لقد اصابتني الإحتفالات التي بدأت الوسائل الإعلامية في منحها ، للأديب الشاب أحمد خيري الذي يعمل في مجال الصحافة وصلت إلي تشبيهه بالأديب الكبير يوسف أدريس، رغم أن الفارق كبير من وجهة نظري سواء من ناحية البناء القصصي في أعماله أو في لغته الفقيرة أو في العناصر الآساسية التي يجب أن تتوفر في قصصه .
من الواضح أن أفكارة التي ينادي فيها وينشرها من خلال ندواته وقصصه ضد المرأة والتي يريد من ورائها عودتنا إلي القرن الرابع عشر صدي .. وحينما قمت لأرد عليه في إحدي الندوات التي تحدث فيها علي أن المرأة جسد راقصة خلقت لاسعاد الرجل داخل حجرات النوم لم يترك لي فرصة... وإليكم إحدي قصصه التي تتداول علي الإنترنت ومطبوعة في كتابة الأخير بعنوان مدينة الأحلام .. يجب أن نوقف هذا المخلوق الفلاح عند حدودة لأنه يتبني موجه تهدد ما أكتسبناه خلال السنوات الماضية
وأقدم لكم إحدي قصصة لكي يحكم عليها قرائكم الكرام والنقاد
الأديبة أمل عبد العزيز
مدينة الأحلام
قد تصيب من يقرأ حكايتي موجة من الضحك المتواصل إذا كانوا من الرجال .. أما لو من جنسي فبعد إنفضاضهم من قراءتها ، يتركون العنان لأحبالهم الصوتية ملصقين بي صفة الخبل والجنون .
ولأنها مسألة لم أعد أتحمل السكوت عليها.. قررت أن أصرخ .. وأتلون .. وأتلوي .. وأحكيها في كل مكان ولكل من هب ودب.
لا تتعجلوا الحكم علي قبل نهايتها .. وتندفعون كالآلات الحربية من أول سطر مثل زميلاتي في جمعية المرأة الجديدة وتضربوا كفا علي كف , وتمصمصوا شفاهكم علي ست العاقلين التي مسها الجان ولبستها العفاريت ..
لاحت بداية قصتي حينما وجدت نفسي منتصبة .. مغروسة بقدرة قادر مثل خيال المآتة في بقعة أرض صحراء ، رمالها متحركة تغطي قدمي حتي الكعبين .. دوامات هواء حارقة تحمل رمال حمراء ، تتلوي بسرعة في صمت مخيف موحش .. حاولت البحث عن كلمات مناسبة لوصف غرابتها فلم أجد ..
لذا أستأذنكم بالمحاولة في أن تتخيلوا مكان ضباب كثيف أحد من شبورة الصيف يكسوه , وآهات حزن وأنات عميقة تدوي , وضوء باهت مخنوق لا هو ضوء قمر أو أشعة شمس تتسرب , ورمال ناعمة حمراء تنزع العيون .
حتى الآن لا أعرف كيف وصلت إليه , ولكن اشك بأن أحد قذفني إليه من داخل طبق طائر, أو حملتني مياه صرف عبر نفق مظلم تترسب علي جدرانه أملاح وريم أخضر.
لا أخفي عليكم بأن هذا المكان وبدون مقدمات أصابني بالرعب .. رعب مخيف , وصل لدرجة أن دب في قلبي مغص شديد , انتفض علي أثره جسدي ، وارتعشت له أطرافي , وصكت منه أسناني بشدة .
ساعتها اندفعت أروح وأجئ رغم شعوري بأن ساقي أثقل من جوالين ملح .. أروح وأجئ مثل كلب جوعان نسي مكان العظمة التي خبأها .
بعد فترة وجدت ضالتي ... كان شيخا نحيلا , أحني الزمن ظهره , لمحته جالسا فوق صخرة حمراء صغيرة , جالسا بثبات وهو يمد نظره إلي نقطة أمامه , يداعب فيها بعض الحصوات والزلط بعصا عتيقة لا تقل في غرابة شكلها عن شكله وهيئته الغريبة .
استقر فوق وجهه الأصفر المغطي بنمش بني , تعبيرات جامدة .. باردة غير واضحة ، لا هي ابتسامة ولا حزن .. ولا اندهاشة أو يقين .
تعبيرات لا يمكن رؤيتها إلا علي وجوه المومياوات الممتدة داخل التوابيت , وبجوار عينه اليمني توجد رعشة واضحة ومستمرة .. أ هي رعشة خوف أم رعشة قلق ؟! لم أتأكد منها.
