شرق المدينـة ..
كان يدرك جيداً أن السنين تقدمت به , لم يعد بإمكانه المناورة كما كان أيام شبابه , لكن همته و حبه لغزة لم ينقطعا , أغلى أمانيه أصبحت الآن , عودة تلك الأيام , فهل ذهب قطار العمر دون رجعة ؟ لا , سأتحدى بطريقتي ! آه لو كنت الآن معهم , و بيدي سلاحي , و أدمر حقدهم على رؤوسهم .. سارقي البسمة من طلعات الأطفال , و زارعي القتل في كل شبر من هاهنا , لكن لا وقت للوم نفسي , كان أبو مقداد يكلم نفسه , و هو يسير بحذر بين أكوام الحجارة , يتلمسها .. يتفقدها .. يستمد منها صلابته و تصميمه , عيناه معلقتان في الأفق , صوب الرجال اللامعة خوذهم هناك , فوق كل حبة تراب سقتها الدماء العبقة في هذه الأمكنة الحميمة , يتذكر أبو مقداد سني طفولته , و صور أمه المرحومة لا زالت تتراءى في ذهنه , رغم مرور عشرات السنين على رحيلها , يخاطبها من أعماقه :
_ دعيني يا أمي أزرع جسدي هناك , دعي الأرض ترتوي من دمي , أحس بثقله في جسدي , دعيني استريح من هذا العناء .
و يتابع سيره نحو الأمام .. بخطى ثابته , و في جعبته و جعبة الرجال من خلفه تلك الأمانة , و أصوات المدافع الثقيلة لا تكد تخفت , حتى يدوي رعد الطائرات تبحث عن أي شيء لتلقي ثقل حمولتها المميتة , و تعتلج في نفسه لهفة الوصول إلى هدفه , يقول في صمته :
_ المسألة مسألة وقت , ها قد اقتربت ..
****في صباح اليوم التالي , شاع نبأ استشهاده بين أهالي الحي , الجميع أخذ يتساءل عن ملابسات استشهاده , و لما شيعت جنازته , ترحموا عليه بعد أن قيل لهم : كان شرق المدينة .. أثناء عمله على نقل الإمدادات للرجال المقاومين ..