاك الذي يطَّلع على أفئدة الآلهة،

    إنكي، إله الحكمة العليم بكل شيء،

    نادى خادمه إيسموند:

    - هلم يا معيني، هلم إليَّ!

    إن الفتاة الشابة على وشك دخول الآبسو.

    عندما تلج إنانا إلى الهيكل المقدس،

    قدِّمْ إليها كعك الزبدة طعاماً،

    وصُبَّ لها ماء بارداً ينعش قلبها.

    قدِّمْ أمامها الجعة عند تمثال السبع،

    وعامِلْها كندٍّ لنا وَلِد،

    حيِّها عند المائدة المقدسة، مائدة السماء.

    صدع إيسموند لما أمِر به.

    وعندما دخلت إنانا إلى الآبسو،

    أعطاها كعك الزبدة طعاماً،

    وصبَّ لها ماءً بارداً لتشرب،

    وقدَّم أمامها الجعة عند تمثال السبع،

    عامَلَها بما يليق بها،

    وحيَّاها عند المائدة المقدسة – مائدة السماء.

    بعد ذلك يأتي إنكي فيستقبل إنانا ويجلس معها إلى المائدة، يعاقران الخمرة معاً. يُكثِر إنكي من الشراب الذي تحثُّه إنانا، على ما يبدو، على اجتراعه. تلعب الخمرة برأسه، فيأخذ بالبوح لإنانا عن نواميس الحضارة، مهدياً إياها واحداً إثر آخر:

    إنكي وإنانا شربا الجعة معاً.

    شربا مزيداً من الجعة معاً.

    شربا مزيداُ ومزيداً من الجعة معاً.

    بالأكواب البرونزية الطافحة بالشراب،

    بأكواب أوراش أم الأرض،

    تبادلا الأنخاب وتباريا.

    ثم قال إنكي رافعاً نخب إنانا:

    - باسم قدرتي، باسم هيكلي المقدس!

    سأعطي ابنتي إنانا ناموس الكهنوت وناموس الألوهية،

    سأعطيها التاج النبيل الدائم وعرش المُلك.

    فأجابت إنانا:

    - أنا أقبل بها.

    ويتابع إنكي شرب الأنخاب... ومع كل نخب يهبها عدداً من النواميس، فتقبلها إنانا. وبعد المجموعات الثماني الأولى من النواميس المتعلقة بالكهنوت والألوهية والمعبد وطقوس خدمة الآلهة وما إليها، ينتقل إنكي إلى إهدائها نواميس الشؤون الدنيوية، كالزراعة والحرف والموسيقى والتعدين والعدالة إلخ. وعندما تستلم إنانا جميع النواميس تقف أمام إنكي وتقرُّ باستلامها النواميس، معدِّدة إياها واحداً واحداً:

    "لقد أعطاني الأب إنكي نواميس الحضارة.

    أعطاني ناموس الكهنوت الأعلى.

    أعطاني ناموس الألوهية.

    أعطاني ناموس التاج النبيل الدائم.

    أعطاني عرش المُلْك.

    أعطاني الصولجان النبيل.

    أعطاني العصا.

    أعطاني قضيب وحبل قياس المسافة.

    أعطاني الخنجر والسيف.

    أعطاني فن الجماع.

    أعطاني فن تقبيل القضيب.

    أعطاني فن الدعارة المقدسة.

    أعطاني أدوات الموسيقى الصادحة.

    أعطاني فن الغناء.

    أعطاني فن اللياقة والكياسة.

    أعطاني بيوت السكن الآمنة.

    أعطاني حرفة حفر الخشب.
    أعطاني حرفة صناعة النحاس.


    أعطاني... إلخ.

    وبعد أن تنتهي من تعداد ما استلمته من نواميس الحضارة تستعد لمغادرة المكان، وإنكي ما يزال تحت تأثير الخمرة:

    تكلَّم إنكي مع خادمه إيسموند:

    - أي تابعي ومعيني إيسموند!

    إن المرأة الشابة ستتوجَّه إلى أوروك،

    وإني أرغب في وصولها سالمة إلى مدينتها.

    جمعت إنانا النواميس المقدسة،

    وحملتْها جميعاً في زورق السماء،

    وتم دفع الزورق، فانساب بعيداً عن المرفأ.

    وعندما زال مفعول الخمرة من رأس شارب الجعة،

    عندما زال مفعول الخمرة من رأس إنكي،

    عندما طارت الخمرة من رأس إله الحكمة العظيم،

    تطلع إنكي في أرجاء الآبسو،

    وجالت عينا ملك الآبسو في أنحاء إيريدو،

    جالت عيناه في أنحاء إيريدو، ثم نادى خادمه:

    - أي تابعي ومعيني إيسموند!

    - ها أنا ذا واقف أمامك مستعد لخدمتك!

    - ناموس الكهنوت الأعلى، والألوهية،

    والتاج النبيل الدائم، أين هي؟

    - لقد وهبها مليكي لابنته إنانا.

    يكرِّر إنكي سؤاله أربع عشرة مرة ليلقى من إيسموند الجواب نفسه. وفي جوابه الأخير يقول إيسموند:

    - لقد وهبها مليكي لابنته إنانا،

    لقد وهبها جميع النواميس المقدسة.

    التفت إنكي إلى إيسموند قائلاً:

    - زورق السماء المحمَّل بالنواميس الإلهية،

    أين هو الآن؟

    - زورق السماء في الميناء الأول على الطريق.

    - إمضِ إليه، خذ معك تنانين الإينكوم،

    دعهم يُرجِعون زورق السماء إلى إيريدو.

    وصل إيسموند إلى إنانا وقال:

    - أي سيدتي، لقد أرسلني الأب إليك،

    وإن كلمة الأب إنكي هي كلمة القانون.

    كلمات إنكي ينبغي ألا تُعصى.

    قالت له إنانا:

    - ما الذي قاله الأب إنكي

    وما الذي زاد في قوله إنكي؟

    ما هي كلماته، كلمات القانون التي ينبغي ألا تُعصى؟

    أجاب إيسموند:

    - قال مليكي:

    "دَعْ إنانا تتابع طريقها إلى أوروك،

    واستعِدْ زورق السماء والنواميس إلى إيريدو."

    صرخت إنانا:

    - لقد بدَّل الأب كلمته التي أعطانيها،

    نكث بعهده ولم يفِ بوعده.

    خدعني عندما قال،

    خدعني عندما أعلن على الملأ:

    "باسم قدرتي، باسم هيكلي المقدس!"

    وبخدعة أخرى أرسلكَ إليَّ.

    وما إن أنهت إنانا كلامها هذا،

    حتى انقضَّت تنانين الإينكوم وأمسكت بالزورق.

    هنا نادت إنانا خادمتها ننشوبور:

    - لقد كنتِ فيما مضى ملكة الشرق

    والآن أنت القيِّمة المخلصة على هيكل أوروك.

    فيا معينتي التي تقدِّم النصح الحكيم،

    ويا مقاتلتي التي تحارب في صفي،

    تعالي أنقذي زورق السماء والنواميس المقدسة!

    ننشوبور شقَّت الهواء بذراعها،

    وأطلقت صرخة تهز الأرض،

    قذفت تنانين الإينكوم وأعادتهم إلى إيريدو.

    عند ذلك نادى إنكي خادمه إيسموند مرة ثانية:

    - أي معيني إيسموند!

    أين زورق السماء الآن؟

    - إنه في المرفأ الثاني على الطريق.

    - إمضِ وخُذْ معك خمسين من عمالقة الأورو،

    ودعهم يُرجِعون زورق السماء إلى إيريدو.

    انقض العمالقة الطائرون وأمسكوا بزورق السماء،

    لكن ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم.

    عند ذاك نادى إنكي خادمه إيسموند مرة ثالثة:

    - أي معيني إيسموند!

    أين زورق السماء الآن؟

    - لقد دخل لتوِّه محطة دولما.

    - أسرع، خذ معك خمسين من وحوش اللاباما،

    دعهم يُرجِعون زورق السماء إلى إيريدو.

    أمسك وحوش اللاباما بزورق السماء،

    لكن ننشوبور أنقذت زورق السماء من أيديهم.

    في المرة الرابعة أرسل إنكي الكوكالجال ذوي الصوت الثاقب.

    في المرة الخامسة أرسل إنكي الإنيولون.

    ولكي ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم في كل مرة.

    عند ذاك نادى إنكي خادمه إيسموند للمرة السادسة:

    - أي معيني إيسموند!

    - أين زورق السماء الآن؟

    - إنه على وشك الدخول إلى أوروك.

    - أسرِعْ، وخُذْ معك حراس قنال الإيتورونجال.

    دعهم يُرجِعون زورق السماء إلى إيريدو.

    أمسك إيسموند وحراس القنال بزورق السماء،

    ولكن ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم.

    عند ذلك قالت ننشوبور لإنانا:

    - أي مليكتي! عندما يصل الزورق،

    عندما يدخل أوروك من بوابة نيجولا،

    دعي الماء يرتفع وينداح في مدينتنا،

    ولتمخر المراكب البعيدة المدى بخفة قنواتنا.

    أجابت إنانا ننشوبور:

    - في اليوم الذي يصل فيه زورق السماء،

    في اليوم الذي يدخل فيه بوابة نيجولا،

    فليرتفع الماء وينداح في شوارعنا،

    ليرتفع الماء ويسري في الممرات،

    ليخرج الأطفال فرحين مغنين،

    ولتحتفل أوروك كلها.

    ليخرج الكاهن الأعلى ويستقبل الزورق بالأناشيد،

    وليَتْلُ الكاهن الأعلى الصلوات الكبرى.

    ليذبح الملك الشياه والثيران قرباناً،

    وليسكب من كأسه الجعة تقدمة.

    لتضجَّ أصوات الطبل والطنبور،

    ولتعزف موسيقى التيغي العذبة.

    لتعلن البلاد وتُعلي اسمي،

    وليسبِّح كل شعبي بحمدي.

    وهكذا كان.

    عند ذلك نادى إنكي خادمه إيسموند:

    - أين زورق السماء الآن؟

    - إن زورق السماء في الميناء الأبيض.

    - إمضِ، فإنانا قد صنعت عجائب هناك.

    الملكة إنانا قد صنعت عجائب في الميناء الأبيض،

    صنعت عجائب من زورق السماء.

    في تلك الأثناء كانت النواميس تُنزَل من الزورق.

    وعندما انتهى إنزال النواميس التي تلقَّتها إنانا،

    تم إعلانها على الملأ وتقديمها لشعب سومر.

    ونطقت إنانا قائلة:

    - إن المكان الذي رسا فيه قارب السماء،

    سوف يُدعى بالميناء الأبيض.

    إن المكان الذي قُدِّمت فيه النواميس،

    سوف يُدعى بالميناء اللازوردي.

    وهنا نادى إنكي إنانا قائلاً:

    - باسم قدرتي، باسم هيكلي المقدس!

    لتبقَ النواميس التي أخذْتِها في هيكل مدينتك،

    ولينصرفَ الكاهن الأعلى إلى الإنشاد في الحرم المقدس.

    لتزدهر أحوال أوروك،

    ويبتهج صغار مدينتك.

    ليكن شعب أوروك حليفاً لشعب إيريدو،

    ولتتبوأ أوروك مكانتها العظيمة.

    على هذا النحو ينتهي النص. فما هو الحدث التاريخي الذي تقدِّمه هذه الأسطورة على طريقتها؟

    لم تظهر المستوطنات الزراعية في وادي الرافدين الجنوبي حتى وقت متأخر من الألفية السادسة ق م. ففيما بين أواخر الألفية السادسة وأوائل الألفية الخامسة بدأت المستوطنات الزراعية الأولى بالظهور في هذه المنطقة التي دُعِيَت فيما بعد سومر، وأخذت بالتشكل ملامح الثقافة التي عرفت بالثقافة العُبيدية أو ثقافة تل العُبيد، نسبة إلى أول مواقعها المكتشفة. ورغم أن هذه الثقافة قد استمدت اسمها من موقع تل العُبيد، إلا أن مدينة إريدو كانت أهم وأكبر حواضرها. وقد بلغت هذه المدينة في نهاية فترة حضارة تل العُبيد حجماً كبيراً بمقياس ذلك العصر، حيث نافت مساحتها على العشرة هكتارات، ووصل تعداد سكانها إلى أربعة آلاف نسمة. وهذا أكبر تجمع سكاني حققته الحضارة الإنسانية حتى ذلك الوقت في أي مكان من العالم. أعطت الحضارة العُبيدية فنوناً متقدمة تجلَّت في الفخاريات الملونة ذات الطابع المتميز، والدُمى الطينية، وصناعة الأختام. كما تجلَّت في العمارة الراقية التي وضعت الأسس الأولى للعمارة السومرية اللاحقة. وقد تم اكتشاف عدد من آيات العمارة العبيدية متمثلة بمعابد الإله إنكي، المعبود الرئيسي لهذه المدينة. وفي مجال التكنولوجيا يبدو أن الحضارة العُبيدية قدمت عدداً من الابتكارات المهمة، وخاصة في مجال الري والفلاحة والحرف اليدوية. ومن المرجَّح أن يكون المحراث والعجلة قد ابتُكِرا خلال هذه المرحلة.

    استمرت آثار الثقافة العُبيدية قائمة من حوالى عام 5300 ق م إلى حوالى عام 3600 ق م. وهنا بدأ الآثاريون يتلمسون حلول ثقافة جديدة محلَّها دُعِيت بحضارة أوروك. ففي مدينة أوروك تم اكتشاف أولى المصنوعات اليدوية التي أشَّرت إلى بداية هذه الثقافة الجديدة. وكانت أوروك أكبر وأهم موقع خلال هذه الفترة التي استمرت حتى حوالى عام 2900 ق م. وقد استطاعت التنقيبات الأثرية تتبُّع الانتقال الحضاري من مرحلة العُبيد، حيث كانت إريدو مركز الثقافة في سومر، إلى مرحلة أوروك 1، عندما تحول الثقل الحضاري من إريدو إلى أوروك. كما أمكن لعلماء الآثار تلمس التغييرات الواضحة في النواتج المادية التي أشَّرت إلى ذلك الانتقال، وذلك من خلال الأساليب الفنية المتَّبعة في تشكيل الأختام، والأنماط المعمارية، والمصنوعات اليدوية، وما إليها. ومن أهم الملاحظات الأركيولوجية الخاصة بموضوعنا هنا أن مدينة إريدو، التي استمرت قائمة خلال فترة أوروك، تبنَّت الأنماط المعمارية والفنية الأوروكية الجديدة. أما أوروك، التي كانت عبيدية الطابع حتى ذلك الوقت، فقد أخذت منذ عام 3600 بإظهار جميع التقاليد الثقافية التي اصطلح الآثاريون على تسميتها بالتقاليد الأوروكية.[11]

    وهذا بالضبط ما حاولت أسطورة إنكي وإنانا أن تنقله إلينا. فإنانا، الإلهة الرئيسية لمدينة أوروك، حصلت على نواميس الحضارة من إنكي، الإله الرئيسي لمدينة إيريدو. وبانتقال النواميس، غابت ثقافة إريدو لتحلَّ محلَّها ثقافة أوروك. نحن هنا أمام حالة فريدة من تطابق مضمون تاريخ مقدس مع مضمون التاريخ الدنيوي – لكنْ مع التذكير بأن الأسطورة هنا تبقى أمينة، بالدرجة الأولى، للتاريخ المقدس، لأنها لا تعطي الإنسان أهمية تُذكَر في صنع حضارته وتقرير مصيره.

    *** *** ***





    [1] S. N. Kramer, Sumerian Mythology, op. cit, pp. 53-54.

    [2] Ibid, pp. 51-52.

    [3] Ibid, pp. 62-63.

    [4] ميرسيا إلياد، أسطورة العود الأبدي، بترجمة نهاد خياطة، دار طلاس، دمشق، 1987؛ ص 24.

    [5] من هنا جاءت كلمة "عبقري" التي تدل على الإنسان الفائق الإبداع، المتواصل مع منبع الحكمة الإلهي الخفي.

    [6] يرد تعبير "عهد عشتار" الوارد هنا في أكثر من نص بابلي، لكن دلالته ما زالت غامضة.

    [7] عند خسوف القمر كان الملك السومري يتنازل عن عرشه مؤقتاً لواحد من عامة الشعب، لأن وقت الكسوف كان شؤماً على الملك. كما كان ملوك بابل ينزلون عن العرش بضعة أيام لواحد من عامة الشعب خلال أعياد رأس السنة، والسادة يخدمون عبيدهم أيضاً، وذلك كجزء من ممارسة طقسية تهدف إلى استحضار حالة الفوضى التي كانت سائدة قبل أن يُحِلَّ مردوخ النظام في الكون.

    [8] Leo Oppenheim, “Babylonian Historical Texts” (in J. Pritchards edt., Ancient Near Eastern Texts), Princeton, 1969, pp. 260-267.

    [9] وهذا ما يميز بشكل جذري بين قراءة الرواية وقراءة التاريخ.

    [10] D. Wolkstein and S. N. Kramer, Inana, Harper and Row, New York, 1983, pp.12-27.

    [11] انظر هذه المعلومات التاريخية والأركيولوجية بتفصيل أكثر في كتاب:

    Charles Redman, The Rise of Civilization, Freeman, San Francisco,1978.



    Reply With Quote  
     

  8. #8 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    <SPAN lang=AR-SA style="FONT-FAMILY: Arabic Transparent; mso-ansi-font-size: 10.0pt; mso-ansi-font-weight: normal"><B style="FONT-FAMILY: Arabic Transparent; mso-ansi-font-size: 10.0pt; mso-ansi-font-weight: normal"><FONT color=#000080><FONT size=4>معتقدات الشرق القديم
    Reply With Quote  
     

  9. #9 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    الطقس والأسطورة
    في الأناشيد التموزية


    فراس السواح


    إن العروة الوثقى التي تجمع بين الطقس والأسطورة تعلن عن نفسها كأوضح ما يكون الإعلان في طقسين من الطقوس الدورية الكبرى، وهما أعياد رأس السنة التي كانت تجدِّد العالمَ طقسيًّا، وذلك بإحيائها للفعاليات الإلهية الخلاقة التي قادت إلى إظهار الكون وإحلال النظام فيه، وأعياد الربيع التي كانت تجدِّد طقسيًّا دورةَ حياة ألوهة الخصب التي تدفع دورةَ الفصول وتبعث الطبيعةَ الميتةَ من مرقدها بعد شتاء طويل. وبما أن أعياد الربيع، التي كان يجري الاحتفالُ بها في جميع أنحاء الشرق القديم منذ عصور ما قبل التاريخ، هي أقدم من أعياد رأس السنة في صيغتها البابلية المعروفة، وهي نموذجها الأسبق، فإن هذه الأعياد الربيعية، بما تنضوي عليه من أسطورة وما تبديه من طقس، سوف تكون موضع اهتمامنا فيما يلي من هذا البحث – علمًا بأن النصوص السومرية سوف تكون مصدرنا الرئيسي هنا، وذلك لاحتوائها على أغزر مادة أسطورية ذات علاقة بموضوعنا. ورغم أن هذه النصوص قد دُوِّنَتْ خلال أواخر الألف الثالث ق م، إلا أن الباحثين في السومريات يرجعون بأصولها إلى أواخر الألف الرابع على أقل تقدير.

    لا يوجد بين أيدينا نصٌّ واحد يعطي صورة متكاملة عن الطقوس التموزية وفحواها الميثولوجي كما كانت تقام في أعياد الربيع الكبرى في سومر؛ كما أن النصوص المتفرقة ذات الصلة بالموضوع لا تحتوي ضمنًا ما يشير إلى اضطِّرادها في سلسلة متصلة، وذلك ضمن وضوح العلاقة بينها وأرجحية انتمائها إلى الطقوس الدورية الكبرى نفسها. من هنا فإن الباحث يجد نفسه مضطرًا إلى إعادة بناء هذه الطقوس بطريقة تجعلها أقرب ما تكون إلى الترتيب الأصلي، معتمدًا على ما تُبديه النصوص من صلة داخلية فيما بينها.

    ترسم النصوص التي اخترناها ورتبناها فيما يلي سيرة حياة الإله دموزي (= تموز) التي تبتدئ بحبٍّ مُسْتَعِرٍ بينه وبين الإلهة إنانا ينتهي إلى زواج سعيد. ولكن السعادة لا تدوم لأن عفاريت العالم الأسفل تقبض على دوموزي وتقوده إلى العالم الأسفل، حيث يلبث هناك، إلى أن يتم تحريرُه وبعثُه إلى الحياة وإلى أحضان زوجته من جديد. تمثِّل الإلهة إنانا في هذه النصوص طاقةَ الحياة الكونية، ويمثِّل دوموزي دورَ مجدِّد هذه الطاقة.

    الزواج المقدس ومقدِّماته
    لدينا، أولاً، مجموعة من الحواريات والقصائد الغزلية التي تدور حول الحبِّ الذي اسْتَعَرَ بين الإلهين. بعضُ هذه النصوص يصف شوق الطرفين وما يشعران به من عواطف مشبوبة؛ وبعضُها الآخر يصف حلاوة اللقاء ومُتَعَ الوصال. وهنا لا تبدو الإلهة إنانا كامرأة ناضجة وسيدة مدربة، ولا يعكس سلوكُها العام دورَها الإلهي كسيدة للسماء والأرض، بل تبدو كفتاة يانعة يخفق قلبُها بالحبِّ الأول، وتسلك مسلكَ البنت الصغرى في العائلة: فهي تخشى من العودة متأخرة إلى البيت، وتخلق الأعذار لأمِّها عندما يعيقُها لقاء دوموزي عن العودة في الوقت المطلوب، تمامًا كما تفعل البنات في يومنا هذا. كما نجد أن أخاها أوتو يحاورها مداورةً بشأن الزواج مثلما يحاور الأخُ الأكبر، في أية أسرة معاصرة، أختَه العزيزة الصغرى. هذه الصورة التي تظهر بها إنانا هنا، والتي لم ينتبه دارسو النصوص السومرية إلى أهميتها ومغزاها، هي شأن مركزيٌّ لا غنى عنه من أجل استكمال مشهد الحبِّ الإلهي الذي ترسمه الأسطورة كنموذج لكلِّ حبٍّ أرضي ولكلِّ خصب ونماء على المستوى الطبيعاني – ذلك أن الشباب هو عنصر ضروري لرفع أيِّ مشهد شبقي إلى مستوى إسثيتيكي (= جمالي) مقنع ومقبول، سواء تم التعبير عن هذا المشهد بالخطوط والألوان أم بالشعر والكلمات. والنصُّ الأسطوري هنا يلعب ببراعة على هذه النقطة عندما يُظهِر الإلهين في ميعة الصبا وفي فورة الشباب.


    نبدأ بحوارية بين إنانا وأخيها أوتو إله الشمس (= شمش البابلي). ورغم أن الحوار يبدو، للوهلة الأولى، وكأنه يدور حول شؤون منزلية عادية، إلا أنه مليء بالتوريات ذات العلاقة بزواج الفتاة. وتأخذ هذه التوريات بالإفصاح عن مضمونها كلما اقتربنا من نهاية النص:[1]

    * شقيقتي، سوف آتيكِ بالكتان من الحقل،

    إنانا، سوف آتيكِ بالكتان من الحقل.

    - أي شقيقي، بعد أن تأتيني بالكتان من الحقل،

    مَن سوف يمشِّطه لي، مَن سوف يمشِّطه لي؟

    ذلك الكتان، مَن سوف يمشِّطه لي؟

    * أي شقيقتي، سآتيكِ به ممشوطًا.

    إنانا، سوف آتيكِ به ممشوطًا.

    - أي شقيقي، بعد أن تأتيني به ممشوطًا،

    مَن سوف يغزله لي، مَن سوف يِغزله لي؟

    ذلك الكتان، مَن سوف يغزله لي؟

    * أي شقيقتي، سآتيكِ به مغزولاً.

    إنانا، سوف آتيكِ به مغزولاً.

    - أي شقيقي، بعد أن تأتيني به مغزولاً،

    مَن سوف يجدل خيوطه لي؟

    ذلك الكتان، مَن سوف يجدله لي؟

    * أي شقيقتي، سآتيكِ به مجدولاً.

    إنانا، سوف آتيكِ به مجدولاً.

    - أي شقيقي، بعد أن تأتيني به مجدولاً،

    مَن سوف ينسجه لي، مَن سوف ينسجه لي؟

    ذلك الكتان، مَن سوف ينسجه لي؟

    * أي شقيقتي، سآتيكِ به نسيجًا.

    إنانا، سوف آتيكِ به نسيجًا.

    - أي شقيقي، بعد أن تأتيني به نسيجًا،

    مَن سوف يبيِّضه لي، مَن سوف يبيِّضه لي؟

    ذلك الكتان، مَن سوف يبيِّضه لي؟

    * أي شقيقتي، سآتيكِ به مبيَّضًا.

    إنانا، سوف آتيكِ به مبيَّضًا.

    - أي شقيقي، بعد أن تأتيني به مبيَّضًا،

    مَن سوف ينام في الفراش معي؟

    مَن سوف ينام في الفراش معي؟

    * أي شقيقتي، عريسُكِ سينام في الفراش معكِ.

    مَن وُلد من الرحم الخصيب سينام في الفراش معكِ.

    دوموزي الراعي سينام في الفراش معكِ.