أما سترة بدلته فلها وضع آخر , لم أر مثلها من قبل إلا في سترات قادة الحرب العالمية , أو سترات رعاة البقر في الأفلام الأمريكية, كانت طويلة عن الحد المعروف وبصفين زراير نحاس.
عندما تنبه هذا الشيخ لوجودي , نهض ومشي ناحيتي بأقدام ضعيفة مرتعشة , تحمله بالكاد , ولولا عصاه المزركشة التي يستند عليها المنحوتة خصيصا من أجله , لأن شكلها كان غريبا مثله .. نحت جسمها علي هيئة وحش بري يحمل رأس امرأة , لولاها لانكفأ علي وجهه , ولم يكمل طريقه.
لصق علي وجهه ابتسامة عريضة شعرت فيها بالصنعة والعتاب , ورغم أن تقاطيعه كانت مألوفة ، إلا أن الخوف منه تملكني ، كان يزداد كلما اقتربت خطواته مني , لماذا تأخرت علي كل هذا الوقت ؟!
في لعثمة واضحة , وتردد ظاهر لم أحس به من قبل قلت له متسائلة :-
- هل كنت تنتظرني ؟!
- نعم ومن فترة طويلة .. ألم تقرئي في الدعوة الموجهة إليك بأنني أنتظرك ؟
فتحت الدوسيه الأحمر الموجود في يدي بسرعة , بحثت بين أوراقه عن هذه الدعوة , سقطت بيدي وقرأت جزءها الأول حتى وصلت إلي اسمه .. ولم أكد أقرأه حتى انعقد لساني وطنت في أذني دبابير كثيرة.
اكتشفت بأن الذي ينتظرني " قاسم أمين" بشحمه ولحمه .. تسمرت مكاني بطريقة كان ينقصني فيها تاج لأصبح مثل نفرتيتي .. بينما توهم في سكوتي إنصات إلي كلامه فراح يشيح .. ويتحدث , في حين أن كل ما كان يشغل بالي في ذلك الوقت , هو كيف يقطن قاسم أمين في هذا المكان الموحش؟ وما بالي بالمدينة التي يدعونني إليها ؟!
- مكثنا فترة علي هذا الوضع الثابت , وسط الجو الذي كان يزداد عتمة بمرور الوقت .. حتى أخرجتنا من هذه الحالة المتجمدة أو بالأصح أخرجتني أنا مفاجأة ، كانت أشد من مفاجأة مقابلتي لقاسم أمين .
فقد شق هذه العتمة شخص ضخم تحسبه من النظرة الأولي بأنه قادم بالخطأ من القرون البدائية , ذو طراز انمحي وأصبح من الحفريات, فهو أقرب لمخيلتكم إلي هؤلاء العبيد ، الذين كانت تجلبهم الملكة كليوباترا أو شجرة الدر ليحملوها فوق أعناقهم علي كرسي مطعم بالذهب والفضة .
كان أشعث الرأس تلبد شعره بحبات الرمل .. جلد وجهه مشدود مثل طبلة الزفاف .. نظراته باردة .. متحجرة , وجسده فارع .. ممتلئ .. شبه عاري .
سرعان ما انقشع خوفي ، وخفتت رهبتي , بعد أن توجه بساقيه المكسوتين بشعر كثيف إلي قاسم أمين وسلم عليه باحترام مذل وابتسامة ناعمة في ملمس الحيات ، ورعشة تحت عينه اليمني تشابه الرعشة الموجودة في وجه قاسم .
أدرك قاسم خوفي من هذا الثور , فابتسم ناحيتي وأخذ يهدئ من روعي , وهو يتحسس يدي اليسرى وقال ..
• لا تخافي فهذه حارسة جاءت لتصحبنا إلي بيت رئيسة المدينة.
في هذه اللحظة فقط , تحول كل الخوف الذي كان يعتريني , من هذه الفتاة إلي قشعريرة وتقزز من شكلها.
عبرنا خلفها ساحة صغيرة, حتى وصلنا إلي مدخل المدينة.. مدينة غير مدينتنا .. مبانيها تقف بلا تفاصيل بلا أبواب أو شبابيك , شوارع ضيقة خانقة تعلو أرضها في بعض الأماكن وتهبط فجأة في أماكن أخري , وفي جوانبه تجري قناة يندفع فيها ماء لونه أحمر ورائحته أشد من الخمور , يتجمع حولها بعض الحارسات يملأن الكئوس ويشربن منها.
