التداولية : الاهتمامات والمفاهيم والأهداف
رخرور أمحمد ـ الجزائريميل جل المهتمين بشأن التداولية إلى الإحجام عن تعيين موضوع التداولية ، وتحديد مجال تخصصها ، لأنهم لاحظوا مدى تعدد توجهات اللسانيات التداولية· ، وبالتالي تشعب مواضيعها وكثرة اهتماماتها ، الأمر الذي صعّب على الباحثين الاهتداء إلى رؤية موحدة أو مقاربة حول موضوعها . ومن جانب آخر يعتقد هؤلاء أن تحديد موضوع التداولية هو عمل لا فائدة منه ، بل فيه زج للمبحث والباحث في ركن ضيق يحول دون التعمق والتحري السديد في اللغة الطبيعية ـ على غناها ـ وما يتصل بها ، إلا أنه وبالرغم من الصعوبات المعيقة على تعيين حد موضوع التداولية ، فقد اقترح بعض الباحثين عدة تحديدات ، أو بالأحرى استشرفوا توجهات تتماشى وطبيعة هذا المبحث . على غرار ما فعل "ش . موريس" حينما عدّ التداولية العلم الذي يعالج العلاقة بين الأدلة ومؤوليها . وكما حصر كل من "ريكاناتي" و"ديلر" وظيفة التداولية في أنها تخصص يدرس ÷ استخدام اللغة داخل الخطابات والسمات المميزة التي تؤسس وجهته الخطابية في صلب اللغة ×([1]) . أما "فان جاك" فيعتبرها تخصصا÷ يتناول اللغة بوصفها ظاهرة خطابية وتبليغية واجتماعية في نفس الوقت ×([2]) .
ولقد سبق لي وأن أشرت إلى أن التداولية تعنى بدراسة الكيفية التي يسلكها الناس لفهم الفعل الكلامي وفقهه ، وكيفية إنتاجهم له . ليتطرق بحثنا أيضا إلى تعقب أسباب نجاح المتخاطبين والمشاركين في الموقف الكلامي أثناء عملية التخاطب والتحادث التي تدور فيما بينهم . ذلك لأن إنجاز التحادث بين طرفين أو عدة أطراف ، يحملهم ـ للمحافظة على استمرار الكلام أو المحادثة ونجاحها ـ على أن يتبعوا مبادئ ومعايير محددة ومتعارف عليها بين المتشاركين في الحديث . وأسمى مبدإ تهتم به التداولية هو "مبدأ التعاون" لأهميته في إنجاح المحادثة ، أي أن المتحادثين يتعاونون لاستمرار الحديث من خلال المساهمة والمشاركة في الحدث الكلامي المتواصل. وثاني مبدإ نال اهتمام التداولية، والذي لا يقل أهمية عن سابقه، وهو "مبدإ التأدب" ، الذي يفرض على المتحدثين أن يحترم بعضهم بعضا في الكلام . وبالتالي فقد أخذت التداولية على عاتقها ÷ البحث في صياغة شروط إنجاز العبارة من لدن باث ما من جهة ، ومن جهة أخرى بيان أي جهة يمكن لها أن تكون مثل هذا الإنجاز عنصرا في مجرى الفعل المتداخل الإنجاز الذي يصبح بدوره مقبولا أو مرفوضا عند فاعل آخر ×([3]) .
ويمكن حصر مهام ومرامي التداولية الرئيسة ، وإن كان من الصعوبة بمكان تحديدها ، لأن حقل التداولية واسع جدا . إذ يشمل كل جوانب اللغة، ولكن بغرض تيسير فهم موضوع التداولية للدارسين، سنحاول التركيز على أكثر المواضيع تناولاً من قبل المبحث التداولي ومنها :
ـ تعن التداولية بتتبع أثر القواعد المتعارف عليها من خلال العبارات الملفوظة وتأويلها ، كما تهتم أيضا ÷بتحليل الشروط التي تجعل العبارات جائزة ومقبولة في موقف معين بالنسبة للمتكلمين بتلك اللغة ×([4]).
ـ تسعى التداولية لأن تجد مبادئ تشتمل على اتجاهات مجاري فعل الكلام المتشابك الإنجاز الذي يجب أن يوجد عند إنجاز العبارة كي تصير ناجحة ومفهومة .
ـ كما تحاول التداولية البحث في كيفية تماسك ظروف نجاح العبارة كفعل إنجازي ، وكمبادئ فعل مشترك الإنجاز التواصلي مع الخطاب أو تأويله ، إي إنزال الأعمال المنجزة في موقف (سياق) معين ، وأن تصوغ الشروط التي تعين أيَّ العبارات تكون ناجحة في موقف ما ، والذي ندعوه "السياق" .
