[align=center:27861b2b8a] الدين القسام درة تاج الجهاد ـــ جمانه طه(*)[/align:27861b2b8a]
علقت قلبي فوق شجرة ليمون وأرحت روحي داخل أزهارها، وقلت: لعل الشيخ مشى في هذه الحاكورة البحرية، فتطلعني على بعض ما سمعت من بوح الشيخ وشجونه، وأعرف السر الذي صنع منه قيمة ونهجاً. ماست الشجرة طرباً وكأنها استشفت ما يدور في خاطري، وقالت:
ليس في الأمر أسرار! ومواقف الشيخ لم تكن فيء شجرة ولا استراحة في بستان، وإنما هي صدق قلب، وثبات جنان، وحبٌّ يتفانى في إرضاء الله، من أجل كرامة الإنسان.
أدهشني عمق الجواب وصدقه، وحفزني إلى أن أتقصى مسيرة هذا الرجل الذي لا أعرف عنه أكثر من أنه رجل ورع تقي، خرج من جبلة وذهب إلى فلسطين لمساندة أهلها في مقاتلة البريطانيين والصهاينة.
بعد عودتي إلى بعض المراجع، وجدت أن القسام هذا الفتى –الشيخ انطلق في سماء العروبة مثل شهاب ثاقب، يحمل في ضوئه النور والنار. النور الهادي لأهله وشعبه، والنار الحارقة للأعداء المحتلين أعداء العروبة والإسلام، فصار للأعداء هدفاً، وللأصدقاء ملاذاً.
وإذا كانت الأرض السورية قد أنجبت على مر الزمان أبطالاً يدفعون الأذى عنها وعن الأرض العربية، فإنه من اللافت حقاً أن يولد في بلدة صغيرة وفي مجتمع فقير مادياً متخلف علمياً، فتى مُطَهَّرٌ من وباء القطرية وممتلئٌ غيرة قومية. فتى تؤرقه مشكلات مجتمعه وهموم أمته، فيتخذ من القرآن وآياته جواز سفر إلى الجهاد في سبيل الله من أجل تحرير الوطن وتنقيته من الفقر والأمية والاستعباد.
إن مشاركة عز الدين في محاربة الانتداب الفرنسي على سورية، والوجود البريطاني والصهيوني في فلسطين أمر غير مستغرب.
فسورية وطنه، وفلسطين جزء من بلاد الشام التي هي كل وطنه. ولكن أن يسعى للذهاب إلى ليبيا ومساندة الأشقاء في مقاومة الاستعمار الإيطالي، فهذا كرم ما بعده كرم، وشهامة ما بعدها شهامة، وتفان في سبيل الله والإسلام لا يماثله غير عمل السلف الصالح من أولياء وصديقين. فالقسام حين بادر إلى تجنيد الشباب من جبلة وغيرها من مدن وقرى الساحل السوري، وتدريبهم على حمل السلاح للذهاب معه إلى ليبيا، كان يرغب أن يبعث الروح في حركة الجهاد المبنية على فكرة وحدة الأمة. لكن رغبة الشيخ لم تتحقق، فقد أخلت الحكومة العثمانية بوعدها له ولم تنقل المجاهدين بحراً من إسكندرونة إلى طرابلس الليبية. وكما قيل، لم ييأس الشيخ وإنما تابع المحاولة، حتى تمكن من مؤازرة المجاهدين في الحد الأدنى ونقل إليهم ما تم جمعه من مال وعتاد.
ما سبق ذكره يسوقني إلى التساؤل، عن سبب تقاعس مدينة جبلة عن تكريم هذا الرجل الظاهرة؟.
أليس حَرِيّاً بجبلة وهي تفتخر بانتسابها إلى سلطان الزهاد إبراهيم بن أدهم الذي يثوي في ثراها، أن تفتخر أيضاً بانتسابها إلى شيخ المجاهدين عز الدين القسام، الذي ولد فيها ودرج على مرابعها، وتصبح جبلة العز الأدهمية؟.
***
يعد عام 1300ه الموافق 1883م عاماً مميزاً في تاريخ السجل المدني في بلدة جبلة، إنه عام ولادة محمد عز الدين بن محمود القسام. الذي ولد في أسرة فقيرة مادياً متواضعة اجتماعياً، ثرية بإيمانها وذكرها الحسن. وحينما شب عز الدين، رغب والده، على الرغم من ضيق يده، أن يرسله إلى القاهرة للدراسة في الأزهر والتبحر في المعرفة وعلوم الدين.