مشينا قليلا في الشوارع وسط أصوات ضرب ومشاجرات وآهات تتردد في جنباتها , ورجال ونساء من جنسنا يشبهنني في شكلي يمرون بجانبنا ، مقيدين بسلاسل حديدية , تمسك الحارسات بأطرافها .
لم نمش كثيرا حتى وصلنا إلي بيت رئيسة المدينة , وعندها انشق الحائط فاتحا لنا بابا واسعا دخلنا عبره إلي صالة رغم ضيقها الواضح , إلا أنها كانت تبدو واسعة لقلة الأثاث الموجود بها .
في الجانب الأيمن من الصالة كان يوجد باب من الحديد مواربا، يتسرب من فتحته ضوء أحمر خافت ، وخيال شخص يروح ويجئ ، وصوت اصطدام أكواب وانتشار رائحة نفاذة.
عقدت لساني الدهشة حينما دخلت علينا رئيسة المدينة بابتسامتها الناعمة , أدركت وقتها سبب اندهاش قاسم أمين عندما رآني أول الأمر.
لقد بهرني الشبه الذي يجمعني بها , ولولا شنبها الخفيف الواضح , وشعر رأسها الأبيض المنكوش , ونظارتها السميكة التي تضفي عليها مسوح الراهبات ، لولا ذلك لفشلت أنا الأخرى في التعرف علي الفرق بين شكلينا , والشئ الأغرب أن نفس الرعشة الموجودة عند قاسم أمين وعند الحارسة تنتاب خدها الأيمن .
حينما جلسنا في منتصف الحجرة , تحت مصابيح إضاءته قوية حمراء , ناولت رئيسة المدينة الدوسيه الأحمر الذي أحمله ، أخذت تقلب أوراقه وتقرأ خطبتي التي سألقيها في الاحتفال الذي تقيمه المدينة سنويا بمناسبة إنشائها .
كان تأثير كلماتي واضحا علي وجهها المجعد , وفي ألفاظ المدح والثناء الذي كانت تطلقه كلما همت بتغيير احدي الأوراق .
بعد انتهائها من القراءة أمسكت بيدها جرس حديدي كان موضوعا أمامها علي ترابيزة صغيرة من الحديد ودقت به .
أدركت من تحرك الخيال أنها كانت تستدعي الشخص الموجود في الحجرة الملاصقة ... من المؤكد أنه مطبخ , فقد خرجت علينا من داخله سيدة أقل ما يمكنني وصفه , أنها أصابتني بحالة من القيء والغثيان بشكلها الذي لا أحب أن أتذكره .
فيمكنكم أن تجمعوا عودين من الصبار ممتلئين بالشوك والشعر الكثيف فتكون ساقيها , وماسورة دبابة أكلها الصدأ أو ماسورة صرف صحي فتكون بطنها التي تسبقها , وشقة بطيخ نزع من داخلها اللب الأسود , فتكون وجهها الذي تظهر عليه معركة قديمة للجدري , أما عودها فكان مثل عود القصب الذي انتزعت منه الزعزوعة.
خرجت علينا هذه السيدة تسبقها بطنها وصينية عليها ثلاثة أكواب , ورائحة غريبة أقرب إلي رائحة الشيح الذي نستخدمه لطرد الثعابين من البيوت.
اقتربت من مقعدي بعد أن انتزع قاسم أمين ورئيسة المدينة كوبيهما , ومدت الصينية ولكنني ترددت فترة حتى شعرت بذلك رئيسة المدينة , فابتسمت وقالت ..
• لا تخافي .. اشربي يا شيخة .. اشربي فزوجي يعتبر أنظف رجل في رجال المدينة في شغل البيت.
لم أمهلها الوقت , فبمجرد معرفتي بأن هذه السيدة , ما هي إلا رجل وحامل , حتي أخذني القيء وسقطت مغشيا علي .
بعد محاولات من قاسم أفقت من غيبوبتي , وبعد عودة روحي خرجنا قاصدين الساحة التي سيجري فيها الاحتفال.
علي بعد خطوات من المنزل شاهدت ونحن نهرول في الشارع العمومي المؤدية إلي الساحة مستندة إلي كتف قاسم أمين , شاهدت جمعا غفيرا من الحارسات وبعض الرجال والنساء المكبلات , استرعي انتباهي قيام الحارسات بملء الكئوس من القناة الموجودة علي جانبي الشارع , وإعطائها لهؤلاء المكبلين ليتجرعوا ما بها , ولكن كان فيهم شيخ لونه تحول إلي الإصفرار من شدة الإرهاق والضعف , شنبه يغطي شفته العليا , يرتدي علي رأسه طاقية أكل عليها الزمان ، تصل بحافتها الأمامية قرب حواجبه الكثيفة ، يستند بإحدي يديه علي عصا متهالكة بفضل السوس الذى أخذ يأكل فيها ، واليد الثانية مكبلة بالحديد .
