تعتبر اشكالية الدين و الفلسفة من الاشكاليات العويصة على الفكر الانساني .فعجز العقل عن ادراك و تفسير ظواهر ما بعد الطبيعة هو احدى الركائز الاساسية التي جاء من اجلها الدين لينير الانسان و يقيه من التخبط في هاته المتاهة اللامنتهية.
و يمنكننا وصف العقل بالاجتهاد و اعمال الذهن للوصول الى نتائج مفيدة و قد يقصد به التفلسف و يشتمل على اربع معاني.
1-الغريزة المدركة.2-العلوم الضرورية.3-العلوم النظرية.4-العمل بمقتضى العلم
. اما النقل ما تواتر من وحي وهو النص أو الشريعة وسمي نقلا لأن الانسان ينظر الى النص و ينقل منه أفكارا وأحكاما دون اعمال عقله حكما و الوحي وهو(اعلام الله لنبي نت لنبيائه بحكم شرعي و نحوه)1
إذا اعتبرنا تعريف الفلسفة على أنها محاولة بناء تصور و رؤية شمولية للكون و الحياة , فإن بديات هذه الأعمال في الحضارة الإسلامية بدأت كتيار فكري في البدايات المبكرة للدولة الإسلامية بدءا بعلم الكلام , و وصل الذروة في القرن التاسع عندما أصبح المسلمون على إطلاع بالفلسفة اليونانية القديمة والذي أدى الى نشوء رعيل من الفلاسفة المسلمين الذين كانوا يختلفون عن علماء الكلام.
كان مفهوم الخالق الأعظم لدى الفلاسفة اليونانيين يختلف عن مفهوم الديانات التوحيدية فالخالق الأعظم في منظور أرسطو و أفلاطون لم يكن على إطلاع بكل شيئ ولم يظهر نفسه للبشر عبر التاريخ ولم يخلق الكون و سوف لن يحاسبهم عند الزوال وكان أرسطو يعتبر فكرة الدين فكرة لاترتقي الى مستوى الفلسفة.و ان كان قد انطلق من نظرية سقراط القائلة إن كل شيئ غرضه مفيد لابد ان يكون نتيجة لفكرة تتسم بالذكاء و إستنادا الى هذه الفكرة إستنتج أرسطو ان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات الى حركة وهذه الكينونة الأولية هي إنطباع أرسطو عن فكرة الخالق الأعظم"المتحرك الذي لا يتحرك" لكن أرسطو لم يتعمق في كيفية و غرض منشأ الكون من الأساس .
على النقيض الفلسفة الإسلامية لم تحصر مواضع إهتمامها بموضوع الدين او فلسفة الدين فقط , بل كانت تحوي أيضا في طياتها فلسفة العلم و النواحي الغامضة في الدين مرورا بمدرسة التزهد و الصوفية.
يرى البعض إن الفلسفة الإسلامية كانت محاولة لشرح و تحليل الفلسفة اليونانية وقد ساهم هذا التحليل و الشرح بالفعل في نشر افكار أرسطو في الغرب ولكنها على عكس الفلسفة اليونانية التي إعتبرت إن إستعمال التحليل المنطقي عملية غير مثمرة في محاولة فهم طبيعة الخالق الأعظم إعتبر الفلاسفة المسلمون إستعمال التحليل المنطقي في محاولة فهم طبيعة الله ذروة التدين و العبادة. حيث كان الفيلسوف المسلم على الأغلب متعمقا في الإسلام ولم يكن غايته الرئيسية دحض فكرة الدين بل الوصول الى قمة فهم الدين وإزالة ما إعتبروه شوائب تراكمت على المفهوم الحقيقي للإسلام ولم يكن في قناعاتهم شك بوجد الله بل كانوا يحاولون إثبات وجوده عن طريق التحليل المنطقي.
