صفحة 8 من 97 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 18 58 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 85 إلى 96 من 1155

الموضوع: أدب الرحـــــــلة ...

  1. #85 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    مناقشة لمصادر قضية أحمد ابن ماجد
    ياسين عبد اللطيف


    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  2. #86 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    عدد خاص من مجلة (ألف) عن
    أدب الرحلات
    صدر العدد الجديد من المجلة الأكاديمية [ألف] والتي تصدر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة وتنشر مقالات مكتوبة باللغة العربية والإنجليزية والفرنسية وتتبع نظام التحكيم التخصصي المتعارف عليه في الدوريات الأكاديمية، ويشرف عليها فريال جبوري غزول.
    وقد تم تخصيص هذا العدد لموضوع الرحلة شهوة الترحال: أدب الرحلة في مصر والشرق الأوسط، حيث حفل بمواضيع ثرية نظرية وتطبيقية أصيلة لنقاد أكاديميين وباحثين خبروا الموضوع من جوانب مختلفة.
    يقع العدد في 528 صفحة موزعة على قسمين اثنين، القسم العربي وساهم فيه جون رودنبك، شعيب حليفي، عبد الرحيم مؤذن، سيزا قاسم، مديحة دوس، محمد بريري، عصام بهي، سعيد الوكيل، وليد الخشاب، وليد منير وفخري صالح.
    أما القسم الثاني الإنجليزي والفرنسي فقد افتتح بحوار مع جون رودنبك ثم مقالات لكل من مايكل هاج، سحر صبحي مارانعمان، تيرينس والز، سارة سيرايت، ماليز راثفن، فدوى جمال، ج. د. جونز، نبيل مطر، هاشم فودة.
    جاء في افتتاحية العدد قيام المساهمين بتحليل نصوص رحلات من مختلف العصور والأماكن، مع التركيز على أدب الرحلة في الوطن العربي، أو في نصوص رحالة عرب إلى مناطق أخرى من العالم، فهناك في هذا العدد دراسات عن الرحالة والرحلات، الرحلة الصوفية والتجوال السياحي، رحلات مكتوبة في القرون الوسطى وفي القرن الثامن عشر، الرحلة في مطلع القرن العشرين عبر استكشاف بغداد بمقالات مصورة واستكشاف جنوب أفريقيا بيوميات مسافرة...
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  3. #87 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    الرحلة التتويجية الى عاصمة البلاد الإنجليزية
    المؤلف:

    ترجمة وتحقيق: عبد الرحيم مودن
    عدد الأجزاء: 1

    سنة النشر: 2003
    الطبعة رقم: 1
    الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
    صفحة: 85
    عمل ينتمي إلى ما نسميه بـ "أدب الرحلة المضاد"، وينبني على مقاومة التمثلات الإستشراقية التي تعج بها كتب الرحالة الغربيين الذين زاروا الشرق، وكتبوا عنه نصوصا تكرس متخيلات مخترعة.
    قيمة الرحلة أنها تكشف عن وجهة نظر مغربية عربية تجاه المجتمع الأوروبي المتمثل في إنجتلرا باعتباره الآخر المتقدم القوي، المالك لأدوات التكنولوجيا والتنمية، والباحث عن مستعمرات وأسواق، وعلى صغر حجم النص فإنه يكشف عن الهاجس الحضاري المستنير لمؤلفه.

    رحلة مهمومة بمشكلة التحديث، كتبت بروح من التحرر الذي يهجر قليلا أو كثيرا فكرة دار الكفر، فضلا عما تقدمه من فكرة قيمة عن الإشكالية الفعلية لبدايات الترجمة في المغرب العربي.

    د. أبو شامة المغربي

    رد مع اقتباس  
     

  4. #88 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    العرب القدامى كانوا أكثر استكشافاً
    (ارتياد الآفاق)
    مشروع أدب الرحلات
    بسمة الخطيب
    الحوار المتمدن
    العدد: 1737
    2006 / 11 / 17
    **
    هو، ورغم ذلك فقد ظلّ طوال عشرة قرون، مجهولاً ومهملاً، لكن يبدو أن هذا لم يعد مصير الآن، بعد ستة أعوام من إطلاق المثقف الإماراتي محمد السويدي مشروعه الرائد (ارتياد الآفاق)، الهادف إلى رفع راية هذا اللون الأدبي والفني والثقافي، وهو المشروع الذي سيكون عنوان المرحلة الحديثة الأهم، عربياً، في تاريخ هذا الأدب.

    عام 2000 أعلن السويدي عن مشروع (ارتياد الآفاق)، الذي انطلق عملياً عام 2001 مع أول إصداراته تحت إشراف الشاعر نوري الجرّاح، الذي تقاطع شغفه بأدب الرحلة مع طموحات السويدي، ومن أبو ظبي انطلق المشروع إلى كل أقطار العالم، باحثاً عن كلّ مخطوطة تروي رحلة حاجّ ورحالة وتاجر ومغامر ومستشرق...
    الهدف الكبير كما يوحي عنوان المشروع: المعرفة والعلم واكتشاف الذات والآخر، وأهمّ من كلّ هذا نفض الغبار عن تراث أدبي عربي عريق وثمين أهمله أهله طويلاً.
    كذلك رمى المشروع إلى الكشف عن نصوص مجهولة لكتّاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا رحلاتهم ومشاهداتهم وانطباعاتهم وتحليلاتهم، إضافة إلى تسليط الضوء على ما كتبه الرحّالة الغربيون والمستشرقون الذين زاروا ديارنا العربية والإسلامية وعادوا إلى بلادهم بالكثير من الانطباعات المسبقة التي غادروا بها، مروّجين لشرق (ألف ليلة وليلة) والخرافة والشعوذة، ممهّدين للغزو الغربي الثقافي ومن بعده العسكري. يقول السويدي هنا إن الاستفزاز الذي شعرت به النخب العربية والإسلامية بسبب هذه الصور غير المكتملة بل الزائفة دفعها إلى رحلة عكسية، أي الرحيل نحو الآخر بحثاً واستكشافاً والعودة بوصف لما شاهدته وخبرته وإثارة صراع فكري بين الغرب والشرق، وليس مشروع السويدي سوى استئناف لتلك الرحلة العكسية، وخطوة جديدة تنطلق من شبه الجزيرة العربية.
    مئة رحلة عربية إلى العالم
    انطلاقاً من هذه الأهداف بدأ (ارتياد الآفاق) بإصدار سلسلة (مئة رحلة عربية إلى العالم) التي تكشف كيف رأى العرب العالم عبر رحلاتهم، وكيف ركّزوا على رصد ملامح النهضة العلمية والصناعية والثقافية والعمرانية...
    ويتكرّر مع صدور كلّ كتاب، والإعلان عن كلّ خطوة جديدة أن الهدف هو الكشف عن طبيعة الوعي الإنساني بالآخر الذي تساهم في تشكيله الرحلة، وعن الثروة المعرفية التي يختزنها أدب الرحلات المتميّز بمادّته السردية المشوّقة المطعّمة بالعجائب والغرائب والطقوس الفريدة ...
    وكذلك الكشف عن همّة الإنسان العربي في ارتياد الآفاق، وليست الجملة الأخيرة مجرد صدفة أو كلمة تقال، بل يرمي بها السويدي القول بوضوح إن العربي كان ينزع نحو ارتياد الآفاق الجديدة واستكشاف الآخر في الماضي أكثر بما لا يقاس مما يفعل حالياً، منبّهاً بطريقة غير مباشرة إلى خطورة التقوقع والعزلة المسؤولة عن الجهل والتأخّر عن اللحاق بركب المسيرة الإنسانية.
    تبعت سلسلة (مئة رحلة عربية إلى العالم) عدّة خطوات مكمّلة، مثل الندوة السنوية لأدب الرحلة جائزة ابن بطوطة سلسلة (سندباد الجديد)-(موسوعة رحلات الحج)-(شرق الغربيين)(رحّالات شرقيّات)...
    وبحلول العام 2006 كان قد صدر عن (المركز العربي للأدب الجغرافي ارتياد الآفاق) حوالى 140 كتاباً بين مخطوطة ونصّ ودراسة ومصنّف جغرافي وترجمة لأثر أجنبي.
    تنقلت الندوة السنوية التي ينظّمها المركز منذ 2003 تحت عنوان (ندوة الرحالة العرب والمسلمين) بين المغرب والجزائر والسودان، وسترسو مطلع 2007 في الإمارات، وهي في كلّ مرة تجمع دراسات وأبحاثاً حول مدوّنات الرحالة العرب والمسلمين في رحلاتهم بين الشرق والغرب الهادفة إلى اكتشاف الذات والآخر...
    كما تخلّلها الإعلان عن (جوائز ابن بطوطة)، وهي عبارة عن جائزة تحقيق مخطوطات الرحلة الكلاسيكية، وجائزة الرحلة المعاصرة، وجائزة دراسات أدب الرحلة، وأضيفت لها جائزتان هذا العام هما: (جائزة الرحلة الصحافية)، وجائزة (المذكرات واليوميات)، كما ستعلن هذا العام عن جائزة جديدة للعام 2007 هي جائزة شخصية عربية أو أجنبية أثرت أدب الرحلة.

    أدب جديد
    سنة بعد أخرى يكبر المشروع وتتسع آفاقه، تتزايد فروع الجائزة وقائمة الإصدارات، ولا شكّ بأنّ هذا المشروع الرائد سيجد نفسه أمام نوع آخر من الأسئلة والتحدّيات تحديداً وهو في طور إنجاز جزء كبير من أهدافه ونشر المزيد من كلاسيكيات أدب الرحلة أو الرحلات المعاصرة.
    تتعلّق هذه الأسئلة بجوهر أدب الرحلة نفسه كأدب عالمي له تقنياته وأدواته، يتلمّس المؤرّخون وجوده في أقدم الأعمال الأدبية والشعرية منذ هيرودوت وأوديسة هوميروس مروراً بكوميديا دانتي الإلهية التي يعبر خلالها في رحلة إلى الجحيم والمطهر والجنة، ثم(كتاب عجائب الدنيا) لماركو بولو وكتابات كولمبوس وأمريكو فسبوتشي وابن بطوطة وفولتير...
    إذاً بعدما يُتِمّ (المركز) نشر الكثير من نصوص الرحلات وبينما يحقّق في دورها في ما يسمى علاقة الشرق بالغرب سيحين وقت التساؤل عن ماهية هذا الأدب وقواعده وخصائصه السردية والفنية والمقارنة بين ماضيه وحاضره واستشراف مستقبله، وبعد التركيز على أدب الرحلة كجسر بين الثقافات ومرآة للمجتمعات يأتي وقت تناوله كأدب وفنّ له مدارسه المختلفة ودعائمه الأسلوبية ومساراته السردية...
    كان (أدب الرحلة) قد عرف نقلة نوعية حين قدّمه ستيفنسن وديفو وملفيل وكونراد تحت خانة (أدب المغامرة)، وأضفى عليه جول فرن صبغة علمية أو بالأحرى (خيالية علمية)، كما تحوّلت هذه الرحلات إلى مادة غنيّة لأدب الفتيان والأطفال... اليوم يقال: إنّ هذا الأدب فقد سحره بعد التطوّر التكنولوجي الهائل وتطوّر خدمات الأقمار الصناعية وشبكات الإنترنت و(غوغل إيرث)أبرزها، في فتح آفاق العالم أمام الجميع... هذه مقولة مطروحة للنقاش لأنّ آخرين يدحضونها ويرون أن توق الإنسان إلى الترحال ما زال قائماً بل متّقداً نحو أماكن تعرّضت لتغييرات اجتماعية وسياسية وحتى جيولوجية ونحو الفضاء كمثال بديهي، حيث يُنتظر أن يعود كلّ رائد فضاء و(سائح فضائي) بكتاب لن يكون إلا إضافة إلى (أدب الرحلة الجديد).
    كما يطرح آخرون أدب رحلةٍ مقترناً بمتصفّحي الانترنت والرحالة الافتراضيين والرحّالة المقتدين بشبكة النتّ بدل البوصلة والخريطة الورقية، ليس لاكتشاف المجاهل الجغرافية كما في الماضي بل لإعادة قراءتها وتلمس تغييراتها... فهل سيكون للعرب مكان في (أدب الرحلة الجديد) أم سينتظرون عشرة قرون جديدة كي يقولوا كلمتهم؟ لا يبدو أن السويدي والجراح يملكان كلّ هذا الصبر.


    http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=81036
    السندباد
    التعديل الأخير تم بواسطة السندباد ; 20/12/2006 الساعة 06:13 AM
    ---
    سافرْ تَجِدْ عِوَضاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ
    وَانْصَبْ، فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَــــبِ
    إنِّي رأيتُ وُقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ
    إنْ سَالَ طَابَ، وإنْ لم يَجْرِ لم يَطِــــــــبِ
    والشمسُ لَوْ وَقَفَتْ في الْفُلْكِ دائمةً
    لَمَلَّهَا الناسُ مِنْ عَجَمٍ ومِن عُرْبِ
    رد مع اقتباس  
     

  5. #89 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0


    أدب الرحلة عند العبودي
    (1/2)
    الدكتور حسن بن فهد الهويمل
    *
    يوم لا أنساه، والأيام المحفورة في الذاكرة كثيرة منها المفرح، ومنها المترح، ومنها المخيف، ومنها المطمئن.. تتجاوز في أعماق النفس بتناقضاتها الصارخة، ومتى عفت مع تطاول الزمن، جاءت المناسبات كما السيول التي تجلى الطلول.

