رآه يهبط درج مبنى المجمع الحكومي ؛ أخذته رعشة . صورته ما زالت محفورة في ذاكرته . تسللت قدمه اليمنى إلى كعب اليسرى ، ضغطت قليلاً ، أجابت أصابع القدم اليسرى بحركة مشابهة ؛ تعرت قدماه من النعلين ، انحنى ، خطف فردتي الحذاء ، وقف جاحظ العينين ، توترت أعصابه ، اهتزت يداه ، تقدم بحذر . لم ينس يوم بادره بصفعة ، أعقبها بصقعة ، ثم صرخ : " ضعوه بالدولاب " . تقدم ... تقدم ، قَدَّرَ أن المسافة بينهما أصبحت تسمح له بالحركة ، رفع يده اليمنى قليلاً حين أمسى قريباً من زاوية طريق فرعية ، انطلق مولياً الأدبار غير مُتَحَرِّفٍ لِلقاء آخر .
شــــفافيـة
في اليوم الثاني لتكليفه مديراً لفرع المؤسسة دعا إلى اجتماع عاجل ، حيث أكد على ضرورة التقيد بالتعليمات وتلبية طلبات المواطنين دون تأخير، واستقبالهم بوجه بشوش ، وهو ـ من جانبه ـ سيعمل بشفافية ، و ... نظر بطرف خفي إلى هدى ، رئيس الديوان ، التي سبق له أن التقى بها أكثر من مرة ، فأوضح بصريح العبارة أن العاملات كلهن مثل أخواته ، وهذا موقفه الذي لن يتخلى عنه أبداً .
بُعيد منتصف اليوم كان أحد العاملين بالمؤسسة عائداً إلى بيته بحي التعاون السكني الغربي ، فلفتت نظره سيارة المدير المخصصة مركونة في إحدى الزوايا ؛ حينئذٍ لم يخامره شك بما يدور في شقة هدى ! مدَّ يده إلى جيبه ، سحب سلسلة المفاتيح ، اختار مفتاحاً منها ، تقدم من السيارة ، انحنى بحذر ، لم يستقم حتى رأى الدولاب ينام متهالكاً .
انتَبَذَ مَكَاناً يَرى منه ولا يُرى ، لم يَطُلْ مكوثه كثيراً ، رأى مديره بشحمه ولحمه وعظمه يتسلل من باب البناية ذاتها .
في اليوم الأول لافتتاح الدكان تناول قطعة من الورق المقوى ، وكتب بخط عريض العبارة الشهيرة : ( الدين ممنوع والزعل مرفوع ) ، لكن هذا الشعار لم يطبق في قرية تل الزهور كالعادة . ثَمّ شيء لا يختلف عليه اثنان : دكان وعدم مسك دفتر للديون يعني انعدام البيع ، ثم الإغلاق !
دفتر الديون ينتفخ يوماً بعد يوم ، هذا شيء لا يثير القلق ما دام هناك مَنْ يوفي ذمته في أوقات محددة ، أما أن يتهرب أحدهم ، أو ( يطمس) في مكان بعيد مثل حال ابن حارته خضر موسى ، المكنى بأبي فايز ، فالوضع لا يحتمل ! ومما زاد الطين بلة موقف زوجه ، وتريديها بمناسبة وغير مناسبة : " ظافر ذمته عاطلة ، يحتاج إلى دواء يكوي كياً " .
ماذا يفعل ليحصل حقه ؟ فكر طويلاً ، رأى أن أسلوب بعض أصحاب المحلات بنشر أسماء المدينين والتشهير بهم أسلوب قديم ، يريد وسيلة شديدة التأثير وأنجع ..... ركب شاحنته الصغيرة ، وأمسك بيده مكبراً للصوت ، ثم انطلق وصوته يتماوج : " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . توفيت إلى رحمة الله تعالى ذمة خضر موسى ( أبو فايز ) ... لا صلاة عليها " . أعاد النداء ثلاث مرات ، ختمتها بصوت هادئ : " إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ " .
بعد ساعة كان فايز يقف قبالته في الدكان وهالة من الغضب تهز كيانه ، وإن حاول التخفي وراء ستارة الهدوء . سمعه يقول :
ـ هيك يا جار تفضحنا بالضيعة !
ـ أبوك هو السبب، لا تنسَ أن مَنْ يبَظ ( يفرك المؤشرة بالإبهام ) يبز* .
ـ وأنت لا تنسَ أنك ....
ـ كل شيء قابل للتصحيح بعد التسديد .... جرب وسترى .
