شاعر الإسلام الأول (محمد اقبال) .... رفعة وجمال
قبيل الحديث عن الشاعر الذي أبحرت معه في بحور الرقي والرفعة أبحث عن مقدمة فلا أجد أجمل من شعره مقدمة له.
انه شاعر يستفز خلايا الروح فتنقى وتتوجه بحثا عن خالقها وقد عادت إليها الذاكرة بعد أن أثقل الإنسان بأخطائه وأدرانه قدرتها على الانعتاق فإذ بها تركض خلف السراب تحسبه الينبوع الذي يرويها
هنا له قصيدتان تعدان في طليعة ما نظم وحاول بهما أن يستحث همم المسلمين إلى طلب الرفعة والطموح إلى المجد واستخلاص تراث الماضي من بين براثن الدهر والعودة بالركب الإسلامي إلى قافلة الحياة الدائبة في سيرها صوب الكمال.
أما أولاهما فقد اتجه بها إلى الله تعالى شاكي ما أصاب المسلمين من الأحداث التي تخلفت بهم عن ركب الحضارة وهم الذين حملوا شعلتها ورفعوا مصباحها لعصور الدهر وأجياله.
نراه في مطلع شكوى يصور أشجانه وآلامه ثم يوجه العتب المرير إلى نفسه واستسلامها للمحن ويقول لماذا أبقى بقاء الزهرة الخرساء ولا أحلق كالطير المغرد.
شكوى
شكواي أم نجواي في هذا الدجى
................................... ونجوم ليلي حسدي أم عودي
أمسيت في الماضي أعيش كأنما
................................... قطع الزمان طريق أمسي عن غدي
والطير صادحة على أفنانها
................................... يبكي الربا بأنينها المتجدد
قد طال تسهيدي وطال نشيدها
................................... ومدامعي كالطل في الغصن الندي
فإلى متى صمتي كأني زهرة
................................... خرساء لم ترزق براعة منشد
قيثارتي ملئت بأنات الجوى
................................... لابد للمكبوت من فيضان
صعدت إلى شفتي بلابل مهجتي
................................... ليبين عنها منطقي ولساني
أنا ما تعديت القناعة والرضا
................................... لكنما هي قصة الأشجان
أشكو وفي فمي التراب وإنما
................................... أشكو مصاب الدين للديان
يشكو لك اللهم قلب لم يهش
................................... إلا لحمد علاك في الأكوان
قد كان هذا الكون قبل وجودنا
................................... روضا وأزهارا بغير شميم
والورد في الأكمام مجهول الشذى
................................... لا يرتجي لظلمها وللمظلوم
لما أطل محمد زكت الربى
................................... واخضر في البستان كل هشيم
وأذاعت الفردوس مكنون الشذى
................................... فإذا الورى في نضرة ونعيم
من قام يهتف باسم ذاتك قبلنا
................................... من كان يدعو الواحد القهارا
كنا نقدم للسيوف صدورنا
................................... لم نخش يوما غاشما جبارا
قد كان في اليونان فلسفة وفي ال
................................... رومان مدرسة وكان الملك في ساسان
لم تغن عنهم قوة أو ثروة
................................... في المال أو في العلم والعرفان
وبكل أرض سامري ماكر
................................... يكفي اليهود مؤونة الشيطان
والحكمة الأولى جرت وثنية
................................... في الصين أو الهند أو توران
نحن الذين بنور وحيك أوضحوا
................................... نهج الهدى ومعالم الايمان
محمد إقبال منجم بشري من الكنوز
حين وجهت لي دعوة بتقديم ملف عن مؤلف اختاره تنازعتني الأهواء ففن القص يسحرني وأخال لو أني تكلمت عن قامة قصصية لكنت أسهبت حتى تملون أو أمل أنا وكان بذهني القاص الساخر عزيز نسين ثم أخذتني الأهواء لتشريح أدب الضياع وكنا سنبحر مع القاص زكريا تامر والعجائبية والغرائبية والضياع والوجودية و..و..و
أمر عظيم كان قد استقر في ذهني حول الشاعر المحيط المتحرك جلال الدين الرومي انه شاعر يغير مزاجك الجمالي ويفتح لك عوالم لم تعرفها
وفي النهاية استقر الأمر عند شاعرنا محمد إقبال شاعر الإسلام الأول
لا زلت أذكر هسيس الأفكار الذي يسيطر علي حين كان الدكتور عيسى العاكوب يقرأ أبيات له فترى العيون قد لمعت والروح قد انتشت انه يعيد الروح لجذرها والعقل لرشده والقلب لصفائه .