    وتكريم العلاَّمة معالي الشييخ محمد بن ناصر العبودي في المهرجان الوطني أعاد لي يوماً يفصلني عنه نصف قرن، خمسون عاماً، إنه زمن طويل، ولكنه لم يستطع طمس أحداث ذلك اليوم، فكأن بيني وبينها ساعة من نهار.
    في صبيحة الخامس عشر من شهر صفر عام 1374هـ لملمت أطرافي المبعثرة، وغسلت وجهي المغبر، ولا أستبعد أنني استعرت عباءة وجذاء، ودفعت بكل هذه الملفقات إلىمكتب طيني صغير، يقبع في أقصاه رجل مهيب الجانب، تزينه وضاءة العلم، ويملؤه حنو المعلم، إنه العلاَّمة محمد العبودي، كنت يومها في السنة الرابعة الابتدائية، وكان لدى (المعهد العلمي) إذ ذاك مرحلة تمهيدية، يقبل فيها المتفوقون، ليدرسوا في المرحلة التمهيدية.
    لم أكن متفوقاً، ولكن والدي جار جنب لفضيلته، ومازال الرسول يوصي بالجار، حتى كاد أن يورثه.

    نظر إليَّ كما لو كان يتقرأ ملامحي، ثم دفع بي إلى المراقب ليلحقني بالصف الأول تمهيدي، وكان حقي أن ألحق بالصف الثاني، ولكنه قوَّم أشيائي، ولم يقوِّم معارفي، فكان أن ضاع من عمري عام دراسي، هذا اليوم الاستثنائي في حياتي أدخلني إلى عوالم لم أكن أعهدها من قبل.
    وبعد سنتين أو ثلاث جاءت زيارة الملك سعود- رحمه الله- إلى القصيم ومن ضمن برنامجها زيارة المعهد، فكان أن تقلدت مكبر صوت، لأهتف بكلمة واحدة (يعيش جلالة الملك) يرددها من ورائي الطلاب المصطفون على جانبي الطريق، لقد مكثت أسبوعاً أردد هذا الهتاف وأسبوعاً أطبقه، وساعة العسرة تلعثمت، فقلت:(يعيش جلالة الملك) فكان أن سيئت وجوه المدربين، وارتبك المرددون من ورائي، ولم يشف نفسي، ويذهب سقمها إلا تلك التلويحة المخلصة من يد جلالته، مشعرة بالاستلطاف، مع نظرات حانية من خلف نظارة جلالته السميكة، ولكن الخوف ظل يساورني من مدير يقدم بين يدي مساءلته للمخالفين والمقصرين صفعةً على خد نحيف، وأحسب أنه لم يسمع ما سمع غيره، فمرت الحادثة بسلام.
    لقد عودنا الانضباط والطاعة، وكانت له أياديه البيضاء في التأسيس للتعليم، وتعويد القراءة في (مكتبة المعهد) التي تعهد بإنشائها وإمدادها، وكانت انطلاقتي القرائية منها ومن (المكتبة العامة).
    إنها ذكريات عذاب، وإن لم تكن على شيء من اليسار ورخاء العيش وآثار النعمة، وحنين الإنسان أبداً إلى زمن البراءات والتطلعات، فالراكضون في عقد السبعينات- وأنا منهم- يصحبون الدنيا بملل وضيق، وإن طال أملهم، وأحبوا دنياهم..

    ولأن حديثي عن جانب من حيوات المحتفى به، فإنني سأضرب صفحاً عن ذكريات العذاب والمقدمات المهمة من حياة المختفى به، لأدخل إلى (أدب الرحلة) عنده، ومعالي الأستاذ (محمد العبودي) عالم وأديب ومثقف، له اهتماماته التاريخية والجغرافية والأدبية، وله نشاطاته التعليمية والدعوية، ولقد اسعفته ظروفه العلمية والعلمية، فكان أن استثمر كل لحظة من حياته، تعلماً وقراءةً وكتابةً..
    ويأتي ( أدب الرحلة) في مقدمة إنجازاته التأليفية كثرةً، واتساعاً، واشتهاراً، إذ عرف (العقاد) مفكراً وهو شاعر، فقد عرف(العبودي) رحالة، وهو العالم المتعدد الاهتمامات والقدرات والمؤلفات، ذلك أن عمله الرسمي تعانق مع اهتمامه بالرحلة وآدابها.
    وقبل مباشرة الحديث عن هذا الفن السردي المعرفي، نور الإشارة إلى (أدب الرحلة) بوصفه لوناً من ألوان السرديات، تتنازعه معارف متعددة، فهو كما الثقافة، يأخذ من كل شيء بطرف، إذ يكون تاريخاً أو جغرافيا أو علم اجتماع أو علم سكان أو سيرة ذاتية، أو ما شئت من أنواع السرديات العلمية والأبداعية.. والرحالة وحده القادر على إعطاء (أدب الرحلة) عنده نكهة خاصة، تميزه عن غيره ممن كتب في هذا اللون.
    فما(أدب الرحلة): فنيّاً وتاريخيّاً وموضوعياً؟ ومن هم أعلامه؟ وما نصيب الحضارة الإسلامية من هذا القول السردي؟...

    وحديثي عن علم من أعلام هذا الأدب يقتضي اللمحة دون البسط، إذ لست بحاجة إلى الرصد التاريخي لهذا الفن، وفي الوقت نفسه لن أطيل الوقوف على الأبعاد الفنية وتحولاتها، ذلك أن (أدب الرحلة) واكب الوعي الإنساني، واختلط بعلوم: (الجغرافيا) و(التاريخ)
    و(السياسة).
    ولم يكن علماً مستقلاً، وإن أشير إليه عرضاً في دراسة الأعمال أو الشخصيات.
    لقد كان لكل حضارة نصيب من هذا الفن، ولا أحسبنا بحاجة إلى الدخول في ضوائق المفاضلة أو الريادة, فالرحلة لصيقة بالإنسان، وحديثه عما لقيه فيها من نصب، وما شاهده من أشياء يأتي عفوياً.
    والشعر العربي يفيض برصد ما يعانيه الشعراء المسافرون، في ظعنهم وإقامتهم، ولكن تسجيل معاناتهم، وما يتحدثون عنه من راحلة ورحلة وأطلال ومحبوبة وموارد مائية وجبال شاهقة وأودية سحيقة: غائرة الماء أو واقعاً في صميمها، ومطالع القصائد العربية القديمة لا تخرج عن وصف ما يمر به الشعراء، وما يقفون عليه من إقواء وعفا وأحجار وملاعب وأطلال ومواقد وبقايا معاطن، ولقد تقصاها دارسون ك (حسين عطوان) و(وهب رومية) وآخرون، غير أن ما نحن بصدده يختلف تماماً عن الرحلة في الشعر العربي، وعن المطالع الطللية أو الخمرية.
    فالشعر لا يحفل بالمشاهد والمواقف إلا بقدر ما تنطوي عليه من ذكريات مرّ بها الشاعر، ثم هو يتحدث عن الصحراء لمجرد أنها ظرف مكاني للقاء متخيل أو حقيقي مع محبوبة حقيقية أو وهمية.
    و(أدب الرحلة) اتخذ مستويين إجرائيين: مستوى الرواية الشفاهية، ومستوى التدوين، والشفاهي سابق على التدوين، ولكل حضارة بداياتها الحضارية في عمق التاريخ، ولكل علم بداياته العفوية، فلقد كان الراحلون من كل نحلة وعصر وعنصر يتحدثون إلى بعضهم كما يقول الشاعر:
    (أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا+ وسالت بأعناق المطي الأباطح)
    وإذا عادوا إلى ديارهم، رووا لمن خلفهم ما لقوه في سفرهم من نصب، وقد يبالغون فيما يلقونه ويشاهدونه، ثم إن المتلقين عنهم يعيدون ما سمعوه للمتعة أو للاعتبار، فكان (أدب الرحلة) شفاهيّاً كأي بداية معرفية أو فنية، وحين بدأ التدوين، دونت العلوم والمعارف الجغرافية والتاريخية، واختلط (أدب الرحلة) فيها، ثم اتخذ سبيله إلى التميز والاستقلال، وما أن أسهم الرحالة في الكتابة حتى مالوا شيئاً قليلاً إلى (أدب الرحلة)، فكان أن تخلق هذا الأدب، كما الأجنحة في الأرحام، وامتاز عما سواه من فنون الكتابة، والرحلة غير الاغتراب، ف (المهجريون) وطائفة من (العقيلات) كما يسميهم النجديون، خرجوا من ديارهم ولم يعودوا، ومن ثم نشأ (الأدب المهجري) و(أدب الاغتراب)، وقد يتداخلان مع (أدب الرحلة).. و(الرحالة) غير (المهاجر) وغير (المغترب)، فالرحالة ينطلق في مهمة ليعود إلى بلده.
    ولقد خلفت لنا كل الحضارات الإنسانية مخطوطات، يمكن أن تكون بدايات لهذا الفن السردي.
    ففي كل حضارة، وعند كل أمة رحّالتها وهواة المغامرات فيها.. قيل إن كتاب (بوزانايس): (جولة في بلاد الإغريق) المؤثر الأول في (أدب الرحلة) وهو قد ظهر في القرن الثاني الميلادي، والحشد المعرفي لهذا الكتاب لم يجعله المؤسس الأول لهذا الفن، بل جاء من بعده مؤرخون وجغرافيون أسسوا لهذا اللون من السرديات، إذ خصوا (أدب الرحلة) بكتب مستقلة، لا تتسع إلا لما يدخل في هذا اللون من الأدب حسب مفهمومه الحديث، وفي القرن الرابع الميلادي تجلت التقاليد الأدبية (لأدب الرحلة)، كان ذلك على يد (إكسينفون) في كتابه (أنابيزيس)، وميزة هذا العمل- كما يرويه المطلعون عليه- تتمثل في أمانة الوصف، وفي احترام القيَّم الفنية.
    والراصدون لهذا النوع السردي الحفيون به، يتعقبونه في مظانه عصراً عصراً، حتى العصر الحديث، يرصدون للتحولات السردية والدلالية، يؤرخون لهذا اللون ولرجالاته، ويصفون فنياته وموضوعاته، ولما أن جاء عصر النهضة وأصبح معه(أدب الرحلة) نوعاً أدبياً متميزاً، له سماته وخصائصه وطرائف أدائه، نهض في تكوينه الرحالة والمكتشفون والمستشرقون والمناديب وذوو السفارة السياسية والدينية والعلمية، وساعدت وسائل الموصلات والاتصالات المتطورة على توسيع قاعدته ومشمولاته، أصبح هذا اللون أدباً وعلماً في آن، وتعددت فصائل المهتمين به والمستثمرين له، وكاد أن يختلط بـ(اليوميات) و(المذكرات)

    و(الذكريات) و(السيرة الذاتية)، وفي خضم هذا الزخم، عرفت الآداب: (الأوروبية) و(العربية) عمالقة في (أدب الرحلة)، ومن تعقب ذلك عند من كتب عن (أدب الرحلة) عرفهم بأسمائهم وبأعمالهم، وعرف الأهداف والدوافع والنتائج، فطائفة من الدارسين ذيلوا كتبهم بمسارد للرحالة ولكتبهم ولمن سبق من الدارسين لهذا الفن.والرحلة وسيلة وليست غاية، ومن الرحالة من حركته الأطماع السياسية أو الاقتصادية أو الدينية، ومنهم من استهوته الرحلة وحب الاطلاع، وقلَّ أن ينفك التدوين عن الأهداف والنوايا والرغبات: السيئة أو الحسنة، ولكن (أدب الرحلة) حين يصاغ باقتدار ينفصل عن خصوص السبب إلى عموم الفائدة، فيكون العمل إبداعاً إنسانياً، تمتد إليه الأيدي دون النظر إلى الدوافع والرغبات.
    ولقد أومأ كثير من الدارسين إلى أنواع كثيرة في (أدب الرحلة) وإلى اهتمامات متعددة، جعلت هذا الأدب شيقاً ومفيداً، إنه أدب واقعي، يحمل رسال معرفية، وإن كان ثمة إمتاع فإنما هو إضافة يوفرها تمكُّن الكاتب من لغته ومن فنيات السرد، هذا إذا استبعدنا (الرحلات السندبادية) ورحلات المغامرات التي تعتمد على الخيال، وقد تمتد إلى الخرافة والأسطورة، وهذا اللون لا يدخل فيما نحن بصدد الحديث عنه.. ولأهمية (أدب الرحلة) فقد ألفت عنه كتب عدة تعمدت التأريخ لهذا اللون أو التنظير له أو الدراسة التطبيقية لبعض الرحالة ورحلاتهم.
    أعرف من هؤلاء (شوقي ضيف)، و(حسين نصار)، و(الحسن الشاهدي) ، و(حسني حسين)، و(علي مال الله)، و(جورج غريب)، و(حامد النساج) ، و(عواطف نواب).