    وبالطبع فإن اقتراح أوتو على أخته الزواج من دوموزي لم يكن بلا مقدمات لأن قصة حبِّهما صارت معروفة – رغم مراوغة إنانا. نقرأ في النص التالي عن لقاء الحبيبين الذي طال، وكيف حاولت إنانا التملُّص من ذراعي دوموزي لتهرع عائدة إلى البيت قبل أن تكتشف الأمُّ غيبتَها الطويلة، وماذا لقَّنها دوموزي من معاذير تختلقها لأمِّها مما تختلقُه الفتياتُ في يومنا هذا من معاذير واهية: فغيبتهنَّ دومًا مع هذه الصديقة أو تلك، وثمة أمرٌ ما ألهاهُنَّ حتى نسين كم مضى من الوقت:[2]

    في الليلة الفائتة عندما – أنا الملكة – كنت أشعُّ نورًا،

    في الليلة الفائتة عندما – أنا مليكة السماوات – كنت أشعُّ نورًا،[3]

    عندما كنت أشعُّ نورًا وأرقص،

    عندما كنت أترنَّم بأغنية لاقتراب الليل،[4]

    هو التقى بي، هو التقى بي.

    السيد كولي آنا [= دوموزي] التقى بي.

    السيد وضع يده في يدي.

    أموشوم جال آنا [= دوموزي] عانقَني وضمَّني إلى صدره.

    - "هلمَّ أيها الثور البري، أطلِقْني، فأهرع إلى البيت.

    كولي إنليل [= دوموزي] أطلِقْني، فأهرع إلى البيت.

    كيف أحتال بالقول على أمي؟

    كيف أحتال بالقول على أمي ننجال؟"

    - "دعيني أخبرك بما تسوقُه البناتُ من معاذير:

    لقد صحبتْني صديقتي إلى الساحة العامة،

    حيث تسلَّينا بالرقص وبالموسيقى؛

    أنشدتْ لي أحلى الألحان وأعذبها،

    وفي بهجة غامرة أمضينا الوقت هناك.

    بهذه الأكذوبة تأتين إلى أمك،

    بينما نطلق العنان لأنفسنا في ضوء القمر.

    سأعدُّ لك سريرًا ملكيًّا نقيًّا وهنيًّا

    فنقضي الوقت في لهو ومتعة."

    [فجوة في النص، نجد من بعدها إنانا عائدة إلى البيت، تنشد أغنيةً تدلُّ على قرب خطوبتها من دوموزي.]

    جئتُ إلى بوابة أمي،

    أسير في بهجة وسرور.

    جئت إلى بوابة ننجال،

    أسير في بهجة وسرور.

    سوف يقصد أمي وينطق بالكلمة المرتقَبة،

    سوف يرشُّ زيت السرو على الأرض –

    هو الذي يتضوَّع عطرًا،

    و تبعثُ كلماتُه في قلبي الحبور.

    سيدي هو الجدير بالحضن المقدس،

    أموشوم جال آنا، صُهْرُ الإله سِنْ،

    السيد دوموزي هو الجدير بالحضن المقدس.

    بعد ذلك، في ليلة العرس الموعودة، يأتي دوموزي في عربته الملكية، ووراءه رتلٌ من الحيوانات المحمَّلة بمختلف أنواع الثمار ومنتجات الأرض، وبهدايا زواج نفيسة، بينما تستحمُّ إنانا وتتعطر وتضع زينتها وتهيِّئ سرير الزوجية. بداية هذا النص مفقودة؛ وفي مطلع الجزء المحفوظ من الرقيم نقرأ عن آخر الهدايا في القائمة التي عدَّدها الجزء المفقود:[5]

    الراعي أتى بالزبدة إلى البيت الملكي،

    دوموزي أتى بالزبدة إلى البيت الملكي،

    وأمام الباب نادى:

    "افتحي الباب، سيدتي، افتحي الباب."

    أمُّ إنانا قالت لابنتها:

    "أي بنيَّتي، الفتى سيكون لك أبًا.

    أي صغيرتي، الفتى سيكون لكِ أمًّا.

    فافتحي الباب، بنيَّتي، افتحي الباب."

    إنانا، نزولاً عند رغبة أمِّها،

    استحمَّتْ وتضمختْ بالزيت العَطِر.

    تسربلت بالرداء الملكي الأبيض،

    وجهَّزت بائنتها.

    وضعت عقدها اللازوردي حول عنقها،

    وبيدها حملت ختمها،

    بينما دوموزي بالباب فارغ الصبر.

    وعندما فتحتْ له المصراع

    شعَّتْ من داخل البيت أمامه

    كضوء القمر:[6]

    * "فرجي قرنُ الهلال،

    فرجي قاربُ السماء،

    ملؤه رغبة، كالقمر الجديد،

    وأرضي متروكة بغير حرث.

    فمَنْ لي – أنا إنانا –

    بمن يحرث لي فرجي؟

    من لي بمَن يفلح لي حقلي؟

    من لي بمن يفلح أرضي الرطبة؟"

    - "أي سيدتي العظيمة،

    أنا دوموزي الملك، سأحرث لك فرجك."

    * "إذن احرثْ فرجي، يا رجل قلبي

    احرثْ لي فرجي."

    في حضن الملك ارتفع الأرز،

    ومن حولهما نما الزرعُ عاليًا،

    ومن حولهما تدافَع القمحُ سامقًا،

    وازدهر كلُّ بستان.

    ولدينا نصٌّ جميل آخر، مَصوغ في قالب حواري، يصف أيضًا مقدم دوموزي إلى بوابة بيت إنانا. وهذه ترجمة لمقاطعه الواضحة:[7]

    "أختاه، لماذا أغلقتِ باب البيت دوني؟

    يا صغيرتي، لماذا أغلقتِ باب البيت دوني؟"

    * "لقد تحمَّمتُ، اغتسلتُ بالصابون.

    لقد اغتسلتُ في المستحَمِّ المقدس،

    وتحمَّمتُ بالصابون في الحوض الأبيض.

    ارتديتُ عباءة المُلك – مُلك السماء –

    ولهذا أغلقتُ الباب على نفسي.

    كحلتُ عينيَّ بالإثمد،

    وصففت شعري <...>.

    حَلَلْتُ خصلاتِه المشوشة،

    وسوَّيتُ أطرافَه الملتوية،

    ثم جمعتُ الجدائلَ المنسدلة ورفعتُها،

    وتركتُها تتدلَّى إلى حافة قذالي.

    وضعتُ سِوارَ فضةٍ في معصمي،

    وطوَّقتُ عنقي بعقد خرز صغير."

    - "أختاه، لمسرَّة قلبكِ جئتُ بالعسل.

    جئت بالخبز وتقدمات الـ<...> كلِّها إليكِ.

    أختاه – يا ضوء النجم وعسل الأم التي حملتْك.

    أختاه، لقد جئتُ إليكِ بخمسة أرغفة،

    أختاه، لقد جئتُ إليكِ بعشرة أرغفة،

    حققتُ لكِ ما طلبتِ حتى التمام.

    [تطلب إنانا من وصيفاتها فتح الباب لدوموزي، وتعطي تعليماتِها بخصوص ما ينبغي عمله.]

    * عندما يأتي أخي من القصر

    دعوا الموسيقيين يعزفون لأجله؛

    وأنا سوف أسكب الخمرة من فمي له.

    بذلك سيبتهج قلبُه.

    بذلك سيفرح قلبُه.

    دعوه يأتي، دعوه يأتي، ألا ليته يأتي [...].

    [وفي أثناء ذلك يتابع دوموزي تعداد ما جاء به من هدايا.]

    أختاه، سآتي بها معي إلى البيت:

    حملانًا جميلة كالنعاج،

    جديانًا جميلة كالعنزات،

    حملانًا جيدة كالنعاج،

    جديانًا جيدة كالعنزات،

    أختاه، سآتي بها معي إلى البيت.

    [هنا يغدو النص غامضًا بسبب ظهور أصوات أخرى في الحوارية. الأبيات التالية يمكن أن تكون لوصيفات الإلهة اللواتي يرقصن من حولها، وهنَّ يتحدثن بلسانها.]

    ها صدرنا عارم، ها صدرنا،

    ها هو ذا شعرٌ نَبَتََ على فروجنا،

    و في حضن العريس فلتكن بهجتُنا

    [يبدو أن إنانا تحثهنَّ على متابعة القص والغناء.]

    هيا ارقصنَ، أنتنَّ، هيا ارقصنَ.

    دعونا نبتهج لفرجي، دعونا.

    هيا ارقصنَ، أنتنَّ، هيا ارقصنَ.

    بذلك سوف يكون مسرورًا، سوف يكون مسرورًا.

    دعوه يأتي، دعوه يأتي، ألا ليته يأتي.

    هذه هي الخطوط العامة للأسطورة، كما ترسمها النصوص المتفرقة التي أوردنا بعضها أعلاه. فإنانا هي القوة الأنثوية الخلاقة، ودوموزي هو القوة الذكرية الخلاقة؛ وبدون تقاطع هاتين القوتين الكونيتين – القوة السالبة والقوة الموجبة – لا يمكن للحياة الحيوانية والإنسانية والنباتية أن تظهر وتستمر. تمرُّ إنانا في النصوص السابقة بثلاث مراحل من حياتها:

    - الأولى، مرحلة الفتاة العذراء التي تحمل في جسدها وروحها كلَّ طاقات الخلق والإنجاب الكامنة؛ و

    - الثانية، مرحلة الفتاة العاشقة التي تتوق إلى تفجير كلِّ تلك الطاقات الكامنة عن طريق الاتحاد بالقوة الذكرية المكمِّلة؛ و

    - الثالثة هي الزواج المقدس الذي يحوِّل الفتاة إلى سيدة مكتملة ويُطلِق طاقاتها، لتتبدى على المستوى الطبيعاني في كلِّ مظاهر الخصب والنماء.

    إن زواج الإلهين، على المستوى الميثولوجي الماورائي، هو البادئ والمحرك لعالم الطبيعة الحية، والغرام المستعر بينهما هو الذي يحرك الدافع الجنسي لدى الأحياء ويضمن تكاثرها، يملأ ضروع الماشية باللبن ويجعل من البذور الصلبة المدفونة في التربة سويقات وأعشابًا وأشجارًا.

    غير أن أسلوب صياغة هذه الأناشيد يدلُّ على أنها كانت تُستخدَم في أداء طقسي. فالزواج المقدس، على مستوى الأسطورة، يتم تكرارُه سنويًّا، على مستوى الطقس، في عيد رأس السنة الذي يقام في بداية فصل الربيع في سومر وفي بقية أنحاء الشرق الأدنى القديم. وتشير الشواهد النصية والفنية إلى أن الملك السومري كان يلعب في تلك المناسبة دور الإله دوموزي، وكانت الكاهنة الكبرى تلعب دور الإله إنانا. ويبدو أن الاثنين كانا يلتقيان في ذروة الاحتفال في غرفة تقع في أعلى برج المعبد المدرَّج. والفكرة الميثولوجية–السحرية الكامنة من وراء هذا الطقس هي أن الإلهين يحلان، حقًّا وصدقًا، في الملك والكاهنة، وأن الحدث الدرامي المشهود هو عملية تحيين actualization للحدث الأسطوري الذي تَمَّ في الأزمان الميثولوجية وجَعْلِه حاضرًا في الزمن الجاري. من هنا فإن الطقس الدوري الربيعي لا يتخذ طابع الاحتفال بذكرى ميثولوجية، بل إنه يكرِّرها؛ ويغدو المحتفلون موجودين في زمن الأسطورة: يعايشون الكائنات العليا، ويشهدون تكرار عمليات الخلق، حيث يقوم الإلهان، من خلال وكيليهما الدنيويين، بتجديد الحياة – حياة الطبيعة والإنسان والحيوان.

    يظهر الطابع الطقسي للأناشيد التموزية واضحًا كلَّ الوضوح في بعض النصوص التي نجد فيها الإله دوموزي والملك السومري يتبادلان الأدوار في سياق النص، بطريقة نكاد من خلالها لا نتبيَّن الحدث الأسطوري من الدراما الطقسية. لدينا نصٌّ من عصر أسرة أور الثالثة (حوالى 2100 ق م)، يعود إلى فترة حكم الملك شولجي، يصف رحلة هذا الملك إلى معبد إيانا المكرَّس للإلهة إنانا في أوروك، وهو يحمل الهدايا من كلِّ نوع لكي يخطب ودَّ الإلهة ويدعوها للزواج منه:[8]

    شولجي – الراعي المخلص – انطلق بقاربه.

    حطَّ الرحال عند رصيف كولاب [في أوروك]،

    فأخذتْه روعةُ ناموس الملكية – ملكية سومر وأكاد.[9]

    أتى معه بثيران جبلية ضخمة تُساق بالأذرع.

    أتى معه بنعاج وماعز تُشَدُّ بالأيادي.

    أتى بجداءٍ مرقطة وجداءٍ ملتحية تُحمَل على الصدور.

    إلى إنانا أتى بها، في حَرَمِ إيانا المقدس.

    [وبينما شولجي يرتدي عباءته الطقسية ويستعد للقاء إنانا، كانت الإلهة تنشد في مخدعها وقد أنهت زينتها:]

    بعد أن أستحمَّ من أجل السيد, من أجل الثور البري،

    بعد أن أزيِّن أعطافي بـ<...>،

    بعد أن أطلي بالعنبر ثغري،

    بعد أن أكحِّل بالإثمد عينيَّ،

    بعد أن يحتوي خصري براحتيه المليحتين،

    بعد أن يضطجع الراعي دوموزي إلى جانبي،

    بعد أن يمسِّد حضني باللبن والقشدة،

    بعد أن يضع يده على فرجي،

    بعد أن يضمَّني إليه في الفراش،

    عند ذاك سأعانق سيِّدي وأرسم له قَدَرًا طيبًا.

    نلاحظ في هذا النص كيف ابتدأ الكاتب بالحديث عن الملك شولجي، ثم تحوَّل بعد ذلك إلى الحديث عن دوموزي في مشهد العناق. وهذا يعني أن الملك، الذي يلعب دور الإله في طقس الزواج المقدس، لا يلبث أن يفقد صفته الدنيوية، متحوِّلاً، حقًّا وصدقًا، إلى دوموزي. وعندئذٍ تعود آلهة الأزمنة الميثولوجية لتمارس أفعالها الخلاقة، كما في البدايات، وتجدِّد حياة الطبيعة سنة أخرى قادمة.

    ومن عصر الملك إيدين داجان، ملك إيسين (حوالى عام 2000 ق م) وصلتْنا ترتيلةٌ مرفوعة إلى الإلهة إنانا، يَرِدُ في آخرها وصفٌ للقاء الملك والإلهة في ليلة رأس السنة الجديدة:[10]

    في رأس السنة، في يوم الطقوس،

    أقيم لمليكتي مخدعًا لنومها.

    عطِّروه بجرار مليئة بالأسل والأرز،

    وضعوه لمليكتي, لسريرها.

    وعلى المخدع انشروا حلاوةً,

    حلاوةً تُبهِج القلبَ وتضفي على السرير عذوبةً.

    مليكتي تستحمُّ على الحضن المقدس،

    تستحمُّ على حضن الملك،

    تستحمُّ على حضن إيدين داجان.

    إنانا المقدسة تغتسل بالصابون،

    ويُرَشُّ لها زيتُ الأرز العَطِرُ، على الأرض.

    والملك يمشي رافعًا الرأس إلى الحضن المقدس.

    أموشوم جال آنا (= دوموزي) اضطجع معها،

    ولاطَفَ بحبٍّ حضنَها المقدس.

    وبعد أن لاذت الملكة طويلاً بحضنه المقدس

    غمغمت قائلة: "يا إيدين داجان، أنت <...>.

    يلي ذلك وصفٌ للمائدة العامرة التي أُعِدَّتْ لهذه المناسبة والتي نراها في أعمال الفنِّ المصوَّر لتلك الحقبة، مما سيرد الحديث عنه عمَّا قليل. هذه المائدة التي تُنصَب للشخصيتين الرئيسيتين في دراما الزواج المقدس، بما عليها من خيرات وثمار، هي، بشكل ما، تمثيلٌ للأرض التي يستحثها هذا الطقس على الفيض والعطاء. وقيام هذين التجسُّدين الإلهيين بالأكل من المائدة وتناوُل الشراب من جرار الخمر الموضوعة أمامهما هو نوع من الإيحاء بقدوم المواسم الطيبة التي تسدُّ حاجة أهل البلاد.

    ويركِّز النصُّ التالي على تعداد الخيرات العميمة التي تنتج عن زواج الملك من الإلهة إنانا. ولكن اسم الملك المعني غائب فيه. يبتدئ النصُّ بخطاب موجَّه إلى الإلهة، نعلم منه أن سريرها قد طهَّره جيبيل، إله النار، وأن الملك قد أقام مذبحًا وانتهى من أداء جميع الإجراءات الطقسية اللازمة. بعد ذلك نجد الإلهة ننشوبور، وصيفة إنانا ووزيرتها الأمينة، تقود الملكَ إلى حضن عروسه، متوسلةً إليها أن تهبه حُكمًا وطيدًا وتفيض على البلاد من خيراتها:[11]

    لعل السيد الذي قرَّبتِه إلى قلبكِ

    الملك – زوجكِ الحبيب – لعل أيامه تطول في حضنك الهانئ.

    امنحيه حكمًا وطيدًا ومجيدًا.

    امنحيه عرشَ مُلكٍ وطيدِ الدعائم.

    امنحيه قدرةً على تسيير الرعية،

    وثبِّتي في يديه الصولجان والمِجَنَّ.

    امنحيه تاجًا دائمًا وإكليلاً وضَّاءً على الرأس،

    من حيث تشرق الشمس إلى حيث تغرب،

    من شمال البلاد إلى جنوبها،

    من البحر الأعلى إلى البحر الأدنى،

    من بلاد شجرة الحلبو إلى بلاد شجرة الأرز،

    على جميع سومر وأكاد امنحيه الصولجان والمِجَنَّ،

    فيرعى ذوي الرؤوس السود، أينما كانوا.

    وكما يفعل الفلاح، فليضاعف غلال حقولهم.

    وكما يفعل الراعي فليكثِّر في حظائرهم.

    وفي أيام حكمه، ليكن هنالك زرعٌ وحبوب.

    وفي الأنهار، فلتَعْلُ المياه.

    وفي الحقول، فلتكثرِ المحاصيل.

    وفي السِّباخ، فلتُسمَع زقزقاتُ الطيور واصطخابُ السمك.

    وفي الدغل، ليرتفع القصب الجديد والقديم معًا.

    وفي البراري، لتَنْمُ أشجارُ الماشجور.

    وفي الغابات، لتتناسل الغزلان والماعز البري.

    وفي البساتين، ليَجْرِ الخمرُ والعسل.

    وفي مساكب الحدائق، ليطلع الخسُّ والرشاد.

    وفي القصر، لتكن حياةٌ جديدة ومديدة.

    وليَفِضِ الماءُ في دجلة والفرات،

    وليَعْلُ العشب على الضفاف ويملأ المروج،

    وملكة المزروعات تكوِّم الحبوب تلالاً.

    أي مليكتي – يا ملكة السماء والأرض – المحيطة بهما

    فليهنأ بأيام طويلة في حضنكِ المقدس.

    إن الإلهة إنانا، التي تُستنهَض هنا طقسيًّا لتهب الخيرات للبلاد عقب زواجها من الملك، قد قامت من قبل، على مستوى الأسطورة، بما هو مطلوب منها الآن. نقرأ في أحد النصوص هذه الأنشودة التي تغنِّيها إنانا:[12]

    لقد جاء بي، لقد جاء بي إليه؛

    إلى البستان، أخي قد جاء بي.

    تمشيتُ معه بين الأشجار المنتصبة،

    وقفتُ معه بين الأشجار المنحنية.

    عند شجرة التفاح قرفصتُ كما يجب،

    وأمام أخي القادم بالأغاني،

    أمام السيد دوموزي الذي تقرَّبَ مني،

    الذي من [شجر] الطرفاء تقرَّبَ مني،

    الذي من [نخلات] عراجين التمر تقرَّبَ مني،

    دفقتُ الزرع من رحمي،

    وضعتُ الزرع أمامه، دفقتُ الزرع أمامه،

    وضعتُ الحبوب أمامه، دفقتُ الحبوب أمامه.

    الزواج المقدس في الفنِّ المصور
    تقدم لنا الأعمال الفنية المصورة من ثقافة وادي الرافدين وثقافات الشرق القديم الأخرى شاهدًا آخر على طقس الزواج المقدس. وهنا تتطابق المشاهد التي يقدِّمها لنا هذا الفن مع المشاهد التي رسمتْها لنا بالكلمات الوثائقُ الكتابية التي قدَّمنا لتوِّنا نماذج منها.


    يرجع تاريخ أول عمل فني قدَّمَ لنا صورة عن الزواج المقدس إلى أواخر الألف الرابع ق م، أي إلى فترة ما قبل عصر السلالات الأولى. وهو عبارة عن فازة (مزهرية) حجرية تَمَّ العثور عليها في موقع مدينة أور؛ ولذا فقد دعاها الأرخيولوجيون ودارِسوا الفنِّ القديم بفازة أوروك. يبلغ طول هذه الفازة المتر تقريبًا؛ وهي مصنوعة من الحجر، وعليها مشاهد مصورة بطريقة الحفر، موزعة على أربعة أشرطة متوضعة بعضها فوق بعض في طبقات (اللوحة رقم 1).



    اللوحة رقم 1: فازة أوروك[13]

    يعرض لنا الشريط الأعلى المشهد الرئيسي؛ وفيه نرى الإلهة إنانا على البوابة تستقبل دوموزي الذي يتقدَّمُه خادمٌ عاري الجسم يحمل سلةً مليئة بالثمار. وبسبب عوامل الحتِّ التي نالت من الفازة لم يبقَ من جسم دوموزي إلا قدمه وجزء من التنورة الشبكية المميزة له في الفنِّ التصويري السومري. وخلف دوموزي هناك خادم آخر يحمل بين يديه حزمة من القصب. فإذا عدنا بنظرنا إلى الإلهة إنانا رأينا وراءها رمزَها المعروف في الفنِّ السومري، وهو عبارة عن حزمتين من القصب ذواتي رأس ملتف عند الأعلى تتدلى منه راية؛ وإلى الخلف من الحزمتين هنالك مذبح مصنوع على هيئة تيس، يرتقي درجاتِه شخصان يحملان في أيديهما أدوات طقسية. تلي المذبح باتجاه الوراء فازتان من نفس نوع فازة أوروك؛ وبقربهما إناءان مليئان بالهدايا التي أتى بها دوموزي. في الشريط الثاني نرى رتلاً من الخدم العراة يحملون أوانيَ مليئة بالثمار وجرارًا مليئة بالشراب. وفي الشريط الثالث لدينا ثلاثة حقول: في الحقل الأعلى هناك رتلٌ من الحيوانات الأهلية التي تشكِّل جزءًا من هدية الزواج؛ وفي الحقل الأوسط هناك صفٌّ من السنابل وأشجار النخيل؛ وفي الحقل الأخير لا شيء غير الماء، عنصر الحياة الأول وتجسيد الإله إيا، والد دوموزي.

    وكما تنتقل بنا الأناشيد الميثولوجية والطقسية من وقوف دوموزي على باب إنانا حاملاً هداياه إلى دخول حَرَمِ الآلهة وجلوسه معها إلى مائدة الطعام والشراب، كذلك تنتقل بنا الأعمال الفنية المصورة من وقفة دوموزي التي رأيناها على فازة أوروك إلى مشهد الشراب الذي يتكرر على الأختام الأسطوانية وعلى اللوحات الجدارية المنحوتة من ذلك العصر. فبعد أن تقبل إنانا هدايا دوموزي تدعوه إلى الداخل؛ ويجلس الاثنان على كرسيين متقابلين، يتبادلان الأنخاب، وبينهما جرة مليئة بالشراب، ويقوم على خدمتهما ساقٍ واحد أو ساقيان، إضافة إلى عدد آخر من الموسيقيين والخدم يختلف من عمل فنيٍّ إلى آخر. ولدينا من مطلع الألف الثالث ق م (عصر ميسيليم تحديدًا) عددٌ من الأعمال الفنية التي تصور هذا المشهد بتنويعات مختلفة. ففي اللوحة رقم 2 أدناه لدينا خاتمٌ عليه مشهد لرجل وامرأة يجلسان متقابلين، وفي يد كلٍّ منهما كأس، ويقوم على خدمة كلٍّ منهما ساقٍ، إضافة إلى عازف قيثارة وخادمة تقف وراء المرأة، حاملةً في إحدى يديها مرآةً وبالأخرى إناءً على هيئة دلو.



