خير يا طير..؟
... ثم إني إن كنت قد قدمت إليك في البدء ما قدمت من مجمل الحديث، ولم أجد مناصا من بسطه أمامك ثانية مفصلا مسهبا، فذلك لأني لم أجد له نظيرا بين الأحاديث، ولم أعثر له على بديل، وإن كنت قد أطلت أو أثقلت عليك به غير متعمد أو قاصد، فذلك لأني لم أوفق إلى إيجازه أو اختصاره لك في كلمات معدودات، ولا يحق لك أن تفهم ما أفصحت عنه لك الساعة على أنه تقصير مني، بل ينبغي لك ويليق بك أن تفضي إلى ما خلصت إليه في شأن هذا الأمر، ومفاده أن اقتضاب ما أفضت فيه متحدثا، وما أسمعتك إياه من حديث مسهب، هو غاية عز بلوغها، بل ليس إلى إدراكها والظفر بها من سبيل، لكني أعود مرة ثانية لأحدثك، مؤكدا ما سبق وأن ذكرت لك ...
بالأمس كانوا هنا في هذا المكان بذاته وصفاته، وكانت أبصارهم فيه حديدة، وكانت مسامعهم مرهفة أكثر من أي وقت مضى في حياتهم، لا من أجل رؤية عالم ذي حسن وجمال، أو لسماع خطبة يتيمة في الدهر وحبلى بالمعاني والحكم الثقال، ولا من أجل معاينة منظر ساحر خلاب، يبعث في النفس التفاؤل والآمال، أو للإنصات إلى موعظة بليغة، تذكر العبد الفقير بحقيقة حاله ومآله في الغدو والآصال، أو بقصد ارتواء العيون ببهاء مشهد ربيعي، أو سناء ثلج فوق قمم الجبال، ولا في سبيل تحصيل علم نافع بسماع أجود مقال، وإنما شحذوا أعينهم منتهى الشحذ، وأرهفوا سمعهم بأقصى ما تبقى لديهم من الجهد، توقعا لما قد لا يخطر على بال ...
د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com