فتح دفتر الديون ، وأشار إلى صفحة ظافر ، ثم ركز سبابته في أسفل الصفحة قائلاً :
ـ هنا الحل .
ما كاد يتسلم المبلغ من فايز حتى قفز إلى السيارة ، وأمسك بمكبر الصوت ، وفتح فمه : " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سُبحانَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ... أدخلت ذمة ( أبو فايز) غرفة الإنعاش ، والوضع في تحسن ... ادعوا لها بالشفاء العاجل " .
الجمعة 9 تشرين الأول 2009
ــــــــــــــــــ
* ( يبظ ) : باللهجة الدارجة بمعنى يدفع . وقد جاء في معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس : " يقولون بَظّ أوتارَه للضَّرْب ، إذا هيّأها " . وفي مختار الصحاح : " في المثل : مَنْ عَزَّ بَزَّ ، أي مَنْ غَلَب سَلَب " . و( المؤشرة ) : السبابة .
ضجرت القرية من كثرة الدراجات النارية ، وقَلِقت من ارتفاع وتيرة الحوادث ، ناهيك عن صخبها وهي تسابق الريح بين الشوارع والأزقة !
يكاد لا يخلو بيت من دراجة أو أكثر ، وكلها مهربة ، فما الحل ؟ ارتأت أطراف عدة أن نقص الوعي بأصول السياقة هو السبب ؛ لذلك اتُفِقَ على ضرورة الشروع بحملة توعية ، تكون بدايتها بدعوة المحامي أشرف لإلقاء محاضرة حول الوعي المروري ، وأثر ظاهرة تهريب الدراجات .
في قاعة المركز الثقافي ما كاد الأستاذ أشرف ينهي محاضرته حتى استرعى انتباهه شاب يشير بسبابته إلى فمه ، ثم يرسلها نحوه بحركة لولبية ؛ فأومأ برأسه أَنْ : اقترب . أقترب الشاب على عجل ، وهمس في أذنه بضع كلمات جعلت الأستاذ أشرف يهب واقفاً ، ثم يغادر القاعة وهو يلوح بيده معتذراً . حين وجد نفسه في الطريق أسرع إلى دراجته غير المهربة ، ركبها وهو يحدث نفسه : " يا بني ! قلت لك : لا شيء يدعو إلى شراء دراجة ثانية . أجبتني : واحدة مهربة بربع الثمن ... تفضل شف نتيجة السياقة برعونة ! " .
الثلاثاء 13 تشرين الأول 2009
دخل قاعة المركز الثقافي مع الداخلين ، سار حتى غدا بمحاذاة الصف الثالث ، اتجه إلى الجهة اليمنى كالعادة ، اختار المقعد الأول ، التفت خلفه قبل أن يهبط بسلام وسط ضجيج الأصوات والمقاعد . ارتفع صوت عريف الحفل ؛ فعم الهدوء . قبل أن يصعد المتكلم الأول المنصة صفق له مع المصفقين ، وودعه بمثل ذلك . ظل التصفيق يعلو ؛ نشل الجريدة المطوية من جيبه ، نظر إلى العنوان الرئيس ، أحس بشعاليل الخدر يسري في يديه ، ورمل النعاس يفترش عينيه ؛ دَنَا رأسه من صدره فَتَدَلَّى .
أفاق على صفقة قوية ؛ فصفق بشدة وهو ينظر إلى الأمام والخلف . كانت القاعة خالية تماماً ، وضوء خافت يعم المكان ، وثَمَّ شعاع قادم من البهو يخاتل الباب المتأرجح . داخله خوف ورهبه ، نهض ، بحث بعينيه عن موطئ قدم بين المقاعد ، سار وهو يمكو ويصدي* .
الأربعاء 14 تشرين الأول 2009
ـــــــــــــــــــــــ
* يصفر ويصفق
في إحدى ليالي الصيف استلقى على فراشه فوق المصطبة كالعادة ، وكان قلقاً ؛ أفكار شتى طرقت باب مخيلته ، برزت أمامه صورة الشيخ علي وهو يردد : " إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... " ، لكنه لم يفلح في تذكر ما قبلها وما بعدها ؛ فحدث نفسه : " كيف لواحد مثلي أن يلعب أو يلهو ؟ " . تأمل النجوم المضيئة في صفحة السماء الصافية : واحد ، اثنان ، ثلاثة ... ضرب فمه بباطن يده أَنْ : أسكت . فجأة لمعت في ذهنه حكاية جده مع النجوم ؛ أشرق وجهه بابتسامة عريضة ، حدث نفسه : " الله يرحمك يا جدي ! فكرتك الغريبة غدت مضرب الأمثال ، كيف خطر لك أن تسأل جدتي : لو كانت النجوم تعمل على زيت الكاز ، فكم بلورة * تحتاج في كل ليلة ؟ "
التفت إلى زوجه الغارقة في نوم عميق إلى جانبه ، فوخزها أكثر من مرة حتى جعلتها تلتف حول نفسها مذعورة وهي تقول :
ـ اللهم ! اجعله خيراً ... مالك يا رجل !