وكما نرى فإن اهتمام التداولية الأساس يتجه نحو تحويل دراسة الموضوعات ـ والتي هي ضرب من ضروب الخطاب ـ إلى دراستها كأفعال منجزة ، والتي هي أفعال الكلام المنبثقة عن الاستعمال ؛ بمعنى أن المنهج التداولي يحوّل مجرى الدراسات التي كانت مقتصرة على البنية المجردة لموضوع العبارة ـ وهذا مذهب البنيوية ـ إلى الدراسة التي تأخذ في الحسبان دراسة هذه البنية لإنجاز العبارة ، أي الحث على تحويل الخطاب إلى أفعال منجزة يمكن أن ندعوها " تأويلا تداوليا للعبارة " .
ومما سبق يتضح بجلاء الإطار العام للهدف الذي تصبو إيه التداولية ، والذي دأبت تحث الخطى للوصول إليه . فهي تسعى لتتجاوز النظرة الصورية للغة التي كانت محل اهتمام المدارس اللسانية السابقة، لتدعو إلى ضرورة إيلاء العناية الكافية بالظروف المواتية والمناسبة عند استعمال اللغة ، منطلقة في ذلك من اقتناعها من أن ÷ اللغات الطبيعية بنيات تحدد خصائصها (جزئيا على الأقل) ظروف استعمالها في إطار وظيفتها الأساسية ، وظيفة التواصل ×([5]) .
وتبعا لموضوعات التداولية هذه ، فقد سعى أعلام هذا المنهج إلى التأكيد على أهمية البحث التداولي لبيان الكيفية التي يتم بها توصيل معنى اللغة من خلال الإبلاغ . وهو ما نعثر عليه في أعمال "أوستين" و"سيرل"و"روسل"و"فريجة" .الذين ألحوا كثيرا على حتمية دراسة اللغة أثناء الاستعمال ، والنأي عن تجريدها من تداولها العادي([6]) . ووصلوا إلى حد المبالغة حينما حصروا المعنى في الاستعمال لاقتناعهم الشديد بألا فائدة مرجوة من اللغة إذا لم تكن حاملة للمعنى ، وشارحة لأحوال الناس ، ومفصحة عن حاجاتهم .
وكنتيجة طبيعية لهذا التوجه الجديد ، فقد اتجهت الدراسات الحديثة ـ بإيحاء من الدرس التداولي ـ إلى الاهتمام بالتواصل والاستعمال الفعلي للغة ؛ أي محاولة دراسة استعمال اللغة في الخطاب (أثناء التخاطب) . لأن التواصل هو الذي يحدد ظروف بنية اللغة التركيبية ، فالمتكلم حينما يلقي كلامه إنما يفعل ذلك وفق ظروف التواصل ، وطبيعة المتلقي ، وليس وفق ظروف النظام اللغوي في حد ذاته .
إن ما انبثق عن هذه البحوث من آثار ـ تنظيرية كانت أم إجرائية ـ تتفق على أن التداولية ـ باعتبارها فرعا حديثا من فروع العلوم اللغوية ـ تُعنى بدراسة وتحليل عمليات الكلام والكتابة ، في محاولة منها لتوصيف وظائف الأقوال اللغوية ،وبين خصائصها خلال إجراءات عملية التواصل بشكل عام .الأمر الذي يتيح لدراستها أن تكون ذات صبغة تنفيذية إجرائية .
وبالموازاة مع هذه الوسمة التطبيقية ، تهدف التداولية إلى إرساء قواعد نظرية لأفعال الكلام وتطويرها ، بالانطلاق من إمعان النظر في الأنماط المجردة ، أو للأصناف التي تمثل الأفعال المحسوسة والشخصية التي ننجزها أثناء كلامنا . واضعة بذلك موضع السؤال التقابل السوسيري بين "اللغة"و"الكلام" ؛ رافضة اعتبار "الكلام" موضوعا غير قابل للدراسة المنهجية .
وبانتقال الدراسات اللغوية إلى المجال الأدبي فإن هدف التداولية يوجب على الشعرية (نظرية الأدب) ألا تنحصر بوصف مجموعة محتملة من الأشكال ("لغة" ما في مقابل "كلام") ، بل عليها أن تشتمل على نظرية (للأفعال) الأدبية أيضاً ([7]) .