نظرات هذا الشيخ كانت غريبة المعني , خاصة التي كان يرمي بها قاسم أمين .. نظرات لوم .. عتاب , ولكن قاسم أمين سارع بشد يدي , دون أن يعطيه أدني اهتمام ..
فسألته عن ذلك الشخص ..
فابتسم ابتسامة شعرت فيها بفرحة صلاح الدين الأيوبي
وقال ..
- ألاتعرفينه .. إنه توفيق الحكيم ..
- ومن الذي فعل به كل ذلك ؟!
لم يرد أحد علي سؤالي , فقد كانت أصوات الضرب وصرخات الأطفال , تزداد وتقوي شيئا فشيئا كلما تقدمنا داخل الشارع .
شدت انتباهي حجرة كبيرة مبنية من الزجاج اللامع .. مرصوص فيها أطفال يصرخون , وجوههم متجمدة مثلجة , ورجال حوامل مثل زوج رئيسة المدينة يتنقلون بينهم في خفة .
ساعتها تدفق بداخلي شعور فطري .. وتصلب صدري بسبب تدفق اللبن فيه , وتسرب في جسدي حنين جارف لابنتي الطفلة التي تركتها بدون أن أرضعها .. ودفعني شعور بالهروب من تلك المدينة ، وبالفعل حاولت التملص من يد قاسم أمين, ولكن لم اجد سبيلا للخلاص , فواصلت معهم الطريق تجاه ساحة الاحتفال .
حينما وصلنا لاحظت بأن الساحة لا تختلف في وحشتها عن المكان الذي قابلت فيه قاسم أمين أول الأمر , صحراء .. ضباب .. صرخات .
جلسنا علي المنصة الرئيسية نحن الثلاثة ،.بينما افترش أمامنا علي أرضية الساحة , هؤلاء الأشخاص المكبلون بالحديد ، تصدرهم في الصف الأول توفيق الحكيم .. العقاد .. وغيرهما مما عرفني عليهم قاسم أمين , فالساحة رغم وسعها الا أن الضباب حجبها عن رؤيتي ، فلم أستطع الرؤية أمامنا أكثر من متر واحد , وذلك من شدة العتمة.
في البداية وقفت رئيسة المدينة ورحبت بوجودي في المدينة ثم تبعها قاسم أمين بخطبة تشبه إلي حد بعيد خطبتي , والتي ظللت منتبهة إليها حتي وقع ما لا في الحسبان , فقد دوت انفجارات شديدة في نهاية الساحة , لم أعيرها انتباها في البداية , ولكن مع علو صوتها , أخذت أحس بأن شيئا مهولا يحدث ولكنني لا أستطيع أن أراه من شدة العتمة.
مرت ساعة علي رئيسة المدينة و قاسم أمين حتي انتهيا من خطبتهما والترحيب بي ، وجلسا بجواري علي المنصة .. وأخذت أرتب في أوراقي لأنه آن أوان إلقاء خطبتي , فوقفت علي المنصة , وبمجرد أن بدأت أشيد بالمدينة وأطالب بتكرارها, حتي لمحت الهلع والخوف علي وجوه الحارسات المنتشرات في الساحة , ولم تمر ثوان أخري حتي وجدتهن يجرين هنا وهناك داخل الساحة , بينما أصوات انفجارات آخذة في الزحف ناحيتنا ..
من شدة خوفي توقفت عن استكمال أوراقي .. ونظرت تجاه قاسم أمين ورئيسة المدينة ، فلم أجدهما فوق المنصة ، هربا وتركاني وحدي .. رأيت المكبلين قد فكوا قيودهم واتجهوا ناحيتي .. ووجدت نفسي بمفردي أمام هذا الحشد الهائل من الغاضبين.
وبدأت أنزوي وأختنق .. رويدا رويدا , وشعرت بأن كل الأيادي تمتد إلي عنقي .. حتي كاد نفسي يتوقف .. فصرخت بأعلي صوت .. وظللت أصرخ .. وأصرخ.. ومن يومها وأنا أصرخ.
قال لي زوجي بأنني كنت نائمة ثم استيقظت وأنا أصرخ وجريت إلي حجرة المكتب , فوجدت الدوسيه الأحمر راسخا فوق مكتبي فمزقت الأوراق الموجودة به.