    اللوحة رقم 2: مجلس الشراب[14]

    إلى جانب هذا النوع من الأختام، لدينا من العصر نفسه مجموعة من اللوحات الحجرية، المنفَّذة بطريقة الحفر، تعالِج الموضوعَ نفسه. وهذه اللوحات مربعة الشكل تقريبًا، ومزودة بثقب في وسطها لغاية تثبيتها على الحائط. وجميعها تقريبًا ذات تكوين تشكيلي واحد وعناصر متشابهة: فقد جرى تقسيم سطح اللوحة إلى ثلاثة أشرطة متوضِّعة بعضها فوق بعض، واحتوى كلُّ شريط على نفس الجانب من مشهد الشراب، مع بعض التعديلات الطفيفة: في الشريط العلوي نجد امرأة ورجلاً متقابلين في وضعية الجلوس على كرسي، وفي يد كلٍّ منهما كأس، وبينهما (أو وراءهما) يقف السقاة والخدم والموسيقيون؛ وفي الشريط الأوسط هناك الخدم يحملون السلال والجرار التي تحتوي على هدايا الزواج، ويسوقون أو يحملون حيوانًا نذريًّا؛ وفي الشريط الأسفل غالبًا ما نجد عربة يقودها سائقٌ راجلٌ وأمامها خادم بيده عصا؛ وهذه العربة هي التي قَدِمَ بها الرجل الذي يجالس المرأة في الشريط العلوي. (أنظر اللوحات 3 و4 و5 أدناه.[15])



    اللوحة رقم 3: قطعة من لوحة حجرية تمثل مشهد الشراب


    اللوحتان رقم 4 و5
    الموت والانبعاث
    ولكن الموت صنوٌ للحياة ووجهُها الآخر؛ والطبيعة يجب أن تجدِّد نفسها بالموت والانبعاث إلى حياة غضة جديدة، مقتفيةً أثر أول حادثة موت وانبعاث على المستوى الميثولوجي، ألا وهي حادثة موت الإله دوموزي وقيامته. لقد كانت لعبة الحبِّ الكونية التي انتهت باتحاد الإلهين بمثابة الطور الأول من حياة دوموزي. ولكن العريس الإلهي الذي ما ارتوى بعدُ من كؤوس الهوى يجب أن يموت؛ وها هي ذي عفاريت العالم الأسفل تنطلق في إثره، وهو يهرب من وجوههم من مكان إلى آخر، ويغيِّر من هيئته متخفيًا عن أنظارهم، ولكن دون جدوى، لأنهم ما يلبثون أن ينقضُّوا عليه، ويروحون يسومونه أنواع العذاب، قبل أن يسوقوه إلى العالم الأسفل.


    لدينا أكثر من نصٍّ سومري يصف عذابات الإله دوموزي وموته.[16] وتشكِّل سلسلة الأناشيد التالية نصًّا معروفًا لدى علماء السومريات تحت عنوان: أمرُّ البكاء؛ وهو يتميز عن نصِّ موت دوموزي المعروف بأسلوبه القويِّ وعاطفته الدافقة وطابعه الدرامي الواضح. يبدأ النشيد الأول ببكائية يرفعها المحتفلون إلى الإلهة إنانا:[17]

    أمرُّ بكاء الدنيا نبذله على زوجها.

    من أجل إنانا، أمرُّ البكاء نبذله على زوجها.

    واحسرتاه على زوجها، واحسرتا على فتاها.

    واحسرتاه على بيتها، واحسرتا على بلدها.

    على زوجها الأسير، على فتاها الحبيس.

    على زوجها الميت، على فتاها الراقد.

    على زوجها الذي غاب، من أجل أوروك، في الأسر.

    بعد بضعة أسطر أخرى يواسي فيها المنشدون الإلهةَ، تدخل إنانا إلى المشهد:

    إنانا تبكي بكاءً مرًّا على زوجها الفتى:

    "اليوم قد قضى زوجي الحلو، زوجي قد قضى.

    اليوم قد قضى فتاي الحلو، فتاي قد قضى.

    لقد مضيتَ، يا زوجي الحلو، إلى زرع البواكر.

    لقد مضيتَ، يا فتاي الحلو، إلى زرع الأواخر.

    قد مضى زوجي إلى الزرع، ولكنه قُتِلَ بين الزرع.

    قد مضى فتاي يطلب الماء، ولكنه أُسلِمَ هناك إلى الماء.

    بعد ذلك يعود المنشدون لإعطاء تفصيلات عما حدث، فنعرف أن سبعة عفاريت من العالم الأسفل قد بُعِثوا للقبض على دوموزي، فراحوا يبحثون عنه حتى وجدوه نائمًا في الحظيرة، فدخلوها وأخذوا يخربون كلَّ ما يقع تحت أيديهم. ثم قام العفريت السابع بإيقاظ دوموزي بغلظة:

    ثم دخل العفريت السابع إلى الحظيرة

    وأنهض سيد الرعاة النائم،

    أنهض زوج إنانا المقدسة، سيد الرعاة النائم:

    "مولانا أرسلَنا في طلبك؛ قُمْ تعال معنا.

    أرسلَنا في طلبك، يا دوموزي؛ قُمِ تعال معنا.

    أولولو، يا أخا السيدة جشتنانا؛ قُمْ تعال معنا.

    نعاجُك قد سُلِبَتْ وحملانُك ولَّتْ؛ قُمْ تعال معنا.

    عنزاتُك قد أُخِذَتْ وجداؤك ذهبت؛ قُمْ تعال معنا.

    انزع عن رأسك تاج القداسة؛ قُمْ عاري الرأس.

    القِ عن جسمك رداء المُلك؛ قُمْ عاري البدن.

    ارمِ من يدك عصا القداسة؛ قُمْ خاوي اليد.

    اخلع عن قدميك نعل القداسة؛ قُمْ حافي القدمين.

    ولكن دوموزي يفلح في الإفلات من أيديهم؛ وها هم يتشاورون في أمرهم ويضعون خطة للمطاردة:

    عفريتٌ نَظَرَ إلى عفريت.

    العفريت الصغير خاطب العفريت الكبير:

    "الفتى الذي نجا من قبضتنا <...>

    دوموزي الذي نجا من قبضتنا <...>

    لنلحق به وندركه عند ربوات البراري.

    فهناك، عند ربوات البراري، مَن يمسكه معنا.

    لنلحق به وندركه عند خنادق البراري،

    فهناك، عند خنادق البراري، مَن يمسكه معنا.

    [...]

    دعونا نمسك به في حضن أمه سرتور؛

    سرتور، الأم الحنون، ستقول له قولا رحيمًا.

    دعونا نمسك به في حضن أخته الحنون؛

    أخته الحنون ستقول له قولاً رحيمًا.

    دعونا نمسك به في حضن زوجه إنانا –

    إنانا العاصفة الكاسحة.

    يصل دوموزي إلى ضفة نهر الفرات، فيخلع ثيابه ويسبح إلى الضفة الأخرى، حيث يكون في انتظاره أمُّه وزوجته. ولكن التيار كان أقوى منه؛ أو إن قوى العالم الأسفل قد سخَّرتْ مياهَ النهر لاقتناص الإله الهارب من قَدَره:

    عند شجرة التفاح المنتصبة التي تنمو على الرابية،

    عند شجرة التفاح في صحراء إيموش:

    الماءُ الدافق الذي يحطِّم القوارب

    حَمَلَ الفتى إلى العالم الأسفل.

    الماءُ الدافق الذي يحطِّم القوارب

    حَمَلَ زوج إنانا إلى العالم الأسفل.

    هناك يأكل طعامًا ليس بالطعام،

    ويشرب شرابًا ليس بالشراب.

    هناك مرابط للماشية ليست مرابط،

    وهناك سقوف للزرائب ليست سقوفًا.

    هناك تحفُّ به العفاريت بدل الأصحاب والخلان.

    بعد هذه المشاهد المثيرة للأسى تعود البكائيات بإيقاع أكثر حزنًا وألمًا. ذلك أن ندب الإله الميت والتفجُّع عليه والمبالغة في إظهار الحزن هي أدوات سحرية تعينه على فكِّ قيوده في عالم الأموات واكتساب القدرة على مقاومة قوى الفناء. في هذه البكائيات ترنيمة تشترك فيها نسوة دوموزي: أمه وزوجه وأخته. لقد أرسل الإله في طلبهنَّ إلى ملجئه في الصحراء؛ وعندما وصلن إلى الزريبة التي يتوارى فيها وَجَدْنَ أن عفاريت الظلام قد خطفت دوموزي:

    على ناي القصب،

    قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

    لأجل ذلك الشريد في الصحراء،

    قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

    أنا إنانا التي تُرِكَت وحيدة في القفر،

    وأنا ننسونا، أمُّ الربِّ الفتى،

    وأنا جشتينانا، أخت السيد الفتى،

    قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

    لأجل ذلك الشريد في الصحراء،

    قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

    في مرابعه، في روابي الرعاة،

    قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

    في مرابع مَن أمسى اليوم حبيسًا،

    في مرابع مَن أمسى اليوم أسيرًا،

    قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

    أما عن عودة الإله الميت إلى الحياة فلدينا نصٌّ واحد مفصَّل اسمه أيها الرب، الطفل السامي العظيم، الممجَّد في السماء والأرض؛ وهو مؤلف من ثلاث عشرة نشيدًا، متراوحة في الطول والوضوح. الأناشيد الأولى عبارة عن مدائح واسترضاء لدوموزي، تليها مرثية دمار مدينة أوروك التي غاب عنها الإله. وفي النشيد الخامس نستمع إلى مرثية من الأم الثكلى، تُظهِر فيها خوفَها من ألا يعود الفتى الغائب، وما يمكن أن يحمله ذلك من كوارث على الإنسان والحيوان والطبيعة. ولكن من الواضح أن تعداد المخاوف هذا ما هو إلا تحريض لقوى الإله واستنهاض لهمَّته:

    لأجله، لأجل الغائب البعيد،

    أبكي، وخوفي ألا يعود.

    لأجل طفلي الغائب البعيد،

    أبكي، وخوفي ألا يعود.

    لأجل المسيح[18] الغائب البعيد،

    أبكي، وخوفي ألا يعود.

    من شجرة الأرز المقدسة،

    حيث حبلتُ به، أنا أمُّه،

    من معبد إيانا الأعلى والأسفل،

    أبكي، وخوفي ألا يعود.

    من بيت الربِّ أبكي،

    أبكي، وخوفي ألا يعود.

    أبكي، وبكائي على شجر الكرمة،

    خوفي ألا تعطي الكرمةُ عناقيدها.

    أبكي، وبكائي على السنابل،

    خوفي ألا يجود بها الأخدود.

    أبكي، وبكائي على النهر العظيم،

    خوفي ألا يفيض ماؤه.

    أبكي، وبكائي على السِّباخ،

    خوفي ألا تتكاثر أسماكُها.

    أبكي، وبكائي على غيضات القصب،

    خوفي ألا يخلِّف القصبُ القديم.

    أبكي، وبكائي على الأحراش،

    خوفي ألا تتكاثر غزلانُها ووعولُها.

    في النشيد السادس نرى الأم تذهب للسؤال عن دوموزي عند مربيته التي تعهَّدتْه بالرعاية في صغره. وهي تتحدث عنه هنا كطفل قضى قبل الأوان، لا كشابٍّ في أوج نضجه. تخبرها المربيةُ بضياع الطفل، وترفع الاثنتان صيحات تفجُّع تُطاوِل عنان السماء والعالم الأسفل. أما في النشيد السابع فنجد الأم تعطي رواية جديدة عن كيفية اقتياد ابنها إلى العالم الأسفل؛ ولكننا نعلم أيضًا أن عودته قريبة لأنها تلبس أفضل ما عندها استعدادًا لاستقباله. في النشيد الثامن، يرتفع الإيقاع الشعري إلى ذروة عالية، مفعمة بالنشوة والجذل؛ بينما ترتفع الحناجر بنشيد مدائحي للربِّ الذي يوشك أن يصل، فتذكره بأسمائه الحسنى جميعًا:

    نبيل، نبيل، إنه إله نبيل.

    أوشوشو، ربُّ هذا البيت،

    إنه لإله نبيل.

    ننجشزيدا، ربُّ هذا البيت،

    إنه لإله نبيل.

    دامو، ربُّ هذا البيت،

    إنه لإله نبيل.

    عشتارنان، ربُّ هذا البيت،

    إنه لإله نبيل.

    إيجشوبا، ربُّ هذا البيت،

    إنه لإله نبيل.

    أمه أوراش، الأرض المحروثة،

    إنه لربٌّ نبيل.

    وأبوه أنكي، ثور إريدو الوحشي،

    إنه لربٌّ نبيل.

    نظرتُه مفعمة بالروع،

    إنه لربٌّ نبيل.

    وكلامُه مشبَعٌ حلاوة،

    إنه لربٌّ نبيل.

    جسمُه يسيل عذوبة،

    إنه لربٌّ نبيل.

    وفِعاله سبَّاقة مجلِّية،

    إنه لربٌّ نبيل.

    أيها النبيل، ألا أيها النبيل،

    فلتسكنْ إلينا.

    أوشوشو، ربَّ هذا البيت، النبيل،

    فلتسكنْ إلينا.

    ثم يتابع النصُّ ذكرَ أسماء دوموزي للمرة الثانية إثر البيت الأخير أعلاه، حيث يتم استبدال الشطرة "فلتسكنْ إلينا" بالشطرة "إنه لربٌّ نبيل"، وذلك حتى نهاية النشيد الثامن. أما النشيد التاسع فقصير، يبدأ بابتهال إلى ثور الإله الذي يجرُّ مركبته، تليه ترنيمةُ السائرين في موكب الإله العائد:

    يا مَن نسير في رِكابه، وبه المسرَّة،

    نسرع الخطى تحت النجوم في سلام.

    أوشوشو، يا مَن نسير في ركابه وبه المسرَّة.

    ننجشزيدا، الذي نسير في ركابه وبه المسرَّة.

    دامو، الذي نسير في ركابه وبه المسرَّة.

    عشتارنان، الذي نسير في ركابه وبه المسرَّة.

    إيجشوبا، الذي نسير في ركابه وبه المسرَّة.

    أورنمُّو الراعي، الذي نسير في ركابه وبه المسرَّة.

    ثم يتابع النص، بعد ذكر أورنمُّو (وهو الملك الأول من سلالة أور الثالثة)، ذكرَ بقية الملوك الذين اعتُبِروا إبان حياتهم تجسيدًا حيًّا للإله تموز، إلى أن ينتهي بخاتمة تُعلي من شأن دوموزي كإله للخيرات من كلِّ الأنواع. ولكن معظم أسطرها مشوَّه، عدا سطرين:

    يا ربَّ الطعام والشراب، الذي نسير في ركابه وبه المسرَّة.

    يا ربَّ الطعام والشراب، الذي نسير في ركابه وبه المسرَّة.

    النشيد الحادي عشر يشبه، في بنائه وتكراره، النشيد العاشر، ولكنه يقوم على اللازمة: "أيها الربُّ المبجَّل، من ترى يجاريك في الجلال والعظمة". أما الثاني عشر فهو تكرار للنشيد السابع. الثالث عشر والأخير مشوَّه السطور؛ ولكننا نستطيع إعادة بناء بعض سطوره على الشكل التالي:

    عُدْ إلينا يا فتى <...> عُدْ يا فتى.

    أوشوشو، عُدْ إلينا يا فتى، عُدْ يا فتى.

    ننجشزيدا، عُدْ إلينا يا فتى، عُدْ يا فتى.

    دامو، عُدْ إلينا يا فتى، عُدْ يا فتى.

    عشتارنان، عُدْ إلينا يا فتى، عُدْ يا فتى.

    عُدْ إلينا يا فتى، فتُستعاد المعابد، عُدْ يا فتى.

    عُدْ إلينا يا فتى، فتُستعاد المدن، عُدْ يا فتى.

    عُدْ إلينا يا فتى بطعام الحياة، عُدْ يا فتى.

    عُدْ إلينا بماء الحياة، عُدْ يا فتى.

    ثم يتابع النصُّ تعداد الخيرات التي تفيض مع عودة دوموزي؛ ولكن تشوُّه الرقيم يحول دون إعطاء صورة واضحة عن هذا الجزء الأخير من النشيد. ورغم أننا نجهل الكيفية التي كانت تؤدَّى بها هذه الطقوس التموزية في تفاصيلها، نظرًا لعدم العثور على تعليمات طقسية خاصة بها، إلا أنني أخمِّن، استنادًا إلى إيقاع النص الثالث عشر والأخير الذي يستخدم لازمة "عُدْ إلينا يا فتى، عُدْ يا فتى" بأن قرع الطبول والصنوج هنا يأخذ بالارتفاع، بينما ترتفع الحناجر بالدعاء، مستنهضةً الإله الذي قام من بين الموتى على الصعود عبر بوابات العالم السفلي السبعة. وعندما يصل اللحن الإيقاعي إلى ذروته يكون المحتفلون، الذين كابدوا كلَّ مراحل الطقس، مهيئين من الناحية النفسية والذهنية للإحساس بحضور الألوهة فيما بينهم – عندما يعلن كبير الكهنة، الذي يلعب دور قائد الكورس، بأن الإله قد بُعِثَ من عالم الأموات. وبعد لحظة صمت، يشعر كلُّ واحد فيها بإحساسٍ غامر بالتواصل مع الحضرة الإلهية التي صارت حقيقة تسري بين العباد، ينفجر الجميع بالهتافات والزغاريد، معبِّرين عن فرح غامر بعودة الإله؛ ثم يسيرون في موكب احتفالي يحمل الإله العائد من العالم الأسفل إلى حبيبته إنانا ليعقد عليها زواجَه من جديد. وبذلك تبدأ سنة طقسية جديدة.

    إن ما يميِّز النصوص التموزية في بلاد الرافدين هو صيغتها الدرامية التي لا تخفي نفسها. فالأسطورة هنا لا تُروى بأسلوب القصِّ الميثولوجي، بل من خلال أناشيد وحواريات توضَع على لسان الشخصيات الرئيسية، وتتخلَّلُها مقاطع يؤديها كورس من المنشدين أو أكثر من كورس. كما نستطيع الافتراض في ثقة بأن المشاهد الرئيسية كانت تمثَّل بطريقة حية أمام المشاهدين الذين كانوا ينخرطون في الطقس من خلال مشاركتهم في الإنشاد أيضًا. كلُّ ذلك يضعنا أمام حالة جنينية للدراما التي تطورت في بلدان المشرق ضمن المؤسسة الدينية، ثم انسلخت تدريجيًا عن أصولها الدينية لتنجب التراجيديا الإغريقية في الحضارة اليونانية.

    لقد نشأت التراجيديا عن تقاليد طقسية مشابهة للتقاليد التموزية، هي التقاليد الذيونيسية التي ولد منها المسرح الإغريقي. ففي الصيغة الدرامية المعروفة باسم الـ"ديثيرامب" dithyramb نجد قصةَ ميلاد الإله ذيونيسوس وحياتَه وموتَه الفاجع، تتلوها جوقةٌ من الكهنة في أعياد الربيع. ويبدو أن قائد الكورس قد أخذ بالاستقلال تدريجيًّا عن جماعته، مما أدى إلى تحويل الأداء الجمعي إلى حوار درامي بين قائد الكورس وجماعته، ثم إلى ظهور الأصوات المستقلة الأخرى ضمن الجماعة، وبالتالي إلى ولادة الدراما.

    *** *** ***





    [1] D. Wolkstein and S.N. Kramer, Inana, Harper, New York, 1982, pp. 30-31 & S.N. Kramer, The Sacred Marriage Rite, Indiana University Press, 1969, pp. 68-69.

    [2] S.N. Kramer, “Sumerian Sacred Marriage Texts,” in: J. Pritchard, ed., Ancient Near Eastern Texts, pp. 639-640.

    [3] يشير النص هنا إلى وظيفة إنانا كإلهة لكوكب الزهرة المضيء.

    [4] إشارة إلى سطوع كوكب الزهرة عقب غياب الشمس مباشرة.

    [5] D. Wolkstein and S.N. Kramer, op. cit., pp. 35-36.

    [6] بعد هذا السطر بقيةُ النص مليئة بالفجوات. ولكننا نعرف، من سياق نصوص أخرى مشابهة، أن مثل هذا اللقاء عند الباب يليه تبادلُ كلمات الغزل، حيث يُظهِر كلُّ طرف مدى رغبته وتوقه إلى وصال الآخر. من هنا يمكن إكمال المشهد السابق بالنصِّ القصير التالي الذي فُقِدَتْ بدايتُه.

    [7] S.N. Kramer, The Sacred Marriage Rite, op. cit., pp. 97-98.

    [8] Ibid., pp. 63-64.

    [9] ناموس الملكية هو أحد النواميس المقدسة التي تحتفظ بها إلهة مدينة أوروك والتي جاءت بها من مدينة إيريدو، على ما سردتْه لنا أسطورة إنكي وإنانا التي أوردناها كاملة في بحث "الأسطورة والتاريخ" (معابر، الإصداران السابع والثامن، باب "أسطورة").

    [10] Ibid., pp. 65.

    [11] Ibid., pp. 82-83.

    [12] Ibid., p. 101.

    [13] من أجل هذا الشكل والشروح عليه أنظر: كتاب العلامة أنطون مورتكات، تموز، بترجمة د. توفيق سليمان، دمشق، 1985، ص 119-120، واللوحة 4.

    [14] أنظر: المرجع السابق، ص 84.

    [15] المرجع نفسه، اللوحات 10، 20، 21.

    [16] سوف أتجاوز هنا النصَّ المعروف جيدًا الذي قدمتُه في مؤلَّفي مغامرة العقل الأولى وأعطيت عنه تحليلات مستفيضة في مؤلَّفي الثاني لغز عشتار، لألتفت إلى نصوص ذات طابع طقسي تخدم أهداف بحثنا هنا.

    [17] جميع الأناشيد الطقسية التالية ترجمتُها عن جاكوبسن. أنظر كتابه:

    Th. Jacobsen, The Treasures of Darkness, Yale University, 1976, pp. 47-72.

    [18] أي الممسوح بالزيت؛ وكان طقس المسح بالزيت نوعًا من التكريس.

    Reply With Quote  
     

  10. #10 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    التمُّوزية

    ومعتقد الخلود السومري



    فراس السواح



    تَكْشِفُ لنا النصوصُ والأناشيدُ التموزية عن جانب طقسي واعتقادي ذي أهمية بالغة في الحياة الدينية لثقافات الشرق القديم. فإلى جانب الاعتقاد بوجود قوى إلهية تعمل على حفظ بناء الإنسان ورعاية مصادر عيشه، اعتقد الإنسان القديم بقدرته على عَوْنِ هذه القوى في مهمتها، من خلال الطقس الذي يعمل على تحيين actualizing الأسطورة وجَعْلِ النشاطات الخلاَّقة للزمن البدئي فاعلةً في الزمن الجاري. فإذا كانت القوى الإلهية قد عملت على تجديد الطبيعة في الزمن الميثولوجي فإن الطقس وحده هو الكفيل باستنهاضها من جديد، لتكرِّر أفعالها النموذجية الأولى، وتجدِّد حياة الطبيعة، سنة بعد أخرى.

    بتعبير آخر، فإن الإله تموز لم يكن يموت كلَّ سنة، ثم يُبعَث إلى الحياة من جديد، كما تعوَّد الباحثون قوله وتكراره بتأثير ملاحظتهم للطقس الدوري، ومزجهم بين الطقس والأسطورة، ولكنه مات، وبُعِثَ إلى الحياة، وتزوج الإلهة إنانا، في دورة حياة واحدة، حَصَلَتْ في أزمان الأصول والتأسيس، من أجل إعطاء النموذج البدئي لصيرورة عمليات الطبيعة. وليس موتُه وبعثُه كلَّ عام إلا دورة حياة طقسية يجري تكرارُها دراميًّا لغرض تحيين الأسطورة واستحضار زمنها الميثولوجي الخلاَّق.[1]

    رغم أن هذا الجانب من المعتقدات والطقوس المشرقية يصنَّف عادة تحت اسم عبادات الخصب، التي يرى فيها معظمُ الباحثين نزوعًا براغماتيًّا نحو حفظ بقاء الإنسان وتأمين موارد عيشه، إلا أن وجهًا آخر لهذه العبادات الخصبوية ما يلبث أن يطفو من تحت المظاهر الخارجية والأغراض المباشرة للطقوس التموزية. ذلك أن دوموزي–آبسو، ابن الماء الخلاق، مجدِّد طاقة الحياة وحافِظ قوى الخصوبة والنماء، هو، في الوقت نفسه، قاهر الموت الذي حرَّر نفسه من قوى العالم الأسفل. من هنا فإنه الإله الوحيد القادر على إعطاء الإنسان أملاً في تحقيق الخلود، والأخذ بيده، عِبْر برزخ الموت، نحو عالم آخر أكثر بهجة وسعادة من عالمه الأرضي.

    تلعب الطقوس التموزية هنا دورًا مزدوجًا؛ والعِباد الذين يحتفلون بعودة الإله الميت من باطن الأرض، حاملاً معه حزم القمح غذاءً للجسد، إنما يستحضرون، في الوقت ذاته، تلك القوة القادرة على دحْر الموت وتحقيق الخلاص من بؤس الحياة الأرضية ومن ظلمات العالم الأسفل. ومن ناحية أخرى، فإن ارتباط فكرة بعث الروح وتجديدها بعبادة الخصب نابعٌ من نظرة الإنسان القديم إلى نموِّ الزرع، باعتباره معجزة غير مفهومة: فالبذور الصلدة الصمَّاء تودَع في الأرض بضعة شهور، لتدبَّ فيها الحياة وتعطي ورقًا وحَبًّا جديدًا. فإذا كانت هذه المعجزة ممكنة في عالم النبات فإنها ممكنة أيضًا بالنسبة للإنسان. وعودة الحياة إلى العظام الصلبة الميتة ليس أكثر استحالةً من عودة الحياة إلى البذور، لأن القوة الفاعلة في كلا البعثين واحدة.