    كل هؤلاء ومثلهم معهم لم يكتبوا أدب رحلة، ولكنهم درسوا هذه الظاهرة، ونظروا وأرخوا لها أو درسوا كتاباً في الرحلة دراسة تطبيقية.
    أما الرحَّالة الذين خلفوا للثقافة العربية والعالمية كتباً في الرحلة فأكثر من أن يحصروا.. وممن اشتهروا في هذا الفن في القديم (ابن حوقل)، و(المقدسي)، و(المسعودي)، و(البيروني)، و(ابن جبير)، ومئات غيرهم.
    وفي العصر الحديث ( الطهطاوي)،
    و(الآلوسي)، و(عبدالله فكري)، و(الشدياق)، و(البستاني)، و( طه حسين)، و(هيكل، و(حسين فوزي)، و(أمين الريحاني)، و(أنيس منصور)، وآلاف سواهم، ولكل واحد طرائقه واهتماماته ودوافعه فمن متعمد للتسيلة، ومن مهتم بالفائدة، ومن متحرر من كل القيود، ومن ملتزم محتشم، ومن كاتب بلغة أدبية، ومن كتب بلغة علمية.
    أما على مستوى (أدب الرحلة) في المملكة السعودي، فقد استوفى جانباً منه الأستاذ(عبدالله بن أحمد حامد آل حمادي) في رسالته الأكاديمية(أدب الرحلة في المملكة العربية السعودية)، وفيما يتعلق بأدب الرحلة عند العبودي فقد تقصاه الأستاذ(محمد بن عبدالله المشوح) في كتابه المطبوع حديثاً(عميد الرحالة محمد بن ناصر العبودي)، وممن كانت لهم كتب في(أدب الرحلة) من علماء المملكة العربية السعودية وأدبائها ومؤرخيها فهم: العلاَّمة(حمد الجاسر)، و(أحمد عبد العفور عطار)، و(عاتق البلادي)، و(عبد العزيز الرفاعي) و(عبد العزيز المسند) و(عبد القدوس الأنصاري) و(عبدالعزيز الرفاعي) و(عبد الله بن خميس)
    و(علي حسن فدعق) و(فؤاد شاكر) و(محمد السديري)، و(محمد عمر توفيق) و(يحيى المعلمي)، وآخرون..
    وهؤلاء يتفاوتون في مستوياتهم واهتماماتهم، ولكنهم جميعاً لم يتميزوا بما كتبوا في أدب الرحلة، بمثل ما تميز به (العبودي) لا من حيث الكثرة العددية التي لم تسبق، ولا من حيث التقصي والشمول والتنوع، وقد يتفوق بعضهم على بعض بأسلوبه أو بتبويبه أو بعمق ثقافته أو بدقة معلوماته.
    السندباد
    ---
    سافرْ تَجِدْ عِوَضاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ
    وَانْصَبْ، فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَــــبِ
    إنِّي رأيتُ وُقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ
    إنْ سَالَ طَابَ، وإنْ لم يَجْرِ لم يَطِــــــــبِ
    والشمسُ لَوْ وَقَفَتْ في الْفُلْكِ دائمةً
    لَمَلَّهَا الناسُ مِنْ عَجَمٍ ومِن عُرْبِ
    رد مع اقتباس  
     

  6. #90 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    أدب الرحلة عند العبودي
    (2/2)
    الدكتور حسن بن فهد الهويمل
    *
    والعبودي الذي استهل أعماله التأليفية بدراسة (الأمثال العامية في نجد) تخطى هذا الاهتمام، وسبح في معارف متعددة، فكتب في الأنساب والجغرافيا والدراسات القرآنية والتراث، وطبعت له عدة مؤلفات في مختلف المعارف وفي عدة أجزاء، منها (معجم بلاد القصيم) و(أخبار أبي العيناء) و(الأمثال العامية في نجد) و(كتاب الثقلاء) و(نفحات من السكينة القرآنية) و(سوائح أدبية) و(صور ثقيلة) وغيرها، وهو فيها توثيقي ممحص، يضرب الأقوال ببعضها، حتى تنقدح له الحقيقة، فعل ذلك في معجمه الجغرافي عن القصيم.
    وهو معدود من الموسوعيين، وليس من ذوي الاختصاص، ولكنه حين يكتب في فن ينازع المتخصصين إمكانياتهم. ويكاد (أدب الرحلة) عنده يغطي كل جوانب حياته، وينسي المتابعين جهوده العلمية والعملية وإسهاماته المتعددة في مجالات متنوعة. والذي يلتمسونه في حقل معرفي لا يأتونه من أقطاره، إنه عالم متضلع من التراث العربي بكل تنوعاته العلمية والأدبية. وانقطاعه للتعلم والتعليم وملازمته لكبار العلماء وعمله معهم مكنه من التوفر على الكتب والمراجع التي لم تكن في متناول أنداده، ثم هو رجل إدارة حازم، تقلب في عدة مناصب تعليمية ودعوية، وجاء اهتمامه ب(أدب الرحلة) بعد أن لحق وظيفياً ب(رابطة العالم الإسلامي)، ومكنه عمله الدعوي من الرحلات المتواصلة والمهمات الرسمية المقيدة بأداء المهمة الدعوية على أصولها، وما فضل من جهد أو وقت قضاه في المشاهدات، وتقصي جوانب الحيوات المتعددة لشعوب العالم، وتفحص المعالم والآثار والمتاحف والمناظر الطبيعية وأحوال الشعوب ودياناتهم ومستوياتهم الحضارية والمدنية والاقتصادية.
    وهو راصد دقيق بعيد عن المبالغة والإغراق في الخيال، وأدبية النص عنده من تلك الخلفية المعرفية في أدب التراث وعيون الشعر العربي، وقد فاقت مؤلفاته المطبوعة مائة كتاب، وله مثل ذلك من المخطوطات، وجل هذه الكتب تمثل (أدب الرحلة) بحيث لم يسبقه أحد في حجم ما كتب في هذا اللون، ومن أسباب تألقه في هذا المجال سفارته المتنقلة، وتوفير كل الوسائل له، وشغفه الذاتي بالرحلة، وحرصه على تدوين كل ما يعن له من مشاهدات وملاحظات. ولقد قال عن نفسه ما يدل على دقة الملاحظة عنده، حتى لكأنه (الجاحظ) في عنايته بأبسط الأشياء، ومن ثم تراه يحتفي بكل التفاصيل، فإذا أقيم حفل تكريمي استوفي فقراته، وإذا ألقي خطاب ساق مجمله، وإذا جلس على مائدة ذكر ألوان الطعام فيها، وإذا دخل سوقاً ذكر طرائق بيعهم وطرائف تصرفاتهم.
    ولقد تجلت في كتاباته العفوية والبساطة والتقريرية والنمطية والاهتمام بكل دقيق وجليل، فهو بين إقلاع واستواء وهبوط واستقبال وتوديع وجولات رسمية ورحلات خلوية إلى أطراف المدن، لا تقتصر على المواقع الدعوية، وفئات الدعاة والقضايا الدينية، وجولات راجلة يقتطعها من وقت راحته، يدخل الأسواق، ويختلط مع الباعة ولا يتحرج من السؤال عن أي ظاهرة، ينقب عن الآثار، ويتفحص المتاحف، ويستعرض المكتبات، وكتاباته تتسم بالتسجيلية، وكأني به يرصد كل شيء في مذكرة محمولة في جيبه، حتى إذا خلا له المكان أعاد صياغة ما كتب والبسط فيه، ثم الدفع به إلى المطابع، لا ينظر إلا في ترتيب الأحداث والوقوعات، ومن ثم يحصل التكرار، وبخاصة عما يعرض له من مواقف متكررة في المطارات والمطاعم والمساجد والأسواق، وإن كانت له إلماحات سريعة يخلص بها من الرتابة والنمطية، وأكاد استبين محاور كتب الرحلات عنده، فهي تتحدث عن قضايا (الدعوة) و(الأقليات) و(الأجناس) و(اللغات) و(العادات) و(أحوال الشعوب) و(أطرافاً من تاريخهم) و(جغرافية بلادهم) و(أنماط الحياة عندهم) و(الأزياء) و(تصميم المباني) و(أنواع المستعملات) و(أحوال النساء) و(عاداتهن) و(المأكولات) وكل ما يخطر على بالك حتى (الفلكلور الشعبي) حتى (الغناء) و(المغنين) الذين لا يعنيه من أمرهم شيء، ولكنه إذ فرض عليه السماع أشار إلى شيء مما عندهم، وإن لم يهتم بالاستماع، وقد يشير إلى (الرقصات الشعبية) وغيرها، ثم لا يجد حرجاً من التعرض لها على سبيل الوصف، وقد يمعن في وصف النساء وأزيائهن ومحادثاتهن ببراءة وعفة، ومع كل ذلك فإن المحرك الرئيس عنده هموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولأنه يمارس في رحلاته عملاً رسمياً فقد استوفى في كتبه تلك الأعمال تحدث عن (الجمعيات) و(المنظمات) و(جماعات تحفيظ القرآن) و(إعداد الدعاة والأئمة)، كما فصل القول عن الاجتماعات والمؤتمرات واللقاءات وما دار فيها وعن الكلمات التي ألقيت وعن الترحيب الذي يلقاه وعن المهمات التي أنجزها، ولا أشك أن تثار الآراء والأفكار والمواقف تشكل خصوصية في أدائه السردي، ولكن كثرة أعماله، وتركيزه على قضايا الأقليات يفوت على المتابع الوقوف على اللمحات الكثيرة، أو بمعنى آخر الجوانب الأخرى التي لا تسمح مهماته الرسمية الوصول إليها، وقد يضيق المتابعون باحتفائه بالوقوعات العادية المتكررة في كل رحلة.
    وأسلوب الكاتب يتسم بالوضوح والسلامة، والميل إلى التقريرية، وأشواطه الدلالية تعتمد التجزيئية، وله استطرادات قصيرة - كما وصفه - أحد دارسيه. ولأن أدب الرحلة عنده واكب السفارة الرسمية ومتابعة أحوال المسلمين والأقليات الإسلامية في آفاق المعمورة فقد ارتبطت القضايا والموضوعات بذات الرسالة أو كادت، ومع أننا لا نسلم بذلك على إطلاقه، إلا أننا نجد همه منصباً على قضايا المسلمين والأقليات منهم.
    بدأ العبودي الرحلة والكتابة فيها منذ أربعة عقود، وخلال هذه المدة طاف أرجاء المعمورة، ولم يتمكن غيره مما تمكن منه، فالذين كتبوا في (أدب الرحلة)، كتبوا عن رحلة امتدت شهراً أو شهرين لبلد سياحي أو دولة اقتصادية، أما هو فقد امتدت معه الرحلات أكثر من أربعين سنة، وأتت على ما أتى عليه الإسلام، حتى لقد أوغل في البلاد الشيوعية التي لم تكن تسمح بأي تحرك إسلامي، ولعل تسامحه وبعد نظرته ودفعه بالتي هي أحسن ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة فتح له الحدود والقلوب، ولما يزل لا يحط من سفر إلا إلى سفر، ولاهتمامه بأدب الرحلة فقد أعطى نفسه مزيداً من الجهد والوقت ليتعرف على كل شيء.

