بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة انطباعية لمجموعة ( قلعة الأرض ) للقاص التونسي فيصل الزوايدي . المجموعة صدرت عام 2008 وتحتوي على ثمان عشرة قصة قصيرة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
قراءة بقلم : مريم خليل الضاني
في قصة ( حياة سلام ) ينشد بطل القصة السلام في عالم عزّ فيه السلام ( سلام سلام : سلام لقلبي ، سلام لعمري ... سلام لقلبي رهيف ضعيف ... سلام لعمري يمر سريعا كمر الغمام ...سلام سلام : سلام لكم ، سلام عليكم ... وأنا لي سلام قليل... قليل يكفي صدر سقيم عليل ... ولكن أين مني السلام ) يسير البطل في الشارع غارقا في ظلام إحساسه بالقرف من عالم يشبه الغابة فيلوح له منظر مبهج يجسّد صورة السلام الذي ينشده : كانت هناك طفلة تلهو في حفلة أقيمت قرب حديقة ( لا أستطيع أن أنسى ذلك الضحك الذي لا ينقطع وهي تلهو بهاتف جوال . اقتربت منها بحبة حلوى في يدي اقتراب الأب من ابنته . امتدت يسراي لتحط برفق على رأس الصبية ويمناي تخفي الحلوى خلف ظهري لمفاجأتها والمرح معها ) عندئذ تجفل الطفلة وتظن أن البطل يريد إلحاق الأذى بها فتستغيث بأمها والحضور ليصبح البطل بعد ذلك متهما بالتحرش بقاصر ويُزج به في السجن ليُقدّم للمحاكمة . في هذه القصة تتبدد أحلام البطل وربما أحلام القارئ أيضا بوجود السلام في عالم كثر فيه الخبث والظلم ، فساد بين الناس سوء الظن والشك بنوايا الآخرين . لقد كان السجن قاسما مشتركا بين ثلاث قصص من المجموعة :
(حياة سلام ) و ( يوميات شعبية ) و ( شروق الشمس ) .
إن عنوان قصة ( شروق الشمس ) الذي يشي بالتفاؤل والأمل لم يكن سوى رمز لاستمرار الظلم والقمع في عالمنا ، فكما تشرق الشمس يوميا تتكرر مشاهد الظلم يوميا. تبدأ القصة بمقدمة ساخرة مريرة ( طلعت الشمس من الغرب كعادة لها منذ دهر ، ونهق الحمار في البحر ، وتزحزحت الجبال في نزهة ... واتّقى الحكام ربهم ) ثم يسترسل بطل القصة مع أفكاره المحلقة في فضاء عالم خيالي يحترم فيه رجال الشرطة المواطنين وتسود فيه العدالة ، ثم يستيقظ من أحلام يقظته في خاتمة القصة ( أفيق على صفعة من يد ثقيلة فيرتج رأسي فإذا أنا في مخفر بوليس ويأمرني صاحب اليد الثقيلة بصوت أشد ثقلا : ضع توقيعك على المحضر يا ( ... )نظرت بعينين لم يترك العذاب والسهر لهما قدرة كبيرة على الإبصار فقرأت بصعوبة :التهمة مسك قلم دون ترخيص ... وقّعت على الورقة بيد مرتعشة وألقيت نظرة متعبة نحو النافذة الصغيرة فإذا بالشمس مازالت تشرق من الشرق ) .
الإنسان والموت والحياة :
( رب خذني إليك ، فقد تأخّر القبر عني وتعبت ) .
في قصة ( انتحار) يعرّي القاص النفس البشرية في أشد حالات الضعف والانهيار والتذبذب بين التفاؤل والقنوط ، والهلع الشديد الذي ذكّرني بآية قرآنية كريمة وصفت نوعا من النفوس (إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسّه الشر جزوعا . وإذا مسّه الخير منوعا . إلا المصلين ) من الآية19 إلى الآية22 من سورة المعارج .
إن بعض النفوس تخور وتتهاوى عندما تتوالى عليها المصائب والمحن فتهرب إلى مخرج تتوهم أنه سيخلصها من العذاب مطلقا.
يريد بطل قصة ( انتحار ) الانتحار ولكنه يحرص على البحث عن وسيلة أقل إيلاما ، فهل يلقي بنفسه تحت عجلات سيارة مسرعة أو قطار ، أو يلقي بنفسه في الماء ؟ .
إن تداعي أفكار البطل في تلك الأثناء يدلّ على مدى حب الإنسان لذاته ، وإشفاقه عليها من التعرض لآلام الانتحار الرهيبة حتى وهو في أوج يأسه ( لقد عشت حياتي كلها معذبا ، أفلا أستحق ميتة أكثر رحمة ) ولكنه بعد صراع شديد مع نفسه يقرر التصالح مع الحياة فيبدأ بالتفكير بطريقة إيجابية في أسباب شقائه ، والبحث عن حلول عملية لمشاكله ، ولكن القطار يدهسه بغتة وهو شارد غارق في التخطيط لمستقبله .