ـ خطر على بالي خاطر .
ـ خاطر !
ـ عصر زيت الكاز ولى ، اليوم نحن في عصر المازوت .. يا ترى ! لو كانت النجوم تعمل على المازوت ، فكم برميل أمريكي تحتاج كل ليلة ؟
ـ رح اسأل جدك .
الأربعاء 21 تشرين الأول 2009
* وعاء مخروطي سعته / 5 / ليترات
تأفف صاحب الرفعة والعظمة ، واشتكى رأسه وظَهْرَهُ من الزمن الذي سرق الهدوء والسكينة من حياته ، وجعل الرعاع من الرعية يتمردون ؛ فتوترت أعصاب صاحب العسس ، وجحظت عينا كبير البصاصين ، ثم تحركا بسرعة البرق ، حيث أصدرا تعليمات مشددة لأتباعهم بإلقاء القبض على المسبب فوراً ، وإحضاره موجوداً .
الأحـــد 25 تشرين الأول 2009
-------------------------------------
تواصل
وصل أنْمار إلى سور محطة القطار . ما كاد يقترب من ردهة الانتظار حتى سك سمعه ضجيجٌ غريب الإيقاع ! عبر الباب العريض ، رأى حشداً من الناس . لأول مرة يسمع أصوات وقع أحذية المسافرين والمودعين تعلو أحاديثهم مَرَّةً وتسفُل أخْرى . ربما تكون نعالهم غليظة ، شديدة الوطء ! هنا خطر على باله قول الشاعر :
رِقاقُ النِّعال طيِّبٌ حُجُزَاتُهُمْيُحَيَّوْنَ بالرِّيحانِ يومَ السباسبِ
لم يكن هناك وجه للشبه بين أصحاب النعال الرقيقة والذين ( تعجق ) بهم الردهة الآن . لقد تغيرت المفاهيم بتبدل الأزمان ، أولئك كان أحدهم يخصف نعله ، ويُثْنَي طَرَف الأزِار، أما هؤلاء فلا يجدون راحة إلا إذا كانت أحذيتهم ثقيلة ، وصدورهم شبه عارية ، ولا بأس بارتداء نصف قميص .
أيام (القبقاب الشبراوي أو العادي) ذهبت إلى غير رجعة ، صارت معامل الأحذية (تتفنن) بطريقة تصنيعها،لا فرق بين (الحقير) منها و(المحترم) ، وأسماؤها كثيرة ، متنوعة تبدأ بأقلها مكانة (شحاط)، وتنتهي بأشدها قوة وصرامة (البوط أو البسطار) .
أمسك أنمار نفسه عن الضحك حين تذكر أحد زملاء الدراسة ! كان لذلك الشخص مِعْيَارٌ غريب في تحديد الشخصية ، فهو لا ينظر إلى قدرة المرء على تعليل تصرفاته والتحكم بها ، ولا إلى خبراته في امتلاك النفس ، وتكون العقيدة ..... إنه ينظر إلى حذائه ... نعم ..... إلى حذائه ، ومن ثم يحدد شخصيته . ذات يوم بوغت به أنمار يسأله عدة أسئلة ، بعضها لم يخلُ من الطرافة :
ـ أنت شايف مثلي ؟
ـ ما فهمت قصدك !
ـ الأستاذ أنور .
ـ مثله مثل بقية المعلمين بالمدرسة .
ردَّ بسرعة :
ـ أقصد شخصيته .
ـ ما لها ؟
ـ شخصية محترمة ، عليها القيمة ؟
استفسر أنمار :
ـ هل يمكن لك أن تقول لي كيف عرفت ؟
أجابه بهدوء وهو يحدق في الأرض :
ـ إنه ينتعل حذاء جميلاً ، لا بُدَّ أن يكون غالي الثمن .
كظم أنمار صرخة كادت تفلت منه :
ـ هكذا تقوِّم الرجال ؟
ـ إي نعم ... الحذاء هو الأساس . انظر إلى هذه .