    ومع هذا الإدراك لإمكانية الخلاص بواسطة الإله الذي مات وقام من بين الأموات، يتحول الموت من مصير فردي مظلم إلى مرحلة تطهير وتجديد، يبلى معها الجسم الدنيوي ويُستبدَل به جسمٌ نوراني قادر على البقاء والاستمرار في عالم الآلهة الخالدين. من هنا تأتي تلك الصلة الغامضة في عالم الميثولوجيا بين آلهة الخصب وآلهة الموت – صلة تبدو من القرب أحيانًا حتى درجة التطابق التام بينها، كما في الميثولوجيا المصرية مثلاً.

    لقد انتصر تموز على قوى الظلام، وصعد ظافرًا إلى حياة جديدة. ومعه يصعد الأمل في قلوب المشاركين في الطقس بقدرتهم على قهر الموت، كما قَهَرَه إلههُم الذي يحضر بينهم، ويستشعرون وجوده حقًّا وصدقًا. وها هو يعطي لكلِّ مؤمن وعدًا بأنه سيكون حاضرًا لديه عندما تأتي ساعة المنية، ليقوده في طريق النشور إلى العالم الثاني. لقد دخل المحتفلون إلى الأسطورة؛ والأسطورة هنا لم تعد قصةً وقعت في زمن ماضٍ، بل واقعٌ حيٌّ، هنا والآن. ذلك أن صيغة الماضي (التي تُروى بها الأسطورة عادة) تتحول، من خلال الطقس، إلى صيغة الحاضر، وتفصح عن جوهرها القائم أبدًا، حيث تتحول مقولة: "عندما في البدء" إلى مقولة: "عندما في الآن". ويأتي الطقس بالقوى الإلهية، فيجعلها حاضرةً بين المحتفلين، مثلما كانت حاضرةً بين الجيل الأول من الأسلاف، لا باعتبارها كائنات عُلوية تتطلَّب الصلوات، ولكن باعتبارها تمثيلاً للحقائق الفائقة لصيرورة الوجود ولهذا الآن المُعايَن والمعيش؛ باعتبارها قوى ممتزجة بألم هذه اللحظة التي تنبض بالحياة، وفي الوقت نفسه تغمس جذورها في قرار الموت.

    الأسطورة الحق هي الأسطورة التي تفصح عن وجهيها هذين: وجه القِدَم، ووجه الآن المزروع في السرمدية.

    إن الوجه الآخر للمعتقَد التموزي، باعتباره معتقدًا للخلاص، لا تُظهِره لنا الوثائق الكتابية. والسببُ في ذلك راجعٌ إلى أن عقيدة الموت والخلود التموزية لم تكن العقيدة الرسمية في سومر خلال عصر التدوين السومري (فترة حكم أسرة أور الثالثة 2100-2000 ق م) الذي تمَّتْ في أثنائه عملية تحرير واستنساخ معظم ما نعرفه من النصوص الأدبية والميثولوجية السومرية. فلقد نضجتْ التصوراتُ اللاهوتية لعقيدة الخلود التموزية منذ عصر ما قبل الأسرات؛ ولدينا شواهد فنية على وجودها منذ عصر جمدت نصر (3100-2900 ق م). ولكن هذه العقيدة تعرَّضَتْ، خلال العصر الصارغوني السامي (2300-2160 ق م)، إلى مقاومة رسمية من جانب اللاهوت الجديد للحكام الساميين، وهو لاهوت يدور حول الآلهة الكوكبية ولا يعير كبير اهتمام لآلهة الدورة الطبيعية التي كانت في بؤرة الحياة الدينية السومرية – ناهيك عن معتقد الخلود الذي تخلو منه الديانة السامية الرافدية خلوًّا تامًا. وعندما عادت مقاليد السلطة السياسية إلى يد السومريين لفترة قصيرة، خلال حكم أسرة أور الثالثة، يبدو أن الاتجاه الرسمي للحكام السومريين في ذلك الوقت قد فضَّل إحياء العبادات التموزية في جانبها الخصبوي وطَمْسَ جانبها الآخر، بتأثير الانقلاب العميق الذي أحْدَثَه الحكمُ السامي في الحياة الدينية لكلٍّ من سومر وأكاد.

    لقد كان اكتشاف المقابر الملكية لملوك عصر فجر السلالات، في كلٍّ من مدينتي كيش وأور، أول ما لَفَتَ النظر إلى عقيدة الموت والخلود السومرية. ففي موقع مدينة كيش تمَّ اكتشاف عدة مقابر ملكية احتوتْ، إلى جانب المدفون الرئيسي، على جثث عدد من حيوانات الجر، وعلى جثث عدد من الخدم والأتباع الذين رافقوا سيدهم إلى العالم الآخر. كما وُجِدَتْ بين المدفونات الجنائزية مناشير من النحاس وأزاميل.[2] ويخدم وجود هذه الأدوات غايةً رمزية تتصل بالاعتقاد بأن الملك، الذي لعب في حياته دور الإله تموز، سوف يحرِّر نفسه من القبر ويُبعَث من جديد، كما فعل تموز قبله. ولسوف تتضح هذه الأفكار والممارسات المتعلقة بالبعث والنشور بشكل أكبر في مكتشفات المقابر الملكية لأسرة أور الأولى.

    ففي موقع مدينة أور، على مقربة من المعبد الرئيسي لإله القمر نانا، اكتشفتْ بعثةُ التنقيب البريطانية برئاسة السيد ليونارد وولي، في العام 1953، أرض مقبرة سومرية واسعة، احتوتْ في سويتها العليا على حوالى 1850 قبرًا سطحيًّا من النوع العادي البسيط، المخصَّص لدفن عامة الناس. أما في سويتها السفلى فقد تمَّ اكتشاف ست عشرة مقبرة نفقية على عمق عشرة أمتار من سطح الأرض؛ وتبيَّن من نقوش الأختام الأسطوانية التي كانت بين الهدايا الجنائزية أنها كانت مقابر لملوك أور الأولى وزوجاتهم. ورغم الاختلافات البسيطة في طريقة تنفيذ هذه المقابر، إلا أنها تنتظم وفق مخطَّط معماري واحد، وجرى الدفن فيها وفق طقوس جنائزية متشابهة. تتألف المقبرة الواحدة من ردهة رئيسية مخصَّصة لدفن الملك، ومن غرفة أخرى أو أكثر لدفن الأتباع الذين رافقوا ملكهم طوعًا إلى مثواه الأخير. وسنقدِّم، فيما يلي، وصفًا لأهم هذه المدافن، وهو مدفن مزدوج مخصَّص للملك أبارجي وزوجته المدعوة شبعد.

    في الردهة المخصَّصة لمدفن الملك كانت الحجرة مثقوبة من الأعلى، وجثة المدفون الرئيسي مفقودة؛ وهذه واقعة تتكرَّر في بقية المدافن الملكية. وقد عُثِرَ قرب المكان المخصَّص لدفن الملك على قارب صغير من الفضة، وآخر من النحاس مع مجاذيفهما. وبما أن طول الواحد منهما لا يتجاوز المتر فإن وجودهما يخدم غاية رمزية، مثلهما في ذلك مثل الإناء الحجري الذي وُجِدَ على مقربة منهما، ويحتوي على أدوات نحاسية، بينها مثقب ومنشار وإزميل، وأيضًا منشار ذهبي وإزميل ذهبي. كما عُثِرَ على لوحة من الفضة ذات شكل شطرنجي، مقسمة إلى مربعات، في كلِّ مربع مناظر وأشكال منفَّذة بأسلوب الترصيع بالفضة واللازورد. ومن أوضح المَشاهد المصورة في هذه المربعات هناك زهرة ثُمانية الوريقات وشجرة بين حيوانين أهليين يشبَّان على قوائمهما الخلفية ويقضمان من أوراقها، وصراع بين ثور وأسد (الشكل 1).



    الشكل 1: بعض المَشاهد المصورة على لوحة المربعات من مقبرة الملك السومري أبارجي

    وكما سنرى بعد قليل فإن جميع هذه المَشاهد من الفن المصوَّر ذات صلة بعقيدة تموز–إنانا. أما في المكان المخصَّص لدفن الأتباع فقد عُثِرَ على 57 جثة ممددة قرب بعضها بعضًا، إضافة إلى ستة محاربين، بخُوَذِهم النحاسية ورماحهم. وخلف هؤلاء تقف عربتان بأربع عجلات، مع جثث حيوانات الجر من الثيران والسائقين وخدم العربات. كما رافقتْ الملك أيضًا تسعة نسوة بكامل زينتهن، من حلي ذهبية ومشابك شعر فضية وأكاليل من اللازورد والعقيق وغيرها. ويتضح من وجود الأدوات الموسيقية قرب هؤلاء النسوة أن هذه المجموعة كانت تؤلف جوقة الملك الموسيقية.

    بين الأدوات الموسيقية تلفت نظرنا، بشكل خاص، قيثارةٌ كبيرة، رُصِّعَ وجهُها الأمامي بعدد من المَشاهد، موزعة على أربعة حقول متوضعة فوق بعضها بعضًا. في الحقل العلوي الرئيسي نجد صورةً لرجل عارٍ متمنطق بحزام، ذي شعر أجعد ولحية مضفورة، وهو يقبض بكلتا ذراعيه على ثورين لهما رأس آدمي ولحية. وهذه هي إحدى التمثيلات الرئيسية للإله تموز من ذلك العصر، كما سنرى بعد قليل (الشكل 2). وفي الحقول الثلاثة الأخرى لدينا مَشاهد لحيوانات منتصبة على قوائمها في أوضاع شتى، بعضها يحمل في يديه جرار شراب وبعضها يعزف الموسيقى. ويوحي أسلوب تنفيذ رسوم هذه الحيوانات بأنها تمثِّل آدميين متنكِّرين بلباس حيوانات؛ الأمر الذي يستحضر إلى الذهن كرنفالات الربيع المرتبطة بأعياد تموز.



    الشكل 2: الحقل الأعلى من قيثارة جوقة الملك

    وبملاصقة مقبرة الملك أبارجي، تمَّ العثور على مقبرة أخرى مخصَّصة لزوجته الملكة شبعد. وقد وُجِدَتْ جثة الملكة في مكانها، في كامل زينتها الملكية الباهرة، إضافة إلى جثث أربعة حراس متمنطقين بخناجر، وتسعة نسوة، تبيَّن من زينتهن أنهن من الكاهنات. وكانت يد إحداهن ما تزال على أوتار آلة موسيقية حتى وقت الاكتشاف؛ الأمر الذي يدل على أنها بقيت تعزف حتى آخر لحظة من حياتها. وقد زُيِّنَتْ واجهةُ هذه الآلة الوترية أيضًا بعدد من المَشاهد المرصعة والمتوضِّعة بعضها فوق بعض. في الحقل الأول نجد نسرًا برأس أسد يقبض بمخالبه على عنزتين؛ وفي الحقل الثاني شجرةً يشبُّ عن يمينها ويسارها ثوران؛ وفي الثالث بطلاً في هيئة هي مزيج من إنسان وثور يقهر نمرين؛ وفي الرابع صراعًا بين أسد وثور. وجميع هذه المَشاهد تنتمي إلى دائرة الفن المصور لعقيدة تموز وإنانا.[3]

    ويعلق السير ليونارد دولي على هذه المقابر النفقية التي اكتشفها بقوله:[4]

    إن الملك السومري المتوفى كان يصطحب معه جميع أفراد بلاطه وحاشيته. فهؤلاء المدفونين مع الملك لم يكونوا من العبيد الذين أُجبِروا على الموت، بل من الأتباع ذوي المكانة في القصر. وقد جاؤوا بكامل لباسهم الرسمي إلى المقبرة لتأدية طقس طوعي من شأنه، في اعتقادهم، أن يعبُر بهم من عالم إلى عالم آخر، ومن خدمة إله على الأرض إلى خدمة نفس الإله في عالم ثانٍ. إن كلَّ الدلائل تشير إلى أن هؤلاء المتطوعين قد وصلوا أحياء إلى المقبرة. ومن الجائز أنهم قد تناولوا هناك شرابًا قاتلاً، وبعد مفارقتهم الحياة تمَّ ترتيب جثثهم في وضعيتها الأخيرة قبل إغلاق القبر.

    إن افتقادنا للوثائق الكتابية التي يمكن أن توضِّح الجوانب المختلفة لعقيدة الخلود السومرية لا يقلِّل من شأن هذه العقيدة ولا يشكِّك في وجودها. وما علينا، من أجل تعويض البيِّنة الكتابية، سوى الالتفات إلى أعمال الفن التشكيلي منذ عصر ما قبل الأسرات في سومر، لنجد أنها تخدم، في معظمها، عقيدة تموز–إنانا، في وجهيها الخصبوي والخلاصي. فالأشكال التي وجدناها مصوَّرةً على الأدوات الموسيقية من مقبرة الملك أبارجي وزوجته (والتي لم تخزَّن هناك لأغراض جمالية بل لأغراض طقسية) تتكرر، بشكل لافت للنظر، على الأختام الأسطوانية وغيرها من وسائل التعبير الفني، وتشير إلى وجود عقيدة دينية تحاول التعبير عن نفسها بشتى الوسائل التصويرية. فرغم أن الديانة السومرية لم تقمْ على معتقد أحادي هو معتقد تموز–إنانا، ورغم وجود آلهة أخرى تمسك بزمام المظاهر الرئيسية للكون، وعلى رأسها آنو السماء وإنليل الهواء وإنكي الماء، إلا أن الحقيقة الواضحة لدارس الأديان في هذه المنطقة هي وجود إلهة أكثر قِدَمًا من هؤلاء، لا تنتمي إلى القوى الكونية الكبرى، بل تجسِّد قوة الحياة الخالدة. وهذه الإلهة قد دخلت، عند أعتاب التاريخ، في علاقة مع تموز الذي يجدِّد، بدورة حياته الطقسية، قوة الحياة.[5] وقد بقي الاعتقاد بهذين الإلهين يؤجِّج الحياة الروحية السومرية لأكثر من ألف عام، ثم تحول بعد ذلك إلى عبادة سِرَّانية بتأثير اللاهوت الرسمي الأكادي السامي، المعادي للتموزية.

    إن استعراض حصيلة الإنجازات الفنية لمنطقة بلاد الرافدين يضعنا أمام نوعين من الآثار الفنية: الأول عبارة عن أعمال تنتمي مَشاهدها إلى فترة محددة، ويمكن تفسيرها استنادًا إلى الكتابات المنقوشة عليها، مثل مسلَّة العقبان للملك إيا ناتوم، ومسلَّة النصر للملك نارام سن؛ والثاني عبارة عن عدد ضخم من الأعمال الفنية، متنوع في الحجم وفي أساليب التنفيذ (نحت بارز، أختام، رسوم ملونة، أشكال مرصعة)، ولكنه يدور حول عدد محدود من الأفكار المصوَّرة التي تتكرر مَشاهدها عبر العصور، على مدى قرون متوالية، دون انقطاع ودون أن تكون مرتبطة بفترة معينة. ومما يلفت النظر في هذا النوع الثاني والأهم من الأعمال الفنية هو عدم وجود كلمة واحدة منقوشة عليها يمكن أن تساعد في الكشف عن معناها الحقيقي. ولكن ديمومة الأفكار المصوَّرة لهذه الأعمال، وقدرتها على الاستمرار، وقفزها فوق العصور التاريخية المتعاقبة، يدل على أننا بصدد أفكار هي فوق الزمن؛ وبالتالي فإنها تشكِّل أساسًا خالدًا للفكر المشرقي القديم.[6]

    والمثال النموذجي لفكرة مصوَّرة عاشت عِبْر جميع الحقب هو الشكل الذي يدعوه الدارسون المُحدَثون بـشجرة الحياة. والشكل عبارة عن شجيرة أو نبتة منفَّذة بأسلوب نمطي أو طبيعي؛ وعن يمينها ويسارها حيوانان أهليان مصوَّران إما في وضعية الوقوف على أربع، أو في وضعية القفز على القوائم الخلفية، يقضمان من أوراق الشجر. يبدأ ظهور هذه الفكرة في الأعمال التشكيلية منذ فجر التاريخ في سومر، ويستمر عبر جميع مراحل التاريخ الرافدي، وصولاً إلى نهايات العصر الآشوري الحديث. كما نلاحظ تكرار هذه الفكرة في الأعمال الفنية الآرامية والفينيقية (انظر أعلاه الشكل 1). ورغم التبدلات الخارجية التي طرأت على أسلوب التنفيذ، إلا أن الفكرة الجوهرية وراءها كانت واحدة.[7] فشجرة الحياة كانت تمثل الإلهة إنانا، المعبود الرئيسي لعصور ما قبل الأسرات في سومر.[8] وعندما دخل الإله تموز مسرح الحدث الأسطوري، مع التبدلات اللاهوتية التي رافقتْ ظهور حضارة المدينة ورسوخها، من الممكن أن تكون شجرة الحياة قد صارت رمزًا لتموز، مجدِّد قوى الحياة على المستوى الطبيعاني وواهب الخلود في عالم آخر. ولهذا السبب وُجِدَتْ مَشاهد شجرة الحياة محفورةً على الهدايا الجنائزية في مقابر أور الملكية.

    وإلى جانب فكرة شجرة الحياة، يتكرَّر عددٌ آخر من الأفكار ذات الصلة الداخلية بهذه الفكرة الأساسية، وهي: الراعي الملكي، والبطل قاهر الكواسر، وصراع الأسد والثور، ومجلس الشراب، وجوقة الحيوانات. وتشكِّل هذه الأفكار محور المَشاهد المصوَّرة على الهدايا الجنائزية في مقابر أور الملكية؛ الأمر الذي يدل على صلتها الوطيدة بمعتقد الخلود التموزي.

    في مَشاهد الراعي الملكي نجد تشابهًا في التكوين الفني مع مَشاهد شجرة الحياة. فهنا، عوضًا عن الشجرة، نجد في بؤرة المشهد رجلاً يرتدي مئزرًا شبكيًّا شفافًا، ويضع على رأسه عُصابة تحيط بشعر ذي تسريحة خاصة؛ وهو يمد بكلِّ يد غصنًا مورِقًا إلى شاتين تشبَّان على القوائم الخلفية لتقضما منه. وقد تظهر خلف الحيوانين المتناظرين حزمتان رفيعتان من القصب ملفوفتان في أعلاهما بشكل حلزوني وتتدلى منهما راية (انظر الشكل 3). وحزمة القصب هذه، على ما نعرفه بشكل مؤكد، هي رمز الإلهة إنانا. وقد بقي هذا الرمز، في صيغته نفسها، في الكتابة المسمارية للدلالة على الإلهة إنانا. وبما أن عُصابة الرأس وتسريحة الشعر الخاصة هنا هما علامتان مؤكدتان للملك في عصر فجر السلالات فإن المضمون هنا لا يدور حول مَشاهد يومية من حياة الرعاة، بل حول راعٍ ملكي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعالم النبات – خصوصًا أننا نسمع في الأناشيد السومرية عن راعٍ هو سيد بيت الرعاة وسيد قطعان الماشية. وهذا الراعي الملكي، الذي يرعى مواشي الأمِّ الكبرى ويعلفها، هو الإله–الإنسان دوموزي، النموذج الأولي لجميع آلهة النبات في الشرق القديم، الذي يمثِّل في شخصه حياة الطبيعة. إنه الشخص الثاني في دراما الخصب؛ ويشكِّل مع إنانا، الإلهة الأكثر عراقة منه في التاريخ الديني، مبدأ الحياة بشكل عام – فهما المجسِّدان الرئيسيان للعقيدة السومرية التي تتركز حول دورة الحياة والموت – كما يشكِّل المحور الذي تدور حوله الأعمال التشكيلية خلال الحقبة الحاسمة من فجر التاريخ السومري.[9]



    الشكل 3: الراعي الملكي ذو التنورة الشبكية

    هذا الراعي ذو التنورة الشبكية يظهر، في العديد من المَشاهد المتكررة الأخرى، وهو يدافع عن الحيوانات الأهلية ضد حيوان كاسر، هو الأسد في غالب الأحيان (انظر الشكلين 4 و5). وقد نجده في الوسط بين أسدين، ممسكًا بذيليهما، وكلٌّ منهما يقفز في اتجاه، أو في حالة صراع منفرد مع أسد وهو يطعنه برمح أو خنجر. ونلاحظ في الشكلين 5 و6 أن البطل هنا هو نفس البطل الذي رأيناه في مشهد الحقل الأعلى من قيثارة الملك أبارجي (انظر أعلاه الشكل 2). ورغم أنه يظهر هنا عاريًا، إلا من حزام في وسطه، فإن لدينا من الدلائل ما يشير إلى أننا نتعامل مع الشخصية نفسها، سواء في مَشاهد الراعي ذي التنورة الشبكية أم في مَشاهد البطل قاهر الكواسر، لأن الإلهة إنانا تظهر في بعض مَشاهد الصراع الكواسر مثلما ظهرت في مَشاهد الراعي الملكي. فعلى خاتم أسطواني محفوظ في متحف برلين نرى البطل العاري ذا الشعر الكثيف واللحية المضفورة يصرع أسدًا بفأس حربية، ومن ورائه الإلهة إنانا وهي تهبُّ لمساعدة حبيبها، فتمسك بذيل الأسد لتمكِّن الراعي من قتله. ومما يؤكد لنا شخصية الإلهة إنانا هنا هو السنابل أو الأغصان التي تنبعث من كتفيها. وهذا الختم لا يدع مجالاً للشك في تطابق الهوية بين الراعي وقاهر الكواسر، وفي أننا نتعامل مع وجهين للبطل الأسطوري نفسه: الإله–الإنسان تموز، عشيق الأمِّ الكبرى إنانا.

    أما مضمون مَشاهد صراع البطل مع الكواسر فإنه يدور حول صراع الحياة والموت: صراع تموز، الذي يمثل الحياة، مع الحيوان الكاسر، الذي يمثل الموت؛ وكذلك الأمر في مَشاهد صراع الأسد والثور. وبما أن هذه المَشاهد تُظهِر حالة توازن في الصراع بين الحيوانين فإن الفكرة القائمة وراءها هي حالة التوازن بين النقيضين اللذين يمثِّلان جوهر الوجود.[10]


    الشكل 4


    الشكل 5


    الشكل 6


    لقد تحدثنا في دراستنا عن "الطقس والأسطورة في الأناشيد التموزية"، في شيء من التفصيل، عن مشهد الزواج المقدس، الذي وجدناه على الأختام وعلى الألواح الحجرية المربعة ذات الثقب، ورأينا كيف عبَّرتْ هذه الأعمال الفنية عن فكرة الزواج المقدس من خلال مشهدين: مشهد قدوم دوموزي إلى بوابة إنانا، حاملاً معه مجموعة من هدايا الزواج؛ ومشهد مجلس الشراب. وما علينا الآن، لكي نستكمل دائرة الأفكار المصوِّرة لعقيدة الموت والخلود التموزية، إلا أن نعقد الصلة بين مَشاهد الزواج وبقية مَشاهد الأفكار الخالدة المصوَّرة.

    على فازة أوروك، التي تمثِّل مشهد قدوم تموز إلى بوابة إنانا حاملاً هداياه،[11] رأينا تموز في هيئة الراعي الملكي ذي التنورة الشبكية (وهي ذات الهيئة التي يبدو فيها على الأختام التي تمثِّله)، وهو يمد بكلِّ يد غصنًا مورِقًا إلى شاتين تشبَّان على القوائم الخلفية لتقضما الأوراق. وعلى عكس فازة أوروك، التي نال منها الحتُّ ولم يُبقِ لنا فيها من شكل تموز سوى طرف تنورته الشبكية، فإن بعض الأختام من مطلع عصر الأسرات تكرِّر المشهد ذاته. فعلى ختم أسطواني (محفوظ الآن بمدينة دريسدن بألمانيا) نجد تموز في هيئة الراعي الملكي، بشعره المجدول والمشدود إلى الخلف بواسطة عُصابة رأس وبتنورته الشبكية الكاملة، يخطو نحو بوابة إنانا، وبيديه الاثنتين يرفع حيوانًا أهليًّا صغيرًا، وأمامه على الأرض اصطفتْ أوانٍ وسلالٌ مليئة بالهدايا وبثمار الأرض. ورغم أن الإلهة هنا لا تظهر على البوابة في شخصها، إلا أن حضورها معبَّرٌ عنه بواسطة حزمتي القصب المعروفتين كشارة لها (انظر الشكل 7).



    الشكل 7: تموز على بوابة إنانا

    وفي الزمرة الثانية من مَشاهد الزواج المقدس، التي تتخذ من مشهد الشراب موضوعًا لها، لدينا من الدلائل أيضًا ما يجمع هذه المَشاهد إلى بقية المَشاهد المصوِّرة للأفكار الخالدة، حيث نجد مشهد الشراب الرئيسي في الأعلى، وقد أُلحِقَ به مشهدُ شجرة الحياة في أحد الأشرطة السفلى، أو مشهد صراع البطل العاري حامي القطعان مع الوحش المفترس الذي ينقضُّ على بقرة، على ما هو موضَّح في الشكلين 8 و9.