وكنت أشعر أني أكبر وأكبر حتى تكاد القاعة لا تسعني كان ذلك حال الجميع أنه يشعرك بالعظمة والرفعة هذا هو محمد اقبال.
الشاعر محمد إقبال، شاعر وفيلسوف إسلامي هندي كبير، كان أول من طالب بإنشاء دولة إسلامية منفصلة عن الهند (باكستان) نبغ في الشعر نبوغاً عظيماً، وتمكن من أن يكتب بعدة لغات حتى يفهمه المسلمون في آسيا، وله 11 ديواناً من الشعر أبرزها ديوان «أسرار الذات».
قال عنه محمد عبد الرحمن(من الشخصيات التي لاقت اهتماما عظيما وكتب عنها كتابات كثيرة في العصر الحديث الشاعر محمد إقبال فهو المناضل بالكلمة والرأي والجهد في سبيل إعلاء كلمة الله وفي سبيل الدعوة الإسلامية وهو صاحب أكبر مدرسة شعرية في الهند‚ يقول الشيخ أبو الحسن الندوي : لا اعرف شخصية ولا مدرسة فكرية في العصر الحديث تناولها الكتاب والمؤلفون والباحثون مثلما تناولوا هذا الشاعر العظيم‚ وجاء في مقال مهرجان إقبال المئوي الذي انعقد في مدينة لاهور وتحت إشراف حكومة باكستان: إن عدد ما صدر عن إقبال من الكتب والرسائل في لغات العالم قد بلغ ألفين ما بين كتاب ورسالة هذا ما عدا ما نشر عنه من بحوث ومقالات‚ ولد إقبال في سيالكوت إحدى مدن البنجاب الغربية في الثالث من ذي القعدة 1294 هـ الموافق 9 من نوفمبر 1877م‚ وأصل إقبال يعود إلى أسرة برهمية حيث كان أسلافه ينتمون إلى جماعة محترمة من الياندبت في كشمير واعتنق الإسلام احد أجداده في عهد السلطان زين العابدين بادشاه 1421ــ 1473م‚ ونجده يصف أصله فيقول: إن جسدي زهرة في حبة كشمير وقلبي من حرم الحجاز وأنشودتي من شيراز‚ بدأ محمد إقبال تعليمه في سن مبكرة على يد أبيه ثم التحق بأحد مكاتب التعليم في سيالكوت وفي السنة الرابعة من تعليمه رأى أبوه أن يتفرغ للعلم الديني ولكن احد أصدقاء والده وهو الأستاذ مير حسن لم يوافق وقال: هذا الصبي ليس لتعليم المساجد وسيبقى في المدرسة‚ وانتقل إقبال إلى الثانوية حيث كان أستاذه مير حسن يدرس الآداب العربية والفارسية وكان قد كرس حياته للدراسات الإسلامية‚ وبدأ إقبال في كتابة الشعر في هذه المرحلة المبكرة وشجعه على ذلك أستاذه مير حسن فكان ينظم الشعر في بداية حياته بالبنجابية ولكن مير حسن وجهه إلى النظم بلغة الاردو وكان إقبال يرسل قصائده إلى ميرزا داغ دهلوي الشاعر البارز في الشعر الاردو حتى يبدي رأيه فيها وينصحه بشأنها وينقحها ولم يمض إلا فترة بسيطة حتى قرر داغ دهلوي أن أشعار إقبال في غنى تام عن التنقيح وأتم إقبال دراسته الأولية في سيالكوت ثم بدأ دراسته الجامعية باجتياز الامتحان العام الأول بجامعة البنجاب 1891 التي تخرج فيها وحصل منها على درجة الماجستير 1899 وحصل على تقديرات مرموقة في امتحان اللغة