أماكن روايات نجيب محفوظ.. مزارات سياحية
د.أحمد درويش: الدول المتقدمة تفعل نفس الشيء
د.حسين علي محمد: هل يعود زقاق المدق إلي صورته القديمة؟
د.أيمن فؤاد: القاهرة الفاطمية ذابت في أنشطة الحرفيين
شوقي بدر: البيوت والمقاهي تحتاج نظرة سريعة
مهدي بندق: لماذا أماكن محفوظ فقط؟!
حوار: د. زينب العسال
بادرة حضارية مهمة أقدم عليها عبد العظيم وزير محافظ القاهرة بوضع الخطط التي تحيل الملامح التي صورها الأديب الكبير نجيب محفوظ في أعماله الإبداعية إلي مزارات سياحية وثقافية. تضاف إلي معالم التاريخ في القاهرة المعزية. والقيمة الأهم لهذه البادرة أنها تحاول وصل التاريخ بالواقع المعاش. الأصالة بالمعاصرة. إزميل الفنان القديم بقلم أعظم روائيي عصرنا.
يقول د.أحمد درويش إذا كنا نحاول جعل القاهرة المعزية مزارات سياحية. فإن أول ما ينبغي أن يتجه إليه اهتمامنا هو بعث دنيا نجيب محفوظ. وتخليصها من عشاق الدمامة.
إن النظرة السريعة لعناوين أعمال نجيب محفوظ تشي بالقاهرة التي أحبها. وأراد - من خلال شخصيات وأحداث - أن ينقل لنا هذا الحب: بين القصرين. قصر الشوق. السكرية. خان الخليلي. قشتمر. فتوة العطوف. زقاق المدق وغيرها. بالإضافة طبعا إلي الشوارع والحارات والأزقة التي تشكل معالم إبداع نجيب محفوظ في الحسين وبيت القاضي وقبو قرمز والدراسة وغيرها.
نحن نستطيع - علي سبيل المثال - أن نضع لافتة نحاسية علي باب مدرسة بين القصرين تشير إلي أن هذه المدرسة تناولها نجيب محفوظ في ثلاثيته الفريدة. الأمر نفسه في البيت الذي ولد فيه محفوظ أمام قسم شرطة الجمالية. وأيضا البيت رقم 10 شارع رضوان شكري بالعباسية الذي أمضي فيه الفنان جانبا كبيرا من حياته.
هذا هو التقليد الذي تحرص عليه دول العالم المتقدمة ولعلي اذكر باللوحة الملصقة علي واجهة البيت الذي كان يقيم فيه الشاعر السكندري اليوناني كفافيس بالإسكندرية. نحن نتميز عن كل دول العالم بأن لنا حضارتنا التي تمتد في عمق التاريخ ويجدر بنا أن نصل الحضارة الماضية بالحاضر. من خلال إبداعات الأدباء والفنانين وفي مقدمتهم - بالطبع - عبقري زماننا نجيب محفوظ.
أين ذهبوا؟
ويذهب د.حسين علي محمد إلي أن زقاق المدق هو أشد الأماكن التي تترك في زائريها حسرة حقيقية. أين ذهبت حميدة؟ وأين ذهب عباس الحلو والمعلم كامل وفرج القواد ورضوان الحسيني والدكتور بوشي والست سنية وجعدة الفران وزيطة صانع العاهات؟ أين ذهب كل هؤلاء وغيرهم؟
كنت أتردد علي الزقاق. أحاول مطابقة الأحداث والشخصيات التاريخية والمتخيلة علي واقع المكان. بيت أم حميدة والقهوة والفرن والحياة المنغلقة علي نفسها وان أطلت علي العالم من خلال جولات المعلم كرشة لاجتذاب الشبان إلي قهوته. ومن خلال حرص فرج القواد أن يضم حميدة إلي رقيقه الأبيض فضلا عن الانتخابات التي اقتحمت دنيا الزقاق بمرشحيها وناسها ومظاهراتها وشعاراتها الكاذبة. لاحظت - علي امتداد الأعوام - شحوب الصورة التي أحببناها. وأضفنا إليها من الخيال. وضعت علي الجدران كومات من البضاعة. وامتلأ الزقاق بصناديق وأجولة وأغلق المقهى أبوابه. وصار الفرن أثرا مندثراً. دانت الغلبة للتجار الصغار والكبار يحيلون الأثر الجميل الذي خلفته لنا رواية نجيب محفوظ إلي أطلال يبيعون فيها ويشترون. حتى لافتة الزقاق رفعت من موضعها. فصار من الصعب تمييزه بين معالم الصنادقية.