    الشكل 9: ختم يمثل مشهد الشراب في الأعلى وصراع البطل حامي القطعان مع الأسد في الأسفل[12]
    الشكل 8: ختم يمثل مشهد الشراب في الأعلى وشجرة الحياة في الأسفل


    لقد شغلت هذه الأفكار المصوَّرة كلَّ أعمال الفنِّ التشكيلي تقريبًا، منذ أفجر التاريخ حتى نهاية فترة حكم سلالة أور الأولى، أي خلال الحقبة التأسيسية للإبداعية السومرية، بحيث لا نعثر إلا على القليل من الإنجازات الفنية لا يخدم عقيدة إنانا–تموز. إلا أن توطيد أسُس السلطة الزمنية في المدن الكبرى، على حساب السلطة الروحية للمعبد والكهنوت، قد دفع تدريجيًّا بالثالوث الإلهي: آنو وإنليل وإيا إلى المقدمة، وأخذ اللاهوت الرسمي يتحول تدريجيًّا عن الأمِّ الكبرى، المجسِّدة لطاقة الحياة في الطبيعة، وعشيقها تموز، مجدِّد الحياة وقاهر الموت. وعندما انتقلت السلطةُ في وادي الرافدين الجنوبي إلى العناصر السامية كان الوضع الفكري مهيئًا تمامًا لتقبُّل الانقلاب الكبير الذي أحْدَثَه الأكاديون في الحياة الدينية للمنطقة.

    ومع ذلك فإن الطاقة الروحية الهائلة لعقيدة إنانا–تموز لم تفقد زخمها الأصلي، وإنما استمرت تعبِّر عن نفسها، في أشكال شتى، حتى نهايات تاريخ الشرق الأدنى القديم في أواخر الألف الأول ق م. فعلى النطاق الشعبي، استمرت عبادات الخصب قائمةً بعد أن تم إنزال آلهتها إلى المرتبة الثانية؛ وعلى النطاق الرسمي، عمد اللاهوتيون الساميون إلى إجراء تسوية بين معتقد الآلهة المتعالية الكلِّية القدرة وبين معتقد الألوهة الطبيعانية التي تمثِّل خصب الأرض ودورة الفصول، بأن جعلوا من الإله الأعلى مردوخ إلهًا يموت هو الآخر، ثم يُبعَثُ في عيد رأس السنة البابلية، الذي حلَّ رسميًّا محلَّ الأعياد التموزية. فبعد تلاوة أسطورة التكوين البابلية وتمثيلها دراميًّا، يخرج المنادي ليعلن أن مردوخ–بِلْ قد مات وأُلقِيَتْ جثتُه في الجبل. وينتهي هذا الجزء من السيناريو الطقسي ببعث مردوخ وصعوده من العالم الأسفل. ونحن نعرف، بكلِّ تأكيد، أن هذه الفقرة الطقسية من احتفالات رأس السنة البابلية لا تتمتع بِسَنَدٍ ميثولوجي، سواء في الإينوما إيليش (أسطورة التكوين البابلية) أم في غيرها من الأساطير البابلية؛ الأمر الذي يدل، بكلِّ وضوح، على أنها بقية من الطقس التموزي، تمَّ إدماجُها في طقوس مردوخ من أجل امتصاص المعتقدات والطقوس التموزية.

    ومما يدل على استمرار عقيدة إنانا–تموز فاعلةً في الوسط الفكري لإنسان المنطقة استمرارُ ظهور المَشاهد التي تنتمي إلى دائرة الأفكار المصوِّرة لهذه العقيدة في الفن الأكادي، ومن بعدُ البابلي فالآشوري، سواء على الأختام الأسطوانية أم على غيرها من وسائل التعبير الفني، ولكن على نطاق أضيق بكثير، ومع بعض التعديلات التي تنمُّ عن تراجع عقيدة إنانا–تموز إلى المرتبة الثانية. فلقد استمرتْ طقوسُ الخصب على النطاق الشعبي تحتفل بموت وقيامة تموز كإله لدورة الطبيعة. أما الوجه الآخر لهذه الطقوس والأفكار القائمة وراءه، أي معتقد الموت والخلود، فقد تحولت إلى عبادة سِرَّانية باطنية مقتصرة على من يمرُّ في طقوس المُسارَرة ويعبر إلى حلقة المريدين.[13]

    ونظرًا لقلة المعلومات، أو انعدامها، حول هذا الطور الباطني السِّراني لعبادة إنانا–تموز فإننا لا نستطيع متابعتها في أشكالها المشرقية، بل في أشكالها المعروفة في الثقافة الإغريقية، تحت اسم "عبادات الأسرار" Mystery Cults. فهذه العبادات الإغريقية الموثَّقة لنا تاريخيًّا قد وَرَدَتْ إلى بلاد اليونان من المشرق، كما يؤكد لنا أهلُها والذين أرَّخوا لها من القدماء. ومن هنا تأتي أهميتُها في إلقاء الضوء على أصولها المنسية في ثقافات المشرق القديم.

    وبما أننا قد حدَّدنا مجال بحثنا، في هذا المقام، بالميثولوجيا والمعتقدات المشرقية فإن عبادات الأسرار الإغريقية تقع خارجه، وقد يقودنا الخوضُ فيها خارج الدرب الذي نمشي عليه الآن. ولكني أقترح على القارئ المهتم بمتابعة الموضوع واحدًا من أهم المراجع الحديثة في عبادات الأسرار، وهو كتاب الأسرار، من تحرير جوزِف كامبل ومساهمة عدد من البحَّاثة المرموقين.[14]

    *** *** ***

    تنضيد: نبيل سلامة





    [1] إن ما أطرحه هنا من أفكار جديدة حول دورة حياة تموز يثير إشكاليات لا أريد في الوقت الحاضر الدخول في تفاصيلها.

    [2] أنطون مورتكات، تموز، بترجمة د. توفيق سليمان، دمشق 1985، ص 139-140.

    [3] من أجل التوسع في وصف المقابر النفقية، انظر المرجع السابق، وخصوصًا الصفحات 139-154، وانظر أيضًا ص 66، الشكل 5 واللوحة رقم 39.

    [4] Joseph Campbell, The Masks of God, Penguin, London, 1978, vol. I, pp. 409-410.

    [5] من أجل تاريخ مفهوم الإله تموز وصلته بالأم الكبرى القديمة، راجع مؤلَّفي لغز عشتار، فصل "تموز الخضر".

    [6] أنطون مورتكات، المرجع السابق، ص 59-60.

    [7] نفس المرجع، ص 63 وص 70.

    [8] للتوسع في موضوع شجرة الحياة، انظر مؤلَّفي لغز عشتار، فصل "عشتار الخضراء".

    [9] نفس المرجع، ص 97-105، واللوحة رقم 2/ب.

    [10] نفس المرجع ص 71-82، 108-110، والأشكال 12، ص 71، 24، ص 78، 21، ص 76.

    [11] راجع: "الطقس والأسطورة في الأناشيد التموزية"، الشكل 1، معابر.

    [12] من أجل الأشكال 7-9، انظر المرجع السابق، اللوحات 4 و19 و27.

    [13] من أجل معالجة أكثر شمولاً لهذه الفكرة، انظر أنطون مورتكات، المرجع نفسه، وخصوصًا الفصل الثالث.

    [14] Joseph Campbell, ed., The Mysteries, Princeton, New York, 1978.
    Reply With Quote  
     

  11. #11 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    مفهوم "المسيح"

    بين التوراة والإنجيل والقرآن



    فراس السوَّاح



    "المسيح" مفهوم ديني تتقاسمه ثلاثة أديان، هي الإسلام والمسيحية واليهودية. وهو، على الرغم من تفاوت أهميته ومركزيته بين هذه العقائد، ومن اختلاف مضامينه، فإن جوانب مشتركة تبقى واضحة للعيان بالنسبة لمؤرِّخ الأديان والباحث في العقائد المقارنة. وهذا ما سوف نحاول إيضاحه في هذا المقال الوجيز الذي لا يمكن له أن يفي الموضوعَ حقَّه أو يضيء جوانبَه كلَّها.

    ولسوف نبتدئ ببسط المفهوم التوراتي للمسيح، أولاً، ثم ننتقل إلى المفهوم الإنجيلي، فالقرآني، معتمدين اعتمادًا أساسيًّا على ما تقدِّمه لنا الكتبُ المقدسة الثلاثة، ومبتعدين، قدر المستطاع، عن مقولات اللاهوت والتفسير.

    "المسيح" (أو المشيح) كلمة آرامية–عبرية، مشتقة من الفعل الثلاثي مشح الذي يعني، كما في العربية، اللمس والتمسيد الرفيق بالكف. وبالمعنى الطقوسي التوراتي فإن المسيح هو الممسوح بزيت المعبد المقدس من أجل تبريكه وإسباغ طابع القداسة عليه. هذا الزيت يُحضَّر من زيت الزيتون النقي، ممزوجًا بأطياب معينة، وفق مقادير خاصة، ويدعى زيت المسحة، ولا يجوز استخدامُه في الأغراض الدنيوية. فالمسح الطقوسي، والحالة هذه، هو نوع من شعائر التَّعْدية والعبور rites de passage أو المُسارَرة Initiation، التي تنقل الشخص أو الشيء الممسوح بالزيت من مجال ما للناس إلى مجال ما لله.

    أول مسح طقوسي بالزيت يصادفنا في كتاب التوراة هو ما قام به يعقوب في سِفر التكوين (الإصحاح 35) عندما نَصَبَ عمودًا (مذبحًا) وسَكَبَ عليه زيتًا في الموضع الذي تراءى له الربُّ فيه، ودعا المكان "بيت إيل". وفي سفر الخروج (الإصحاح 30)، يبيِّن الربُّ لموسى كيفية تجهيز زيت المسحة، ويأمره أن يمسح به تابوت العهد وبقية الأدوات الطقسية، ويحرِّم عليه استخدامَه إلا للأغراض الشعائرية. بعد ذلك، في سفر الخروج (الإصحاح 40)، يأمره أن يمسح أخاه هرون وبنيه كهنةً على إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت صار مسح الكهنة طقسًا متَّبعًا حتى نهاية القصة التوراتية. ولدينا مثال واحد عن مسح الأنبياء، وهو ما وَرَدَ في سفر الملوك الأول 19: 16، عندما أمر الربُّ النبيَّ إيليا أن يمسح تلميذه أليشاع نبيًّا بعده قبل صعوده حيًّا إلى السماء. وعندما ابتدأ عصر الملوك في إسرائيل، صار طقس المسح بالزيت بمثابة تنصيب رسمي للشخص الذي اختاره الربُّ لحكم إسرائيل، وتكريسه للرسالة المنوطة به تجاه شعب يهوه.

    كان شاؤل أول من مُسِحَ ملكًا على إسرائيل بأمر من الرب، ودُعي بـ"مسيح الرب". وهنا نفهم من سفر صموئيل الأول، الذي نَقَلَ قصة اختيار شاؤل ومَسْحِه، كيف أن طقسَ المسح يُحوِّل الشخص الممسوح إلى شخص جديد يحلُّ عليه روحُ الرب، حيث نقرأ: «[...] فيكون من هناك، أنك تلقى زمرة من الأنبياء النازلين من المَشْرَف، [...] فينقضُّ عليك روحُ الرب، وتتنبأ أنت معهم وتصير رجلاً آخر. وإذا وَرَدَتْ عليك هذه الآيات، فاصنع ما تجده يدُك، لأن الربَّ معك.» (10: 5-7)

    وعندما غضب الربُّ على شاؤل لأنه لم ينفِّذ أمره كاملاً بقتل شعب العماليق عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساءً وأطفالاً، مع بقرهم وغنمهم وكلِّ مواشيهم، غادَرَه روحُ الرب وحلَّ به روحٌ رديء يسبِّب له نوباتٍ من الجنون. بعد ذلك أمَرَ الربُّ النبيَّ صموئيل أن يمسح الفتى داود ملكًا بدلاً عن شاؤل، الذي قضى نحبه بعد فترة قصيرة في معركة مع الفلسطينيين. وبعد أن غادر روحُ الربِّ شاؤل حلَّ على داود، الذي يصف علاقتَهُ بإلهه بالكلمات التالية: «هذه كلمات داود الأخيرة: وحيُ داودَ بنِ يُسِّي، وحيُ الرجل القائم في العُلا، مسيح إله يعقوب ومرنِّم مزامير إسرائيل: "روحُ الربِّ تكلَّم بي وكَلِمَتُه على لساني. قال إله إسرائيل: إلخ."» (صموئيل الثاني 23: 1–3). نلاحظ في هذا النص كيف يجمع مسيحُ الربِّ بين المُلك الدنيوي وبين النبوة والكهنوت: فهو يكلِّم الربَّ ويكلِّمه الربُّ، ولسانُه ينطق بوحي إلهه، وهو الوسيط بامتياز بين عالم الألوهة وعالم البشر.

    عندما شاخ داود واستلقى على سرير الاحتضار، أوصى بالمُلْك لابنه سليمان بمباركة من الرب، وأمر صادوق الكاهن وناثان النبي أن يمسحا سليمان ملكًا بعده. وهنا تستمر العلاقة المباشرة بين الربِّ ومسيحه؛ وهو يتراءى له في أحلامه ويكلِّمه دون وسيط. نقرأ في سفر الملوك الأول 3: 5-12: «وفي جبعون تراءى الربُّ لسليمان في الحلم ليلاً وقال: "اسأل ما تريد أن أعطيك." فقال سليمان: "[...] فهَبْ عبدَك قلبًا فهيمًا ليحكم شعبك ويميِّزَ بين الخير والشر [...]." فَحَسُنَ في عيني الربِّ أن يكون سليمان قد سأل هذا الأمر. فقال له: "[...] فهاءنذا قد فعلتُ بحسب كلامك. هاءنذا قد أعطيتك قلبًا حكيمًا فهيمًا، حتى إنه لم يكن قبلك مثلُك ولا يقوم بعدك مثلُك.»

    بعد وفاة سليمان، في القصة التوراتية، وزوال ما يُدعى بالمملكة الموحدة، التي انقسمت إلى مملكة السامرة ومملكة يهوذا، تحوَّل طقسُ المسح بالزيت إلى إجراء روتيني يقوم به كبيرُ الكهنة من أجل تنصيب الملك الجديد الذي انتقل إليه المنصبُ بالوراثة أو بالاغتصاب. وكانت مراسم التنصيب تجري في أجواء اعتيادية؛ وغالبًا ما لا يذكر النص الكتابي شيئًا عنها، بل يكتفي بالقول إن فلانًا قد مَلَكَ على أورشليم أو على السامرة، وأن مُلْكه قد دام كذا سنة. ولكن جميع ملوك السامرة، منذ يربعام بن ناباط، مؤسِّس مملكة إسرائيل، قد حادوا عن الدين القويم وعبدوا الآلهة الفلسطينية التقليدية؛ وكذلك فعل معظم ملوك يهوذا. وهذا ما خلق لدى أنبياء العهد القديم، الذين كانوا يعنِّفون ملوكهم بشدة على عدم إخلاصهم ليهوه، رجاءً في مَلِك مثالي قادم ومسيح حقيقي للرب. وشيئًا فشيئًا، أخذ مفهوم المسيحانية messianic المَلَكية بالتغير: فبدلاً من التغنِّي بفضائل الملك المسيح المعاصر، راحت مزامير العهد القديم تتطلَّع إلى الملك المسيح القادم، وتصف مجدَه وكفاحَه وانتصاراته. وقد تكرَّس هذه الاتجاه بعد زوال مملكة إسرائيل–السامرة في العام 721 ق م وتحوُّلها إلى ولاية آشورية، وزوال مملكة يهوذا في العام 578 ق م وتحوُّلها إلى ولاية بابلية، وانتهاء ما يُدعى بعصر الملوك. فمسيح الربِّ لم يعد مَلِكًا يحكم على شعب يهوه في الزمن الحاضر، بل تحوَّل إلى شخصية رؤيوية نبوية، سوف تظهر في المستقبل لتعيد العصر الذهبي لإسرائيل، وتجمع شتات المنفيين في الأقطار البعيدة وتُرجِعَهم إلى أورشليم، وتحاربَ أعداء شعب يهوه في كلِّ مكان، لتجعل أممَ الأرض قاطبة في النهاية عبيدًا لبني إسرائيل.

    وبما أن سلالة داود هي التي حكمت أورشليم حتى دمارها وسَبْي أهلها على يد البابليين، فإن المسيح القادم سيكون من نسل داود الذي وَعَدَه الربُّ بأن نسله سوف يحكم في أورشليم إلى الأبد، على ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها ما وَرَدَ في المزمور 89: «لا أنقض عهدي، ولا أغيِّر ما خرج من شفتي. مرة حلفت بقدسي أني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون، وكرسيه كالشمس أمامي.» فالمسيح القادم هو غصنٌ ينبت من شجرة نسب داود التي لم تنقطع، على ما نقرأ في سفر إرميا 23: 5-8: « [...] وأقيم لداود غُصنَ بِرٍّ، فيملك وينجحُ، ويُجري حقًّا وعدلاً في الأرض. في أيامه يُخلَّصُ يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنًا [...]: "حي هو الربُّ الذي أصْعَدَ وأتى بنسل بني إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طَردتُهم إليها، فيسكنون في أرضهم."» ونقرأ في سفر إشعيا أيضًا عن الغصن الذي ينبت من شجرة داود بن يُسِّي: «ويخرج قضيبٌ من جذع يُسِّي وينبت غصنٌ من أصوله، ويحلُّ عليه روحُ الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة.»

    وبتأثير الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة المشرقية عقب استيلاء قورش على بابل في العام 539 ق م ووراثة فارس للإمبراطورية البابلية، قامت الإيديولوجيا التوراتية بالمزاوجة بين فكرة المسيح القادم وفكرة المخلِّص الزرادشتي. فوفق التعاليم الأصلية لزرادشت، يظهر في آخر الأزمنة مخلِّص البشرية الذي يقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضي عليه. عند ذاك يقوم الله بتدمير العالم القديم الملوَّث بعناصر الشر، ثم يعمل على تجديده، ليغدو فردوسًا خالصًا يعيش فيه الأخيارُ الصالحون في زمن مفتوح على الأبدية. وفيما بعد، أدخلتْ التطويراتُ اللاهوتية اللاحقة تنويعاتٍ جديدةً على فكرة المخلِّص الزرادشتي. فهذا المخلِّص المدعو ساوشنياط سوف يأتي من نسل زرادشت نفسه، عندما تحمل به عذراءٌ تنزل للاستحمام في بحيرة كاناسافا، حيث تتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة في البحيرة إلى اليوم الموعود.

    لقد أثَّرتْ فكرة نهاية الزمن هذه بقوة على فكرة ملكوت الربِّ القادم على الأرض في التوراة، ولكن بعد تحويرها بما يتلاءم مع الإيديولوجيا التوراتية الشوفينية. فإذا كان التاريخ في المفهوم الزرادشتي يسير نحو استئصال الشرِّ في العالم واستعادته نقيًّا طاهرًا، كما كان في لحظة الخلق الأول، ليعيش فيه الصالحون، فإن التاريخ في المفهوم التوراتي يسير نحو سيادة الإله يهوه الكاملة على الأرض، بعد أن يرسل مسيحَه قُدَّامه، ليمهِّد له الطريق ويكسرَ شوكة أعداء إسرائيل ويعيدَ أمجاد أورشليم الضائعة. أما مراحل التاريخ السابقة فلا يوجِّهها صراعٌ بين الخير والشر، كما هي الحال في المذهب الزرادشتي، بل صراعُ يهوه ضد الآلهة الأخرى، ومحاولتُه تنصيب نفسه معبودًا أوحدَ لدى الشعب الذي اختاره، ثم قيادة هذا الشعب في حرب ضروس ضد بقية الأمم والشعوب، لإخضاعها وتحويلها إلى خدم وعبيد لدى بني إسرائيل. عند ذاك ينتهي التاريخ، ويحلُّ ملكوت الربِّ على الأرض: ملكوت يديره يهوه بنفسه.

    يبتدئ ملكوت الربِّ بما تدعوه أسفار الأنبياء بـ"يوم الرب". في ذلك اليوم يرسل يهوه، ربُّ القوات، على الأرض عددًا من الكوارث الطبيعية تمهِّد لهجومه الكاسح على الأمم: فالسماوات «تُطوى كسِفْرٍ وتذوي قواتُها كافة» (إشعيا 34: 4)؛ والشمس تنقلب ظلامًا والقمر دمًا (يوئيل 3: 4)؛ وأرض أدوم تكون «زفتًا مشتعلاً، لا تنطفئ ليلاً ولا نهارًا، ودخانها يصعد مدى الدهر» (إشعيا 34: 9-10)؛ يعمُّ الظلام والسحاب والضباب، فيمشي الناس كالعُمْي، وبنار غيرة يهوه تُلتهَم الأرض، لأنه يصنع فناءً مباغتًا لسكانها (صفنيا 1: 14-18)؛ «فتُطرَح قتلاهم وينبعث النتن من جيفهم وتسيل الجبال من دمائهم» (إشعيا 34: 3). ثم يتدخل يهوه بشخصه لإفناء الأمم: فهو يستيقظ مثل جبار تَعْتَعَه السُّكْرُ ويضرب أعداءه في أدبارهم (مزمور 78: 65-66)، ويجمع إليه الجيوش ويستعرض قواته (إشعيا 13: 3-4)، ويبدأ هجومه بصرخة الحرب المُرَّة (صفنيا 1: 14).

    بعد هذه الأحداث الجِّسام تدخل الأرض في حالة فردوسية مهيأة لسعادة بني إسرائيل الذين يتسلَّطون على من بقي حيًّا من الأمم الأخرى. نقرأ في سفر إشعيا 11 و14: «وفي ذلك اليوم يعود الربُّ فيمد يده ثانية ليفتدي بقية شعبه [...]. يجمع المنفيين من إسرائيل ويضم المشتَّتين من يهوذا من أربعة أطراف الأرض» (11: 11-12)، «[...] فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى بيت يعقوب [...]. ويمتلكهم بيتُ إسرائيل في أرض الربِّ عبيدًا وإماءً، ويسبون الذين سَبَوْهم ويتسلَّطون على ظالميهم» (14: 1-2).

    نعود إلى مسيح آخر الأزمنة لنضيء أهمَّ معالم شخصيته: فهو يولد كطفل خارق، تجتمع فيه صفاتُ الآلهة والبشر معًا. نقرأ في سفر إشعيا 9: 2-6: «الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور [...]. لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفيه، ويُدعى اسمُه عجيبًا، مشيرًا إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا، رئيسَ السلام. لنموِّ رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، من الآن إلى الأبد.» وهنالك إشارة واحدة في الكتاب إلى ولادة هذا الطفل من عذراء. نقرأ في سفر إشعيا 7: 14: «ويعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل.» والاسم عمانوئيل في العبرية يعني "الرب معنا". وهو يُدعى ربًّا وسيدًا، ويجلس عن يمين يهوه في آخر الأزمنة. نقرأ في المزمور 110 على لسان داود، فيما يُفهَم منه إشارة إلى مسيح آخر الأزمنة، الذي سيظهر ليدين الأمم ويحاكمها وينتقم لشعبه: «قال الرب لسيِّدي: "اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك." [...] يَدين الأمم، ويملأها جُثثًا ويحطم الرؤوس في الأرض الواسعة.»

    هذه الصلة الحميمة بين الربِّ ومسيحه يُعبَّر عنها مجازًا بصلة الأبوة والبنوة. نقرأ في المزمور 2: «أعلن حكم الربِّ. "قال لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتُك. سلْني فأعطيك الأمم ميراثًا، وأقاصي الأرض ملكًا. بعصا من حديد تكسِّرهم، وكإناء خزَّاف تحطِّمهم."» إن ما نفهمه من قول الربِّ لمسيحه في هذا المزمور «أنا اليوم ولدتك» هو أن علاقة الأبوة والبنوة بين الطرفين ليست علاقة قديمة، بل حادثة، وأنها قد تأسَّستْ بعد مسحه واختياره، دون أية صلة ميتافيزيائية، أي من نوع يجعل مسيح الربِّ مشاركًا له في الطبيعة أو القِدَم.

    ومن الجدير ذكرُه هنا أن صلة الأبوة والنبوة هذه ليست وقفًا على مسيح آخر الأزمنة. فلقد دعا الكتاب قبل ذلك ملوك إسرائيل الأوائل بـ"أبناء الرب". نقرأ على لسان يهوه في المزمور 89: «وجَدْتُ داود عبدي، ومسحتُه بزيت قداستي. [...] يدعوني قائلاً: "أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي." وأنا أجعله بكرًا، فوق ملوك الأرض عَلِيًّا.» وفي سفر صموئيل الثاني 7: 13-14، يقول يهوه بخصوص أبوَّته للملك سليمان: «هو يبني لي بيتًا لاسمي، وأنا أثبِّت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا.» هذه الأبوة المجازية هي نوع من التبنِّي لشخصية مميَّزة، حلَّ عليها روحُ الرب، وتكلَّم من خلالها وكلَّمتْه، وجعلها وسيطًا بينه وبين شعبه. فإذا كان شعبُ إسرائيل جملةً ابنًا ليهوه (على ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها الخروج 4: 22: «إسرائيل ابني البكر»، وهوشع 11: 1: «لما كان إسرائيل غلامًا أحببتُه، ومن مصر دعوتُ ابني»)، فإن ذلك المختارَ من إسرائيل هو الأجدر بهذا اللقب، وبنوَّته للربِّ إنما تعكس نوع العلاقة التي أسَّسها يهوه مع شعبه منذ البداية.

