ولأن القرن الماضي يوسم بأنه عصر التحولات الكبرى ، والتي مست كل جوانب الحياة ، السياسية والاقتصادية و الاجتماعية والثقافية والفكرية . وفدت على العالم العربي بكل سلبياتها وإجابياتها . وتبعا لهذا التبدل الهائل لم يشذّ النقد الأدبي عن قاعدة التغير هذه. فما كان إلا أن تغيرت نظرة النقد الأدبي ممثلا في المناهج المعاصرة من إعلائها لسلطة المؤلف والنص إلى الاهتمام بالقارئ الذي أعطته حرية المبادرة في تأويل النص .وبهذا انتقلت سلطة الأدب من الكاتب والنص إلى المتلقي .
ولم تسلم الحركة النقدية العربية من التأثر بهذا الوافد الجديد . فكثرت المصطلحات و تباينت . فترى الكتاب والنقاد في الوطن العربي يتلقفون المناهج النقدية الغربية بعقلية "المستهلك" ويجتهدون في وضع أسماء لها، الأمر الذي نجم عنه اختلاف في الرؤى والطرائق . فجاءت لسانيات(دي سوسير) فبنيوية (رولان بارث، تزفيتان تودوروف ، والشكلانيون الروس) ، ثم تفكيكية (جاك دريدا) ، فتداولية (ج .أوستين وتلميذه ج .سارل).... وبدل أن يشيدوا مدرسة نقدية عربية تتماشى وخصوصية النص العربي وفنياته وبراعة بلاغة اللغة العربية ، انغمسوا في البحث في هذه المناهج الغربية ، محاولين تقليد أعمال روادها الغربيين ، وراحوا يخضعون النصوص العربية بشيء فيه الكثير من الفظاظة والقصر لإجراءات تلك المناهج . فجاءت الكثير من الأعمال النقدية باهتة ، جامدة لا روح فيها ، شوهت جمالية النص المعالج .
كما نجم عن هذا التبني أن اجتهد كثير من النقاد العرب في تعريب مصطلحات هذه المناهج ومقولاتها ، فتباينت المسميات وتاه الدارسون في لججها. ممن مثل : التداولية ـ التبادلية ـ النفعية ـ الحوارية ... ضف إلى ذلك لم يستطع أحد من النقاد و لحد الآن تسطير خطوات إجرائية يستطيع أن يستأنس بها الباحث المتمرس ، فضلا عن المبتدئ . الأمر الذي خلق صعوبة بالغة وعقبة كؤود في طريق الباحثين .
إن دراستي المتواضعة للمناهج النقدية الأوروبية سمحت لي بأن ألاحظ أن كثيرا من مقولاتها لها تأصيل في تراثنا العربي . وهذا ليس تعصبا ، وإنما هي حقيقة علمية بادية لكل من له عقل منصف . فالتداولية التي ترتكز في تحليل الكلام على جملة من العلوم المنطقية والفلسفية و الإنسانية ، تراعي عناصر ثلاثة كبرى هي : أفعال الكلام ـ قوانين الخطاب ـ السياق/المقام . وهي من الأمور التي أولاها البلاغيون والأصوليون والنحويون العرب والمسلمون العناية القصوى عند دراستهم القرآن الكريم ، وبيان أسباب النزول ، واستنباط الأحكام الشرعية.
وإنني لآمل كما غيري من أبناء جلدتي الأقحاح أن تشيد مدرسة عربية نقدية تراعي خصوصية النص العربي من جهة ،تأخذ بالحسبان متطلبات مجتمعاتنا وبلادنا من جهة أخرى .