لقد اصابتني الإحتفالات التي بدأت الوسائل الإعلامية في منحها ، للأديب الشاب أحمد خيري الذي يعمل في مجال الصحافة وصلت إلي تشبيهه بالأديب الكبير يوسف أدريس، رغم أن الفارق كبير من وجهة نظري سواء من ناحية البناء القصصي في أعماله أو في لغته الفقيرة أو في العناصر الآساسية التي يجب أن تتوفر في قصصه .
من الواضح أن أفكارة التي ينادي فيها وينشرها من خلال ندواته وقصصه ضد المرأة والتي يريد من ورائها عودتنا إلي القرن الرابع عشر صدي .. وحينما قمت لأرد عليه في إحدي الندوات التي تحدث فيها علي أن المرأة جسد راقصة خلقت لاسعاد الرجل داخل حجرات النوم لم يترك لي فرصة... وإليكم إحدي قصصه التي تتداول علي الإنترنت ومطبوعة في كتابة الأخير بعنوان مدينة الأحلام .. يجب أن نوقف هذا المخلوق الفلاح عند حدودة لأنه يتبني موجه تهدد ما أكتسبناه خلال السنوات الماضية
وأقدم لكم إحدي قصصة لكي يحكم عليها قرائكم الكرام والنقاد
الأديبة أمل عبد العزيز
مدينة الأحلام
قد تصيب من يقرأ حكايتي موجة من الضحك المتواصل إذا كانوا من الرجال .. أما لو من جنسي فبعد إنفضاضهم من قراءتها ، يتركون العنان لأحبالهم الصوتية ملصقين بي صفة الخبل والجنون .
ولأنها مسألة لم أعد أتحمل السكوت عليها.. قررت أن أصرخ .. وأتلون .. وأتلوي .. وأحكيها في كل مكان ولكل من هب ودب.
لا تتعجلوا الحكم علي قبل نهايتها .. وتندفعون كالآلات الحربية من أول سطر مثل زميلاتي في جمعية المرأة الجديدة وتضربوا كفا علي كف , وتمصمصوا شفاهكم علي ست العاقلين التي مسها الجان ولبستها العفاريت ..
لاحت بداية قصتي حينما وجدت نفسي منتصبة .. مغروسة بقدرة قادر مثل خيال المآتة في بقعة أرض صحراء ، رمالها متحركة تغطي قدمي حتي الكعبين .. دوامات هواء حارقة تحمل رمال حمراء ، تتلوي بسرعة في صمت مخيف موحش .. حاولت البحث عن كلمات مناسبة لوصف غرابتها فلم أجد ..
لذا أستأذنكم بالمحاولة في أن تتخيلوا مكان ضباب كثيف أحد من شبورة الصيف يكسوه , وآهات حزن وأنات عميقة تدوي , وضوء باهت مخنوق لا هو ضوء قمر أو أشعة شمس تتسرب , ورمال ناعمة حمراء تنزع العيون .
حتى الآن لا أعرف كيف وصلت إليه , ولكن اشك بأن أحد قذفني إليه من داخل طبق طائر, أو حملتني مياه صرف عبر نفق مظلم تترسب علي جدرانه أملاح وريم أخضر.
لا أخفي عليكم بأن هذا المكان وبدون مقدمات أصابني بالرعب .. رعب مخيف , وصل لدرجة أن دب في قلبي مغص شديد , انتفض علي أثره جسدي ، وارتعشت له أطرافي , وصكت منه أسناني بشدة .
ساعتها اندفعت أروح وأجئ رغم شعوري بأن ساقي أثقل من جوالين ملح .. أروح وأجئ مثل كلب جوعان نسي مكان العظمة التي خبأها .
بعد فترة وجدت ضالتي ... كان شيخا نحيلا , أحني الزمن ظهره , لمحته جالسا فوق صخرة حمراء صغيرة , جالسا بثبات وهو يمد نظره إلي نقطة أمامه , يداعب فيها بعض الحصوات والزلط بعصا عتيقة لا تقل في غرابة شكلها عن شكله وهيئته الغريبة .
استقر فوق وجهه الأصفر المغطي بنمش بني , تعبيرات جامدة .. باردة غير واضحة ، لا هي ابتسامة ولا حزن .. ولا اندهاشة أو يقين .
تعبيرات لا يمكن رؤيتها إلا علي وجوه المومياوات الممتدة داخل التوابيت , وبجوار عينه اليمني توجد رعشة واضحة ومستمرة .. أ هي رعشة خوف أم رعشة قلق ؟! لم أتأكد منها.