أبرز أمام أنمار مجموعة من الصور المطوية ، بحيث لا يظهر منها إلا القسم السفلي ، وطلب أن يمعنَ النظر ، ويعطي رأيه بشكل الأحذية .
جاراه ليعرف نهاية الحكاية . أشار إلى حذاء أحدهم ؛ فزَّ أنمار رأسه بشكل آلي قائلاً بهدوء :
ـ جميل المنظر ، يبدو أنه ...
لم يدعه يكمل ، قلب الصورة ؛ فظهر وجه صاحبها ؛ عندئذٍ ضحك ، وقبل أن يسمع رأي أنمار راح يعرض الصور كشريط . كانت كلها لشخصيات تملأ الصحف أخبارها ، وينقل الرائي صورها .
ابتسم أنمار قائلاً :
ـ طريقة جديدة في القويم ! لو سمعتْ بك ( فاليريا موخينا )* لماتت غيظاً .
تساءل :
ـ ومن هي موخينا ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة روسية مؤلفة كتاب ( نشأة الشخصية ) يتحدث عن ولادة شخصية الطفل ، صدر بالعربية عن دار التقدم عام 1988
لم يجبه على سؤاله ، نظر إليه ملياً ، فكر : " ربما يكون معه بعض الحق ! لكن ... " . تمتم : " تضرب هيك شخصية " .
الآن ها هو أنمار ينظر إلى مواقع الأقدام ، يرتفع نظره قليلاً قليلاً ، يتوقف على مسافة ثلاثة أشبار ... السياقان غابة مختلفة الأشكال والألوان ، تضج بالحيوية . الأقدام متنوعة الأحجام ، مشدودة إلى نوابض مرنة . أطال التحديق ؛ امتزجتْ الألوان والأشكال . تعالت أصوات النعال بإيقاع شبه موزون ؛ تعانقت أيدي طائفة من الحضور ، رسموا حلقة كبيرة ، في الوسط انتصب عازف (الأرغول) وقارع الطبل. راعي الأول يقفز ويدور .... فكر : " يا للروعة ! كم تجذبكِ تلك الحركة الصاخبة ، النشطة التي لا يمكن لكِ أن تشاهديها إلا في محطات السفر ، أتمنى أن تأتي الآن وتشاركيني متابعة هذا المشهد ! " .
لم يمطل بأنمار الوقت ، رآها مقبلة عليَّه وهي تبتسم ابتسامة ذات مغزى ؛ جعلته يدور في دوامة من الأسئلة ، لكنها سرعان ما أشارت بيدها أنْ : اصبرْ، سأخبركَ .
انتبذا زاوية الردهة الشمالية الغربية بانتظار القطار القادم من الشمال . ما كادت يديه اليمنى ترتفع بهدوء حتى أبرزتْ المؤشرة *، ثم بدأتْ تُرِقِّصها في الفضاء ؛ فكر أنمار : " لا بُدَّ أن تلك الحركة تخفي وراءها شيئاً ما ! ". صنعتْ من يديها كلتيهما شبه بوق ، واقتربتْ من أذنه ، قالت بصوت يمزج بين الهمس والصراخ :
ـ سأقول لك لماذا كنتُ أبتسم . شو نسيت ؟ ألم أخبرك ... فن الإصغاء والتواصل موهبة تحتاج إلى صقل ، مَنْ يمتلكها يستطيع أن يسمع دبيب النمل ، ويفرز الأصوات السابحة في الفضاء . أصغِ إلى الأصوات التي تصدرها الأشياء المحيطة بنا ، ثم اجهر بِقِرَاءَةِ تفسيرها .
ـ والله ! أمركِ غريب ! كأني أحلم ... تطلبين مني أن أقرأ ما ... أقرأ ــــــــــــــــــــــــــــــ
* السبابة
شو ؟ نعرف أن لكل حي صوت مميز ، أما الأشياء الجامدة .... ثم ما حكاية أصواتها ؟
شعر أنمار كأن ذلك الضجيج خَفَت فجأة ؛ فسمعتها تقول بصوت واضح النبرات :
ـ كل شيء في الطبيعة له صوت .
ـ حتى الجماد !
ـ نعم ... نعم .
لم يجد نفسه إلا وهو يصرخ دونما انتباه :
ـ اللهم ! احفظنا ، وأبعدنا عن العمارة الصفرا .
ضحكتْ :
ـ هل تحسبني مجنونة ؟
ـ لا ... لكن ..
ـ بلا لكن ... دعني من هذا الآن . انظر إلى حذاء ذلك الرجل .