في هذه القصة نلحظ قصور نظرة الإنسان إلى حقيقة الموت والحياة أثناء انهياره أمام ابتلاءات الدنيا ، و يتضح هذا القصور في الجوانب التالية :
1 ـ تجاهل الحكمة من خلق الموت والحياة وارتباطهما بتكليف الإنسان (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ) الآية الثانية من سورة الملك .
2 ـ تجاهل المفهوم الكلي الشامل للحياة البشرية وهي الحياة التي تشمل الحياة على وجه الأرض ، والحياة البرزخية في القبر ، والحياة الأخروية التي يكون وضع الإنسان فيها من حيث السعادة والشقاء بحسب عمله في الدنيا .
في قصة ( الزيارة الأولى ) عاد القاص تارة أخرى إلى فكرة كون الموت خلاصا من عذاب الدنيا ولكنه قدّم الفكرة بطريقة مختلفة ، فبطل هذه القصة لا يسعى إلى الانتحار ولكنه يتمنى الموت لتنتهي معاناته من مرضه المزمن الذي أيس أن يشفى منه . يتمنى صديق البطل أن يرى ابتسامة على وجهه الذي هجرته الابتسامة طيلة سنوات مرضه " أتمنى رؤيتك مبتسما ، فما أذكر أني شاهدت بسمتك يوما " . ولكن البطل يجيب بقوله " وكيف يبتسم حي ؟ ! " وهو رد يجعل السعادة أمرا مضادا للحياة وملازما للموت ، لكن أمنية الصديق لم تتحقق إلا عندما فاضت روح المريض إلى بارئها ( وتحركت أياد تغطي الوجه بابتسامته الفريدة بلحاف شديد البياض وامتدت أخرى تبعدني إلى خارج الغرفة البيضاء أمّا أنا فظللت أردد دون وعي : لقد ابتسم أخيرا ) .
فلسطين حاضرة في المجموعة :
لعل قصة ( صباح فلسطين ) تدلّ على أن فلسطين ليست هما خاصا بالكاتب الفلسطيني فقط بل هي هم أغلب الكتّاب المسلمين والعرب إذ قلّما تخلو الإصدارات العربية من الكتابة عن المعاناة الفلسطينية .
تختصر القصة يوما في فلسطين ( كان يوما عاديا أعني أنه عادي في استثنائية ما يقع فيه ) فهو يوم عادي بالنسبة للفلسطينيين الذين اعتادوا على مواجهة أهوال الاحتلال ولكنه بالطبع ليس يوما عاديا بالنسبة لمن يحيا خارج فلسطين .
في النصف الأول من القصة تسير بطلة القصة في دروب وعرة متعرجة فتواجهها متاريس وحواجز وجنود وهي تتجه صوب حقلها ( لاح لها حقلها من بعد . تقاوم أشجار الزيتون العنيدة مثلها الموت وأعوانه . لم تكن الأحذية الثقيلة وحدها تحاول الفتك بها ، كان جيرانها وأقاربها أيضا يفتكون دورات الري . حاولت إقناعهم كثيرا بالعدل في توزيع الماء) .
لقد بدأ ظلم الأخ لأخيه منذ بدء الخليقة وما زال مستمرا إلى الآن ، ولكنه في الحالة الفلسطينية يصبح أشد فداحة وقسوة ، ففلسطين التي رزحت ستين عاما تحت الاحتلال الصهيوني لهي في أمس الحاجة إلى توّحد القلوب والصفوف الفلسطينية لكي تقوى علىالصمود أمام المحتل ، وإن التشرذم الفلسطيني وظلم الأخ لأخيه لن يعود على القضية الفلسطينية إلا بمزيد من الخسائر التي تُحسب لصالح المُحتل ، وعلى الرغم من تعرّض الفرد الفلسطيني لظلم الصهاينة وظلم ذوي القربى إلا أنه مازال يقاوم بإمكانياته الفردية ، وهذا ما قررته خاتمة القصة ، وهي خاتمة واقعية وليست مثالية :( هذا هو ما يقع عادة في هذه الأرض : ارتفع صوت مميز قصير جدا فسقط ولد صغير يمسك بيمينه محفظة ... ارتفعت ضجة أصوات لا تكاد تتبين فيها إلا عويلا كأنه زغرودة مجروحة ... خجلت الشمس مما يقع تحت ضوئها فأسرعت بارتباك تلملم أشعتها وتتوارى خلف جبل مرتفع لكنه لم يكن أكثر شموخا من قامة امرأة واقفة عند جثمان صبي صغير يكاد الحزن يوقعها أرضا لكنها لا تقع ولن تقع أبدا لأن الغضب يرفع لها هامة أعلى بكثير من أقزام الموت ... )
هاجس الغربة:
إن الغربة في المجموعة أمر لا يمكن تحمّله أو التكيّف معه على الإطلاق ، بل لا بد أن يعود المغترب إلى وطنه الأم بغض النظر عن قوة الدوافع التي تحتّم عليه الاغتراب .