أما سترة بدلته فلها وضع آخر , لم أر مثلها من قبل إلا في سترات قادة الحرب العالمية , أو سترات رعاة البقر في الأفلام الأمريكية, كانت طويلة عن الحد المعروف وبصفين زراير نحاس.
عندما تنبه هذا الشيخ لوجودي , نهض ومشي ناحيتي بأقدام ضعيفة مرتعشة , تحمله بالكاد , ولولا عصاه المزركشة التي يستند عليها المنحوتة خصيصا من أجله , لأن شكلها كان غريبا مثله .. نحت جسمها علي هيئة وحش بري يحمل رأس امرأة , لولاها لانكفأ علي وجهه , ولم يكمل طريقه.
لصق علي وجهه ابتسامة عريضة شعرت فيها بالصنعة والعتاب , ورغم أن تقاطيعه كانت مألوفة ، إلا أن الخوف منه تملكني ، كان يزداد كلما اقتربت خطواته مني , لماذا تأخرت علي كل هذا الوقت ؟!
في لعثمة واضحة , وتردد ظاهر لم أحس به من قبل قلت له متسائلة :-
- هل كنت تنتظرني ؟!
- نعم ومن فترة طويلة .. ألم تقرئي في الدعوة الموجهة إليك بأنني أنتظرك ؟
فتحت الدوسيه الأحمر الموجود في يدي بسرعة , بحثت بين أوراقه عن هذه الدعوة , سقطت بيدي وقرأت جزءها الأول حتى وصلت إلي اسمه .. ولم أكد أقرأه حتى انعقد لساني وطنت في أذني دبابير كثيرة.
اكتشفت بأن الذي ينتظرني " قاسم أمين" بشحمه ولحمه .. تسمرت مكاني بطريقة كان ينقصني فيها تاج لأصبح مثل نفرتيتي .. بينما توهم في سكوتي إنصات إلي كلامه فراح يشيح .. ويتحدث , في حين أن كل ما كان يشغل بالي في ذلك الوقت , هو كيف يقطن قاسم أمين في هذا المكان الموحش؟ وما بالي بالمدينة التي يدعونني إليها ؟!
- مكثنا فترة علي هذا الوضع الثابت , وسط الجو الذي كان يزداد عتمة بمرور الوقت .. حتى أخرجتنا من هذه الحالة المتجمدة أو بالأصح أخرجتني أنا مفاجأة ، كانت أشد من مفاجأة مقابلتي لقاسم أمين .
فقد شق هذه العتمة شخص ضخم تحسبه من النظرة الأولي بأنه قادم بالخطأ من القرون البدائية , ذو طراز انمحي وأصبح من الحفريات, فهو أقرب لمخيلتكم إلي هؤلاء العبيد ، الذين كانت تجلبهم الملكة كليوباترا أو شجرة الدر ليحملوها فوق أعناقهم علي كرسي مطعم بالذهب والفضة .
كان أشعث الرأس تلبد شعره بحبات الرمل .. جلد وجهه مشدود مثل طبلة الزفاف .. نظراته باردة .. متحجرة , وجسده فارع .. ممتلئ .. شبه عاري .
سرعان ما انقشع خوفي ، وخفتت رهبتي , بعد أن توجه بساقيه المكسوتين بشعر كثيف إلي قاسم أمين وسلم عليه باحترام مذل وابتسامة ناعمة في ملمس الحيات ، ورعشة تحت عينه اليمني تشابه الرعشة الموجودة في وجه قاسم .
أدرك قاسم خوفي من هذا الثور , فابتسم ناحيتي وأخذ يهدئ من روعي , وهو يتحسس يدي اليسرى وقال ..
• لا تخافي فهذه حارسة جاءت لتصحبنا إلي بيت رئيسة المدينة.
في هذه اللحظة فقط , تحول كل الخوف الذي كان يعتريني , من هذه الفتاة إلي قشعريرة وتقزز من شكلها.
عبرنا خلفها ساحة صغيرة, حتى وصلنا إلي مدخل المدينة.. مدينة غير مدينتنا .. مبانيها تقف بلا تفاصيل بلا أبواب أو شبابيك , شوارع ضيقة خانقة تعلو أرضها في بعض الأماكن وتهبط فجأة في أماكن أخري , وفي جوانبه تجري قناة يندفع فيها ماء لونه أحمر ورائحته أشد من الخمور , يتجمع حولها بعض الحارسات يملأن الكئوس ويشربن منها.
