هو الزمان المنساب من ثقب الكون يلتهب نارا منزو في ذاكرة ابتلعها النسيان. ارتدى وشاحا وباركت له نجوم السماء المشعة ضياء وتاه في سراديب الأزقة القديمة يسائل رذاذ المطر والحجر، الأقبية وعتبات الأماكن القدسية، عن تاريخ مسيج بضباب الوهم الأزرق وعن ذات تسللت عن الكينونة نحو فضاء المطلق تعبق منه رائحة الموت ، تاهت العشيقة،اختفت و مضت معها الذاكرة في غيبوبة اللاتناهي الموشح بياضا. تنادي الذات ذاكرتها تتوسل عودة تملأ العدم و الماهية، "تتشعبط" في أهداب الزمان وبقايا الصور الخافتة ترمي بها في فيافي الضياع و الجنون.من أين للذات بذاكرة منسية بإصرار الذاكرة وتواطؤ الزمان،كيف تحيى الجسد بطيات ثمثلات الماضي المنغرسة في النسيان؟
رجفة النسيان تغمر الذات في لحظة التوحد مع الذكرى،تتكاثف صور الماضي مقلوبة تنعكس على مرآة الذات،تحياها جميعها كجرح التناقض في مخيلة غجري مسافر في عيون الحوريات العطشى لزبد التوحد ومتعة الوصال. بريق نظرات تخترق المرآة تجذبها لسياحة في محراب الكون يشدها لدوي الصوت الهادر المنبعث من غيبوبة اللاتناهي..." كلما عن لك سرب جديد تخيلته جناحا نحو الحلم، الوهم. قلت مع ذاتك يا مخاطبا ذاته:مازال في السماء أجنحة مشرعة للعراء منفتحة على الذوات،هو وهمك أو عجزك، خيبة الزمان فيك وانكسار مرايا الماضي تصنعك من جديد.شظايا الهجر و الاغتراب مع ذاتك ترنو بك لفيافي الضياع ولمتاهات التيه الأبدي،تسائلك الغجرية عن كل ما جرى، لا تجد في أعماق يم جف ماؤه إلا من أخاديد عنوانا لماضيك أو جغرافية بها موطنك الإنساني أو تاريخا تستشف منه مراحل هي علامات وجودك أو منارات تطل منها على غجريتك الثكلى بآهات العشيقة المتيمة بجنونك وحماقاتك وعقدك التي لا تحصى...أي فنار لعتمة الذات في بحثها العبثي عن ذاكرة تستعيد حياتها بقطرات دمك المنهمر الهوينى من جراح ذات ممزقة بشظايا المرايا ...يا هذا ما حكمة تمزق الذات في انجداباتها اللامتناهية بين الأقاصي، ما سر عويلها المنبعث غثيانا من جراحاتك، يا هذا ما سر انحناءاتك المتخشعة أمام المرايا.."
يختفي صوت الغير وراء الحجب يشهد على انجذاب الأنا وراء إشراقة ثاوية في قلب المرآة تلمع بريقا يعمي العين يطفئ نور الفؤاد تتشبث الذات باستعادة ذاكرتها المفقودة بين ثنايا الجسد المسلوخ عن الروح لا تستعيد سوى صور حسية تصيبها بالدوار تقذف بها خارج الزمان تفقدها انسيابية الكينونة والارتماء نحو شموس الأتي...هاهي تنزوي على هامش المرآة، في عينيها انهزام البحر الهادر وندم سنوات الحفر على صخرة الشط لم تزدد إلا انفتاحا على العدم، تحتضن في حنو وكبرياء أطراف جسدها المتخاصمة، تحاورها عن انهيارات ذات منفلتة من بين الأنامل وعن ذاكرة تحولت شظايا متطاحنة يستعص عليها تمثلها، تناشدها البقاء.
يهيم الجسد بأطرافه على بساط الآتي، يدغدغها، تنتشي لذة حسية تنسيها قسوة الذاكرة، تهمس لها: ما أجمل التوافق مع الطبيعة والخلود للنسيان. تشتعل المخيلة تغدي الذات، تنادي الطفل الذي يسكنها؛ حين كان يتحسس الدروب، يتعلم المشي بين حيطانها كمن يكتشف في اندهاش ذكورته ويفيض بكارة الكون؛ حين كان يراقب خلسة كل الهوامش المتحركة تملكه رغبة انكشاف طقوس السحر وتجسيد رمزية حكايات الجدة اللامتناهية؛ حين كان ينشد للأجساد المسترخية يلفها بخار حوض حمام الحي وأسرار نساء ضاعت مع الزمان؛ حين كان آدم المطرود من الجنة.
...تطل الذات من جديد على المرآة يتراءى لها من عينيها سديم الآتي وفراشات تنتحر على الطرقات وجداول تتفجر من نبعها ملحا متدفقة على الجراح، أنينها يملأ الفضاء تذكيرا بأن وحده الحيوان يحيى سعادة النسيان والإشهاد على موت الزمان وأن ذاكرة الوعي سجن للأنا ومتاهات للتيه في ثنايا الماضي، وجمر يحمل خطواتها على حيث تعدو لكنها تهوى بالاحتراق...ترتعد أطراف الجسد تنكمش كالدودة، تتواطأ على اغتيال الذاكرة، تذكرها الذات كيف يمكن التعرف على المفقود و اغتيال الميت أو اجثتات امتدادات الوجدان من تاريخه؟
يقفز الوعي من أجل ذاته من قلب المرآة محدقا في الذات المعتمة، يربكها بنظراته تلف المكان والأشياء، يذكرها بنبعها وبأصل وجودها، ينيرها بسؤال الوعي بالذات وإرادة الانفلات من إشراطات الذاكرة وبقهر مقاومة الترحال في تفاصيلها المؤلمة؛ فلا إمكانية لاستقلاليتها وحريتها وانفتاحها على الجمال دون التصالح مع تاريخها وتحمل المشي على جمر الحقيقة؛ حينئذ تكف الأنا عن النسيان و ترتقي في نخوة عبر مقامات الألوان والأحوال.
المصطفى سكم -العرائش-