فانطلق اليافع من ساحل جزيرة أرواد على ظهر مركب إلى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة، حاملاً في ضميره وعداً بالنجاح قطعه لوالده، وفي قلبه محبة وافرة لأهله ورفاقه وبلدته.
أقبل القسام على الدراسة في الأزهر بلهفة العاشق وعقل النابه، وصرف كل يومه متبحراً في أصول الفقه وعلم مصطلح الحديث، عملاً بوصية الحافظ الخطيب البغدادي الموجهة إلى طالب العلم، قائلاً: "إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة".
وإيماناً بهذه الوصية، أمضى حياته معلماً ومتعلماً، يقيناً منه بأن العلم إن لم يتطور يصبح راكداً، وإن لم يبذل للآخرين فلا قيمة له.
درس القسام في الأزهر علوم الفقه والتفسير والحديث والأصول واللغة العربية، من غير أن يخضع للبرنامج المقرر على غيره من الدارسين. فكان ينتقل من مرحلة إلى أخرى على قدر جهده وتحصيله من العلوم. فهو لم يهدف من دراسته إلى نيل شهادة تدلل على تضلعه في الدين، بل إلى التفقّه فيه وفهم دلالات ألفاظ القرآن والحديث، ليحقق طموحه ويصبح داعية واعياً ومفكراً متنوراً.
***
عندما شاهد القسام في أثناء وجوده في مصر قسوة الاستعمار الإنكليزي وتسلطه على الشعب المصري وثرواته، ترسخت لديه قناعة بضرورة مكافحة الإقطاع والتخلص من المستعمر لأنهما في رأيه يمثلان وجهين لعملة واحدة، فالظلم إذا شاع وساد يسحق الإنسان ويدمر العمران. وقد ردته هذه المشاهدات غير الإنسانية إلى بلدته جبلة، وذكرته بما يعانيه أهلها من جهل وأمية وتدن في الأوضاع الاقتصادية.
ولأنه يرى في العلم السبيل الوحيد لتنمية الثقة بالنفس، وللتحرر من الاستغلال الاجتماعي ووباء الذل والمسكنة، بدأ بعد عودته من الأزهر إلى جبلة، مسيرة تحرير الأطفال والعمال والفلاحين من الأمية، يعلمهم أصول القراءة والكتابة ويرشدهم إلى فضائل الدين ومنهجه الاجتماعي السليم.
وما يؤسف له أنه لم يستطع أن يحقق ما كان يطمح إليه، على الرغم من الجهود التي بذلها في هذا المجال، لأن يداً واحدة لا تصفق، ولأن صوته الجريء أزعج الإقطاع، فضاق به وحقد عليه وحاول نفيه إلى إزمير. هذا عدا الأعراف والتقاليد التي تسيطر على الناس، ويصعب اقتلاعها أو حتى تشذيبها.
وهرباً من الحصار والإخفاق قرر القسام السفر إلى الآستانة، وفي نفسه رغبة تحدوه إلى مزيد من التعلم والإطلاع على الجديد من الآراء والأساليب المتبعة في الدروس المسجدية.
فإذا كان الجهاد بالسلاح هو همه الأول، فإن همه الثاني هو تخليص الدين من البدع والشوائب التي شوهت وجهه، بفعل الجهل حيناً والإساءة المقصودة أحياناً كثيرة. لكن مقامه في الآستانة لم يطل، لما لقيه من أمية الناس وعدم معرفتهم اللغة العربية وجهلهم تعاليم الدين حتى البديهي منها. فرجع إلى جبلة وفي نيته البدء من جديد، ففتح مدرسة يدرس فيها اللغة العربية وعلوم الدين، في النهار للأطفال واليافعين وفي المساء للكبار. وفي جامع السلطان إبراهيم يعطي لمن يرغب دروساً في الحديث وتفسير القرآن. في حين جعل حديثه في خطبة الجمعة مقتصراً على حث الناس وتنبيههم إلى ضرورة التعاون والمحبة والعمل المثمر للتغلب على الفقر والبؤس، وعلى توضيح بعض المسائل التي استعصى فهمها عليهم. فكان بهذا العمل المكثف، يعبر عن احتجاج صامت على تردي الأوضاع في المجتمع، من النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية.