    على أن نوعًا من الحقيقة المسيحانية، القائمة في عالم المُثُل قبل تجسُّدها الواقعي في عالم الظواهر، يمكن عزوُها إلى مسيح آخر الأزمنة، من خلال مفهوم "ابن الإنسان" الذي نصادفه في سفر دانيال 7: 9-14. ففي مقطع شديد السرَّانية والغموض من رؤيا دانيال نواجه شخصية ضبابية يدعوها النص بـ"ابن الإنسان"، تُدعى للمثول في حضرة الربِّ، الذي يلقِّبه النص هنا بـ"قديم الأيام"، فيعطيه سلطانًا أبديًّا على الأرض: «وبينما كنت أنظر إذ نُصِبَتْ عروش، فجلس قديم الأيام، وكان لباسُه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي [...]. وكنت أنظر في رؤياي ليلاً، فإذا بمثل ابن إنسان آتٍ على غمام السماء، فبلغ إلى قديم الأيام، وقُرِّب إلى أمامه. فأُوتِيَ سلطانًا ومجدًا ومُلكًا. فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه، وسلطانُه سلطانٌ أبدي لا يزول، وملكوته لا ينقرض.»

    هذه هي الإشارة الوحيدة إلى "ابن الإنسان" في الأسفار التوراتية القانونية. إلا أن هذه الشخصية قد بقيت موضع تأمل لاهوتي في الأسفار غير القانونية التي كُتِبَ معظمُها فيما بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، والتي جرى استبعادُها من التوراة العبرية في نصِّها النهائي الذي اعتمده مجمع يمنيا حوالى سنة 90 م. ولعل المقطع التالي، الذي أنقله عن سفر أخنوخ الأول، يعطي صورة عن التأملات اللاهوتية المتأخرة بخصوص "ابن الإنسان" المحجوب. فأخنوخ، الذي صعد إلى السماء في رؤى الليل وقادتْه الملائكةُ في جولة كشفتْ له فيها أسرارَها، يصف لنا مواجهته مع ابن الإنسان بالكلمات التالية: «هناك رأيت الذي رأسُه مبدأُ الأيام. كان رأسُه مشتعلاً بياضًا مثل الصوف، ومعه كائنٌ آخر له مظهر الإنسان، ووجهُه ممتلئٌ نعمةً كملاكٍ قدوس. فسألت الملاك أن يكشف لي سرَّ ابن الإنسان: مَن هو، ومن أين أتى، ولماذا يرافق مبدأ الأيام. فقال لي: "هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير، الذي به يحيا الخير، وتنكشف الكنوز الخبيئة، لأن ربَّ الأرواح قد اختاره. قَدَرُه خيرٌ كلُّه أمام ربِّ الأرواح إلى الأبد. إن ابن الإنسان الذي رأيت سيخلع الملوكَ والجبابرةَ والأقوياءَ عن عروشهم لأنهم لم يُسبِّحوا بحمده، ولم يمجِّدوه، ولم يعترفوا بمصدرِ مُلْكِهِم وسلطانهم. سوف يخلع قلوب الأقوياء، ويكسر أسنان الخطأة، ويخفض وجوه العُتاة، فيمرِّغها بالعار، ليجعل الظلمةَ مسكنَهم والديدانَ سريرَهُم، هناك يضطجعون ولا يقومون."»[1]

    ***

    لقد جاءت هذه التأملات في فترة شهدت ازدهار الأفكار المسيحانية المهدية، حيث راح الناسُ يترقبون ظهور المخلِّص، وفي هوس جمعي يرصدون علامات اليوم الأخير، خصوصًا في فلسطين التي تغذَّتْ أكثر من غيرها بفكرة "المسيح المنتظَر"، وذلك بتأثير الأفكار الزرادشتية، من جهة، والأفكار التوراتية، من جهة أخرى، على الرغم من أن أهلها لم يكونوا يهودًا في معظمهم. في هذا المناخ النفسي والفكري جاءت ولادةُ يسوع وحياتُه القصيرةُ العاصفة بين العام 6 ق م وحوالى العام 30 بعد الميلاد.



    "يسوع ابن الإنسان"، رسم غير مؤرَّخ لجبران خليل جبران

    (متحف تلفير للفن، سافانا)

    من المهم، فيما يتعلَّق بفهمنا لسيرة يسوع وتعاليمه، أن نميِّز في النصِّ الإنجيلي بين ما قاله يسوع نفسُه وما قاله الآخرون عنه. فمؤلِّف إنجيل لوقا يروي لنا في قصة الميلاد أن الله قد أرسل الملاك جبرائيل ليبشِّر السيدة مريم بمولد يسوع. فلما رأتْه مريم خافت واضطربت، فقال لها جبرائيل: «"لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن العليِّ يُدعى، ويعطيه الربُّ الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولا يكون لمُلْكه نهاية." فقالت مريم للملاك: "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟" فأجابها الملاك وقال لها: "الروح القدس يحلُّ عليك وقوة العليِّ تُظِلُّك. فلذلك، القدوسُ المولودُ منك يُدعى ابن الله."» (لوقا 1: 26-35) في هذا المقطع عددٌ من الألقاب المعزوَّة إلى يسوع، التي تتطابق مع ما وَرَدَ في نبوءات العهد القديم عن المخلِّص القادم: فهو "ابن داود"، وهو "ملك إسرائيل"، وهو "ابن الله"، وهو المسيح الذي يحكم إلى آخر الدهر.

    ولكن يسوع قد تفادى، إبان فترة دعوته، الإشارةَ إلى نفسه بأيٍّ من هذه الألقاب، بينما أطلقها عليه الآخرون، على الرغم من ممانعته الواضحة لها وتهرُّبه منها. فعندما رأى الناس معجزاتِه تداعوا إلى تنصيبه ملكًا، ولكنه توارى عن الأنظار وانصرف إلى الجبل وحده (يوحنا 6: 15). وعندما قال له أحد تلامذته، وهو نثنائيل: «رابِّي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل»، لم يجبْه بما يوحي بقبوله للَّقب، وإنما صرف أذهان تلامذته إلى اللقب الذي كان يفضِّله – وهو "ابن الإنسان" – حين أجاب: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان.» (يوحنا 1: 49-51) وعند شفائه للممسوسين كانت الشياطين تخرج منهم وهي تصرخ وتقول: «"أنت المسيح ابن الله!"، فكان ينتهرها ولا يدعها تتكلَّم» (لوقا 4: 41). وعندما قال له بطرس: «أنت المسيح ابن الله الحي»، أوصى تلامذته ألا يخبروا أحدًا بأنه المسيح، ثم راح يحدثهم عن ابن الإنسان وعن مهمته في هذا العالم وعن قدومه الثاني في آخر الزمان، قائلاً: «فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذٍ يجازي كلَّ واحد حسب عمله.» (متى 16: 13-28) وفي رواية لوقا للحادثة نفسها نجد يسوع أكثر حدة فيما يتعلق بتفاديه لقبَ المسيح وتحويل أنظار تلامذته إلى مفهوم "ابن الإنسان": «فقال لهم: "وأنتم مَن تقولون إني أنا؟" فأجاب بطرس وقال له: "مسيح الله." فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه»، وابتدأ يعلِّمهم أن «ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيرًا، ويُرفَض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتَل، وبعد ثلاثة أيام يقوم.» (لوقا 9: 20-22)

    وفيما يتعلق بلقب "ابن داود"، فقد أعلن يسوع صراحة أن المسيح ليس من سلالة داود عندما قال لجماعة من الصادوقيين: «كيف يقولون إن المسيح هو ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: "قال الرب لربِّي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك"؟ فإذا كان داود يدعوه ربًّا فكيف يكون ابنه؟» (لوقا 20: 41-44)

    لقد كان تفادي يسوع لهذه الألقاب نابعًا من تداعياتها السياسية لدى أهل مقاطعة اليهودية والجماعات اليهودية القليلة الموزعة في فلسطين. وبدلاً منها فقد فضَّل يسوع أن يطلق على نفسه لقب "ابن الإنسان"، الذي يحمل مضامين لاهوتية لا صلة لها بالهموم السياسية والنزعات القومية. وقد أعلن في أول تبشير علني له عن فحوى رسالته، عندما دخل المجمع في مدينة الناصرة. نقرأ في إنجيل لوقا 4: 18: «وجاء إلى الناصرة حيث نشأ، ودخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ. فدُفِعَ إليه سِفْرُ إشعيا النبي. ولما فتح السِّفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه: "روح الربِّ عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر المساكين، وأرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمْي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرُز بسَنَة الربِّ المقبولة." ثم طوى السفر وسلَّمه للخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم: "اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم."»

    كما أوضح يسوع لتلامذته تدريجيًّا مفهومَه الخاص عن ملكوت الله، وميَّزه بحدَّة عن ملكوت يهوه الذي كان اليهود يتطلَّعون إليه. فملكوت يسوع هو ملكوت روحاني، يشمل الأمم والشعوب قاطبة، ورابطةٌ تجمع المؤمنين بعضهم إلى بعض وإلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدتْ فيما بينهم. إنه عصر تتم فيه معرفةُ الآب، أبي البشر أجمعين الذي لم يعرفه اليهود قط. قال يسوع لليهود: «"أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني." فقالوا له: "أين هو أبوك؟" أجاب يسوع: "لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا."» (يوحنا 8: 18-19) وقال لهم أيضًا: «"أنا أتكلَّم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون بما سمعتم عند أبيكم [...]." فقالوا له: "[...] لنا أب واحد وهو الله." فقال لهم يسوع: "[...] أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا [...]. الذي من الله يسمع كلام الله. لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من الله."» (يوحنا 8: 38-47)

    مع ظهور يسوع الذي افتتح ملكوت السماوات يَعقِد الله صلحًا مع البشرية ويمدُّ لها يد الخلاص من الخطيئة الأولى ومن الموت ومن سلطان إبليس، أمير الظلام، الذي كان سيد هذا العالم قبل البشارة، ويعقد معها عهدًا جديدًا هو عهد الله مع الإنسانية، يحلُّ محلَّ العهد القديم الذي كان عهد يهوه مع بني إسرائيل. فالملكوت حاضر، هنا والآن، بعد ظهور المخلِّص وموته الطوعي فداءً عن البشرية الخاطئة؛ ولسوف يستمر بعد ذلك ردحًا من الزمن يكفي لتنقية العالم من عناصر الشر، وحرمان الشيطان مما تبقى له من سلطة. عند ذاك سيعود ابن الإنسان، في قدومه الثاني، على غمام المجد في اليوم الأخير الذي يشهد دمار العالم القديم، فيجلس على عرش مجده ليميز الأشرار من الصالحين، فيفتح بوابة النعيم لأهل اليمين ويفتح بوابة الجحيم لأهل اليسار. نقرأ في متى 24: 29-30: «بعد ضيق تلك الأيام، تُظلِم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه، والنجوم تتساقط من السماوات، وقوات السماوات تتزعزع. حينئذٍ تظهر علامةُ ابن الإنسان في السماء [...]. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الرياح الأربعة [...].» وفي متى 25: 31-34: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميعُ الملائكة القديسين معه، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بينهم كما يميز الراعي الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: "تعالوا، يا مباركي أبي، لترثوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم [...]." ثم يقول للذين عن اليسار: "اذهبوا عني، يا ملاعين، إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته [...]."»

    ويسوع، بإعلانه لإنجيل الملكوت، قد افتتح نظامًا دينيًّا جديدًا. فالشريعة التوراتية تنتهي ويبطل مفعولُها مع البشارة الجديدة، وسلسلة أنبياء العهد القديم تتوقف عند يوحنا المعمدان. ففي قول يسوع المشهور: «أريد رحمة لا ذبيحة» (متى 9: 13) تقويضٌ لمؤسَّسة القربان التوراتي، وإعلانٌ لبطلان الطقوس التوراتية، وتأسيسٌ لطقوس تقوم على القلب، لا على الدم. لقد حمل اليهود نير الشريعة بسبب غلاظة قلوبهم؛ أما المؤمنون الجدد فيحملون نير المسيح، وهو هيِّن وخفيف، على ما يقوله يسوع في إنجيل متى 11: 28-30: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني [...]، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف.» وهو يصف شريعة العهد الجديد بالخمرة الجديدة التي لا يجوز أن تُصَبَّ في جرار قديمة هي شريعة العهد القديم، لئلا تفسد الخمر وتتشقق الجرار (متى 9: 17). هذه الشريعة الجديدة قوامها المحبة. قال يسوع في جوابه لفريسي سأله عن الوصية العظمى في الناموس: «"تحبُ الربَّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ فكرك." هذه الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلُها: "تحب قريبك كحبِّك لنفسك."» (متى 22: 35). وقال أيضًا: «وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا.» (يوحنا 13: 34)

    هذا الرَّجَحان للأخلاق على الطقوس يتجلَّى، في أوضح صوره، في هزئه من طقوس الطهارة الشكلية التي تشكِّل لباب الشريعة القديمة. فعندما ثار الفريسيون لأنهم رأوا تلاميذ يسوع يأكلون بأيدٍ غير نظيفة قال لهم: «ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن ينجِّسه. لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الإنسان [...]. لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة [...].» (مرقس 7: 15-23)

    ومع هذه الشريعة الجديدة، يتجاوز يسوع موسى، ولا يبقى للهيكل اليهودي ما يسوِّغ استمرارَه. وهذا ما أعلنه صراحة عندما سألتْه المرأة السامرية، وقد اعتقدت أنه نبي يهودي: «"آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضعَ الذي يجب أن يُسجَدَ فيه." فقال لها يسوع: "يا امرأة، صدِّقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم."» ثم أوضح لها أن الخلاص لا يتم قبل التخلُّص من اليهود، عندما أردف قائلاً: «لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعةٌ – وهي حاضرة الآن – حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق [...].» (يوحنا 4: 19-23)

    في مشهد المحاكمة التي قادت إلى موت يسوع، أعلن يسوع عن نفسه كملك ومسيح وابن لله. فهو الملك، ولكن مملكته ليست أرضية، بل روحانية، على ما وَرَدَ في إنجيل يوحنا، عندما سأله الوالي الروماني بيلاطس: «هل أنت ملك اليهود؟»، فأجابه يسوع: «"مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدَّامي يجاهدون لكي لا أُسْلَمَ إلى اليهود." فقال له بيلاطس: "أفأنت إذن ملك؟" أجاب يسوع: "أنت تقول إني ملك. لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق."» (يوحنا 18: 33-37)

    وهو المسيح، ولكنه ليس المسيح اليهودي، بل "ابن الإنسان" الذي افتتح ملكوت الخلاص والغفران، الذي سيظهر مرة أخرى في نهاية الأزمان، لا لتخليص شعب إسرائيل، بل للفصل النهائي بين الخير والشر. ففي إنجيل متى سأله رئيس الكهنة: «"أستحلفك بالله الحي لتقولنَّ لنا هل أنت المسيح ابن الله؟" فقال له يسوع: "هو ما تقول. وأنا أقول لكم: سترون بعد اليوم ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير وآتيًا على غمام السماء."» (26: 63-64) نلاحظ في هذا المقطع من إنجيل متى كيف أكد يسوع، لآخر مرة، على الصلة الوثيقة بين لقب المسيح "ابن الله" ولقب "ابن الإنسان" بمعانيه التي أفصح عنها سِفْرُ دانيال وعددٌ من الأسفار التوراتية غير القانونية. فالمسيح ليس "ابنًا لله" بالمعنى التوالدي للكلمة، وليس من طبيعته ذاتها، ولا معادلاً له في القِدَم، بل هو تجسيد في الزمن والتاريخ لحقيقة سالفة ونموذج قائم في عالم المُثُل. لقد كان عند الله كفكرة تنتظر التحقق. وعندما حملت العذراء بيسوع من غير أب بشري، تجسَّدت الفكرةُ في إنسان هو "ابنٌ لله"، مثل سائر البشر، ولكنه ابنٌ مميز لأنه لم يولد من روح إنسانية، بل من روح الله مباشرة، على حدِّ قول الآية الكريمة: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفحنا فيه من روحنا» (التحريم 12). وعلى حدِّ تعبير إنجيل متى 1: 18: «لما كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وُجِدَتْ حُبلى من الروح القدس.»

    ولكي أقرِّب مفهومَ "ابن الله" كما استخدمتْه الأناجيل إلى الذهنية الإسلامية، فإني ألجأ إلى مقارنة مفهوم ابن الإنسان بمفهوم "الحقيقة المحمدية" في الفكر الصوفي الإسلامي، ومرادفه الآخر: "الإنسان الكامل". فالنبي محمد (ص) هو تحقُّق في الزمن والتاريخ لحقيقة سابقة على وجود الإنسانية، وتجسيد في التاريخ لشخصية تقع في مركز الوسط بين عالم المثال وعالم الواقع. مثل هذه الأفكار يجد سندًا قويًّا له في عدد من الأحاديث التي يشير النبي فيها بوضوح إلى أن وجوده التاريخي لم يكن إلا بَلْوَرَةً لفكرة قديمة؛ ومنها قوله لأحد الصحابة: «أولُ ما خَلَقَ الله نور نبيِّك يا جابر»، وقولُه أيضًا: «كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين.» والحديث الثاني يذكِّرنا بقول يسوع: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.» (يوحنا 8: 58). وهذا ما يقودنا إلى مفهوم المسيح في القرآن الكريم.

    ***

    يُدعى يسوع في القرآن الكريم بالاسم عيسى. والكلمة، على ما نرجِّح، قد جاءت من الاسم التوراتي يِشو–وا، المختصرة عن يهو–شوا، وتعني "خلاص الرب". وقد جرى لفظ الاسم بالآرامية، التي كانت لغة فلسطين، بصيغة يشوع، التي تحوَّلت في الأناجيل اليونانية إلى إيسوس Iisous أو إيسو، بحذف حرف السين الذي يلحق أسماء العَلَم الإغريقية. ومنها جاء الاسم "عيسى" في العربية والاسم Jesus في اللغات الأوروبية، الذي يضاف إليه عادة لقبُ المسيح Christ، فيقولون: Jesus Christ، أي "يسوع المسيح". وكلمة Christ في اللغات الأوروبية مأخوذة من الكلمة اليونانية Χριστος، خريستوس؛ وهي التي استخدمتْها الترجمة اليونانية للتوراة، المعروفة باسم "الترجمة السبعينية" Septuagint، كمقابل للكلمة العبرية مشيح.

    يتصل لقبُ المسيح بعيسى عليه السلام في آيات الكتاب الكريم. فقد وَرَدَ الاسم عيسى مقرونًا بالمسيح إحدى عشرة مرة، وذلك كقوله تعالى: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه» (النساء 171). كما وردت الإشارة إلى عيسى باسمه المجرَّد، كقوله تعالى: «يا عيسى إني متوفِّيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا» (آل عمران 55)، أو مضافًا إلى "ابن مريم"، كقوله تعالى: «وآتينا عيسى ابن مريم البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253). أو بـ"ابن مريم" فقط، كقوله: «ولما ضُرِبَ ابنُ مريم مثلاً إذا قومُك منه يصدُّون» (الزخرف 57). وقد ناب لقبُ "المسيح" مرة واحدة عن الاسم، وذلك في الآية 172 من سورة النساء: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون».

    لا تفيدنا آياتُ الكتاب في معرفة معنى كلمة "المسيح". وبما أننا لا نجد في العربية جذرًا للكلمة سوى الفعل الثلاثي مسح الذي يفيد، كما في الآرامية والعبرية، معنى اللمس والتمسيد الرفيق بالكف، فقد ذَهَبَ معظم المفسِّرين إلى القول بأن لقب المسيح قد جاء من قيام عيسى بشفاء المرضى بلمسة يده. ولكننا نرجِّح أن يكون اللقب القرآني ذا صلة بالمعنى التوراتي والإنجيلي. فإذا كان المَسْحُ بالزيت دلالةً رمزيةً على مباركة الله للملك أو الكاهن أو النبي، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية الكريمة التي يقول عيسى فيها: «إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا وجعلني مبارَكًا» (مريم 30-31). وإذا كان المسْح بالزيت دلالة رمزية على اختيار الله للممسوح، وتفضيله واصطفائه على الناس طُرا، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية الكريمة: «إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين» (آل عمران 33). وإذا كان المسح أيضًا يدل على حلول روح الربِّ على الممسوح ووقوفه إلى جانبه عبر مراحل حياته، فإن هذا المعنى متضمَّن في قوله: «وآتينا عيسى البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253). وأيضًا: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكرْ نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيَّدتُك بروح القدس» (المائدة 110).

    وكما كان ليسوع المسيح في الرواية الإنجيلية ظهوران: ظهور في التاريخ، وظهورٌ ثانٍ في آخر الأزمان، يُفتتَح معه اليومُ الآخر ونهايةُ التاريخ، كذلك هو الأمر بالنسبة لعيسى في الرواية القرآنية. فقد ظهر عيسى أولاً كرسول ونبي، ثم نجَّاه ربُّه من الصلب وأجاز عنه كأسَ الموت، فرَفَعَه إليه في انتظار اليوم الأخير الذي يُفتتَح بعودة عيسى كعلامة أساسية من علامات الساعة. نقرأ في سورة النساء 156-158: «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم [...] وما قتلوه يقينًا بل رَفَعَه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا». ونقرأ في سورة الزخرف 57-61: «ولما ضُرِبَ ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدُّون وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصِمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل. [...] وإنه لَعِلْمٌ للساعة فلا تمترُنَّ بها واتبعونِ هذا صراط مستقيم».

    هذه الإشارات الموجزة عن دور عيسى في آخر الزمن لا تقترن في الكتاب بمزيد من التفاصيل. ولكن الحديث الشريف قد توسَّع وأفاض في مسألة القدوم الثاني لعيسى؛ ومنه نورد نتفًا هي غيض من فيض. فقد روى مسلم: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشرَ آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابَّة التي تكلِّم الناس، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى عليه السلام، إلخ.» وعلى ما نفهم من عدد آخر من الأحاديث فإن القدوم الثاني للمسيح عيسى ابن مريم يسبقه ظهور "المسيح الدجال" الذي يأتي من بلاد المشرق، فيدَّعي الصلاح، ثم يدَّعي النبوة، ويقول إنه المسيح، ثم يدَّعي الألوهية، ويُجري معجزات عظيمة، منها إحياء الموتى وإسقاط المطر بإشارته، فيتبعه المنافقون والمرتابون، وينجو من حيله المؤمنون. بعد ذلك يبعث الله عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق، واضعًا كفَّيه على أجنحة ملاكين. إذا طأطأ رأسه قطر وإن لم يصبه بلل، وإذا رفعه تحدَّر منه لؤلؤ كالجمان، فينفخ على الكفار فيبيدهم. ونفختُه النارية هذه تصل أينما تلفَّت إلى حيث ينتهي بصره. بعد ذلك يحكم عيسى البشر بالعدل والقسطاس، وتدخل الأرض في حالة فردوسية ردحًا من الزمن ينتفي فيه الشر من الوجود، فتضع الحرب أوزارها، وتتحول السيوف إلى مناجل، وتتلاشى العلل والأمراض، ويحرس الذئب الغنم فلا يضرُّها، ويراعي الأسدُ البقرَ فلا يضرُّها، ويلعب الصبيُّ بالثعبان فلا يضرُّه. بعد ذلك يموت عيسى، ويصلِّي عليه المسلمون، ثم تموت كلُّ نفس حية وتعود إلى بارئها. هذا الوصف للحالة الفردوسية التي تسود في نهاية التاريخ يشبه وصف ملكوت الربِّ في المصادر الكتابية. نقرأ في سفر إشعيا عن مسيح آخر الأزمنة وافتتاحه للملكوت ما يلي: «ويحلُّ عليه روحُ الرب [...]. ولذته تكون في مخافة الربِّ، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكمُ بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكمُ بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضربُ الأرض بقضيب فمه ويُميت المنافق بنفخة شفتيه [...]. فيسكن الذئب مع الخروف، ويربضُ النمر مع الجدي، والعجلُ والشبل والمُسَمَّن معًا، وصبيٌّ صغير يسوقها، والبقرة والدابة ترعيان، تربض أولادُهما معًا، والأسد يأكل تبنًا كالبقر، ويلعب الرضيع على سَرَب الصِّلِّ ويمدُّ الفطيم يده على حجر الأفعوان.» (إشعيا 11: 1-8)

    ***

    في ضوء ما تقدَّم ذكُره، نخلص إلى النتائج التالية بخصوص النقاط المشتركة بين المصادر الثلاثة حول مفهوم المسيح:

    1. المسيح شخصية إنسانية ذات طبيعة فائقة، يحلُّ عليها روحُ الله، ويرفعها إلى مرتبة وسطى بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية.

    2. يلعب المسيح دورًا أساسيًّا ومركزيًّا في نهاية الزمن وأحداث اليوم الأخير.