    لقد وقف على طبائع الدول والمدن وأهلها وما فيها من أنهار وجبال وأودية وأعراق وعقائد وعادات، وما هي عليه من غنى وفقر، وما هو نظامها السياسي، وتقصي مشاكل الأقليات، ولقد بلغت مؤلفاته في أدب الرحلة قرابة مائة وعشرين كتاباً، طبع منها سبعين كتاباً، وآخر ما طبع له فيما أعلم (القلم وما أوتي في جيبوتي) ولقد شدني من كتبه أولها (أفريقيا الخضراء) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1384هـ وكان الأوسع والأدق والألصق بأدب الرحلة، وهو فيما يكتب يعتمد العناوين الجانبية، فله مشاهدات تسجيلية، وملاحظات نقدية، وتساؤلات تعجبية، ومعلومات نقلية، ولا يكاد ينفك من الحديث عن الوسيلة من طائرة أو سيارة أو باخرة أو قطار أو سيارة أجرة، وقد يتحدث عمن يقود تلك الوسائط أو يخدم فيها. وحتى الحفلات والاستراحات والوجبات والجلسات الخاصة أو العملية والفنادق والمساجد والمتاحف والجمعيات يفصل القول فيها، وقل أن يترك الرصد التاريخي والسياسي للدولة أو المدينة التي يزورها، يتحدث عن نباتها وتصميم مبانيها وطبها الشعبي وعادات الزواج وشعائره والأعياد ومناسباتها وملابس الرجال والنساء وما لا يخطر للقارئ على بال، ويكاد يكون الحديث عن الإسلام والمسلمين محور الحديث في كل ما كتب في رحلاته.
    وهو حريص على اللطائف والمثيرات، يرصدها، وقد يبالغ في تعميق أثرها، وبالذات عند حديثه عن النكسات الاقتصادية، كقوله في كتابه (صلة الحديث عن أفريقيا) (الدجاجة بتيس والتيس ببقرة) فالعنوان لا يوحي بمضمونه، ولكنه يشوق إليه، وله نظرات ثاقبة في أحوال الشعوب وطبائعهم، حتى لكأنه موكل بكل دقيق وجليل في حياة من يرى ويجالس ويحادث، يقول في كتابه (غيانا وسورينام): (ومن أهم ما يميز الهنديات الأمريكيات عن الهنديات الآسيويات كثرة ابتسامهن للرجال وبساطة طباعهن وإسراعهن إلى الاستجابة للحديث) ص96.
    وهو يخص المرأة بأكثر من إشارة، لها أكثر من معنى، وفوق ذلك فهو كثير التفصيل في وصف التحركات، ويكاد (أدب الرحلة) عنده يتحول إلى سيرة ذاتية في كثير من أحاديثه.
    وهو بهذا الاستطراد والتنويع يراوح بين (اليوميات) و(المذكرات) و(الخواطر) و(السيرة الذاتية) و(أدب الرحلة)، وقل ان يخلو أي كتاب من صور (فوتوغرافية) ملونة، يكون فيها بين مودعين أو مستقبلين أو مشاركين في رحلة برية أو مهمة رسمية، يصور الأنهار والجبال والأودية والمساجد والأسواق والآثار، وكل ما هو ملفت للنظر، وقل أن يخلو كتاب من حديث عن مسجد، يذكر بانيه ومصممه وما فيه من زخارف، وقد يتحدث مع إمامه ومؤذنه، ويتعرف على ما يمارس فيه من البدع، إن كان ثمة بدع، وحين يصرفه المرافق عن شيء من ذلك، يلح بطلب الوقوف على كل شيء، وإن كان لا يقره، بحيث يصرف المثبط بقوله:(إنني أحب أن أطلع عليه، فالاطلاع مهم في هذه الحالة التي ربما تكون فرصة ولو في المستقبل بتبصير هؤلاء المخرفين المنحرفين) ص88 من كتاب (في شرق الهند)، وهو يوزع كتبه إلى مجاميع حسب القارات أو التكتلات السياسية (أفريقية) و(أوروبية) و(هندية) و(آسيوية) و(أمريكية جنوبية) و(بلقانية) و(أسترالية) و(روسية) و(سيبيرية) وكيف لا يصنفها إلى مجاميع جغرافية، وهي تنيف على المائة كتاب، وكل مجموعة تنيف على عشرة كتب، وأحسب أن (رحلاته الهندية) تفوق كل رحلاته، فهي تفوق العشرين كتاباً، طاف بها شرق الهند وشماله وبلاد الهند والسند.
    وهو يطلق على كتبه مسميات أخاذة، ففي رصده لرحلاته إلى (مولدوف وأرمينيا) يطلق عليها (مواطن إسلامية ضائعة) أو (تائه في تاهيتي) أو (من بلاد القرنشاي إلى بلاد القيرداي) أو (سطور من المنظور والمأثور عن بلاد التكرور)، وهو في اختيار العناوين وتركيب العبارات ذو أسجاع مستساعة.
    والعبودي من الكتّاب الذي يهتمون بتدوين المعلومات والملاحظات ما دق منها وما جلَّ، دون تكلف أسلوبي أو معاضلة تعبيرية، وما فيه من صياغة أدبية فصيحة فإنما هي قدرة ذاتية وكسبية، فالمؤلف عالم بالتراث، ومؤلف قبل أن يفرغ لأدب الرحلة، والمتابع لكتبه لا يقدر على تصنيفه لا جغرافياً ولا اجتماعياً، ولا سياسياً، ومن ثم فهو أقرب إلى الموسوعيين.

    والمؤلف متوفر على القيم العلمية والأدبية، ولكنه توفر عفوي، واللغة التي يعتمد عليها ويتوسل بها لغة فصيحة سليمة، لا يعمد فيها إلى التزوير ولا إلى التنفيح، ولكنه يكتب على سجيته، وكأنه يتحدث إليك، وذلك سر الإكثار وسر القبول، فلو كانت له عناية لغوية أو أدبية أو معرفية، لكان أن قل عمله وانفض سامره.
    ومع العفوية فقد احتفظ بمستوى أدبي ولغوي ومعرفي يجعله في مصاف غيره من الرحالة، وإذ لا تقدر على تصنيفه من بين الرحالة فإنك لا تجد منهجية محددة، ولا خطة في التأليف صارمة، يدون ملاحظاته، ثم يعود إليها ليبسط القول فيها، وخطة الكتابة عنده مرتبطة بتنقلاته، ومنهجيته تراوح بين الوصف والتحليل والنقد والسرد الحكائي، وهو الراوي والبطل، وقل أن يتحدث بضمير الغائب، أو أن يدع لمتحدث آخر ليأخذ زمام المبادرة إلا ما يأتي من حوار.
    ومهما اختلفنا معه أو اتفقنا فإنه الرحالة المتمكن من آلياته، الشمولي في تناولاته، المضيف في معلوماته.
    لقد ترك للمكتبة العربية والعالمية وثائق معرفية متعددة، قلَّ أن تكون حاضرة المؤرخين أو الجغرافيين، وهو بما خلَّف من معارف، وأنجز من أعمال، وقام به من مهمات تعليمية ودعوية جدير بالتكريم والاحتفاء.
    والمهرجان الوطني بهذا التكريم يعبر عن مشاعر العلماء والأدباء والقراء، وينهض بواجب وطني، فالعلامة معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي علم من أعلام التربية والتعليم ومن الدعاة الناصحين، ومن العلماء المتمكنين، ولما يزل ثر العطاء، تختزن ذاكرته مشاريع معرفية متعددة، وكتاباه في الأمثال والجغرافيا خير شاهد على توثيقه وتقصيه، نسأل الله له مزيداً من الصحة والتوفيق.
    ---
    سافرْ تَجِدْ عِوَضاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ
    وَانْصَبْ، فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَــــبِ
    إنِّي رأيتُ وُقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ
    إنْ سَالَ طَابَ، وإنْ لم يَجْرِ لم يَطِــــــــبِ
    والشمسُ لَوْ وَقَفَتْ في الْفُلْكِ دائمةً
    لَمَلَّهَا الناسُ مِنْ عَجَمٍ ومِن عُرْبِ
    رد مع اقتباس  
     

  7. #91 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    الرحلة في أدب يحيى المعلمى
    أحمد مصطفى حافظ
    أدب الرحلة فن معروف في الآداب العالمية، له سماته وخصائصه المتميزة، وقد حفل التاريخ بأسماء الكثير من أعلام هذا الأدب ورواده، الذين قاموا برحلات متعددة، خارج ديارهم أو داخلها، وطافوا بأنحاء شتى من العالم، من أمثال الرحاليْن العربييْن: ابن بطوطة وابن جبير الأندلسي، ومن الغرب: كريستوفر كولمبس وماركو بولو، وغيرهم.وللعلامة الإدريسي كتاب مشهور، يحمل عنوان: (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، وهو من أهم وأمتع كتب الرحلات.
    وفي عصرنا الحديث، نجد الأديب السعودي الكبير عبد السلام هاشم حافظ، يقوم بعمل استفتاء في نهاية كتابه الذي يحمل عنوان (العذراء السجينة)(1) عن الوسائل التي يراها صفوة من رجال الفكر والأدب في المملكة، للنهوض بأدب بلاده، وتعريفه للعالم.

    ويستهل الأستاذ الكبير عبد الله بلخير الإجابة في هذا الاستفتاء، بقوله: "... وهناك الرحلات والاحتكاك بالحضارات الشرقية والغربية، سواء منها الأدبية أو الفنية أو العلمية".

    ولسنا في صدد الحديث بإفاضة عن أدب الرحلة اليوم، ولذا نقتصر على ذكر إسهام بعض كبار أدبائنا المعاصرين، بمؤلفات ضافية لهم في هذا الموضوع.. فللدكتور محمد حسين هيكل كتاباه: (ولدي) و(في منزل الوحي) وللمازني (رحلة الحجاز) وللدكتور زكي مبارك: (ذكريات بغداد) و(ذكريات باريس) وللدكتور حسين فوزي: (السندباد البحري) وللدكتور عزام: (رحلات عبد الوهاب عزام).

    هذا، وينفرد الأستاذ العقاد، برأي مخالف في (أدب الرحلة)، حيث يقول: ''أعتقد أن ملكة الرحلة غالبة على الرحّالين، وغير الرحالين، ولكنها تظهر في صور كثيرة، غير صورة الرحلة الخارجية، ومنها الرحلة إلى داخل النفس، أو في عالم الخيال.. والظاهر ــ لا.. بل المحقق ـ أنني أنا أحد الرحالين بغير انتقال.. ومع هذا، يحلو لي أن أقول: إنني طفت العالم من مكاني الذي لا أبرحه، لأنني رأيت من هذا المكان، مالا يراه الرحالة المتنقلون "

    ولعل العقاد، في قوله هذا، يحاول أن يبرز إيثاره للعزلة والانفراد، مع أقلامه وأوراقه.. على القيام برحلات إلى العالم الخارجي، تكبّده مشقات ونفقات، هو في غنى عنها.. إلا أن من قرأ فحسب، ليس كمن قرأ ورأى وسمع، وانفعل.. ومزج كل شيء حوله، في شتى الأصقاع، بمشاعره، وتأملاته، وخواطره.. ومن هذا المنطلق، نحاول أن نلج إلى عالم الفريق يحيى بن عبدالله المعلمي ـ رحمه الله ـ، كتحية ووفاء له، وهو في أكرم جوار. وقد اخترنا كتابه: «رحلة علمية: ورحلات أخرى"(2)، الذي كان يعتز به كثيراً.

    وبادىء ذي بدء، يلفتنا حرصه، في الصفحة الأولى من كتابه هذا، على إثبات أبيات الشاعر المشهورة، التي يقول فيها:

    تغرب عن الأوطان في طلب العلا

    وسافر، ففي الأسفار خمس فوائد:

    تفرّج همّ واكتساب معيشة

    وعلم وآداب، وصحبة ماجد

    فإن قيل في الأسفار همّ وكربة

    وتشتيت شمل وارتكاب شدائد

    فموت الفتى خير له من حياته

    بدار هوان، بين واش وحاسد

    ثم يقول في مقدمة كتابه، ما يدلنا على مناسبة تأليفه له: " هذه مجموعة من المقالات، كنت قد نشرتها في جريدة (البلاد) السعودية(3)، وكانت تتحدث عن رحلة علمية، قمت بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عندما ابتعثت للتخصص في إدارة الأمن العام، وحصلت على شهادة الماجستير" وواكب ذلك، لحسن حظ المعلمي، تفضل خادم الحرمين الشريفين (الملك فهد بن عبد العزيز) ـ وكان يعمل وزيراً للداخلية في ذلك الحين ـ بالموافقة على الابتعاث إلى أمريكا، للتخصص في علوم الشرطة، لنهاية الشوط.. وآثر المعلمي أن يدخل الولايات المتحدة من غربها، فبدأ رحلته بالاتجاه إلى بيروت، ومنها إلى إيران، ثم باكستان، فالهند.