***
إن انغماس القسام في التعليم والعمل الاجتماعي، لم يحجبه عن ممارسة دوره الريادي في محاربة الاستعمار. فبعد الاحتلال الفرنسي لسورية والبريطاني لفلسطين، أحسَّ أن فرصة الجهاد جاءت تسعى إليه. ولا سيما أنه متأثر بأحمد عرابي ومواقفه النضالية في تحرير أرض مصر من دنس الاستعمار البريطاني. وبآراء المصلح المتنور جمال الدين الأفغاني الذي يقول:
"لسنا نعني بالخائن من يبيع بلاده بالنقود، ويسلمها إلى العدو بثمن بخس أو غير بخس، وكل ثمن تباع به البلاد فهو بخس. بل خائن الوطن من يكون سبباً في خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن، بل من يدع قدماً لعدو تستقر على أرض الوطن، وهو قادر على زلزلتها". فاتخذ القسام من هذه المقولة تميمة حفزته على إعلان الجهاد ومتابعته.
كان القسام صديقاً للشيخ محمد كامل القصاب، وملازماً له، وقد ساعده بتأمين حاجات الثورة ضد الفرنسيين، الرجال من أهل فلسطين والعمال من المصريين الذين يعملون في حيفا، ومن أهل بلدته جبلة. وعندما ذهب إلى الساحل وأشعل الثورة هناك، باع بيته في جبلة ونقل أسرته إلى الحفة، واشترى بثمن البيت سلاحاً. ودعا كل من يقدر على شراء السلاح أو على حمله إلى الجهاد ومقاومة الوجود الفرنسي في المنطقة الساحلية. وقد تعاون ونسق عمليات الجهاد مع الشيخ صالح العلي والشيخ عمر البيطار في الساحل، ومع الشيخ نافع الشامي وأبيه في إدلب.
وعلى الرغم من الفاقة المادية الخانقة التي كانت تكبل الناس وتحطم معنوياتهم، وتشغلهم عن أي رغبة في التحرر، استطاع القسام بأسلوبه الإنساني وخطبه الحماسية ودروسه الدينية، أن يوقد في قلوب الناس شمعة النضال ويحضهم على مقاومة الشر في النفس وعلى الأرض. وكانت ثورته، الشرارة التي أججت الثورة في منطقة صهيون.
وحينما ارتفعت وتيرة مقاومته هو ورفاقه، ضيق الفرنسيون عليهم الخناق، ووضعوا مكافأة مالية لمن يدل على مكانه أو يمسك به. وعندما عجزوا عن استمالته بالترغيب وعن استسلامه بالترهيب، أصدروا عليه غيابياً حكماً بالقتل.
فترك منطقة الساحل، ولجأ هو ورفاقه إلى جبال صهيون وجعلوها ميدان جهادهم.
وعندما تمكن الفرنسيون من معرفة موقعهم، هاجموهم وقتلوا عدداً منهم وفرقوا شمل الباقين. فضاقت الدنيا بالشيخ، ولم يكن أمامه بدٌّ من مغادرة سورية إلى فلسطين. فعبر الأرض اللبنانية البرية والبحرية، وحط رحاله أولاً في عكا، ثم انتقل منها إلى حيفا التي كانت قاعدة الأسطول البريطاني وترسانة أسلحته. ومن جديد استأنف رحلة النضال العلمية والجهادية، فعلَّم الدين واللغة للعمال والفلاحين، وعمل على تحسين أحوالهم المعيشية.
في حيفا خطب في عدد من جوامعها، واستقر في جامع الاستقلال وتولى شؤونه. فكان يبصر الناس بما يبيته اليهود لهم من شر وتدمير، ويحرك فيهم همة الجهاد ويستنهض في أرواحهم شرف الاستشهاد، ويذكرهم بما يخطط العدو لفلسطين، ويقول لهم: "اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين، والسيطرة على البلاد، وتأسيس دولتهم".
لله درك يا شيخ المجاهدين، كم كانت رؤيتك نافذة، وكم كان حدسك صائباً!
ترى لو بقيت حياً إلى اليوم، هل كنت تضيف شيئاً على ما قلته منذ عقود طويلة من الزمن؟
ومن أعمال القسام الرائدة في فلسطين، أنه استطاع بعد عمل شاق أن يؤسس أول تنظيم جهادي حقيقي، قوامه العمال في المدن والفلاحون في الأرياف. هذه البذرة الطيبة التي أنبتها في أوساط الشعب الكادح، أعطت أكلها في معركة يعبد وفي غيرها من المعارك والهجمات، وأوقعت هزائم في جيش العدو وهددت أمنه.