    3. يطلق النصُّ التوراتي والنصُّ الإنجيلي على المسيح مجازًا لقبَ "ابن الله" للتعبير عن مكانته الفذة والمميزة. وبشكل خاص، فإن القراءة المباشرة للنصِّ الإنجيلي، بعيدًا عن التأويلات اللاهوتية،[2] تضعنا أمام صورة شعرية، لا أمام دوغما دينية فيما يتعلق بلقب "ابن الله". لقد استعملت الأناجيلُ اللقبَ كوسيلة للإفصاح عن أهمية يسوع بالنسبة للعالم. فهو المثال الأعلى للعلاقة الأكمل بين الإنسان والله، وهو الذي وجد أتباعُه أنفسَهم من خلاله في حضرة الله، ووجدوا معنى الله في حياتهم، لأنه أكثر البشر إحساسًا بوجود الآب، وأكثرهم إخلاصًا في طاعته والاستسلام لمشيئته. أما النص القرآني فيعبِّر، من ناحيته، عن مكانة عيسى الفذة والفريدة عند الله من خلال ألقاب وأوصاف متعددة. فهو "كلمة الله"، وهو "من روح الله"، وهو "قول الحق"، و"رحمة"، و"شاهد"، و"وجيه"، و"آية"، و"مبارك"، وما إلى ذلك من الألقاب التي تجعله أكثر الجميع قربًا من الله، وتستدعي استدعاءً خفيًّا مضامينَ لقب "ابن الله" في الأناجيل، بعيدًا عن شكل هذا اللقب الذي تفاداه النصُّ القرآني في غمار مكافحة العقيدة القرآنية التوحيدية للعقائد التعددية لأهل الجزيرة العربية في ذلك الوقت.

    أخيرًا، إن خير ما اخترتُ أن أختتم به هذه الدراسة العاجلة كلماتٌ عبَّر فيها المهاتما غاندي عن موقفه من يسوع، أقتطف لكم بعضها:

    - «لقد أعطتْني الأناجيلُ الراحةَ والفرحَ غير المحدود.»

    - «إن مثال يسوع يشكِّل عاملاً أساسيًّا في إيماني الذي لا يموت بمبدأ اللاعنف.»

    - «إن يسوع عندي هو واحد من كبار المعلِّمين الذين عرفتْهم الإنسانية. وعلى الرغم من أن أتباعه يرون فيه ابنًا لله، إلا أن قبولي بهذه العقيدة أو رفضها لا يجعل ليسوع تأثيرًا أكثر أو أقلَّ على حياتي، ولا يقرِّبني من رؤية العظمة في تعاليمه ومذهبه أو يمنعها عنِّي. إني أرى في حياة يسوع مفتاحَ قُربه من الله. لقد عبَّر، كما لم يستطع أحدٌ غيره، عن روح الله وإرادته. بهذا المعنى، ومن هذا المنظور، أراه وأتعرَّف إليه كابنٍ لله.»

    *** *** ***





    [1] J.H. Charlesworth, ed., The Old Testament Pseudoepigrapha, p. 13 ff.

    [2] أنا هنا لا أقلِّل من قيمة التأويلات اللاهوتية بالنسبة للإيمان المسيحي، لأن لها من المشروعية ما لا يمكن للقراءة المباشرة أن تفصح عنه؛ وكلاهما يجد له سندًا قويًّا من النص.

    Reply With Quote  
     

  12. #12 رد : الأساطير ..؟! 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    مفهوم "المسيح"

    بين التوراة والإنجيل والقرآن



    فراس السوَّاح



    "المسيح" مفهوم ديني تتقاسمه ثلاثة أديان، هي الإسلام والمسيحية واليهودية. وهو، على الرغم من تفاوت أهميته ومركزيته بين هذه العقائد، ومن اختلاف مضامينه، فإن جوانب مشتركة تبقى واضحة للعيان بالنسبة لمؤرِّخ الأديان والباحث في العقائد المقارنة. وهذا ما سوف نحاول إيضاحه في هذا المقال الوجيز الذي لا يمكن له أن يفي الموضوعَ حقَّه أو يضيء جوانبَه كلَّها.

    ولسوف نبتدئ ببسط المفهوم التوراتي للمسيح، أولاً، ثم ننتقل إلى المفهوم الإنجيلي، فالقرآني، معتمدين اعتمادًا أساسيًّا على ما تقدِّمه لنا الكتبُ المقدسة الثلاثة، ومبتعدين، قدر المستطاع، عن مقولات اللاهوت والتفسير.

    "المسيح" (أو المشيح) كلمة آرامية–عبرية، مشتقة من الفعل الثلاثي مشح الذي يعني، كما في العربية، اللمس والتمسيد الرفيق بالكف. وبالمعنى الطقوسي التوراتي فإن المسيح هو الممسوح بزيت المعبد المقدس من أجل تبريكه وإسباغ طابع القداسة عليه. هذا الزيت يُحضَّر من زيت الزيتون النقي، ممزوجًا بأطياب معينة، وفق مقادير خاصة، ويدعى زيت المسحة، ولا يجوز استخدامُه في الأغراض الدنيوية. فالمسح الطقوسي، والحالة هذه، هو نوع من شعائر التَّعْدية والعبور rites de passage أو المُسارَرة Initiation، التي تنقل الشخص أو الشيء الممسوح بالزيت من مجال ما للناس إلى مجال ما لله.

    أول مسح طقوسي بالزيت يصادفنا في كتاب التوراة هو ما قام به يعقوب في سِفر التكوين (الإصحاح 35) عندما نَصَبَ عمودًا (مذبحًا) وسَكَبَ عليه زيتًا في الموضع الذي تراءى له الربُّ فيه، ودعا المكان "بيت إيل". وفي سفر الخروج (الإصحاح 30)، يبيِّن الربُّ لموسى كيفية تجهيز زيت المسحة، ويأمره أن يمسح به تابوت العهد وبقية الأدوات الطقسية، ويحرِّم عليه استخدامَه إلا للأغراض الشعائرية. بعد ذلك، في سفر الخروج (الإصحاح 40)، يأمره أن يمسح أخاه هرون وبنيه كهنةً على إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت صار مسح الكهنة طقسًا متَّبعًا حتى نهاية القصة التوراتية. ولدينا مثال واحد عن مسح الأنبياء، وهو ما وَرَدَ في سفر الملوك الأول 19: 16، عندما أمر الربُّ النبيَّ إيليا أن يمسح تلميذه أليشاع نبيًّا بعده قبل صعوده حيًّا إلى السماء. وعندما ابتدأ عصر الملوك في إسرائيل، صار طقس المسح بالزيت بمثابة تنصيب رسمي للشخص الذي اختاره الربُّ لحكم إسرائيل، وتكريسه للرسالة المنوطة به تجاه شعب يهوه.

    كان شاؤل أول من مُسِحَ ملكًا على إسرائيل بأمر من الرب، ودُعي بـ"مسيح الرب". وهنا نفهم من سفر صموئيل الأول، الذي نَقَلَ قصة اختيار شاؤل ومَسْحِه، كيف أن طقسَ المسح يُحوِّل الشخص الممسوح إلى شخص جديد يحلُّ عليه روحُ الرب، حيث نقرأ: «[...] فيكون من هناك، أنك تلقى زمرة من الأنبياء النازلين من المَشْرَف، [...] فينقضُّ عليك روحُ الرب، وتتنبأ أنت معهم وتصير رجلاً آخر. وإذا وَرَدَتْ عليك هذه الآيات، فاصنع ما تجده يدُك، لأن الربَّ معك.» (10: 5-7)

    وعندما غضب الربُّ على شاؤل لأنه لم ينفِّذ أمره كاملاً بقتل شعب العماليق عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساءً وأطفالاً، مع بقرهم وغنمهم وكلِّ مواشيهم، غادَرَه روحُ الرب وحلَّ به روحٌ رديء يسبِّب له نوباتٍ من الجنون. بعد ذلك أمَرَ الربُّ النبيَّ صموئيل أن يمسح الفتى داود ملكًا بدلاً عن شاؤل، الذي قضى نحبه بعد فترة قصيرة في معركة مع الفلسطينيين. وبعد أن غادر روحُ الربِّ شاؤل حلَّ على داود، الذي يصف علاقتَهُ بإلهه بالكلمات التالية: «هذه كلمات داود الأخيرة: وحيُ داودَ بنِ يُسِّي، وحيُ الرجل القائم في العُلا، مسيح إله يعقوب ومرنِّم مزامير إسرائيل: "روحُ الربِّ تكلَّم بي وكَلِمَتُه على لساني. قال إله إسرائيل: إلخ."» (صموئيل الثاني 23: 1–3). نلاحظ في هذا النص كيف يجمع مسيحُ الربِّ بين المُلك الدنيوي وبين النبوة والكهنوت: فهو يكلِّم الربَّ ويكلِّمه الربُّ، ولسانُه ينطق بوحي إلهه، وهو الوسيط بامتياز بين عالم الألوهة وعالم البشر.

    عندما شاخ داود واستلقى على سرير الاحتضار، أوصى بالمُلْك لابنه سليمان بمباركة من الرب، وأمر صادوق الكاهن وناثان النبي أن يمسحا سليمان ملكًا بعده. وهنا تستمر العلاقة المباشرة بين الربِّ ومسيحه؛ وهو يتراءى له في أحلامه ويكلِّمه دون وسيط. نقرأ في سفر الملوك الأول 3: 5-12: «وفي جبعون تراءى الربُّ لسليمان في الحلم ليلاً وقال: "اسأل ما تريد أن أعطيك." فقال سليمان: "[...] فهَبْ عبدَك قلبًا فهيمًا ليحكم شعبك ويميِّزَ بين الخير والشر [...]." فَحَسُنَ في عيني الربِّ أن يكون سليمان قد سأل هذا الأمر. فقال له: "[...] فهاءنذا قد فعلتُ بحسب كلامك. هاءنذا قد أعطيتك قلبًا حكيمًا فهيمًا، حتى إنه لم يكن قبلك مثلُك ولا يقوم بعدك مثلُك.»

    بعد وفاة سليمان، في القصة التوراتية، وزوال ما يُدعى بالمملكة الموحدة، التي انقسمت إلى مملكة السامرة ومملكة يهوذا، تحوَّل طقسُ المسح بالزيت إلى إجراء روتيني يقوم به كبيرُ الكهنة من أجل تنصيب الملك الجديد الذي انتقل إليه المنصبُ بالوراثة أو بالاغتصاب. وكانت مراسم التنصيب تجري في أجواء اعتيادية؛ وغالبًا ما لا يذكر النص الكتابي شيئًا عنها، بل يكتفي بالقول إن فلانًا قد مَلَكَ على أورشليم أو على السامرة، وأن مُلْكه قد دام كذا سنة. ولكن جميع ملوك السامرة، منذ يربعام بن ناباط، مؤسِّس مملكة إسرائيل، قد حادوا عن الدين القويم وعبدوا الآلهة الفلسطينية التقليدية؛ وكذلك فعل معظم ملوك يهوذا. وهذا ما خلق لدى أنبياء العهد القديم، الذين كانوا يعنِّفون ملوكهم بشدة على عدم إخلاصهم ليهوه، رجاءً في مَلِك مثالي قادم ومسيح حقيقي للرب. وشيئًا فشيئًا، أخذ مفهوم المسيحانية messianic المَلَكية بالتغير: فبدلاً من التغنِّي بفضائل الملك المسيح المعاصر، راحت مزامير العهد القديم تتطلَّع إلى الملك المسيح القادم، وتصف مجدَه وكفاحَه وانتصاراته. وقد تكرَّس هذه الاتجاه بعد زوال مملكة إسرائيل–السامرة في العام 721 ق م وتحوُّلها إلى ولاية آشورية، وزوال مملكة يهوذا في العام 578 ق م وتحوُّلها إلى ولاية بابلية، وانتهاء ما يُدعى بعصر الملوك. فمسيح الربِّ لم يعد مَلِكًا يحكم على شعب يهوه في الزمن الحاضر، بل تحوَّل إلى شخصية رؤيوية نبوية، سوف تظهر في المستقبل لتعيد العصر الذهبي لإسرائيل، وتجمع شتات المنفيين في الأقطار البعيدة وتُرجِعَهم إلى أورشليم، وتحاربَ أعداء شعب يهوه في كلِّ مكان، لتجعل أممَ الأرض قاطبة في النهاية عبيدًا لبني إسرائيل.

    وبما أن سلالة داود هي التي حكمت أورشليم حتى دمارها وسَبْي أهلها على يد البابليين، فإن المسيح القادم سيكون من نسل داود الذي وَعَدَه الربُّ بأن نسله سوف يحكم في أورشليم إلى الأبد، على ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها ما وَرَدَ في المزمور 89: «لا أنقض عهدي، ولا أغيِّر ما خرج من شفتي. مرة حلفت بقدسي أني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون، وكرسيه كالشمس أمامي.» فالمسيح القادم هو غصنٌ ينبت من شجرة نسب داود التي لم تنقطع، على ما نقرأ في سفر إرميا 23: 5-8: « [...] وأقيم لداود غُصنَ بِرٍّ، فيملك وينجحُ، ويُجري حقًّا وعدلاً في الأرض. في أيامه يُخلَّصُ يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنًا [...]: "حي هو الربُّ الذي أصْعَدَ وأتى بنسل بني إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طَردتُهم إليها، فيسكنون في أرضهم."» ونقرأ في سفر إشعيا أيضًا عن الغصن الذي ينبت من شجرة داود بن يُسِّي: «ويخرج قضيبٌ من جذع يُسِّي وينبت غصنٌ من أصوله، ويحلُّ عليه روحُ الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة.»

    وبتأثير الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة المشرقية عقب استيلاء قورش على بابل في العام 539 ق م ووراثة فارس للإمبراطورية البابلية، قامت الإيديولوجيا التوراتية بالمزاوجة بين فكرة المسيح القادم وفكرة المخلِّص الزرادشتي. فوفق التعاليم الأصلية لزرادشت، يظهر في آخر الأزمنة مخلِّص البشرية الذي يقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضي عليه. عند ذاك يقوم الله بتدمير العالم القديم الملوَّث بعناصر الشر، ثم يعمل على تجديده، ليغدو فردوسًا خالصًا يعيش فيه الأخيارُ الصالحون في زمن مفتوح على الأبدية. وفيما بعد، أدخلتْ التطويراتُ اللاهوتية اللاحقة تنويعاتٍ جديدةً على فكرة المخلِّص الزرادشتي. فهذا المخلِّص المدعو ساوشنياط سوف يأتي من نسل زرادشت نفسه، عندما تحمل به عذراءٌ تنزل للاستحمام في بحيرة كاناسافا، حيث تتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة في البحيرة إلى اليوم الموعود.

    لقد أثَّرتْ فكرة نهاية الزمن هذه بقوة على فكرة ملكوت الربِّ القادم على الأرض في التوراة، ولكن بعد تحويرها بما يتلاءم مع الإيديولوجيا التوراتية الشوفينية. فإذا كان التاريخ في المفهوم الزرادشتي يسير نحو استئصال الشرِّ في العالم واستعادته نقيًّا طاهرًا، كما كان في لحظة الخلق الأول، ليعيش فيه الصالحون، فإن التاريخ في المفهوم التوراتي يسير نحو سيادة الإله يهوه الكاملة على الأرض، بعد أن يرسل مسيحَه قُدَّامه، ليمهِّد له الطريق ويكسرَ شوكة أعداء إسرائيل ويعيدَ أمجاد أورشليم الضائعة. أما مراحل التاريخ السابقة فلا يوجِّهها صراعٌ بين الخير والشر، كما هي الحال في المذهب الزرادشتي، بل صراعُ يهوه ضد الآلهة الأخرى، ومحاولتُه تنصيب نفسه معبودًا أوحدَ لدى الشعب الذي اختاره، ثم قيادة هذا الشعب في حرب ضروس ضد بقية الأمم والشعوب، لإخضاعها وتحويلها إلى خدم وعبيد لدى بني إسرائيل. عند ذاك ينتهي التاريخ، ويحلُّ ملكوت الربِّ على الأرض: ملكوت يديره يهوه بنفسه.

    يبتدئ ملكوت الربِّ بما تدعوه أسفار الأنبياء بـ"يوم الرب". في ذلك اليوم يرسل يهوه، ربُّ القوات، على الأرض عددًا من الكوارث الطبيعية تمهِّد لهجومه الكاسح على الأمم: فالسماوات «تُطوى كسِفْرٍ وتذوي قواتُها كافة» (إشعيا 34: 4)؛ والشمس تنقلب ظلامًا والقمر دمًا (يوئيل 3: 4)؛ وأرض أدوم تكون «زفتًا مشتعلاً، لا تنطفئ ليلاً ولا نهارًا، ودخانها يصعد مدى الدهر» (إشعيا 34: 9-10)؛ يعمُّ الظلام والسحاب والضباب، فيمشي الناس كالعُمْي، وبنار غيرة يهوه تُلتهَم الأرض، لأنه يصنع فناءً مباغتًا لسكانها (صفنيا 1: 14-18)؛ «فتُطرَح قتلاهم وينبعث النتن من جيفهم وتسيل الجبال من دمائهم» (إشعيا 34: 3). ثم يتدخل يهوه بشخصه لإفناء الأمم: فهو يستيقظ مثل جبار تَعْتَعَه السُّكْرُ ويضرب أعداءه في أدبارهم (مزمور 78: 65-66)، ويجمع إليه الجيوش ويستعرض قواته (إشعيا 13: 3-4)، ويبدأ هجومه بصرخة الحرب المُرَّة (صفنيا 1: 14).

    بعد هذه الأحداث الجِّسام تدخل الأرض في حالة فردوسية مهيأة لسعادة بني إسرائيل الذين يتسلَّطون على من بقي حيًّا من الأمم الأخرى. نقرأ في سفر إشعيا 11 و14: «وفي ذلك اليوم يعود الربُّ فيمد يده ثانية ليفتدي بقية شعبه [...]. يجمع المنفيين من إسرائيل ويضم المشتَّتين من يهوذا من أربعة أطراف الأرض» (11: 11-12)، «[...] فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى بيت يعقوب [...]. ويمتلكهم بيتُ إسرائيل في أرض الربِّ عبيدًا وإماءً، ويسبون الذين سَبَوْهم ويتسلَّطون على ظالميهم» (14: 1-2).

    نعود إلى مسيح آخر الأزمنة لنضيء أهمَّ معالم شخصيته: فهو يولد كطفل خارق، تجتمع فيه صفاتُ الآلهة والبشر معًا. نقرأ في سفر إشعيا 9: 2-6: «الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور [...]. لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفيه، ويُدعى اسمُه عجيبًا، مشيرًا إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا، رئيسَ السلام. لنموِّ رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، من الآن إلى الأبد.» وهنالك إشارة واحدة في الكتاب إلى ولادة هذا الطفل من عذراء. نقرأ في سفر إشعيا 7: 14: «ويعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل.» والاسم عمانوئيل في العبرية يعني "الرب معنا". وهو يُدعى ربًّا وسيدًا، ويجلس عن يمين يهوه في آخر الأزمنة. نقرأ في المزمور 110 على لسان داود، فيما يُفهَم منه إشارة إلى مسيح آخر الأزمنة، الذي سيظهر ليدين الأمم ويحاكمها وينتقم لشعبه: «قال الرب لسيِّدي: "اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك." [...] يَدين الأمم، ويملأها جُثثًا ويحطم الرؤوس في الأرض الواسعة.»

    هذه الصلة الحميمة بين الربِّ ومسيحه يُعبَّر عنها مجازًا بصلة الأبوة والبنوة. نقرأ في المزمور 2: «أعلن حكم الربِّ. "قال لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتُك. سلْني فأعطيك الأمم ميراثًا، وأقاصي الأرض ملكًا. بعصا من حديد تكسِّرهم، وكإناء خزَّاف تحطِّمهم."» إن ما نفهمه من قول الربِّ لمسيحه في هذا المزمور «أنا اليوم ولدتك» هو أن علاقة الأبوة والبنوة بين الطرفين ليست علاقة قديمة، بل حادثة، وأنها قد تأسَّستْ بعد مسحه واختياره، دون أية صلة ميتافيزيائية، أي من نوع يجعل مسيح الربِّ مشاركًا له في الطبيعة أو القِدَم.

    ومن الجدير ذكرُه هنا أن صلة الأبوة والنبوة هذه ليست وقفًا على مسيح آخر الأزمنة. فلقد دعا الكتاب قبل ذلك ملوك إسرائيل الأوائل بـ"أبناء الرب". نقرأ على لسان يهوه في المزمور 89: «وجَدْتُ داود عبدي، ومسحتُه بزيت قداستي. [...] يدعوني قائلاً: "أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي." وأنا أجعله بكرًا، فوق ملوك الأرض عَلِيًّا.» وفي سفر صموئيل الثاني 7: 13-14، يقول يهوه بخصوص أبوَّته للملك سليمان: «هو يبني لي بيتًا لاسمي، وأنا أثبِّت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا.» هذه الأبوة المجازية هي نوع من التبنِّي لشخصية مميَّزة، حلَّ عليها روحُ الرب، وتكلَّم من خلالها وكلَّمتْه، وجعلها وسيطًا بينه وبين شعبه. فإذا كان شعبُ إسرائيل جملةً ابنًا ليهوه (على ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها الخروج 4: 22: «إسرائيل ابني البكر»، وهوشع 11: 1: «لما كان إسرائيل غلامًا أحببتُه، ومن مصر دعوتُ ابني»)، فإن ذلك المختارَ من إسرائيل هو الأجدر بهذا اللقب، وبنوَّته للربِّ إنما تعكس نوع العلاقة التي أسَّسها يهوه مع شعبه منذ البداية.

    على أن نوعًا من الحقيقة المسيحانية، القائمة في عالم المُثُل قبل تجسُّدها الواقعي في عالم الظواهر، يمكن عزوُها إلى مسيح آخر الأزمنة، من خلال مفهوم "ابن الإنسان" الذي نصادفه في سفر دانيال 7: 9-14. ففي مقطع شديد السرَّانية والغموض من رؤيا دانيال نواجه شخصية ضبابية يدعوها النص بـ"ابن الإنسان"، تُدعى للمثول في حضرة الربِّ، الذي يلقِّبه النص هنا بـ"قديم الأيام"، فيعطيه سلطانًا أبديًّا على الأرض: «وبينما كنت أنظر إذ نُصِبَتْ عروش، فجلس قديم الأيام، وكان لباسُه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي [...]. وكنت أنظر في رؤياي ليلاً، فإذا بمثل ابن إنسان آتٍ على غمام السماء، فبلغ إلى قديم الأيام، وقُرِّب إلى أمامه. فأُوتِيَ سلطانًا ومجدًا ومُلكًا. فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه، وسلطانُه سلطانٌ أبدي لا يزول، وملكوته لا ينقرض.»

    هذه هي الإشارة الوحيدة إلى "ابن الإنسان" في الأسفار التوراتية القانونية. إلا أن هذه الشخصية قد بقيت موضع تأمل لاهوتي في الأسفار غير القانونية التي كُتِبَ معظمُها فيما بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، والتي جرى استبعادُها من التوراة العبرية في نصِّها النهائي الذي اعتمده مجمع يمنيا حوالى سنة 90 م. ولعل المقطع التالي، الذي أنقله عن سفر أخنوخ الأول، يعطي صورة عن التأملات اللاهوتية المتأخرة بخصوص "ابن الإنسان" المحجوب. فأخنوخ، الذي صعد إلى السماء في رؤى الليل وقادتْه الملائكةُ في جولة كشفتْ له فيها أسرارَها، يصف لنا مواجهته مع ابن الإنسان بالكلمات التالية: «هناك رأيت الذي رأسُه مبدأُ الأيام. كان رأسُه مشتعلاً بياضًا مثل الصوف، ومعه كائنٌ آخر له مظهر الإنسان، ووجهُه ممتلئٌ نعمةً كملاكٍ قدوس. فسألت الملاك أن يكشف لي سرَّ ابن الإنسان: مَن هو، ومن أين أتى، ولماذا يرافق مبدأ الأيام. فقال لي: "هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير، الذي به يحيا الخير، وتنكشف الكنوز الخبيئة، لأن ربَّ الأرواح قد اختاره. قَدَرُه خيرٌ كلُّه أمام ربِّ الأرواح إلى الأبد. إن ابن الإنسان الذي رأيت سيخلع الملوكَ والجبابرةَ والأقوياءَ عن عروشهم لأنهم لم يُسبِّحوا بحمده، ولم يمجِّدوه، ولم يعترفوا بمصدرِ مُلْكِهِم وسلطانهم. سوف يخلع قلوب الأقوياء، ويكسر أسنان الخطأة، ويخفض وجوه العُتاة، فيمرِّغها بالعار، ليجعل الظلمةَ مسكنَهم والديدانَ سريرَهُم، هناك يضطجعون ولا يقومون."»[1]

    ***

    لقد جاءت هذه التأملات في فترة شهدت ازدهار الأفكار المسيحانية المهدية، حيث راح الناسُ يترقبون ظهور المخلِّص، وفي هوس جمعي يرصدون علامات اليوم الأخير، خصوصًا في فلسطين التي تغذَّتْ أكثر من غيرها بفكرة "المسيح المنتظَر"، وذلك بتأثير الأفكار الزرادشتية، من جهة، والأفكار التوراتية، من جهة أخرى، على الرغم من أن أهلها لم يكونوا يهودًا في معظمهم. في هذا المناخ النفسي والفكري جاءت ولادةُ يسوع وحياتُه القصيرةُ العاصفة بين العام 6 ق م وحوالى العام 30 بعد الميلاد.