    وتم له مشاهدة إحدى عجائب العالم السبع في الهند: (تاج محل)، الذي أنشأه الملك شاه جيهان، ليكون ضريحاً لزوجته، وقد وصفه وصفاً تفصيلياً لما شاهده، باعتبار أنه إعجاز معماري، يقوم شاهداً على عظمة الحضارة الإسلامية، وأدهشه في (تاج محل) جمال النقوش، وروعة الخط العربي ويستمر المعلمي في تقديم تصوير بديع، بلغة سلسة فكهة، عن: (الحلاقة في بانكوك) وعن مشاهداته في (تايبيه) (التي بدأوا رحلتهم منها في يوم السبت) وأخبرهم الطيّار أنهم سيصلون إلى (هونولولو) في يوم الجمعة " وتفسير ذلك، أن قائد الطائرة أخبرهم أنه قد عبر بهم خط التاريخ الدولي، وأنهم عادوا مرة أخرى إلى يوم الجمعة، لأن الشمس لم تغب عن أمريكا ومن ثم اخترقوا الزمن، عائدين إلى الخلف، وأنهم قد كسبوا 24 ساعة من حياتهم ،وحينما وصلوا إلى (لوس أنجلوس) ـ وهي من أكبر الموانىء في المحيط الهادىء، بل وفي العالم بأسره ـ بدأت رحلته إلى أمريكا.
    ثم يصحبنا إلى «ديزني لاند» ومدينة السينما العالمية (هوليود) ولولا خشية الإطالة، لأثبتنا الوصف التفصيلي الممتع، الذي قدّمه لمشاهداته، وخاصة في الفصل الذي حرّره عن (سان فرانسيسكو) إلى أن نصل معه، بخيالنا وتصورنا، إلى محطة الوصول الأولى، لتحصيله العلمي في (شيكاغو).. وفي حديثه عن الغرفة التي استأجرها بها، ويغلب عليه المرح وخفة الظل، بما يذكّرنا بمصطفى أمين، في كتابه الرائع (أمريكا الضاحكة).. ثم يصطحبنا معه، إلى جولة على شاطىء بحيرة (متشجان)، حيث نشاهد معه، بعين الخيال، أسراباً من الحسان حولها، يستمتعن بدفء الشمس، على رمال الشاطىء، أو يتلاعبن على أمواج البحر، على حد تعبير المعلمي.
    وأخيراً، انتظم في سلك الطلاب، وحقق نجاحاً باهراً، بعد إتقان اللغة الإنجليزية، وحصل على (الماجستير) التي أتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجلها.. ولهذا حديث شيّق يتعين إثباته، لفائدة من يمرون بمثل تجربته هذه، إذ يقول: «ومع أني أدعو إلى أن يتذرع الطالب بالهدوء، عند أداء الامتحان، وأن ينبذ شعور القلق، فإني لا أكتم القراء سراً، إذ أخبرهم بأنني قد شعرت بالقلق، وأنا أمثل بين يدي ثلاثة من كبار الخبراء في علوم الشرطة في العالم، لكي يناقشوا رسالتي للماجستير، التي كانت عن " تطور أجهزة الأمن»، ولكنني ـ بعد دقائق، من بدء المناقشة ـ هدأ جأشي، وسكنت نفسي، وشعرت بالطمأنينة والسكينة، لأنني كنت، ولله الحمد، متمكناً من الموضوع الذي تحدثت عنه في الرسالة، ملماً بكل وقائعه وتفاصيله، حاضر الذهن للإجابة عن أي سؤال، وللاشتراك في أي حوار حول الموضوع" . وهكذا حصل على درجة الماجستير بامتياز، وبدأ يفكر في الحصول، بعد ذلك، على درجة الدكتوراه، وتقدم إلى الجامعة في واشنطن، بطلب قبوله للدراسة في منهج (الدكتوراه)، في مادة (الإدارة الحكومية أو العامة) وكم كانت دهشته وفرحته، عندما تلقى من الجامعة الأمريكية خطاباً بقبول طلبه.. وقد زكاه أساتذته، وأوصوا بقبوله، وأشادوا به.. إلا أن (المعلمي) تردد في الأمر: هل يواصل تعليمه؟ أم يكتفي بما حصّل من علم.. ويستجيب لدواعي الشوق والحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء؟ وعوّل على التريث، حتى يصل إلى القرار الحاسم في هذا الشأن، مؤثراً أن يستمتع بإجازة، لمدة ثلاثة أشهر، يجوب خلالها الولايات المتحدة الأمريكية، طولاً وعرضاً.. فإذا جاء موعد الدراسة للدكتوراه، يحزم أمره، بالالتحاق بالجامعة، أو العودة إلى أرض الوطن.
    ثم آثر اختصار المدة (الثلاثة شهور) والاكتفاء بالتجول في مدن أوروبا، وركب أول طائرة متجهة إلى (لندن)، وما أن وصل إلى مطار (هيثرو) حتى قال لنفسه: لماذا أبقى في لندن، وقد زرتها من قبل، وعشت فيها فترة من الزمن.. " ومن ثم ركب تواً أول طائرة متجهة إلى ألمانيا، وما أن وصلت الطائرة إلى (فرانكفورت)، حتى قال لنفسه: إن (جنيف) أروع من (فرانكفورت) و(سويسرا) أجمل من (ألمانيا).. فلتكن إجازته في (جنيف)، التي قال فيها الشاعر الدكتور مختار الوكيل:
    الله أكبر يا جنيف
    فوق الجمال دم خفيف
    وما أن استقل الطائرة، التي أوصلته إلى (جنيف)، حتى عاد يقول لنفسه: «ياشيخ فلتكن الرحلة القادمة الآن، إلى (جدة) حتى أشتري منها ما كنت أعتزم شراءه من أسواق أوروبا من هدايا.. ومن ثم، استقل أول طائرة متجهة إلى جدة، وشعر براحة نفسية غامرة، كما أخبرني فيما بعد، بعد أن وصل إلى أرض الوطن في جدة، وتساءل: هل لي أن أبقى في (جدة) وليس بيني وبين (الرياض) ـ التي كان يقيم فيها إقامة دائمة ـ إلا ساعة واحدة.. أرى بعدها الأهل والأصدقاء، فحزم أمره، وشد رِحْله إلى الرياض، وهو يردد قول الشاعر:
    فألقت عصاها، واستقر بها النوى
    كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
    ومن ثم لم تعد به رغبة في السفر مرة أخرى، ولا في مواصلة الدراسة، بعد أن شدته أرض الوطن، ولقيا الأحباب، والاندماج في غمار العمل.
    الهوامش
    أحد فصول كتابي: «الفريق يحيى بن عبدالله المعلمي: رحلة حياة وإبداع» المعد تحت الطبع.
    1ــ طبع بالقاهرة سنة 1957م.
    2
    ــ طبعة دار المعلمي للنشر بالرياض، سنة 1412هـ الموافق 1992م.
    3
    ــ ونشر بعضها أيضاً بمجلة (أهلاً وسهلاً) التي تصدرها إدارة العلاقات العامة بالخطوط الجوية السعودية.
    السندباد


    ---
    سافرْ تَجِدْ عِوَضاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ
    وَانْصَبْ، فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَــــبِ
    إنِّي رأيتُ وُقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ
    إنْ سَالَ طَابَ، وإنْ لم يَجْرِ لم يَطِــــــــبِ
    والشمسُ لَوْ وَقَفَتْ في الْفُلْكِ دائمةً
    لَمَلَّهَا الناسُ مِنْ عَجَمٍ ومِن عُرْبِ
    رد مع اقتباس  
     

  8. #92 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    مائة رحلة مغربية إلى مكة المكرمة
    أحمد محمّد محمود*
    ولأن العام 1426 هجرية 2005م هو عام مكة المكرمة ـ عاصمة الثقافة الإسلامية ـ فقد أصدرت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن التي أنشأها ويرأس مجلس إدارتها الشيخ أحمد زكي يماني وزير البترول الأسبق، في مجـــلدين (100 رحلة مغربية ورحلة إلى مكة المكرمة) من تأليف الدكتور عبد الهادي التازي، ولأنه يصعب استعراض هذا الكم الهائل من الرحلات في دفتي المجلدين، فقد يكون أنسب أن نتجول في المقدمات التي صدّر وختم بها المؤلف، لبعض رحلات المغاربة إلى عاصمة الإسلام، فهي تتنقل بك بين جد الرحالة وهزلهم، ويسرهم وعسرهم، وتناولهم لما رأوه وعايشوه من أمور الدنيا والدين، في شعر ونثر.
    ولا بد من الإشارة في البدء إلى الأهمية التي أدركها الباحثون في الثقافة الإسلامية لما تقدمه كتب الرحلات من معين لا ينضب من المعلومات عن بلدان العالم الإسلامي خاصة، وبالأخص عن مكة المكرمة، ومن الوفاء لرائد الدراسات الاستشراقية لكتب الرحلات (أغناطيوس يوليانوفتش كراتشكوفسكي) أن نقدم الاستشهاد بما قاله في مقدمة كتابه تاريخ الأدب الجغرافي العربي، حينما أشار إلى كتب الرحلات والجغرافيا على أنها "اتخذت طابعاً جم الحيوية والنشاط منذ القرون الأولى للخلافة، وغدت المصدر الموثوق به في دراسـة ماضي العـــالم الإســــلامي، إذ تتوافر فيه مادة لا ينضـــب معينــــها، لا للمؤرخ ولا للجغرافي فحسب، بل أيضًا لعلماء الاجتماع والاقتصاد، ومؤرخي الأدب والعلم والدين واللغويين وعلماء الطبيعة "ويستشهد (كراتشكوفسكي) بالمؤرخ ـ المقَّري ـ صاحب نفح الطيب الذي أورد في مؤلف وضعه في القرن السادس عشر أسماء 280 شخصًا ممن رحلوا إلى مكة المكرمة في طلب العلم وحده، وليس بغرض التجارة أو الحج.
    وهذا ما دعا ( كراتشكوفسكي) ومن بعده (حمد الجاسر) إلى القول بأن الرحالة المغاربة بذوا زملاءهم من عرب وعجم كماً وكيفاً في أدب الرحلات إلى الحرمين.
    ولا عجب في ذلك، فإن من أطرف ما استأثرت به مرويات التاريخ المغربي ما تضافرت الروايات على نقله من توجه وفادة مغربية منــــذ الأيام الأولى لظهور نبي الإسلام إلى مكة المكرمة للاجتماع به صلى الله عليه وسلم والاستماع إليه قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة، ويتعـلق الأمر بجمـــاعة تتألف من سبعة رجال من قبيلة رجراج، أشراف قبائل مصمودة، كان شاكر بن يعلى بن واصل على رأسها، وعن طريق هذه الوفادة سمعت بلاد المغرب بالإسلام أول الأمر على ما ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المتوفى عام 1089 هجـرية (1678م).
    الحج رسالة
    ويذهب (الدكتور عبد الهادي التازي) مؤلف ـ رحلة الرحلات ـ الذي نحن بصدده إلى أن الحج "كان أكبر وأعظم مؤسسة قدّمها الإسلام للمسلمين أينما كانوا وحيثما كانوا، بما تشتمل عليه من تنوع زادٍ، كان الحج أبرز رسالة موجهة إلينا لمعرفة الآخر، ولاكتشاف الآخرين لحوار الحضارات" ويضيف المؤلف إلى ذلك ما تضمنته كتب رحلات المغاربة إلى الحج من ثروة فقهية نادرة المثال، ومن هنا وجدنا بعض الرحلات تزخر بالفتاوى حول ما يمكن أن يحصل في أثناء الحج، وزاد من قيمة الفتاوى أنها لا تنتمي إلى رأي معين ولكنها تعتمد على عدة آرء، وكل رأي له مدركه ومستنده في القضية: ومن هنا كانت الرحلات الحجازية موسوعة فقهية جديرة بالاطلاع.
    ولأن الفتاوى اجتهادات بحسب معارف المجتهد وسعة إحاطته بالنصوص التي يقيس عليها، فقد شهدت فتاوى الحج كما وردت في ـ رحلة الرحلات ـ ما أثار الجانب المغربي بصفة خاصة دون الجانب المشرقي من الحجاج، فلم ير المغاربة السكوت عليه مما رآه غيرهم أمرًا غير ذي بال، ومـــن ذلك ما يتعلق ـ بالتبغ أو الدخــــان، فكل الرحالة المغاربة كــانوا لا يتصورون أن يقوم زميلهم بإشعال سيجارة، وعدّوا فعله حدثاً غريباً يستحق أن يروى للناس في المغرب على أنه منكر من المنكرات، وهذا الرحالة ـ ابن الرواندي ـ ثار على الذين يدخنون، فيما علّق على ذلك شعرًا السنوسي التنوسي:
    إن أهل الشرق طراً ولعوا
    بدخــــان ذي البخــار النتن
    واكتفوا من نقطة زيدت على
    نتن لســــــــتره بالتـــــــــتن
    وأوجدت كتابات الرحالة المغاربة في رأيه فكرًا خلاقاً َكوّن "ثقافة الحج التي مزجت الجانب الفقهي بالجوانب الأخرى المتعلقة بالأسفار وآدابها، وقضايا الإيجار، والعلاقات بين الرجل والمرأة، وضبط تلك العلاقات في أثناء الحج، والتدريب على تحمل المشاق، ومواجهة المصاعب وتخليق الممارسات.
    ومما أشار إليه القرآن الكريم في أداء المسلمين لفريضة الحج ليشهدوا منافع لهم، فقد أشار المؤلف في قراءاته لرحلات المغاربة إلى مكة المكرمة إلى ما قرأه فيها عن "الآصرة التي تربط العالِم المغربي من فاس وسوس بالعالِم من بخارى أو خراسان ، كان المغاربة يعودون بحمولة مهمة من الزاد العلمي والمعرفي، كانت مكة المكرمة بالنسبة لهم المرجعيّة التي يشعرون إزاءها بوجدانهم وآمالهم، كما يعودون وهم يحملون معهم ذكريات وإفادات ينقلونها إلى المجتمع الذي ينتسبون إليه".
    أحاديث الرحال
    ولا بد أن القارئ الكريم يتخيل وهو يخوض في غمار - رحلة الرحلات - التي تستعرض ما قاله (101) رحال في أسفارهم إلى مكة المكرمة تنوعت كتاباتهم لتباين ثقافة كاتبيها وأغراضهم كل يتحدث بما كان يعتقد أنه مقصده، وبما كان يهتم به هو في خاصة نفسه: هذا يهتم بمن يلقاه من الرجال العلماء، وذاك مهتم بالمنشآت المعمارية، وهذا مهتم بالطبيعة وألوانها، وآخرون مهتمون بالمخالفات والمنكرات التي شاهدوها في رحلاتهم، وهؤلاء بأحوال الحكم في البلاد، وهؤلاء بأحوال الأوبئة والمناخ والجو، حتى قرأت عن بعضهم رصد خسوف القمر على سماء مكة المكرمة مما لم أقرأه في كتاب يتعلق بتاريخها، وقد سجل الرحالة المغاربة بعين لاقطة دقيقة أحوال مكة المكرمة وموانئها وما عليه أوضاع سكانها من مختلف النواحي، فهذا (ابن جبير) يفاجئه ما رآه في مكة المكرمة مما لم يره في الأندلس من الأرزاق والطيبات: (كنا نظن أن الأندلس اختصت في ذلك بحظ المزية على سائر حظوظ البلاد، حتى حللنا بهذه البلاد المباركة، فألفيناها تغص بالنعم والفواكه) وهذا الرحالة (ابن بطوطة)، يلاحظ أن الناس في مكة مهتمون بهندامهم ونظافتهم.