وأذكر أن صوتي علا بملاحظة عما آل إليه ذلك الملمح المهم من أعمال نجيب محفوظ. والتقط ملاحظتي أحد مستعمري الزقاق فوبخني بالقول: يعني محفوظ بتاعك أهم من لقمة عيشنا؟! وأصارحك أني آثرت السلامة وانصرفت.
يضيف د.حسين إن مساحات البيع والشراء متوافرة علي أي نحو. أما المساحات التي تحرك فيها أبطال نجيب محفوظ فهي محدودة ومحددة لذلك فإن أهم ما أتطلع إليه أن يعود زقاق المدق إلي صورته التي أجاد محفوظ تصويرها ثم أفلح التتار في تقويضها!
التاريخ والتطوير
ويشير د.أيمن فؤاد سيد إلي أن مشكلة القاهرة المعزية أنها تحتاج إلي عناية واهتمام كبير لأنها الآن مكتظة بالحركة وأنشطة الحرفيين. من الصعب - مثلا - أن ادخل زقاق المدق. حتي اللافتة رفعوها. علينا أن نعيد الطرح الذي طرحه وتخيله نجيب محفوظ. في صورة أقرب للتوصيف الذي قدمه الفنان. القاهرة الفاطمية دخلت عليها معالم حديثة. وهذا طبيعي. لكن من المهم أيضا أن يتم التطوير في إطار الشكل التاريخي.
ويري الناقد شوقي بدر يوسف أن المزارات التي كانت مجالا لأعمال إبداعية. ليست وحدها ما يجب العناية به. واستعراض دورها في حياة المبدع. وفي الفن الروائي بعامة. من هنا فإني اقترح أن نركز كذلك علي الأماكن التي أمضي فيها نجيب محفوظ أوقاتا من حياته. يقرأ ويتأمل ويجالس الأصدقاء ويكتب الملاحظات. قهوة ريش علي سبيل المثال. وقهوة فينكس. وقشتمر. وكازينو النهر. وأيضا قهوة بترو بالإسكندرية - وكم أحب مدينة الإسكندر - والتريانون وميدان سعد زغلول وشارع النبي دانيال وغيرها من الأماكن التي انعكست وجوداً حياً في روايات محفوظ السمان والخريف والطريق واللص والكلاب؟
ولعلي أضيف الأماكن التي تردد عليها مبدعون عظام من أجيال مختلفة. مثل قهوة شارع السد التي أبدع فيها العظيم بيرم التونسي أروع قصائده. ومن قراءاتي الحديثة كتابه ألفه عشرة من كبار الأدباء الألمان يتناول التراجم الشخصية لأدباء سبقوا في العمر والتجربة. ويشير إلي الأماكن التي تصلح مزارات سياحية لهم ولأعمالهم. حتي مقابرهم صارت جزءا من تلك المزارات. ليت هذه الفكرة الجميلة تكون هي البداية.
أما الشاعر المسرحي مهدي بندق فهو يطرح رأيا مخالفا. ثمة في الفلسفة - ونجيب محفوظ دارس للفلسفة - ما يسمي بالإيجاب. وتعبر عنه الفلسفة الوضعية خير تعبير. أما فلسفات النفي التي ترمي إلي تجاوز الواقع والمألوف والسائد. فتتطلع إلي التفكير بطريقة مختلفة.
وعن نفسي فأنا أود أن أجيب عن المسكوت عنه في السؤال وهو: لماذا لم يكتب نجيب محفوظ عن الصعيد. وعن المناطق التي تعج بالفقراء والمهمشين؟ ألا يدعونا هذا التساؤل إلي التفكير في نجيب محفوظ باعتباره كاتب البوراجوازية الصغيرة التي أغلقت الأبواب أمام تطور هذه الطبقات الفقيرة الكادحة. بل ومنعها من أن تري علي مسرح الأحداث؟
حقيقة يمكن لنا أن نتحدث عن يوسف ادريس - مثلاً - وعن محمد جبريل وخيري شلبي وبهاء طاهر وغيرهم من الأدباء الذين ولوا وجوههم شطر الأماكن التي لم يذهب إليها نجيب محفوظ ولو بفكره. وفي تقديري أن هذه المزارات تصلح أن تكون مزارات علي المستوي الإنساني بأكثر من أن تكون مجرد زيارات سياحية. ولا يقدح هذا - بالطبع - في قيمة الروائي الكبير نجيب محفوظ وإنما هو تساؤل في موضوعه من حيث ان الكمال ليس في مقدور البشر. وأن الرجل قدم ما لديه. وما كان له ولا في مقدوره أن يحجب غيره من الأدباء عن النظر إلي أماكن يعيش فيها معظم المصريين. ولعل الشاعر الراحل صلاح جاهين كان يقصد هذا المعني حينما كتب قصيدته "إلي سكان الصفيح"!
.......................................
*المساء الأسبوعية ـ في 12/5/2007م.