في عام 1935م استشهد عز الدين القسام، واستمر التنظيم الذي أسسه قائماً عاملاً مدة ثلاث سنوات، من 1936 –1939م، بفضل العمال والفلاحين الذين سموا فيما بعد بالقساميين التزاماً منهم بالإنسان الذي قضى في سبيل قضية مقدسة. فكان لهذا التنظيم دور نضالي بارز في شمال فلسطين، بقيادة خليل محمد عيسى المسمى (أبو إبراهيم الكبير) ومعه: توفيق إبراهيم (أبو إبراهيم الصغير)، ومحمد أبو محمود الصفوري وسليمان عبد الجبار، وعبد الله الأصبح وسواهم. وفي منطقة لواء نابلس، بقيادة الشيخ فرحان السعدي ومعه عبد الرحيم الحاج محمد ويوسف أبو درة ومحمد الصالح الحمد، وسواهم.
***
لم يكتف القسام بالجهاد المسلح ضد المستعمر والمحتل، ولا بجهاد الموقف ضد الإقطاع، وإنما جاهد بقلمه أيضاً فحارب البدع والضلالات ودعا إلى تركها من أجل تنقية الدين ومفاهيمه. ولا سيما أن تلك الفترة كانت تزدحم بحضور الاستعمار: انتداباً واحتلالاً، والاستعمار في كلا الحالتين يسعى إلى بث التفرقة عن طريق تشويه حقائق الدين وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة.
كتب القسام مع رفيقه الشيخ محمد كامل القصاب رسالة قيمة نادرة كان تأثيرها في الناس كبيراً، عنوانها: "النقد والبيان في دفع أوهام خيزران".
يحاول القسام والقصاب في هذه الرسالة، رد الظلم الذي لحقهما من الشيخ محمد صبحي خيزران الحنفي العكي، حين قوَّلهما ما لم يقولاه بشأن رفع الصوت في الجنازة، وبما يتعلق بصلاة التراويح وعدد ركعاتها ووقت أدائها. وأرادا أن يبصرا الناس بما هو صحيح كي لا يسقطوا في بؤرة البدع التي تبعدهم عن جوهر الدين.
ويبينان في الرسالة بالشواهد والتوثيق من أقوال السادة الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، عدم جواز رفع الصوت بذكر أو دعاء في الجنازة. فرفع الصوت وسواه من الحدث في الدين، ومخالف لسنة الرسول (ص)، ويجب على من له قدرة على منع ذلك، أن يمنعه. والأصل المشروع هو الذكر الخفي، عملاً بقوله تعالى: )واذكرْ ربَّكَ في نَفْسِكَ تضرعاً وخِفْيَةً وَدُنَ الجَهْرِ مِنَ القولِ( /سورة الأنفال، 205
ويدعمان رأيهما بقول الإمام النووي: "إن الصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السر مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما. لأنه أسكن للخاطر وأجمع للفكر فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذه الحال.([2])
ويشيران إلى أن الإمام البركوي يأخذ على العلماء سكوتهم عن البدع، وإنكارهم المحرم فقط. لأن البدعة في العبادة وإن كانت دون البدعة في الاعتقاد، هي منكر في دين الله، وضلالة يجب تركها. وتنطوي البدعة، كما يقول القسام والقصاب، على معنيين:
"معنى لغوي عام هو المحدث مطلقاً، عادة أو عبادة، لأنها من الابتداع بمعنى الإحداث، كالرفعة من الارتفاع والخلفة من الاختلاف. ومعنى شرعي خاص، هو الزيادة في الدين أو النقصان منه."([3])
وبعد طول نقاش وتفنيد، يقولان: "لم يفتر أحد على الله الكذب، فقد قلنا ما قاله الأئمة من علماء المذاهب الأربعة، ولم نكذب على الرسول صلوات الله عليه، حين ندخل في هذا أو تلك. وإنما يدخل فيهما من حاول أن يؤيد البدع بتأويل الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، على حسب هواه."([4])
وعلى هذا، "فإن الجهر بالذكر مع الجنازة بدعة، لعدم ورودها عن الصدر الأول والسلف الصالح"([5])
***
وعن الخلاف حول صلاة التراويح، يظهران عجبهما من تجرؤ الشيخ خزيران على الدين، ونقله أموراً لا صحة لها حول هذه الصلاة، حيث يصرح:
"بأن الأمة الإسلامية من عهد عمر إلى يومنا هذا، متفقة على كيفية صلاة التراويح المعمول بها الآن، وهو أنها بالإجماع عليها، وأنها في أول الليل، وأنها في العدد الذي يصليه المسلمون الآن في مساجدهم مع أنه لم يقل بهذا الاتفاق أحد."([6])
لكن رأيهما، كما فهمت، يميل إلى عدم التضييق على الناس في صلاة التراويح من حيث عدد الركعات ومدة القراءة، طولاً أو قصراً، وزمن الأداء، ومكانه جماعة في المسجد أو انفراداً في البيت. وقد استقيا قولهما هذا من الأحاديث المروية عن الرسول، ومن أقوال العلماء والفقهاء. فقد أخرج البخاري، وغيره عن السيدة عائشة، أنها قالت "ما كان النبي (ص) يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة."