    ولم يفت بعض الرحالة تسجيل ما رأوا عليه بعض مدن الحجاز من رفاهية عيش، ومن ذلك ما كتبوه عن (ينبع) التي قال عن أسواقها أحد الحجاج المغاربة إنها تحتوي حتى على "لبن النّمل".
    على أن كم المعلومات عن مكة المكرمة في كتب الرحالة المغاربة، وهو كم هائل يغطي جوانب هائلة من المعارف والأحداث والأشخاص ، دفع المؤلف إلى أن يقرر "أن تاريخ مكة المكرمة موزع في أقاليم عديدة أخرى، ومن أبرزها وأهمها بلاد المغرب الكبير، بما فيها: الأندلس وطرابلس وتونس والجزائر وموريتانيا وغرب أفريقيا على العموم، ونردد هنا أنه من العام الذي شُرع فيه الحج أصبحنا مدعوين للبحث عن تاريخ الجزيرة العربية في جميع بلاد الدنيا، وحيث يوجد الإسلام، أي إن الجزيرة العربية لم تبق حدودها على ما كانت قبل السنة الثامنة من الهجرة ـ عندما فرض الحج ـ ولكنها حدود اتسعت وترامت وأمست، أو بعض أجزائها على الأقل، محرمة على من يريد اقتحامها ما لم تتوافر فيه شروط الإقامة التي كان من أبرزها اعتناق الإسلام".
    وللمرأة حضور في رحلات المغاربة إلى مكة المكرمة التي "سجلت وبشهادة مكتوبة حضور سيدات فضليات وأميرات عالمات جليلات حظِين بشهادة قاضي مكة المكرمة، وطوافهن وسعيهن ووقوفهن بعرفة وبسط ذات اليد للفقير المحتاج، واقتنائهن العقار، وتحبيسه على أهل الخير والصلاح من المنقطعين المتبتلين".
    وقد سجل المؤلف معلومات دينية واجتماعية وتاريخية وجغرافية وأدبية، دون أن يترك إسهامات وعطاءات المغرب والمغاربة، ممثلة في ملوكها وسراتها إلى بلاد الحرمين الشريفين و ينبع وبدر وغيرها من المواقع التي عرفت بحاجة ساكنيها أو اشتهرت بدور تاريخي في عصور الرحالة في القرون الماضية، وقد سجل الرحالة ما كان يعطى للأسر الساكنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة من أموال سنوية ويشمل ذلك العلماء والخطباء والأئمة، والأغوات، وخدَمة عين زبيدة، ومصالح الحرم، وشيخ زمزم، وجماعته من الموقتين والمؤذنين بالمنابر، والمكبرين، والمرحمين، ووقادي الحرم، وسراجي الأروقة الأربعة، وسراجي منائر الحرم، وشيالة القمائم، وكناسي الحرم، وفراشي مقامات الحرم، والجباذين ببئر زمزم، والبوابين بأبواب الحرم، وحاملي مبخرة باب الكعبة، وحاملي أعلام الخطــــيب، وكناسي ما بين الصفا والمروة، ومؤذني جبال مكة ، وخدَمة مشــاهد مكة، ومعلمي الصبيان من الرجال والنساء... عالم كبير من الموظفــين نجد تفصيل الحديث عنـــهم في الرحــلات المغربية.
    وقد تساءل المؤلف بعد هذا الاستعراض "متى كنا نعرف أن هناك مؤذنين على الجبال المحيطة بمكة المكرمة يُسمّعون ذكر الله لمن كان وراء تلك الجبال؟ ويعرفون أن لهم عطاءات خاصة لضمان وصول صدى تلك الأصوات، عطاءات تأتيهم من وراء البحار؟.
    العلم والعلماء
    الجانب العلمي في الرحلات المغربية يشغل حيزاً كبيراً من كتابة الرحالة، فرحلة الحج أداء لفريضة افترضها الله على المسلمين، وانتهزها الحاج ليجعل كل رحلته في العبادة، فخصص معظم الرحالة الكثير من وقتهم لطلب العلم أينما حلّوا في رحلتهم، ففي كل مدينة ما بين المغرب الكبير إلى مكة المكرمة يسألون عن العلماء، ويجلسون في حلقات دروسهم يتلقون منهم الإجازات العلمية فيما درسوه، وبعض الرحالة من العلماء يجلسون لإعطاء الدروس لطلبة العلم في المدن التي يمرون عليها، فهي رحلة أخذ وعطاء، وتبادل منافع في أعظم باب من أبواب القربات وهو طلب العلم.
    "كل الرحالة المغاربة كانوا يرون أن أخذهم عن علماء مكة كان بمنزلة الختم الذي يزكي زادهم العلمي، ويأذن لهم في إشاعة المعرفة ونشر العلم، أخذوا في مكة المكرمة عن علماء من السند والهند وهمذان وخراسان، والطريف في الرحلات المغربية أنها تروي أيضاً عن سيدات فضليات كذلك من اللاتي كُنّ مصابيح يضئن تلك الأرجاء بعلومهن وثقافتهن وصلاحهن، فيستفيد منهن كل الذين يردون على الكعبة من الأندلس وبلاد المغرب، وهكذا نجد أن مكة حاضرة في الذاكرة المغربية وكأنها كانت ـ كما ذكرنا ـ الختم الذي ُيتوّجون به حياتهم العلمية في أثناء السفر إلى الحجاز، إلى مكة المكرمة، هذا السّفَر الذي ينعتونه بسيد الأسفار".
    ويورد المؤلف ـ في رحلة الرحلات - نماذج لأخذ علماء المغرب عن علماء مكة المكرمة ومنهم راوي ـ الموطأ ـ يحيى بن يحيى الليثي المتوفى عام 234 هجرية والذي سمع من سفيان بن عيينة، وأبو عبد الرحمن الشهير الذي ذكر الإمام ابن تيمية أن تفسيره للقرآن أفضل من تفسير الطبري، ومنهم أبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن حيّون من أهل وادي الحجارة ـ قريباً من مدريد اليوم ـ ولقي عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقد قيل عنه ـ لو كان الصدق إنساناً لكان ابن حيّون ـ ومنهم دراس بن إسماعيل المتوفى عام 357 هجرية والذي كان أول من أدخل مدونة سحنون إلى المغرب، ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح القحطاني المعافري الأندلسي المالكي والذي أدركه أجله في بخارى عام 383 هجرية، ومنهم أبو بكر اليابري، أصله من ـ يابرة ـ بالبرتغال، رحل إلى مكة وفيها دفن، ومنهم أبو عمر ميمون بن ياسين الصنهاجي اللمتوني وكان من أمراء المرابطين رغب في السماع من عيسى بن أبي ذر والمتوفى بأشبيلية عام 530 هجرية، ومنهم أبو عبدالرحمن مساعد بن أحمد بن مساعد الأصبحي، ومئات غيرهم من أعلام علماء المغرب ممن ذكرهم المؤلف، وممن ضاق الكتاب عن تتبعهم عبر القرون.
    الرحلات المغربية
    ويرد المؤلف على تساؤل المتسائل: ماذا قدّمت الرحلات المغربية لقرائها من معلومات؟ ويجيب : قدّمت - في الجانب العلمي - جرداً كاملاً بأسماء الكتب التي كانت تدرّس بمكة، وعناوين الفنون التي كانت محل اهتمام العلماء، المدارس بمكة، كما أفادتنا الرحلات عن ملك من ملوك الإسلام قام بنسخ المصحف الشريف بيده من أول حرف إلى آخر حرف، وأهداه إلى الحرم بمكة مصحوبًا بالأحجار الكريمة واليواقيت الثمينة، وقد أهدى نسخة مماثلة للمسجد النبوي الشريف وثالثة للمسجد الأقصى المبارك، واهتمت الرحلات برصد الأوبئة التي كانت تنتشر في مواسم الحج وتفتك بالحجاج، وكيف أن أمراء مكة كانوا يضبطون أسماء الأموات ولا يسمحون بدفنهم إلا بعد التأكد من هويتهم ووضعهم، كما اهتم الرحالة بالسيول التي كانت تجتاح مكة في المواسم، وكيف دخلت مياهها إلى الحرم، وكيف أن العديد من الحجاج كانوا يطوفون بالحرم سباحة، وما يترتب على ذلك من سؤال فقهي: هل يجزئ الطواف سباحة أم لا بد من الطواف على الأقدام؟ كما تركوا لنا ما رصدوه من أنواع الإنتاج الزراعي من خلال ما كان يحتاج إليه الحاج من طعام وشراب.
    ولم يغفل الرحالة نقل ما شاهدوه من طرائف وغرائب بعض الممارسات ممن يفدون إلى الحج، واللافت للنظر في حديث الرحالة عن وسائل المواصلات الشائعة في عهودهم: الحمار الذي يربط بين جدة ومكة المكرمة بما ذكر عنه من صغر الحجم وخفة الحركة، وقد اشتهرت الكسوة التي كانت ترد من مصر من أوقاف الحرمين فيها إلى الكعبة المشرفة كل عام وينقل لنا المؤلف أن ملوك المغرب، ومنهم يوسف بن يعقوب كانوا يرسلون كسوة إلى الكعبة المشرفة منافسين في هذا العطاء في عصرهم دولة المماليك في مصر، كما كان الركب المغربي ينافس ركب العراق والشام.
    ويشكل لقب الحاج أهمية معنوية يحرص عليها كل من يؤدي فريضة الحج من المغاربة، خاصة من غير المنتسبين منهم لآل البيت، وأمسى لقب الحاج عند بعض المغاربة يعوّض الاسم العائلي، لأن المسافة بينهم وبين مكة المكرمة لم تكن مسافة قصيرة ولا سهلة، ولا حتى آمنة، ومرت بنا مجموعة كبيرة من المغاربة ممن كانوا يرون أن شخصيتهم إنما تكتمل عندما يذكرون أن لهم رحلة إلى المشرق، وأنهم قصدوا مكة المكرمة بالذات، وحرصوا على أن يأخذوا عن شيوخها، ولم يكن الأمر يقتصر على الرحالة من الرجال ، فقد احتوى السِّفر الكبير على سيدات ممن رحلن إلى الحج وسجلت رحلاتهن، ومنهن:
    الأميرة ـ الوالدة ـ 728 هجرية (1338م)، وهي الأميرة مريم حظية السلطان أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق رأس دولة بني مرين "كان السلطان يرغب في إرسال والدته للحج فلما توفيت أرسلها لكونها في منزلة والدته، فقد كانت مربيته فعلا ً، ومما زاد في أهمية الرحلة أن الأميرة كانت تحمل معها هدية فريدة إلى المسجد النبوي لم يعرف التاريخ مثلها لملك من ملوك الإسلام، فقد نسخ العاهل المغربي السلطان أبوالحسن ابن أبي سعيد بيمينه نسخة من القرآن برسم الوقف الخالص للمسجد النبوي الشريف، وزود الركب بمبلغ كبير من الأموال لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفاً على الذين يقرؤون في المصحف عبر الدهور والعصور، ومنهن الأميرة مريم أخت السلطان أبي الحسن والتي حملت معها المصحف الثاني والذي كتبه السلطان بيده وأهداه إلى بيت المقدس، وقد تصفحه المؤلف خلال زيارته للقدس الشريف عام 1379 هجرية (1959م)، وكانت رحلة الأميرة عام 745 هجرية (1345م)، وحملت رسالة من أخيها إلى ملك مصر الملك الصالح أبي الفداء إسماعيل بن الملك الناصر، تضمنت رغبة ملك المغرب أن يدعو له الخطباء يوم الجمعة، وأن يُكتب لأهل الحرمين الشريفين كذلك.
    ومنهن الأميرة خناثة بنت بكار ـ المتوفاة عام 1155 هجرية ـ
    (1742م) زوجة السلطان المولى إسماعيل مؤسس الدولة العلوية، وكانت من العالمات اللائي أسهمن في حياة المغرب السياسية والفكرية، وقامت بحجتها التاريخية عام 1143 هجرية (1731م، وقام بتسجيل الرحلة الوزير أبو محمد عبد القادر الجيلاني الإسحاقي، والذي حرر للأميرة وبطلب منها فتوى بمكة المكرمة تجيز تملك العقار في البلد الحرام.
    ويصف حج الأميرة "وصلت ليلة السادس ـ من ذي الحجة ـ إلى مكة المشرفة بعد العشاء وعليها السكينة مرفرفة، وهي في جلالة عظيمة وسيادة فخيمة، في محفل من الأجناد، وجمع من الأجواد، ولهم زجل بالتلبية والأدعية، فطافت طواف القدوم وطلعت إلى دارها المكري المعلوم، ثم إنها طلعت إلى عرفات ولها دويّ بالتسبيح والتقديس، وكانت الوقفة يوم الخميس، ثم نزلت إلى منى فأقامت ثلاثة أيام وأكثرت من الهدي، وبذلت الشراب والطعام، ثم نفرت إلى مكة وجاءت بعمرة الإسلام، تكثر من الصدقات على الدوام، وبذلت بغير حصر، وأعطت عطاء من لا يخاف الفقر.
    ويصعب على القارئ ترك مجلديْ الكتاب ـ رحلة الرحلات ـ قبل أن يأتي على آخر صفحة فيهما، لما تضمناه من اختيار لأطرف القصص والمعلومات التي أوردها الرحالة في شتى المجالات، ولا شك أن تتبع وتلخيص أكثر من مئة رحلة بعضها في مئات الصفحات ما كان بالأمر الهين، لقد كان لزامًا عليّ أن أرحل إلى حيث أحقق رغبتي، فرحلت إلى ألمانيا الشرقية، وإلى لندن، وإلى مصر والإسكندرية، وإلى الجزائر، ولا أتحدث عن المغرب فقد أزعجت المشرفين على المخطــوطات سواء بالعاصمة الرباط أو سلا أو بفاس أو مراكش أو تطوان أو طنجة، ومع كل الأتعاب التي كنت أحسها، لكني مع ذلك كنت أشعر بالمزيد من المتعة وأنا أعيش مع المعلومة الجديدة أقرؤها ومع الخط الصعب أكتشفه.
    وما من قــارئ لهذا السفر الكبيــــر إلا ويشارك (أحمد زكي يماني) مؤسس ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي الرأي في تقديمه: "مهما تحدثتُ عن القيمة العلمية والتاريخية لهذا المؤلف الجليل فلن أوفيه حقه، ومهما توجهتُ إلى أستاذنا التازي بالشكر على صنيعه فلن أوفيه جزاءه، فذلك أمر نكله إلى رب البيت الحرام الذي قيّض لنا مثل هذا العالِم، فأضاف إلى الكثير من مؤلفاته وتحقيقاته هذا المؤلّف الذي تضعه ـ الفرقان ـ بين يدي الباحثين، ليكون درّة مضيئة بين أعمال أستاذنا التازي.
    ...........................
    *كاتب سعودي
    المرجع: رحلة الرحلات ـ مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة ـ تأليف الدكتور: عبد الهادي التازي ـ مراجعة الدكتور عباس صالح طاشكندي ـ الناشر: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ـ لندن عام 1426 هجرية 2005م.