مشينا قليلا في الشوارع وسط أصوات ضرب ومشاجرات وآهات تتردد في جنباتها , ورجال ونساء من جنسنا يشبهنني في شكلي يمرون بجانبنا ، مقيدين بسلاسل حديدية , تمسك الحارسات بأطرافها .
لم نمش كثيرا حتى وصلنا إلي بيت رئيسة المدينة , وعندها انشق الحائط فاتحا لنا بابا واسعا دخلنا عبره إلي صالة رغم ضيقها الواضح , إلا أنها كانت تبدو واسعة لقلة الأثاث الموجود بها .
في الجانب الأيمن من الصالة كان يوجد باب من الحديد مواربا، يتسرب من فتحته ضوء أحمر خافت ، وخيال شخص يروح ويجئ ، وصوت اصطدام أكواب وانتشار رائحة نفاذة.
عقدت لساني الدهشة حينما دخلت علينا رئيسة المدينة بابتسامتها الناعمة , أدركت وقتها سبب اندهاش قاسم أمين عندما رآني أول الأمر.
لقد بهرني الشبه الذي يجمعني بها , ولولا شنبها الخفيف الواضح , وشعر رأسها الأبيض المنكوش , ونظارتها السميكة التي تضفي عليها مسوح الراهبات ، لولا ذلك لفشلت أنا الأخرى في التعرف علي الفرق بين شكلينا , والشئ الأغرب أن نفس الرعشة الموجودة عند قاسم أمين وعند الحارسة تنتاب خدها الأيمن .
حينما جلسنا في منتصف الحجرة , تحت مصابيح إضاءته قوية حمراء , ناولت رئيسة المدينة الدوسيه الأحمر الذي أحمله ، أخذت تقلب أوراقه وتقرأ خطبتي التي سألقيها في الاحتفال الذي تقيمه المدينة سنويا بمناسبة إنشائها .
كان تأثير كلماتي واضحا علي وجهها المجعد , وفي ألفاظ المدح والثناء الذي كانت تطلقه كلما همت بتغيير احدي الأوراق .
بعد انتهائها من القراءة أمسكت بيدها جرس حديدي كان موضوعا أمامها علي ترابيزة صغيرة من الحديد ودقت به .
أدركت من تحرك الخيال أنها كانت تستدعي الشخص الموجود في الحجرة الملاصقة ... من المؤكد أنه مطبخ , فقد خرجت علينا من داخله سيدة أقل ما يمكنني وصفه , أنها أصابتني بحالة من القيء والغثيان بشكلها الذي لا أحب أن أتذكره .
فيمكنكم أن تجمعوا عودين من الصبار ممتلئين بالشوك والشعر الكثيف فتكون ساقيها , وماسورة دبابة أكلها الصدأ أو ماسورة صرف صحي فتكون بطنها التي تسبقها , وشقة بطيخ نزع من داخلها اللب الأسود , فتكون وجهها الذي تظهر عليه معركة قديمة للجدري , أما عودها فكان مثل عود القصب الذي انتزعت منه الزعزوعة.
خرجت علينا هذه السيدة تسبقها بطنها وصينية عليها ثلاثة أكواب , ورائحة غريبة أقرب إلي رائحة الشيح الذي نستخدمه لطرد الثعابين من البيوت.
اقتربت من مقعدي بعد أن انتزع قاسم أمين ورئيسة المدينة كوبيهما , ومدت الصينية ولكنني ترددت فترة حتى شعرت بذلك رئيسة المدينة , فابتسمت وقالت ..
• لا تخافي .. اشربي يا شيخة .. اشربي فزوجي يعتبر أنظف رجل في رجال المدينة في شغل البيت.
لم أمهلها الوقت , فبمجرد معرفتي بأن هذه السيدة , ما هي إلا رجل وحامل , حتي أخذني القيء وسقطت مغشيا علي .
بعد محاولات من قاسم أفقت من غيبوبتي , وبعد عودة روحي خرجنا قاصدين الساحة التي سيجري فيها الاحتفال.
علي بعد خطوات من المنزل شاهدت ونحن نهرول في الشارع العمومي المؤدية إلي الساحة مستندة إلي كتف قاسم أمين , شاهدت جمعا غفيرا من الحارسات وبعض الرجال والنساء المكبلات , استرعي انتباهي قيام الحارسات بملء الكئوس من القناة الموجودة علي جانبي الشارع , وإعطائها لهؤلاء المكبلين ليتجرعوا ما بها , ولكن كان فيهم شيخ لونه تحول إلي الإصفرار من شدة الإرهاق والضعف , شنبه يغطي شفته العليا , يرتدي علي رأسه طاقية أكل عليها الزمان ، تصل بحافتها الأمامية قرب حواجبه الكثيفة ، يستند بإحدي يديه علي عصا متهالكة بفضل السوس الذى أخذ يأكل فيها ، واليد الثانية مكبلة بالحديد .