فقد تطورت الفلسفة الإسلامية من مرحلة دراسة المسائل التي لا تثبت إلا بالنقل و التعبّد الى مرحلة دراسة المسائل التي ينحصر إثباتها بالأدلة العقلية ولكن النقطة المشتركة عبر هذا الإمتداد التأريخي كان معرفة الله و إثبات الخالق . بلغ هذا التيار الفلسفي منعطفا بالغ الأهمية على يد ابن رشد من خلال تمسكه بمبدأ الفكر الحر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة. أول من برز من فلاسفة العرب كان الكندي الذي يلقب بالمعلم الأول عند العرب , من ثم كان الفارابي الذي تبنى الكثير من الفكر الأرسطي من العقل الفعال و قدم العالم و مفهوم اللغة الطبيعية . أسس الفارابي مدرسة فكرية كان من اهم اعلامها : الأميري و السجستاني و التوحيدي. كان الغزالي أول من أقام صلحا بين المنطق و العلوم الإسلامية حين بين أن أساسيب المنطق اليوناني يمكن ان تكون محايدة و مفصولة عن التصورات الميتافيزيقية اليونانية . توسع الغزالي في شرح المنطق و استخدمه في علم أصول الفقه , لكنه بالمقابل شن هجوما عنيفا على الرؤى الفلسفية للفلاسفة المسلمين المشائين في كتابه تهافت الفلاسفة , رد عليه لاحقا ابن رشد في كتابه "تهافت .التهافت"
اطلع الغزالي على الفلسفة اليونانية و على مؤلفات الفاربي و ابن سينا فألف كتابه مقاصد الفلاسفة و الذي بين فيه مذاهب الفلاسفة قبل الاقدام على نقدها بعد هذا الكتاب ألف كتابه *تهافت الفلاسفة* لرد على الفلسفة القدماء أفلاطون و أرسطو و على الفلاسفة المسلمين الفارابي و ابن سينا مبينا تهافت مذاهبهم و تناقضهم معلنا عجز العقل في الامور الالهية مستخدما سلاح أرسطو المنطق.فقد كان تهافت الفلاسفة عملا لا يخلو من قيمة فلسفية لأنه بين المسائل الكبرى التي كانت محلا للخلاف بين الدين و الفلسفة و لكن هذا الكتاب أطاح بقيمة الفلسفة الى أنوجدت لها نصيرا في شخص ابن رشد .
فإذا كان الغزالي قد تسلح بالدين و المنطق لنصرة العقيدة فان ابن رشد قد تسلح بالمنطق و الدين ليدفع التهمة عن الفلسفة و الفلاسفة و ذلك في رده على كتاب تهافت الفلاسفة بكتاب سماه *تهافت التهافت* و بين فيه بان الغزالي قد اخطأ على الشريعة و الحكمة و عليه فقد وضع كتابه فصل المقال بين الحكمة و الشريعة من الاتصال الذي وضح به العلاقة بين الدين و الفلسفة مبينا بأنه لاخلاف بين الحكمة و الشربعة فقال ( إن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إذا كان معزاهم في كتبهم و مقصدهم هو المقصد الذي حثنا عليه الشرع )2 .
وهو يرى بأن الشريعة إذا أولت تأويلا سليما فأنها تتفق كل الاتفاق مع الفلسفة شريطة فهم الفلسفة فهما صحيحا" المقصد من الشرع" و هذا مايبينه بقوله ( و كل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها )2 وصرح بأنه لا تناقض بين الدين و الفلسفة في قوله ( الحكمة هي صاحبة الشريعة)2.
كل هذا تجاهله سماحة البابا و' البروفيسور روبيرفيدريك' باعتبار ان الاسلام دين لا يعتمد العقل.
