شِكَايَةٌ
... ولم يكن عزمه على البوح بما يضطرب في صدره من آلام الفقر وقسوته أمرا سهلا طيعا، وكذلك توفير أجرة الكاتب العمومي لم يكن بالنسبة إليه غاية هينة البلوغ والتجاوز، لكنه ما إن سئل عن موضوع شكايته وتفاصيلها، حتى سالت الكلمات نزيفا من بين شفتيه المرتعشتين، فأملى على الكاتب ما أملى بعينين تدافعان الدمع إلى أن قال:
... ثم أحيطك علما سيدي بأني طرقت بشكايتي هذه أبوابا كثيرة، وكانت لي باعثا على ولوج غير قليل من الإدارات، التي لم أكن لأبلغها إلا مشيا على قدميَّ المتورمتين، والمحتميتين بحذاءين ممزقين، وكم راسلت العديد من المؤسسات لأحيط الساهرين على خدمة المواطنين فيها علما بشكايتي، فطال تجوالي حتى ملتني قدماي وسئمتني الأظرفة وصناديق البريد، ودام ترحالي طويلا إلى يوم الناس هذا بسبب ما أقص فيها من حالي، التي لا أحسد عليها، وما أروي فيها من معاناتي، التي تبعث على الرثاء لي حيا، وأنا ما أزال أدب بين الأحياء ...
لقد حفظت شكايتي عن ظهر قلب، وأودعت في كلماتها ما أجد من ضيق وألم دون زيادة أو نقصان، ونأيت بها عن كل حشو أو ترصيع أو هذيان، بقدر ما سموت بصدقي في كل كلمة تلوتها عن كل كذب أو زيف أو بهتان ...
عندما أعياه السعي بشكايته ذهابا من تلك الإدارة إلى هذه، وإيابا من هذه المؤسسة إلى تلك، أمسك عن التنقل مفوضا أمره إلى خالقه، بعد أن تم نشرها على صفحات طائفة من الصحف، فصارت قصة مقروءة من كثيرين استحسنوها، وقد كانت من قبل سجينة داخل ظرف صغير ...