نظرات هذا الشيخ كانت غريبة المعني , خاصة التي كان يرمي بها قاسم أمين .. نظرات لوم .. عتاب , ولكن قاسم أمين سارع بشد يدي , دون أن يعطيه أدني اهتمام ..
فسألته عن ذلك الشخص ..
فابتسم ابتسامة شعرت فيها بفرحة صلاح الدين الأيوبي
وقال ..
- ألاتعرفينه .. إنه توفيق الحكيم ..
- ومن الذي فعل به كل ذلك ؟!
لم يرد أحد علي سؤالي , فقد كانت أصوات الضرب وصرخات الأطفال , تزداد وتقوي شيئا فشيئا كلما تقدمنا داخل الشارع .
شدت انتباهي حجرة كبيرة مبنية من الزجاج اللامع .. مرصوص فيها أطفال يصرخون , وجوههم متجمدة مثلجة , ورجال حوامل مثل زوج رئيسة المدينة يتنقلون بينهم في خفة .
ساعتها تدفق بداخلي شعور فطري .. وتصلب صدري بسبب تدفق اللبن فيه , وتسرب في جسدي حنين جارف لابنتي الطفلة التي تركتها بدون أن أرضعها .. ودفعني شعور بالهروب من تلك المدينة ، وبالفعل حاولت التملص من يد قاسم أمين, ولكن لم اجد سبيلا للخلاص , فواصلت معهم الطريق تجاه ساحة الاحتفال .
حينما وصلنا لاحظت بأن الساحة لا تختلف في وحشتها عن المكان الذي قابلت فيه قاسم أمين أول الأمر , صحراء .. ضباب .. صرخات .
جلسنا علي المنصة الرئيسية نحن الثلاثة ،.بينما افترش أمامنا علي أرضية الساحة , هؤلاء الأشخاص المكبلون بالحديد ، تصدرهم في الصف الأول توفيق الحكيم .. العقاد .. وغيرهما مما عرفني عليهم قاسم أمين , فالساحة رغم وسعها الا أن الضباب حجبها عن رؤيتي ، فلم أستطع الرؤية أمامنا أكثر من متر واحد , وذلك من شدة العتمة.
في البداية وقفت رئيسة المدينة ورحبت بوجودي في المدينة ثم تبعها قاسم أمين بخطبة تشبه إلي حد بعيد خطبتي , والتي ظللت منتبهة إليها حتي وقع ما لا في الحسبان , فقد دوت انفجارات شديدة في نهاية الساحة , لم أعيرها انتباها في البداية , ولكن مع علو صوتها , أخذت أحس بأن شيئا مهولا يحدث ولكنني لا أستطيع أن أراه من شدة العتمة.
مرت ساعة علي رئيسة المدينة و قاسم أمين حتي انتهيا من خطبتهما والترحيب بي ، وجلسا بجواري علي المنصة .. وأخذت أرتب في أوراقي لأنه آن أوان إلقاء خطبتي , فوقفت علي المنصة , وبمجرد أن بدأت أشيد بالمدينة وأطالب بتكرارها, حتي لمحت الهلع والخوف علي وجوه الحارسات المنتشرات في الساحة , ولم تمر ثوان أخري حتي وجدتهن يجرين هنا وهناك داخل الساحة , بينما أصوات انفجارات آخذة في الزحف ناحيتنا ..
من شدة خوفي توقفت عن استكمال أوراقي .. ونظرت تجاه قاسم أمين ورئيسة المدينة ، فلم أجدهما فوق المنصة ، هربا وتركاني وحدي .. رأيت المكبلين قد فكوا قيودهم واتجهوا ناحيتي .. ووجدت نفسي بمفردي أمام هذا الحشد الهائل من الغاضبين.
وبدأت أنزوي وأختنق .. رويدا رويدا , وشعرت بأن كل الأيادي تمتد إلي عنقي .. حتي كاد نفسي يتوقف .. فصرخت بأعلي صوت .. وظللت أصرخ .. وأصرخ.. ومن يومها وأنا أصرخ.
قال لي زوجي بأنني كنت نائمة ثم استيقظت وأنا أصرخ وجريت إلي حجرة المكتب , فوجدت الدوسيه الأحمر راسخا فوق مكتبي فمزقت الأوراق الموجودة به.