فالفكر الاسلامي لم يكن فكرا غيبيا بعيدا عن العقل الا فيما لا يمكن للعقل ان يدركه و هي قضايا لم تحلها اي فلسفة و عجز عندها الفكر الانساني مع وضوح آثارها ولا يمكن اعتبار الايمان بها غيبيا .بل ان عدم الايمان بها يعتبر تنكرا وجحودا للفكر نفسه .لان الايمان حل مشكلة لم يستطع ان يحلها العلم ولن. فلو درج الانسان على انكار كل ما لا يستطيع العلم ان يؤكده لدخل في متاهات الجهل المطلق .لان معظم الظواهر التي ندركها في الكون اليوم كانت في عوالم الغيب قرونا مضت فلو انكرها الانسان آنذاك لما كانت حقيقة علمية نؤمن بها اليوم.كما ان مناقشة مسألة الدين و العقيدة الاسلامية و اسسها العقلية لا تكون بالجدل العقلي و الا لوصلنا الى خرافات ميتافيزيقية حسبما توصل 'عمانويل كانط'.(فالعقل هو جملة المقولات التي تنظم الظواهر و القيام بهذا التنظيم خارج معطيات التجربة الحسية ينتهي الى "خرافات ميتافيزيقية")3
فالبحث في الدين هو امر يتجاوز حدود الفطرة البشرية.فلانسان كائن عاقل لكنه محدود الادراك و نسبي المعرفة.و في العالم قضايا وظواهر تزيد عن مدى ادراكه ولا تسعها معارفه ولا تحيط بها علومه مهما بلغت من رقي فوجب وجود سبيل آخر لادراك تلك المعرفة فجاء الدين الاسلامي ليستكمل المعارف فيما هو غيب لا يبلغه بالطلب العقلي كبداية الخلق و نهايته و مصير الكون و الروح و النفس.....و ما الى ذلك من الظواهر.(فماذا يؤمل من عقولنا و افكارنا في العلم بما في عالم الغيب؟ فهل فيما ايدينا من المشاهد معالم تهتدي الى الغائب)1
فيكون بذلك الدين مصدر من مصادر العلم الذي يعجز العقل عن ادراكه.و تكون الرسل بمثابة العقول من الاجساد وبعثتهم حاجة من حاجات العقول و التسليم بها من العلم ذاته (فاذا كان ادراك الحقيقة على ما هي عليه في الواقع علما فان المنهج المتخذ الى ذلك الادراك ينبغي بلا ريب ان يكون هو الاخر علما.لذلك لان العلم لا يتوالد الا عن علم مثله و ما كان للظن ان يصلح ان يكون سبيلا الى العلم بحال)4
(ان الحقيقة العلمية تعتبر في حكم الدين الاسلامي قمة المقدمات الفكرية و ينبوعها .فهي التي ينبغي ان يحج اليها الفكر في خضوع و تطواف دائب .و اي دليل على هذا الاعتبار اقوى من ان يجد الدين الاسلامي نفسه لا يرضى ان يقيم وجوده وقدسيته الا على دعائم العلم)4
لقد جعل الفكر الاسلامي للعقل مكانة كبيرة في مجال التدبر والتفكر ومجال الاستنباط وعمران الأرض لكن الحقيقة ان العقل لمحدوديته يبقى عاجزا عن ادراك الظواهر الميتا فيزيقية و اليقين منها لذا جاء الدين و خصوصا الاسلام ليضع الاسس و الضوابط لهذا العقل.فالعقل لا يستطيع أن يخضع كل المعارف والحقائق، لقدرته ؛ فإن الناس يؤمنون ويسلمون بأمور لا تدركها حواسهم ولا تحيط بها عقولهم،ومن هنا ؛ فإن العقل له دائرة لا يستطيع أن يخضعها لمجال عمله ومن ذلك أمور الغيب، ويمكننا أن نقول أن ما دخل في دائرة الغيب خرج من دائرة العقل.
فالفكر الاسلامي في جوهره يفتح المجال للعقل في ميادين المعرفة و الحرية الفكرية و تطوير الحياة باسس منظمة للمحافظة على الروابط الحقيقية للكرامة البشرية لصالح الفكر الانساني على العموم بدل التخبط في متاهات تناقض القيم التي يعيشها عالم الغرب اليوم..
1-رسالة التوحيد لامام محمد عبده.
2-تهافت الفلاسفة لابن رشد.
3-عمانويل كانط. المقدمات prolégomènes.
4-كبرى اليقينيات الكونية.للعلامة محمد سعيد رمصان البوطي.
بحث و تحليل .ر.رزاق الجزائري.