    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  9. #93 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    أدب الرحلات
    "السندباد"
    مكتشف أمريكا!
    طايع الديب
    إذا كان "حب الاستطلاع" هو الذي أخرج آدم وحواء من الجنة، فإن لهذا النوع من التشوق الإنساني إلى المعرفة فضيلة واحدة –على الأقل- هي أنه كان السبب الأول وراء ظهور نوع فريد من الأدب العالمي يعتبر جسراً للتواصل الحضاري هو "أدب الرحلات"!
    وقديماً قال الرحالة العربي المعروف أبو الحسن المسعودي: "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما لديه من الأخبار كمن وهب عمره لقطع الأمصار، فاستخرج كل دقيق من معدنه واستجلى كل نفيس من مكمنه".
    ولهذا السبب كان أدب الرحلات حتى عهد قريب وقبل عصر الفضائيات والكمبيوتر والإنترنت، فرعاً مزدهراً من فروع الأدب ومصدراً مهماً من مصادر المعرفة الإنسانية يسجل طرائق حياة الشعوب وغرائب المجتمعات، حتى إن كتاب الصحفي الكبير أنيس منصور بعنوان "أغرب الرحلات في التاريخ" ظل –على ضخامته- يتصدر أعلى الكتب مبيعاً منذ صدوره عام 1982 وحتى عام 2002 أي على مدى 20 عاماً تقريباً.

    ولكن لماذا تراجع أدب الرحلات العربي في أيامنا الحالية، رغم أن العرب هم أول من ابتدع هذا الجنس الأدبي عبر رحلات الإدريسي والمسعودي وابن بطوطة وغيرهم من الرحالة العرب العظام، الذين جابوا مشارق الأرض ومغاربها وقدموا للمكتبة العربية كتابات أصبحت بمثابة مراجع في مضمارها.. ولماذا لم يعد هناك "أدباء رحالة" مثل أنيس منصور ود. حسين فوزي في عصرنا الراهن؟ أسئلة عديدة سنحاول الإجابة عليها في السطور التالية.
    المعقول واللامعقول
    يقول د. صلاح الدين الشامي أستاذ الجغرافيا بجامعة صنعاء إن أدب الرحلات العربي ازدهر قديماً على أيدي الجغرافيين والمستكشفين الذين اهتموا بتسجيل كل ما وقعت عليه عيونهم أو وصل إلى آذانهم، حتى لو كان خارج نطاق المعقول ويدخل في باب الخرافة، ولكن الرحلة سواء في البر أو البحر ظلت –على الدوام- هي العين المبصرة التي قادت الاجتهاد الجغرافي على مر العصور.

    ويعترف الأكاديمي الفرنسي جان ماري كاريه في بحث يعتبره الكثيرون البحث العماد لأدب الرحلات، بأن العرب كانوا سباقين في هذا الفرع من فروع الأدب، وأن اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي، جعل للعرب الفضل الأول في نشأة أدب الرحلة بالمعنى الذي تعارف عليه الغرب –فيما بعد- عبر كتابات ورحلات ماركو بولو ودانيال ديفو ولورانس ستيرن وسواهم، كما أن شخصية "السندباد العربي" المتخيلة هي التي ألهمت كبار الرحالة الأوربيين في عصر النهضة ومنهم فاسكو دى جاما وماجلان وكولمبوس، ويقال إن هذا الأخير كان مغرماً "بالسندباد" وابن ماجد الرحالة العربي العماني الشهير الذي قاد الأوربيين إلى الشرق الأقصى.
    البشر.. بشر
    أما الناقد د. مجدي وهبة فيرى في دراسته حول "أدب الرحلات بين الشرق والغرب" أن هذا الأدب هو أحد الفنون المكتوبة التي تترك لمؤلفها قسطاً كبيراً من الحرية في اختيار الشكل والمضمون، ففيه شيء من السيرة الذاتية، وشيء من فن القص، وشيء من تيار الوعي والشعور المسترسل والذي لا يخضع لقاعدة سوى وحي الساعة وتداعي المعاني.

    والحقيقة أن المرونة النسبية في هذا الفن لا تعني أنه لا يخضع لأي معيار أو قاعدة نقدية، فملاحظات الرحالة لابد أن ترمي إلى دلالات معينة في نفوس القراء إذا أرادت أن ترتقي إلى مرتبة الأدب، فليس كل من يسجل "انطباعاته" عن رحلة ما أديباً!
    ومع أنه من المسلم به أن الحبكة القصصية ليست من ضرورات أدب الرحلات، لأن الرحلة الأدبية غالباً ما تسير في خط مستقيم، إلا أن عنصر التشويق دعامة أساسية من دعامات نجاح هذا اللون من الأدب، وأهم عناصر الجذب والتشويق في هذا الصدد هو رصد الغريب والمثير في مكان الرحلة، سواء العادات والتقاليد أو الحكايات الخرافية أو غرائب الأشياء، ومن هذا المنطلق كان المشرق العربي مقصداً للرحالة والأدباء والباحثين عن المغامرة، وظلت كتب الرحلات إلى الشرق هي الأكثر إمتاعاً للقارئ الأوروبي منذ مئات السنين، إلى حد أن بعضهم وصف هذه الرحلات بأنها "الوجه المبتسم للاستعمار".
    ولكن المتعة الحقيقية في تقدير د. مجدي وهبه لأدب الرحلات هي كشف "بشرية البشر" في كل زمان ومكان، عن طريق التعرض لعادات الناس وتصرفاتهم أينما كانوا، فكلنا - في عرف الأديب الرحالة - لآدم، وآدم من تراب، وإذا كان حب المغامرة والاستطلاع هو الدافع الأول، فإن الهدف الأخير هو الاقتناع بأن البشر.. بشر!
    رحلة الأميرة فاطمة
    ومن جانبها تقول الناقدة الإماراتية د. فاطمة الصائغ: إن أدب الرحلات من الآداب الراقية التي تعكس الأوضاع الثقافية والفكرية السائدة في المجتمعات الإنسانية، وليس الوضع المجتمعي للأفراد فحسب ولكن أنجح كتب الرحلات هي التي يصف مؤلفها بلاداً وشعوباً قلما تتاح للقارئ الفرصة لزيارتها أو التجوال فيها، لذلك كانت الكتب التي تتناول المشرق العربي هي الأكثر رواجاً، ومنها رحلات جيرار دى نرفال وهيرمان هيسه وغيرهم من ألمع كتاب وأدباء العالم في مطلع القرن العشرين.

    وفى هذا الصدد يحكى أن الأديب الألماني الكبير هيرمان هيسه سئل ذات يوم عن السبب وراء رحلته إلى الشرق، فأجاب إجابة مبهمة مفادها أنه يرغب في "رؤية الأميرة فاطمة والظفر بحبها إن أمكن"!
    وما لا يعرفه الكثيرون أن هذه الأميرة "فاطمة" التي ظنها البعض أميرة متخيلة، ما هي إلا الأميرة فاطمة طوسون التي حاول الملك أن يوقعها في حبه عام 1942، وعرض عليها الزواج منه لكنها فضلت أن تتزوج رجلاً من عامة الشعب أحبته وهاجرت معه إلى البرازيل هرباً من الملك، والطريف أنه كتب عن هذه الرحلة كتاباً صغيراً يعد من أمتع كتب الرحلات على الإطلاق.
    رحلات "ابن عطوطة"!
    وأخيراً يقول الكاتب الصحفي الكبير محمود السعدني وهو صاحب العديد من الكتب التي تدخل في عداد أدب الرحلات ومنها "رحلات ابن عطوطة" و"الولد الشقي في المنفى" وغيرها: إذا كان المسرح "أبو الفنون" حقاً فإن أدب الرحلات هو "أبو الآداب" ذلك أن في الأسفار –كما يقولون- سبع فوائد، مع العلم أن جيلنا كله من المثقفين نكتب عليه "لعط" في البلاد وداخ فيها دوخة الأرملة فكان لابد أن يكون العبد لله "ابن عطوطة"!

    ورحم الله عمنا الكبير ابن بطوطة الذي كان دقيق الملاحظة شديد الاهتمام بالناس، شديد الشوق للبلاد والعباد، وعندما بدأ ابن بطوطة رحلته الميمونة على صهوة بغل، كان الوطن العربي يسترخي في هدوء والحدود سداح مداح والبساط أحمدي، وكان أمير المؤمنين يعطس في القاهرة فيقول له من في الدار البيضاء "يرحمكم الله" فلا جمارك ولا مكوس ولا حدود و.. لا يحزنون!
    وماذا عن أدب الرحلات العربي في عصرنا الراهن؟

    - في زمن العبد لله لا حول ولا قوة إلا بالله، الجمارك في كل مكان من بلاد العرب لا تنقض إلا على العربي، ولا تفتش إلا من يبدو من سحنته أنه من نسل عدنان أو قحطان، ورجل الشرطة في بلاد العرب الجديدة لا يقتفي إلا أثر الأعراب "الأغراب"!
    ولهذا تدهور أدب الرحلات العربي تدهوراً لا مثيل له، ولم يعد في مقدور الكاتب أن يزور بلداً عربياً شقيقاً إلا ويخضع للمساءلة أو المراقبة على أقل تقدير، ناهيك عن أن زيارة الكاتب العربي لأي بلد أجنبي في أوربا أو أمريكا معناه أن يتهموه مسبقاً "بالإرهاب" والكباب في هذا الزمن الهباب!