نظر إلى حيث أشارتْ . كان رجلاً ثقيل اللحم يتمايل بمشيته مثل البطة . تابعتْ :
ـ له صوت خُوار .
صاح متعجباً :
ـ خوار ! هل هو ثور ؟
ـ لا ... يصدر صوت خُوَارٌ.
ـ لم أفهم .
ـ حذاؤه مصنوع من جلد البقر ؛ لذا تراه يخور .
ـ ما هذا الكلام ؟
ـ والواقف خلفكَ له صوت رُغاء .
ـ تعني أن حذاءه مصنوع من جلد الجمال ؟
ـ أو الضَّبُع .
دخل دوامة الحيرة ! قال باستسلام :
ـ وماذا بعد ؟
تابعت كلامها على الوتيرة نفسها :
ـ أنتَ تعلم أن فم كل كائن حي يمتلك خاصية إصدار أصوات مميزة ، وكذلك الأنف ، و...
ـ ما الجديد في الأمر ؟
ـ الجديد هو دعوة إلى التواصل لمعرفة أصوات الأشياء الأخرى .
قال متبرماً :
ـ بتُ لا أعرف مَنْ هو المجنون منا !
ـ صبراً ... تدريب النفس وتهذيبها يكشف لك أن الأصوات التي يحملها الكائن تندمج بحيث يغدو الصوت جزءاً من حامله .
ـ هل أنا فهمت الأولى حتى أفهم الثانية ؟
ـ قلت لك : صبراً .... انظر إلى تلك الفتاة ، إنها تصدر فحيحاً
ـ حسب رأيكِ لا بدَّ أنها تحمل شيئاً ما مصنوع من جلود الأفاعي .
ـ جيد جداً ، بدأت تتواصل .
ـ وهذه الفتاة التي تخفف الوطء في مشيتها ؟
ـ لها صوت كأطيط الإبل .
ـ ماذا يعني هذا ؟
ـ حذاؤها من مواد مطاطية .
كادت تفلت منه ضحكة مجلجلة ، لكنه أدركها في آخر لحظة ؛ فأطبق عليها مع قليل من التسامح .
سمعتها تقول :
ـ لا تنسَ، اكتب إلي، سأرسل لك عنواني فور وصولي .
التفتَ إليها فاغر الفم هنيهة ، ثم سألتها :
ـ عن أي شيء تريدين أن ....
لم يكملْ الجملة ، تردد ؛ فقد رأى شاباً يقف على مسافة قريبة ، يدير لهما ظهره . كان يحمل دفتراً بيده اليسرى ، وثَمَّ شيء ما يبرز من تحت نطاق بنطاله ، هذا ليس كل شيء ...... كان يميل بعنقه ، وينظر بطرف عينه . بدا لأنمار أنه يسترق السمع ..... هنا يكون الصمت أفضل حالة يمكن أن يلجأ إليها الإنسان . انتظر حتى ابتعد ، ثم أعاد السؤال :
ـ عن أي شيء تريدين أن أكتب ؟
قالتْ بعجلة :
ـ اكتب لي عن كل شيء بالتفصيل ... كل شاردة وواردة .
ثم أضافتْ وهي تمسح نظرها بالمكان :
ـ لا تنسَ ... سنبقى على تواصل .
ـ من جانبي أنا مستعد .
ـ حسناً ، لكن لا تنسَ أن تبقى على تواصل مع الناس أيضاً .
ـ الناس ! أية فئة من الناس ؟
ـ الفئات كلها ، خاصة في ساعة الحزن والضيق ... مشاركة الناس بأحزانهم لا تحتاج إلى بطاقة دعوة ، بل أفراحهم هي التي تحتاج
ـ وأنا ... حتى لو ....
في هذه اللحظة رنَّ جرس المحطة ، أعقبه صَّفّارةُ القطار القادم قبل أن يتوقف ، بينما كانت عجلاته تصدر صوتاً أشبه بجرش الحصى؛ فأسرعتْ وهي تلوح بيديها .
لم يغادر المحطة إلا بعد أن توارى القطار عن ناظريه ، خرج من القاعة ، وقبل أن يهبطَ الدرج وقف هنيهة يتأملُ المدينة وهي تستقبل طلائع المساء ، على الرغم من ذلك شعر بالضيق قليلاً . لم يعدْ إلى البيت مباشرة ، سار على رصيف شارع المحطة على غير هدى ، وصل إلى مفرق طرق غارق بالأضواء الكاشفة ، اتجه إلى ساحة المدينة ، لم يتوقفْ عند محل معين ، لسبب بسيط ، فاليوم هو يوم جمعة .