    "يسوع ابن الإنسان"، رسم غير مؤرَّخ لجبران خليل جبران

    (متحف تلفير للفن، سافانا)

    من المهم، فيما يتعلَّق بفهمنا لسيرة يسوع وتعاليمه، أن نميِّز في النصِّ الإنجيلي بين ما قاله يسوع نفسُه وما قاله الآخرون عنه. فمؤلِّف إنجيل لوقا يروي لنا في قصة الميلاد أن الله قد أرسل الملاك جبرائيل ليبشِّر السيدة مريم بمولد يسوع. فلما رأتْه مريم خافت واضطربت، فقال لها جبرائيل: «"لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن العليِّ يُدعى، ويعطيه الربُّ الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولا يكون لمُلْكه نهاية." فقالت مريم للملاك: "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟" فأجابها الملاك وقال لها: "الروح القدس يحلُّ عليك وقوة العليِّ تُظِلُّك. فلذلك، القدوسُ المولودُ منك يُدعى ابن الله."» (لوقا 1: 26-35) في هذا المقطع عددٌ من الألقاب المعزوَّة إلى يسوع، التي تتطابق مع ما وَرَدَ في نبوءات العهد القديم عن المخلِّص القادم: فهو "ابن داود"، وهو "ملك إسرائيل"، وهو "ابن الله"، وهو المسيح الذي يحكم إلى آخر الدهر.

    ولكن يسوع قد تفادى، إبان فترة دعوته، الإشارةَ إلى نفسه بأيٍّ من هذه الألقاب، بينما أطلقها عليه الآخرون، على الرغم من ممانعته الواضحة لها وتهرُّبه منها. فعندما رأى الناس معجزاتِه تداعوا إلى تنصيبه ملكًا، ولكنه توارى عن الأنظار وانصرف إلى الجبل وحده (يوحنا 6: 15). وعندما قال له أحد تلامذته، وهو نثنائيل: «رابِّي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل»، لم يجبْه بما يوحي بقبوله للَّقب، وإنما صرف أذهان تلامذته إلى اللقب الذي كان يفضِّله – وهو "ابن الإنسان" – حين أجاب: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان.» (يوحنا 1: 49-51) وعند شفائه للممسوسين كانت الشياطين تخرج منهم وهي تصرخ وتقول: «"أنت المسيح ابن الله!"، فكان ينتهرها ولا يدعها تتكلَّم» (لوقا 4: 41). وعندما قال له بطرس: «أنت المسيح ابن الله الحي»، أوصى تلامذته ألا يخبروا أحدًا بأنه المسيح، ثم راح يحدثهم عن ابن الإنسان وعن مهمته في هذا العالم وعن قدومه الثاني في آخر الزمان، قائلاً: «فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذٍ يجازي كلَّ واحد حسب عمله.» (متى 16: 13-28) وفي رواية لوقا للحادثة نفسها نجد يسوع أكثر حدة فيما يتعلق بتفاديه لقبَ المسيح وتحويل أنظار تلامذته إلى مفهوم "ابن الإنسان": «فقال لهم: "وأنتم مَن تقولون إني أنا؟" فأجاب بطرس وقال له: "مسيح الله." فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه»، وابتدأ يعلِّمهم أن «ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيرًا، ويُرفَض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتَل، وبعد ثلاثة أيام يقوم.» (لوقا 9: 20-22)

    وفيما يتعلق بلقب "ابن داود"، فقد أعلن يسوع صراحة أن المسيح ليس من سلالة داود عندما قال لجماعة من الصادوقيين: «كيف يقولون إن المسيح هو ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: "قال الرب لربِّي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك"؟ فإذا كان داود يدعوه ربًّا فكيف يكون ابنه؟» (لوقا 20: 41-44)

    لقد كان تفادي يسوع لهذه الألقاب نابعًا من تداعياتها السياسية لدى أهل مقاطعة اليهودية والجماعات اليهودية القليلة الموزعة في فلسطين. وبدلاً منها فقد فضَّل يسوع أن يطلق على نفسه لقب "ابن الإنسان"، الذي يحمل مضامين لاهوتية لا صلة لها بالهموم السياسية والنزعات القومية. وقد أعلن في أول تبشير علني له عن فحوى رسالته، عندما دخل المجمع في مدينة الناصرة. نقرأ في إنجيل لوقا 4: 18: «وجاء إلى الناصرة حيث نشأ، ودخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ. فدُفِعَ إليه سِفْرُ إشعيا النبي. ولما فتح السِّفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه: "روح الربِّ عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر المساكين، وأرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمْي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرُز بسَنَة الربِّ المقبولة." ثم طوى السفر وسلَّمه للخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم: "اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم."»

    كما أوضح يسوع لتلامذته تدريجيًّا مفهومَه الخاص عن ملكوت الله، وميَّزه بحدَّة عن ملكوت يهوه الذي كان اليهود يتطلَّعون إليه. فملكوت يسوع هو ملكوت روحاني، يشمل الأمم والشعوب قاطبة، ورابطةٌ تجمع المؤمنين بعضهم إلى بعض وإلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدتْ فيما بينهم. إنه عصر تتم فيه معرفةُ الآب، أبي البشر أجمعين الذي لم يعرفه اليهود قط. قال يسوع لليهود: «"أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني." فقالوا له: "أين هو أبوك؟" أجاب يسوع: "لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا."» (يوحنا 8: 18-19) وقال لهم أيضًا: «"أنا أتكلَّم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون بما سمعتم عند أبيكم [...]." فقالوا له: "[...] لنا أب واحد وهو الله." فقال لهم يسوع: "[...] أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا [...]. الذي من الله يسمع كلام الله. لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من الله."» (يوحنا 8: 38-47)

    مع ظهور يسوع الذي افتتح ملكوت السماوات يَعقِد الله صلحًا مع البشرية ويمدُّ لها يد الخلاص من الخطيئة الأولى ومن الموت ومن سلطان إبليس، أمير الظلام، الذي كان سيد هذا العالم قبل البشارة، ويعقد معها عهدًا جديدًا هو عهد الله مع الإنسانية، يحلُّ محلَّ العهد القديم الذي كان عهد يهوه مع بني إسرائيل. فالملكوت حاضر، هنا والآن، بعد ظهور المخلِّص وموته الطوعي فداءً عن البشرية الخاطئة؛ ولسوف يستمر بعد ذلك ردحًا من الزمن يكفي لتنقية العالم من عناصر الشر، وحرمان الشيطان مما تبقى له من سلطة. عند ذاك سيعود ابن الإنسان، في قدومه الثاني، على غمام المجد في اليوم الأخير الذي يشهد دمار العالم القديم، فيجلس على عرش مجده ليميز الأشرار من الصالحين، فيفتح بوابة النعيم لأهل اليمين ويفتح بوابة الجحيم لأهل اليسار. نقرأ في متى 24: 29-30: «بعد ضيق تلك الأيام، تُظلِم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه، والنجوم تتساقط من السماوات، وقوات السماوات تتزعزع. حينئذٍ تظهر علامةُ ابن الإنسان في السماء [...]. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الرياح الأربعة [...].» وفي متى 25: 31-34: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميعُ الملائكة القديسين معه، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بينهم كما يميز الراعي الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: "تعالوا، يا مباركي أبي، لترثوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم [...]." ثم يقول للذين عن اليسار: "اذهبوا عني، يا ملاعين، إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته [...]."»

    ويسوع، بإعلانه لإنجيل الملكوت، قد افتتح نظامًا دينيًّا جديدًا. فالشريعة التوراتية تنتهي ويبطل مفعولُها مع البشارة الجديدة، وسلسلة أنبياء العهد القديم تتوقف عند يوحنا المعمدان. ففي قول يسوع المشهور: «أريد رحمة لا ذبيحة» (متى 9: 13) تقويضٌ لمؤسَّسة القربان التوراتي، وإعلانٌ لبطلان الطقوس التوراتية، وتأسيسٌ لطقوس تقوم على القلب، لا على الدم. لقد حمل اليهود نير الشريعة بسبب غلاظة قلوبهم؛ أما المؤمنون الجدد فيحملون نير المسيح، وهو هيِّن وخفيف، على ما يقوله يسوع في إنجيل متى 11: 28-30: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني [...]، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف.» وهو يصف شريعة العهد الجديد بالخمرة الجديدة التي لا يجوز أن تُصَبَّ في جرار قديمة هي شريعة العهد القديم، لئلا تفسد الخمر وتتشقق الجرار (متى 9: 17). هذه الشريعة الجديدة قوامها المحبة. قال يسوع في جوابه لفريسي سأله عن الوصية العظمى في الناموس: «"تحبُ الربَّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ فكرك." هذه الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلُها: "تحب قريبك كحبِّك لنفسك."» (متى 22: 35). وقال أيضًا: «وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا.» (يوحنا 13: 34)

    هذا الرَّجَحان للأخلاق على الطقوس يتجلَّى، في أوضح صوره، في هزئه من طقوس الطهارة الشكلية التي تشكِّل لباب الشريعة القديمة. فعندما ثار الفريسيون لأنهم رأوا تلاميذ يسوع يأكلون بأيدٍ غير نظيفة قال لهم: «ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن ينجِّسه. لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الإنسان [...]. لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة [...].» (مرقس 7: 15-23)

    ومع هذه الشريعة الجديدة، يتجاوز يسوع موسى، ولا يبقى للهيكل اليهودي ما يسوِّغ استمرارَه. وهذا ما أعلنه صراحة عندما سألتْه المرأة السامرية، وقد اعتقدت أنه نبي يهودي: «"آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضعَ الذي يجب أن يُسجَدَ فيه." فقال لها يسوع: "يا امرأة، صدِّقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم."» ثم أوضح لها أن الخلاص لا يتم قبل التخلُّص من اليهود، عندما أردف قائلاً: «لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعةٌ – وهي حاضرة الآن – حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق [...].» (يوحنا 4: 19-23)

    في مشهد المحاكمة التي قادت إلى موت يسوع، أعلن يسوع عن نفسه كملك ومسيح وابن لله. فهو الملك، ولكن مملكته ليست أرضية، بل روحانية، على ما وَرَدَ في إنجيل يوحنا، عندما سأله الوالي الروماني بيلاطس: «هل أنت ملك اليهود؟»، فأجابه يسوع: «"مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدَّامي يجاهدون لكي لا أُسْلَمَ إلى اليهود." فقال له بيلاطس: "أفأنت إذن ملك؟" أجاب يسوع: "أنت تقول إني ملك. لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق."» (يوحنا 18: 33-37)

    وهو المسيح، ولكنه ليس المسيح اليهودي، بل "ابن الإنسان" الذي افتتح ملكوت الخلاص والغفران، الذي سيظهر مرة أخرى في نهاية الأزمان، لا لتخليص شعب إسرائيل، بل للفصل النهائي بين الخير والشر. ففي إنجيل متى سأله رئيس الكهنة: «"أستحلفك بالله الحي لتقولنَّ لنا هل أنت المسيح ابن الله؟" فقال له يسوع: "هو ما تقول. وأنا أقول لكم: سترون بعد اليوم ابن الإنسان جالسًا عن يمين القدير وآتيًا على غمام السماء."» (26: 63-64) نلاحظ في هذا المقطع من إنجيل متى كيف أكد يسوع، لآخر مرة، على الصلة الوثيقة بين لقب المسيح "ابن الله" ولقب "ابن الإنسان" بمعانيه التي أفصح عنها سِفْرُ دانيال وعددٌ من الأسفار التوراتية غير القانونية. فالمسيح ليس "ابنًا لله" بالمعنى التوالدي للكلمة، وليس من طبيعته ذاتها، ولا معادلاً له في القِدَم، بل هو تجسيد في الزمن والتاريخ لحقيقة سالفة ونموذج قائم في عالم المُثُل. لقد كان عند الله كفكرة تنتظر التحقق. وعندما حملت العذراء بيسوع من غير أب بشري، تجسَّدت الفكرةُ في إنسان هو "ابنٌ لله"، مثل سائر البشر، ولكنه ابنٌ مميز لأنه لم يولد من روح إنسانية، بل من روح الله مباشرة، على حدِّ قول الآية الكريمة: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفحنا فيه من روحنا» (التحريم 12). وعلى حدِّ تعبير إنجيل متى 1: 18: «لما كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وُجِدَتْ حُبلى من الروح القدس.»

    ولكي أقرِّب مفهومَ "ابن الله" كما استخدمتْه الأناجيل إلى الذهنية الإسلامية، فإني ألجأ إلى مقارنة مفهوم ابن الإنسان بمفهوم "الحقيقة المحمدية" في الفكر الصوفي الإسلامي، ومرادفه الآخر: "الإنسان الكامل". فالنبي محمد (ص) هو تحقُّق في الزمن والتاريخ لحقيقة سابقة على وجود الإنسانية، وتجسيد في التاريخ لشخصية تقع في مركز الوسط بين عالم المثال وعالم الواقع. مثل هذه الأفكار يجد سندًا قويًّا له في عدد من الأحاديث التي يشير النبي فيها بوضوح إلى أن وجوده التاريخي لم يكن إلا بَلْوَرَةً لفكرة قديمة؛ ومنها قوله لأحد الصحابة: «أولُ ما خَلَقَ الله نور نبيِّك يا جابر»، وقولُه أيضًا: «كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين.» والحديث الثاني يذكِّرنا بقول يسوع: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.» (يوحنا 8: 58). وهذا ما يقودنا إلى مفهوم المسيح في القرآن الكريم.

    ***

    يُدعى يسوع في القرآن الكريم بالاسم عيسى. والكلمة، على ما نرجِّح، قد جاءت من الاسم التوراتي يِشو–وا، المختصرة عن يهو–شوا، وتعني "خلاص الرب". وقد جرى لفظ الاسم بالآرامية، التي كانت لغة فلسطين، بصيغة يشوع، التي تحوَّلت في الأناجيل اليونانية إلى إيسوس Iisous أو إيسو، بحذف حرف السين الذي يلحق أسماء العَلَم الإغريقية. ومنها جاء الاسم "عيسى" في العربية والاسم Jesus في اللغات الأوروبية، الذي يضاف إليه عادة لقبُ المسيح Christ، فيقولون: Jesus Christ، أي "يسوع المسيح". وكلمة Christ في اللغات الأوروبية مأخوذة من الكلمة اليونانية Χριστος، خريستوس؛ وهي التي استخدمتْها الترجمة اليونانية للتوراة، المعروفة باسم "الترجمة السبعينية" Septuagint، كمقابل للكلمة العبرية مشيح.

    يتصل لقبُ المسيح بعيسى عليه السلام في آيات الكتاب الكريم. فقد وَرَدَ الاسم عيسى مقرونًا بالمسيح إحدى عشرة مرة، وذلك كقوله تعالى: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه» (النساء 171). كما وردت الإشارة إلى عيسى باسمه المجرَّد، كقوله تعالى: «يا عيسى إني متوفِّيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا» (آل عمران 55)، أو مضافًا إلى "ابن مريم"، كقوله تعالى: «وآتينا عيسى ابن مريم البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253). أو بـ"ابن مريم" فقط، كقوله: «ولما ضُرِبَ ابنُ مريم مثلاً إذا قومُك منه يصدُّون» (الزخرف 57). وقد ناب لقبُ "المسيح" مرة واحدة عن الاسم، وذلك في الآية 172 من سورة النساء: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون».

    لا تفيدنا آياتُ الكتاب في معرفة معنى كلمة "المسيح". وبما أننا لا نجد في العربية جذرًا للكلمة سوى الفعل الثلاثي مسح الذي يفيد، كما في الآرامية والعبرية، معنى اللمس والتمسيد الرفيق بالكف، فقد ذَهَبَ معظم المفسِّرين إلى القول بأن لقب المسيح قد جاء من قيام عيسى بشفاء المرضى بلمسة يده. ولكننا نرجِّح أن يكون اللقب القرآني ذا صلة بالمعنى التوراتي والإنجيلي. فإذا كان المَسْحُ بالزيت دلالةً رمزيةً على مباركة الله للملك أو الكاهن أو النبي، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية الكريمة التي يقول عيسى فيها: «إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا وجعلني مبارَكًا» (مريم 30-31). وإذا كان المسْح بالزيت دلالة رمزية على اختيار الله للممسوح، وتفضيله واصطفائه على الناس طُرا، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية الكريمة: «إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين» (آل عمران 33). وإذا كان المسح أيضًا يدل على حلول روح الربِّ على الممسوح ووقوفه إلى جانبه عبر مراحل حياته، فإن هذا المعنى متضمَّن في قوله: «وآتينا عيسى البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253). وأيضًا: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكرْ نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيَّدتُك بروح القدس» (المائدة 110).

    وكما كان ليسوع المسيح في الرواية الإنجيلية ظهوران: ظهور في التاريخ، وظهورٌ ثانٍ في آخر الأزمان، يُفتتَح معه اليومُ الآخر ونهايةُ التاريخ، كذلك هو الأمر بالنسبة لعيسى في الرواية القرآنية. فقد ظهر عيسى أولاً كرسول ونبي، ثم نجَّاه ربُّه من الصلب وأجاز عنه كأسَ الموت، فرَفَعَه إليه في انتظار اليوم الأخير الذي يُفتتَح بعودة عيسى كعلامة أساسية من علامات الساعة. نقرأ في سورة النساء 156-158: «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم [...] وما قتلوه يقينًا بل رَفَعَه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا». ونقرأ في سورة الزخرف 57-61: «ولما ضُرِبَ ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدُّون وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصِمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل. [...] وإنه لَعِلْمٌ للساعة فلا تمترُنَّ بها واتبعونِ هذا صراط مستقيم».

    هذه الإشارات الموجزة عن دور عيسى في آخر الزمن لا تقترن في الكتاب بمزيد من التفاصيل. ولكن الحديث الشريف قد توسَّع وأفاض في مسألة القدوم الثاني لعيسى؛ ومنه نورد نتفًا هي غيض من فيض. فقد روى مسلم: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشرَ آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابَّة التي تكلِّم الناس، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى عليه السلام، إلخ.» وعلى ما نفهم من عدد آخر من الأحاديث فإن القدوم الثاني للمسيح عيسى ابن مريم يسبقه ظهور "المسيح الدجال" الذي يأتي من بلاد المشرق، فيدَّعي الصلاح، ثم يدَّعي النبوة، ويقول إنه المسيح، ثم يدَّعي الألوهية، ويُجري معجزات عظيمة، منها إحياء الموتى وإسقاط المطر بإشارته، فيتبعه المنافقون والمرتابون، وينجو من حيله المؤمنون. بعد ذلك يبعث الله عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق، واضعًا كفَّيه على أجنحة ملاكين. إذا طأطأ رأسه قطر وإن لم يصبه بلل، وإذا رفعه تحدَّر منه لؤلؤ كالجمان، فينفخ على الكفار فيبيدهم. ونفختُه النارية هذه تصل أينما تلفَّت إلى حيث ينتهي بصره. بعد ذلك يحكم عيسى البشر بالعدل والقسطاس، وتدخل الأرض في حالة فردوسية ردحًا من الزمن ينتفي فيه الشر من الوجود، فتضع الحرب أوزارها، وتتحول السيوف إلى مناجل، وتتلاشى العلل والأمراض، ويحرس الذئب الغنم فلا يضرُّها، ويراعي الأسدُ البقرَ فلا يضرُّها، ويلعب الصبيُّ بالثعبان فلا يضرُّه. بعد ذلك يموت عيسى، ويصلِّي عليه المسلمون، ثم تموت كلُّ نفس حية وتعود إلى بارئها. هذا الوصف للحالة الفردوسية التي تسود في نهاية التاريخ يشبه وصف ملكوت الربِّ في المصادر الكتابية. نقرأ في سفر إشعيا عن مسيح آخر الأزمنة وافتتاحه للملكوت ما يلي: «ويحلُّ عليه روحُ الرب [...]. ولذته تكون في مخافة الربِّ، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكمُ بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكمُ بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضربُ الأرض بقضيب فمه ويُميت المنافق بنفخة شفتيه [...]. فيسكن الذئب مع الخروف، ويربضُ النمر مع الجدي، والعجلُ والشبل والمُسَمَّن معًا، وصبيٌّ صغير يسوقها، والبقرة والدابة ترعيان، تربض أولادُهما معًا، والأسد يأكل تبنًا كالبقر، ويلعب الرضيع على سَرَب الصِّلِّ ويمدُّ الفطيم يده على حجر الأفعوان.» (إشعيا 11: 1-8)

    ***

    في ضوء ما تقدَّم ذكُره، نخلص إلى النتائج التالية بخصوص النقاط المشتركة بين المصادر الثلاثة حول مفهوم المسيح:

    1. المسيح شخصية إنسانية ذات طبيعة فائقة، يحلُّ عليها روحُ الله، ويرفعها إلى مرتبة وسطى بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية.

    2. يلعب المسيح دورًا أساسيًّا ومركزيًّا في نهاية الزمن وأحداث اليوم الأخير.

    3. يطلق النصُّ التوراتي والنصُّ الإنجيلي على المسيح مجازًا لقبَ "ابن الله" للتعبير عن مكانته الفذة والمميزة. وبشكل خاص، فإن القراءة المباشرة للنصِّ الإنجيلي، بعيدًا عن التأويلات اللاهوتية،[2] تضعنا أمام صورة شعرية، لا أمام دوغما دينية فيما يتعلق بلقب "ابن الله". لقد استعملت الأناجيلُ اللقبَ كوسيلة للإفصاح عن أهمية يسوع بالنسبة للعالم. فهو المثال الأعلى للعلاقة الأكمل بين الإنسان والله، وهو الذي وجد أتباعُه أنفسَهم من خلاله في حضرة الله، ووجدوا معنى الله في حياتهم، لأنه أكثر البشر إحساسًا بوجود الآب، وأكثرهم إخلاصًا في طاعته والاستسلام لمشيئته. أما النص القرآني فيعبِّر، من ناحيته، عن مكانة عيسى الفذة والفريدة عند الله من خلال ألقاب وأوصاف متعددة. فهو "كلمة الله"، وهو "من روح الله"، وهو "قول الحق"، و"رحمة"، و"شاهد"، و"وجيه"، و"آية"، و"مبارك"، وما إلى ذلك من الألقاب التي تجعله أكثر الجميع قربًا من الله، وتستدعي استدعاءً خفيًّا مضامينَ لقب "ابن الله" في الأناجيل، بعيدًا عن شكل هذا اللقب الذي تفاداه النصُّ القرآني في غمار مكافحة العقيدة القرآنية التوحيدية للعقائد التعددية لأهل الجزيرة العربية في ذلك الوقت.

    أخيرًا، إن خير ما اخترتُ أن أختتم به هذه الدراسة العاجلة كلماتٌ عبَّر فيها المهاتما غاندي عن موقفه من يسوع، أقتطف لكم بعضها:

    - «لقد أعطتْني الأناجيلُ الراحةَ والفرحَ غير المحدود.»

    - «إن مثال يسوع يشكِّل عاملاً أساسيًّا في إيماني الذي لا يموت بمبدأ اللاعنف.»

    - «إن يسوع عندي هو واحد من كبار المعلِّمين الذين عرفتْهم الإنسانية. وعلى الرغم من أن أتباعه يرون فيه ابنًا لله، إلا أن قبولي بهذه العقيدة أو رفضها لا يجعل ليسوع تأثيرًا أكثر أو أقلَّ على حياتي، ولا يقرِّبني من رؤية العظمة في تعاليمه ومذهبه أو يمنعها عنِّي. إني أرى في حياة يسوع مفتاحَ قُربه من الله. لقد عبَّر، كما لم يستطع أحدٌ غيره، عن روح الله وإرادته. بهذا المعنى، ومن هذا المنظور، أراه وأتعرَّف إليه كابنٍ لله.»

    *** *** ***





    [1] J.H. Charlesworth, ed., The Old Testament Pseudoepigrapha, p. 13 ff.

    [2] أنا هنا لا أقلِّل من قيمة التأويلات اللاهوتية بالنسبة للإيمان المسيحي، لأن لها من المشروعية ما لا يمكن للقراءة المباشرة أن تفصح عنه؛ وكلاهما يجد له سندًا قويًّا من النص.
    Reply With Quote  
     

Similar Threads

  1. الأساطير الإغريقية
    By عشتار in forum مكتبة المربد
    Replies: 11
    Last Post: 12/02/2017, 06:41 AM
  2. القرآن و الأساطير
    By خاشع ابن شيخ إبراهيم حقي in forum إسلام
    Replies: 0
    Last Post: 03/02/2011, 06:48 PM
  3. من قاموس الأساطير
    By سليـمـكم in forum مكتبة المربد
    Replies: 1
    Last Post: 16/09/2004, 09:05 PM
Posting Permissions
  • You may post new threads
  • You may post replies
  • You may not post attachments
  • You may not edit your posts
  •