في قصة ( ليلة الافتتاح ) يبغض بطل القصة البدوي الدولة الغربية التي يقيم فيها ويشعر بشذوذه قلبا وقالبا عن مواطني تلك الدولة، بل إنه يشعر أنهم يبادلونه الإحساس بالنفور وعدم التقبّل ( بعض نظرات من عيون زجاجية زرقاء تضايقني في الطريق...أقرأ في العيون سؤالا قاسيا : أيها الأسمر لماذا تزاحمنا في بلادنا ؟؟؟ ) و يظل البطل عاجزا عن التعايش مع غربته بالرغم من زواجه من شقراء طيبة كما يقول عنها ، إلا أن عجزه عن تحمل الحياة بعيدا عن وطنه لم يكن السبب الأساسي في عودته إلى الوطن . لقد عاد لأنه لم يطق افتراض موته على تلك الأرض الغريبة ، وذلك بعد أن مات صديقه الوحيد في تلك الدولة وهو مغترب مثله . إن هذه القصة وقصة ( بدوي ومدينة ) تناقضان واقع شريحة عريضة من المغتربين الذين دفعهم السعي وراء الرزق إلى الاغتراب عن بلادهم لفترات طويلة جدا ألفوا خلالها الحياة بعيدا عن الوطن ، بل إن بعضهم يفضّل البقاء مغتربا على العودة إلى وطن تُسلب فيه حقوقه الإنسانية والمادية.
الحب والمرأة :
في قصة ( اللقاء ) يبحث الرجل في حبيبته عن الأنثى والأم أيضا حتى أنه يحدد مكان الالتقاء بها قرب أسرة تلهو مع صغيرها ( " ألا يبدو المكان الذي اخترته للقائنا طفوليا " وأشارت بطرف عينيها إلى أسرة تلاعب صغيرها على المرج غير بعيد من مجلسنا ... أحسست بقدر من التماسك فأجبتها : أليس ذلك يعلن أنني معك أولد من جديد . وقالت عابثة :" أخشى أن تطالبني بالتبني " أسرعت بالقول : سأفعل حتى تأخذيني إليك ) .
كما تلمح القصة أيضا من خلال وجود الأسرة قرب مكان اللقاء إلى أن الحب الحقيقي بين المرأة والرجل هو الحب الذي ينمو ويزهر ويثمر في بيت الزوجية .
(قلعة الأرض ) تُوازن المجموعة :
تدور أحداث قصة ( قلعة الأرض ) في مدينة الحامة في تونس حيث ينتصب تمثال المجاهد التونسي محمد الدغباجي في الساحة التي أعدم فيها ذلك المجاهد قبل ثمانين عاما تقريبا .تبدأ القصة بمقدمة شديدة الإيحاء ( ثمة رجال كأنهم رجال ، وثمة رجال كالجبال ، وثمة أيضا رجال ... رجال ، قلائل في زمن الأشباه ...ها أنا الآن أمام أحدهم ) . يلقي بطل القصة السلام على تمثال المجاهد وهو يعلم أنه لن يرد عليه التحية ، ثم يمرّ بالساحة طفل تونسي يبيع مراوح سعف للمارة والسيّاح فيقوم سائح عجوز بتقديم النقود للطفل كصدقة ولكن الطفل يغضب بشدة ويرفض أخذ النقود إلا إذا ابتاع السائح منه مروحة ، ويبرر الطفل تصرفه ذلك بقوله " وهل أنا متسول وهل رآني أمد يدي مستجديا ؟ " . لقد أيقظ ذلك الموقف في نفس بطل القصة ذكرى بطولة أجداده الذين لم يكملوا بناء سور مدينتهم وكانوا يقولون " نحن لا نعتمد على سور إنما سورنا سيوفنا " لقد اطمأنّ البطل إلى أن الروح الباسلة الأبية مازالت حية في أحفاد ذلك المجاهد في تلك الأرض ( رجال لم ينحنوا أمام الموت وآخرون لن ينحنوا لتلقّي صدقة ) ثم يختم القاص قصته بمشهد يهزّ الوجدان وهو مشهد ربط مقدمة القصة بخاتمتها بقوة . لقد خيّل للبطل بأن التمثال يرد عليه التحية ( وظننت يقينا هذه المرة أنني سمعت صوتا رجوليا يهدر بالتحية : وعليكم مني السلام ) .
إن قصتا ( قلعة الأرض ) و( صباح فلسطين ) وازنتا المجموعة بأكملها لكيلا تجنح إلى السوداوية والتشاؤم من واقع مرير معتم برز في أغلب القصص ، فبدت المجموعة كصورة واقعية للحياة بشقيها المظلم السلبي والمشرق الإيجابي ، وهي أيضا صورة واقعية للإنسان بكل مكامن ضعفه وقوته، كما أن شموخ الطفل في ( قلعة الأرض ) يرمز إلى مَوَاطن الجمال في الحاضر والمستقبل ، وهي مَوَاطن لا تستمد جمالها من التفاؤل بتغيّر الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة ، بل من استمرار مقاومة الإنسان لعوامل هدم الروح كالاحتلال والظلم والفقر .
قراءة بقلم : مريم خليل الضاني