العربية في جامعة البنجاب‚ وتلقى إقبال دراساته الفلسفية في هذه الكلية على يد الأستاذ الكبير توماس ارنولد وكان أستاذا في الفلسفة الحديثة وحجة في الآداب العربية والعلوم الإسلامية وأستاذها في جامعة لندن‚ وبعد أن حصل إقبال على الماجستير عين معيدا للعربية في الكلية الشرقية لجامعة البنجاب وحاضر حوالي 4 سنوات في التاريخ والتربية الوطنية والاقتصاد والسياسة‚ وصنف كتابا في علم الاقتصاد ولم يصرف التدريس محمد إقبال عن الشعر بل ظل صوته يدوي في محافل الأدب وجلسات الشعر والتي يسمونها في شبه القارة مشاعرة‚ وكانت أول قصيدة له بعنوان «انه يتيم» وألقاها في الحفل السنوي لجماعة حماية الإسلام في لاهور وقد استقبلت القصيدة استقبالا حسنا ومست شغاف القلوب‚ وفي 21 ابريل 1938 توفي محمد إقبال وكان يوما عصيبا في حياة جماهير الهند عامة والمسلمين خاصة فعطلت المصالح الحكومية وأغلقت المتاجر أبوابها ونعاه قادة الهند وأدباؤها‚ يقول طاغور عن وفاة إقبال: لقد خلفت وفاة إقبال في أدبنا فراغا أشبه بالجرح المثخن الذي لا يندمل إلا بعد أمد طويل‚ إن موت شاعر عالمي كإقبال مصيبة تفوق احتمال الهند التي لم ترتفع مكانتها في العالم‚)
له قصيدة:
الصــين لنا
والعُــرب لنا
والهند لنا ،والكل لنا
أضحى الإسلام لنا دينا .
وجميع الكون لنا وطنا
توحيد اللـه لنا نورٌ ..
اعددنا الروح له سكنا
الكون يزول ولا تُمحى ....
في الكون صحائف سؤددنا
بُنيت في الأرض معابدنا ....
والبيت الأول كعبتنا
هو أول بيتٍ نحفظهُ ....
بحياة الروح ويحفظنا .
يا ظلَّ حدائق أندلسٍ .....
أنسيتَ مواني عشرتنا
وعلى أغصانك أوكارٌ ...
عَمُرت بطلائع نشأتنا
يا دجلة هل سجَّلت على .....
شطيك مآثر عزتنا
أمواجك تروي للدنيا ...
وتُعيد جواهر سيرتنا
يا أرض النور من الحرمــــــين
ويا ميلاد شريعتنا
روض الإسلام و دوحته
في ظلكِ روَّاها دمنا
من الجميل في الكاتب بحثه عن فكرة هنا أو جمال هناك تزيد رفعة
والكاتب كالشجرة يغمس جذوره في تراثه وأرضه
وفي الفضاء يترك لأغصانه البحث عن أشعة الشمس والنسمات التي تهب من الشرق والغرب.
وكلما كانت جذوره قوية فانه يمتد للأعلى أسرع وأقوى لا يخشى العواصف
وهنا ندعو الأدباء والكتاب للتوجه إلى النسمات الشرقية فقد غرقنا بالأهواء الغربية.
تعدد المشارب يغني الأديب ومكتبتنا فقيرة بالجمال المشرقي مع انه عميق وجميل وقريب من روحنا .
يقول غوته عن الشاعر حافظ الشيرازي انه معلمي .
وهنا قد قدمنا قامة شعرية عميقة الفكر جميلة الحرف محمد إقبال وما أدراك ما محمد إقبال.
في قصيدته شكوى التي قدمناها يعلن صرخة المسلمين وقيثارته مملوءة بالأنين والأشجان تريد أن تنطق على شفتيه بأنفاسه المتصاعدة.