أن اهتمام التداولية إذا منصب على جانبين : دراسة اللغة ، ودراسة الشق الاستعمالي لها . وبذلك يكون المبحث التداولي قد انفرد عن بقية المدارس اللسانية السابقة له، بانكبابه على اللغة ، ومن ثمّ مراعاة الجانب الاستعمالي فيها . وإن هذا التيار كان وليد "فلسفة اللغة العادية" الذي أرسى دعائمه الفيلسوف "فيتغنشتاين" ، الذي دعا إلى دراسة اللغة في جانبها الاستعمالي([8]) ، هذا الاتجاه تلقفه كل من "ج.ل.أوستين" وكذا تلميذه "ج.سيرل" ، اللذان تأثرا بهذا الفيلسوف واستلهما منه بعض أفكاره التي تبدو واضحة في دراسة ÷ القوى المتضمنة في القول ×([9]) . وإن دعوة التداولية لدراسة اللغة ، لا لذاتها كما فعلت البنيوية ،وإنما في إطار البحث في "استعمال اللغة" ؛ ليستدعي بالضرورة تناول عناصر أخرى جديدة مرتبطة بهذا الاستعمال وتابعة له ، كالمتكلم والكلام واللفظ والمقام والتواصل والغرض والمتلقي ... إلخ .
مصادر التداولية :
ما يمكن أن يقال عن مصادر التداولية إنها متعددة ، ذلك أن لكل مفهوم من مفاهيمها حقل معرفي ÷فـ "أفعال الكلام"مثلاً ، مفهوم تداولي منبثق من مناخ فلسفي عام ، هو تيار "الفلسفة التحليلة"·بما احتوتهمن مناهج وتيارات وقضايا ، وكذلك مفهوم "نظرية المحادثة" ، الذي انبثق من فلسفة "بول غرايس"Grice، وأما "نظرية الملاءمة " فقد ولدت من رحم علم النفس المعرفي وهكذا ... ×([10]).
إلا أن ما يلاحظ أن أهم حقل كان له الأثر البالغ في ظهور التداولية هو حقل "الفلسفة التحليلية"، وهذا ما يؤكده د/ مسعود صحراوي حين قال : ÷ والفلسفة التحليلية لا تعنينا لذاتها ، ولكن ما يهمّنا منها هو لحظة انبثاق ظاهرة "الأفعال الكلامية" من قلب التحليل الفلسفي ثم ما انجر عن ذلك من ولادة التيار التداولي في البحث اللغوي ، لأن الفلسفة التحليلية هي السبب في نشوء اللسانيات التداولية ×([11]). وبالتالي يمكن اختزال أسس التداولية في اعتمدها على دعامتين أساسيتين ، تتكئ عليهما ، وتؤدي دورها بهما ؛ إنهما : الشق المعرفي ، والشق التواصلي .
ـ فالجانب المعرفي مستمد أساسا من ÷ علم النفس المعرفي : الاستدلالات ، الاعتقادات ، والنوايا ×([12]) .
ـ وأما الجانب التواصلي فيهتم بالبحث في ما يصدر عن المتكلمين والبحث في أغراضهم واهتماماتهم ورغباتهم .
وتسعى التداولية في النهاية إلى معالجة الكثير من المفاهيم ، ذكرتها الكتب المتخصصة ، وركز عليها الباحثون في ميدان التداولية منها : أفعال الكلام ، السياق، متضمنات القول ، نظرية الملاءمة ، الاستلزام الحواري ، القصدية ... إلخ .
·هذا المصطلح مستعمل بالمغرب في مقابل ما نستعمله عندنا [ التداولية ، التداوليات ] .
[1] ـ مجلة "La pragmatique" ، العدد 42 ، مايو (1970) ، دار لاروس .
[2] ـ فان . ف . جاك ،"La pragmatique" ، ضمن الموسوعة العالمية ، المدونة رقم 15 / 1985 .
[3] ـ قنيني عبد القادر ، النص والسياق ، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي .
[4] ـ م ن .
[5] ـ أحمد المتوكل ، الوظائف التداولية في اللغة العربية ، المغرب ، ط1 /1985 ، ص 08 .
[6] ـ لمزيد من المعلومات ، يرجى النظر : مصطفى غلفان ، اللسانيات العربية الحديثة ، المغرب / 1988 ، ص 246 وما تلاها .
[7] ـ ينظر فرناند هالين ، التداولية ، تر:زياد عزالدين العوف ، مجلة الآداب الأجنبية ، عن اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، العدد 125 / شتاء 2006 .
[8] ـ للتوسع أكثر ، ينظر د/ مسعود صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب ، م س ، ص 22 ـ 23 .
[9] ـ م ن ، ص 24 .
·لمعرفة معنى الفلسفة التحليلية ، ينظر كتاب د/ مسعود صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب ، م س ، ص 18 ت 26 .
[10] ـ المرجع نفسه ، ص 17 .
[11] ـ م ن ، ص 17 . القول لـ : Françoise Récanati "Naissance de le pragmatique",in:Quand dire c'est faire (postface),P185
[12] ـ م ن ، ص 28 .