وقال الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين): "واختلفوا في أن الجماعة فيها، أي صلاة التراويح، أفضل أم الانفراد؟ فقيل: إن الجماعة أفضل لفعل عمر (ر)، ولأن الاجتماع بركة وله فضيلة بدليل الفرائض، ولأنه ربما يكسل في الانفراد وينشط عند مشاهدة الجمع. وقيل: الانفراد أفضل لأن هذه سنة ليست من الشعائر كالعيدين. ويوافق الغزالي ما قاله عمر (ر) بأن الجماعة أفضل.
وينقل القسام والقصاب عن الإمامين الشوكاني والنووي، اللذين يقولان باتفاق العلماء على استحباب القيام بها جماعة. لكنهما يذكران أن مالكاً وأباً يوسف وبعض الشافعية وغيرهم، قالوا: الأفضل صلاتها فرادى في البيت لقول الرسول (ص): "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة."([7])
من هذا العرض السريع لبعض ما جاء في الرسالة، نتبين أن الذي دفع القسام إلى المشاركة في كتابتها هو صدقه مع نفسه ورغبته في توعية الناس وتنويرهم، وحضهم على الابتعاد عن البدع في الدين، كي تكون عبادتهم لله خالصة من كل شائبة، فقد رفض القسام الذاكرة الجاهزة، ووقف ضد الصورة القارة في أذهان الناس.
***
هذا هو عز الدين القسام. رجل عاش رؤية الدين ومفهومه للجهاد، فنذر روحه وزمنه لهذا المفهوم ولتلك الرؤية، وتماهى بهما وجداناً وجسداً. رجل وطني رائد في وطن محتل، معلم في مجتمع جاهل مظلوم، جريء أمام غاز طامع، صريح في محاربة البدع والترهات.
إنه عز الدين القسام، الذي غاب جسداً وبقي فكراً ونهجاً وممارسة.
وصدق فيه قول الشاعر فؤاد الخطيب:
ما كنتُ أحسبُ قبلَ شخصك أمةً
في بردتيه يضمُّها إنسانُ
لم يثن عزمَك والكتائبُ شمرتْ
نصلٌ يشبُّ توقداً وَسِنانُ
هو صيحةٌ ملأ الفضاءَ دويُّها
فَسَلِ العروبةَ هلْ لها آذانُ
أَوْلتْ عمامتُك العمائمَ كلّها
شرفاً تقصرُ عندها التيجانُ
وجعلتَ لاسمِ الشيخِ أرفعَ رتبةً
نبذتْ قديَم عهوِدها الأوطانُ
يا حصنَ يعربَ في ثراكَ موسدٌ
نعمَ الضحية عنكَ والقربانُ
المراجع:
1-عز الدين القسام: شيخ المجاهدين في فلسطين /تأليف محمد محمد حسن شُرّاب، دمشق:
دار القلم، ط1، 2000، سلسلة أعلام المسلمين (77).
2-الوادي الأحمر: صفحات خالدات من سيرة الإمام عز الدين القسام /تأليف عبد الله الطنطاوي، دمشق: دار القلم، ط1، 2004.
3-النقد والبيان في دفع أوهام خزيران /تأليف محمد كامل القصاب وعز الدين القسام، تحقيق زهير الشاويش، دمشق: المكتب الإسلامي، ط1، 2001.
--------------------------------------------------------------------------------
* باحثة من سورية.
([2]) -انظر ص 32 من رسالة النقد والبيان في دفع أوهام خزيران.
([3]) -نفسه، ص 48.
([4]) -نفسه، ص 46.
([5]) -نفسه، ص 46.
([6]) -نفسه، ص 55.
([7]) -هو في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وصحيح الجامع الصغير.