أما قصيدته الثانية جواب الشكوى
تخيلها إقبال صوتا سماويا يدوي بصيحة الحق جوابا لهذه الشكوى التي تبدو في صرخاتها المتململة المضطربة كأنها خيال جائر لا يقوم على الحجة والبرهان ولا يستقر على دليل من الواقع
قال إقبال كل كلام يصدر عن القلب يترك أثره في القلوب والأفكار الصادقة لا أجنحة لها ولكنها تسبق الطيور.
وكل كلام قدسي المنبع فهو أبدا يتجه إلى العلا ومن عجب أنه نجم من التراب ومتى صعد كان أول منازله السحاب.
جواب الشكوى
كلام الروح للأرواح يسري
وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح
وشق أنينه صدر الفضاء
ومعدنه ترابي العشق مني
جرت في لفظه لغة السماء
لقد فاضت دموع العشق مني
حديثا كان علوي النداء
فحلق في ربا الأفلاك حتى
أهاج العلم الأعلى بكائي
***
تحاورت النجوم وقلن صوت
بقرب العرش موصول الدعاء
وجاوبت المجرة علّ طيفا
سرى بين الكواكب في خفاء
وقال البدر هذا قلب شاك
يواصل شدوه عند المساء
ولم يعرف سوى رضوان صوتي
وما أحراه عندي بالوفاء
ألم أك قبل في جنات عدن
فأخرجني إلى حين قضائي
***
جهاد المؤمنين لهم حياة
ألا إن الحياة هي الجهاد
عقائدهم سواعد ناطقات
وبالأعمال يثبت الاعتقاد
وخوف الموت للأحياء قبر
وخوف الله للأحرار زاد
أرى ميراثهم أضحى لديكم
مضاعاً حيث قد ضاع الرشاد
وليس لوارث في الخير حظ
إذا لم يحفظ الإرث اتحاد
***
لقد سئم الهوى في البيد قيس
ومل من الشكاية والعذاب
يحاول أن يباح العشق حتى
يرى ليلاه وهي بلا حجاب
يريد سفور وجه الحسن لما
رأى وجه الغرام بلا نقاب
فهذا العهد أحرق كل غرس
من الماضي وأغلق كل باب
لقد أفنت صواعقه المغاني
وعاثت في الجبال وفي الهضاب
***
ضياؤك مشرق في كل أرض
لأنك غير محدود المكان
بغت أمم التتار فأدركتها
من الإيمان عاقبة الأمان
وأصبح عابدو الأصنام قدماً
حماة الحجر والركن اليمان
فلا تجزع فهذا العصر ليل
وأنت النجم يشرق كل آن
ولا تخش العواصف فيه وانهض
بشعلتك المضيئة في الزمان
*****
فكن إنسان عين الكون واشهد
مقامك عاليا فوق المعالي
بخنجر عزمك الوثاب لاحت
على الأعلام أنوار الهلال
نداؤك في العناصر مستجاب
إذا دوى بصوت من بلال
وعقلك في الخطوب أجلّ درع
وعشقك خير سيف للنضال
خلافة هذه لأرض استقرت
بمجدك وهو للدنيا سماء
وفي تكبيرك القدسي يبدو
صغيرا كل ما ضمّ الفضاء
فيا من هب للإسلام يدعو
وأيقظ صدق غيرته الوفاء
سترفع قدرك الأقدار حتى
تشاهد أن ساعدك القضاء
وقيل احتكم دنيا وأخرى
وشانك والخلود كما تشاء
اعداد طارق شفيق حقي
أتمنى أن تستفيدوا من هذه المقتطفات التي قدمناها على عجالة ولم نعطي الشاعر حق قدره فمثله أهل للرفعة والجمال ومثلنا أهل للتقصير والتعذر
************** المختارات من الأشعار من ديوان شكوى و جواب شكوى لمحمد إقبال
تقديم محمد حسن الأعظمي والصاوي علي شعلان والديوان صادر عن الدار العلمية- بيروت – الطبعة الأولى 1392/ه -1972/م *************