    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  10. #94 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36

    رد مع اقتباس  
     

  11. #95 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36

    أحمد محمّد محمود*
    أورد ( خير الدين الزركلي ) في موسوعته "الأعلام" عن الرحـــالة ما يلي: محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي، وزير، رحالة، من الكتاب البلغاء من أهل مكناسة، استخدمه السلطان سيدي محمد بن عبد الله في بعض الأعمال، ثم استوزره وانتدبه لكثير من المهمات وعقد المعاهدات، وكان سفيره في إسبانيا، ومالطة، ونابولي، والآستانة، وإلى إمبراطور النمسا، توفي بمراكش، من كتبه: الإكسير، البدر السافر، رحلة إلى مالطة، وهذه الرحلة التي أطلق عليها (إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والرسول الحبيب)، توفي عام 1213هـ - 1798م.
    حقق رحلته وقدم لها بدراسة قيمة ضافية "محمد بوكبوط" ووصف الرحالة الذي انتهت رحلته في آخر يوم من شعبان عام 1202هـ "بأنه من عيار كبار رجال الدولة الذين ساهموا بفعالية في صنع أحداث النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي" ووصف الرحلة "بأنها تقدم مشاهدات على طول طريق الحج العثماني، بحيث ينفرد الرحالة بذلك، نظراً لكون جل الرحلات المغربية إلى الحج، كانت تسلك عبر طريق مصر الذي ظل ركب الحج المغربي يتخذها، كما تساهم الرحلة في تصحيح كثير من المقولات التي علقت بتاريخ العثمانيين، من جراء الاعتماد شبه المطلق على كتابات وتقارير الأوروبيين، وبالإضافة إلى ما يراه من إحاطتها بوصف دقيق لطريق الحج، أتى الرحالة على مواضيع ثقافية وإسلامية ومعلومات واسعة، فكانت رحلته: حجازية، سياحية، اكتشافية، سفارية، زيارية، علمية."
    ولما لهذه الرحلة من قيمة علمية، وتاريخية وأدبية، ودبلوماسية، نستعرضها في عددين - إن شاء الله -، ونبدأ بمنطلق الرحلة حتى انتهاء زيارته الدبلوماسية لعاصمة الدولة العثمانية ومشاهداته فيها وملاحظاته عليها، ووصوله إلى دمشق في طريقه لأداء الحج.
    ويقدم الرحالة المكناسي لكتابه بالحديث عن فوائد الرحلة والاغتراب، "فإن التنقل في البلاد والتأمل في مخــلوقات الله من العباد، تذكرة للقلوب، وتبصرة على أن الاغتراب وحده يحدث في القلب خشوعاً، وإلى الله رجوعاً، وعن غيره نزوعاً، ولو لم يكن في الاغتراب إلا هذه الفائدة لكفاه فضلاً، وأحـــــرز في السبق إلى الفضل خصل."
    وجاء الرحالة على مناسبة تعيينه في مهمة دبلوماسية إلى القسطنطينية العظمى "حتى نتلاقى مع سلطانها "السلطان عبد الحميد خان" 1725 ـ 1789م، ومن هناك نستعد للسرى إلى أم القرى، لقضاء مناسك الحج، ونفرق هديته على أهل الحرمين الشريفين، وأن نرسم له ما تتفق رؤيته في هذا السفر، في البدو والحضر."
    انطلاق الرحلة
    بدأ الرحالة أول عام 1200هـ - 1785م، منطلقاً من الرباط، إلى تطوان، ومنها تعذر سفره بحراً بسبب اضطراب البحر في فصل الشتاء، فأمضى أربعة أشهر ونصف في انتظار الفرصة المواتية للإبحار، وبقي في تطوان "لا نستطيع من كثرة الأمطار والطين خروجاً" ثم توجه إلى طنجة، ومنها عشية ثاني رجب من عام السفر، "ركبنا البحر في مركب بعثه عظيم الإصبنيول، ملك إسبانيا كارلوس الثالث<، فتوجه إلى قرطاجنة الإسبانية فوصلها في ثلاثة أيام، ومنها أبحر في مركب كبير "فبقينا نتردد في البحر لأن الريح غير مواتية شهراً ويومين، حتى تغير الماء وتأذى الناس من شربه فوصل إلى (سرقوزه) على الطرف الجنوبي الشرقي لجزيرة صقلية، ومن هذه المدينة كان دخول المسلمين على عهد بني أمية حتى تملكوها وبقيت تحت حكمهم نحواً من 300 سنة."
    وقد فرح سكان صقلية بدخول المركب وطلبوا من ركابه النزول في الجزيرة، "ولما رأوا امتناعنا جاؤوا ذات ليلة إلى المركب بقضهم وقضيضهم، ومعهم المنشدون، واستعد قبطان السفينة بتزيينها، بما يناسب عوائدهم، وبعد غروب الشمس أتى أهل البلد، وبدأ حفل السمر متبوعاً بتوزيع الحلويات، ثم شرعوا في الغناء."
    وفي رابع رمضان، غادر المركب صقلية، وكانت الريح مواتية، فوصلوا إلى جزائر بحر إيجة والتي سماها الرحالة "جزر بر الترك" "وتحرك علينا ريح غير موافق، وبقينا نساعفه باستعمال السير أمامه يميناً وشمالاً، إلى أن قربنا إلى بغاز (البوسفور- القسطنطينية)، وفي هذه النواحي توفي عضو من أعضاء الرحلة، وكان البر بعيداً، فألقيناه في البحر، رحمة الله عليه<، ووصف الرحالة عادات المراكب البحرية إذا أرادت دخول الموانيء العثمانية: "يخرج المركب مدفعاً إعلاماً به ويتمادى في سيره، فتخرج سلطات الميناء مدافع كثيرة يباعدونها عنه حتى لا تصيبه، إظهاراً للقوة" ، فوصل إلى ميناء القسطنطينية رابع شوال من عام السفر، فأرسلت السلطات زوارق تسأل قبطانه عن خبره - كما هي العادة - "ولما علم السلطان بخبر السفارة والسفير بعث إلينا ونحن في المركب على سبيل الإهداء والإكرام، أواني كثيرة من الزجاج، مملوءة بأنواع الحلوى والتحف الكاملة الظرف، مع فواكه الموسم، ومن الغد أتى أعيان الدولة بزوارق فركبناها وتوجهنا إلى العاصمة."
    وقد أنزل رجال التشريفات الوفد المغربي في دار كبيرة وواسعة، فخيمة الفرش تطل على البحر في منظر عجيب، "وأقمنا خمسة أيام بعد نزولنا، واستدعانا الوزير "الصدر الأعظم" يوسف باشا خوجا إلى ملاقاته، فمن عاداتهم ذلك، وسرنا في موكب فخم، يضم جماعة من الأعيان، فركبنا الخيول وتقدمت خيلهم أمامنا ورجالهم حافون بنا، ومررنا بطرقات المدينة حتى وصلنا دار الوزير المعدة لجلوسه، واستفهم منا الوزير عن حال السفر والتعب وما يناسب المقام، ثم أُتي بالقهوة فشربنا وتلك عندهم عادة لازمة، ثم البخور والطيب، وبعد أن كسانا بقفاطين، وقدم للوزير رسالة سلطان المغرب للسلطان العثماني على ما جرت به عوائدهم، ترجمت إلى التركية قبل تقديمها للسلطان، ثم طلب إلينا التوجه إلى مكتب (الكاهية) ففعل معنا مثل ما فعل الوزير، ثم توجهوا بنا إلى "الدفتردار" الذي بيده أموال السلطان، فأكرمنا على نحو سابقيْه."
    مع السلطان العثماني
    وفي يوم 72 من شهر الوصول، حدد الصدر الأعظم للسفير ورفاقه موعداً لملاقاة السلطان العثماني وتحركت البعثة الدبلوماسية من مكان نزولها قبل الفجر "فقدموا لنا خيلاً مكلفة السروج، فركبناها وتقدمت خيلهم موكبنا وحفت رجالهم بنا، وانتهينا إلى مسجد صلينا فيه الفجر، ثم توجهوا بنا إلى ممر قبالة دار الوزير وأوقفونا صفاً، وانضممنا إلى موكب الوزير عند تحركه بعد طلوع الشمس حتى وصلنا باب دار السلطان فنزلنا، وجلسنا على مساطب مهيأة للراحة، فأخذونا إلى حيث يجلس الوزير فأجلسونا إلى يساره، وشاهدنا جانباً من أسلوب إدارة الدولة حيث تعرض على الوزير القضايا والشكاوى فيرد عليها، ونودي على كل من له شكاية أن يتقدم، والسلطان يراقب ذلك من نافذة مجاورة، وبعد انتهاء النظر في القضايا، أُحضر الطعام، فأخذوا في وضع أواني الطعام، إناء في إثر إناء، فنصيب من كل إناء أكلة ويُرفع، ثم قمنا إلى مكان جلوسنا، فطافوا علينا بأباريق الماء والصابون لغسل الأيدي، ثم بالطيب والبخور، ثم توجهوا بنا إلى موضع آخر، وخلعوا على جميع من حضر، فلبسنا الخلع، ثم أخذونا إلى مكان تمهيداً لملاقاة السلطان العثماني."
    ويصف الرحالة مراسم استقبال السلطان له ولمرافقيه: "ووجدنا أقواماً معينين للدخول معنا على السلطان، فأمسك بثوب كل واحد منا رجلان منهم عن يمين وشمال، فدخلنا عليه في قبة فوجدناه جالساً على مرتبة والوزير قائم عن يمينه، فشرح الوزير للسلطان وضعنا ومهمتنا، ومن أين أتينا، فقدّمتُ له هدايا سلطان المغرب، ووقفنا أمامه مقدار وقت قليل ثم خرجنا من عنده< وشرح الرحالة كيف أن استقبال السلطان العثماني لهم بهذه السرعة، وبالبروتكول الاحتفالي الذي شاهده "لم يتفق لأحد من قبل، كما أخبرنا بذلك أهل الديوان، وإنما يقابل السلطان البعثات والوفود في مناسبات الأعياد، أو عرض العسكر لقبض الراتب."
    ويعطي الرحالة (المكناسي) نبذة عن سيرة السلطان العثماني، وموجزاً لتاريخ الدولة العثمانية، ووصفاً للعاصمة "القسطنطينية": "وما رأيت ما يؤدي وصفها ومعناها وما اشتمل عليه أقصاها وأدناها، إلا ما أجابني به بعض أحبار النصارى ممن استوطنوها، يقال إنها مدينة هذه الدنيا، ففيها من الأمور الدنيوية ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فلا يمكن أن تسأل عن شيء غريب إلا تجد له سوقاً، حتى الحشرات لها سوق يرتاده أهل الطب."
    "فهي محشر الأمم، ومحط الرحال، وبحر العمران، وغاية القصاد والمورد العذب للوراد، إلا أن بردها عاصف، وقرها لا يصفه واصف، ولا يرده دثار، ولا موقد نار، فهي إناء للثلج المصبوب، فتنبو عن المضاجع من قرها الجُنوب."
    وكفاها فخراً أن ضمت قبر الصحابي (أبي أيوب الأنصاري)، وكونها موطن جهاد وقراع للعدو وجلاد، وما بهــا من الخيرات تفصــــيلاً فشيء لا تفي به عبارة، ومن أغرب الغرائب ثبات أسعار الحاجيات فيها على كثرة سكانها، وترسو في مينائها من السفن في وقت واحد 80,000، والسفن ترد إليها كأنها القوافل.
    ويعطي وصفاً لأعظم مساجدها، وفي مقدمة ذلك أيا صوفيا، ومسجد السلطان أحمد، ومسجد السليمانية، الذي بناه السلطان سليمان القانوني- 1520 - 1566م، ومسجد العثمانية، ومسجد السلطان محمد الفاتح، وبه 16 مدرسة يتلقى طلابها جراية شهرية، ويصف مكتباتها- التي لا يوجد مثلها في سائر البلاد-"ويســـهر على أمــــــن الـمدينـــة 40,000 شخص يتناوبون الحراسة ليلاً ونهاراً وهي مشحونة بالسلع والأمتعة ولا يضيع منها شيء، ولا تجد فيها على كبرها جلبة ولا غوغاء، ويعاقب من يقوم بشيء من ذلك."
    ويصف الرحالة حفل زفاف أميرة عثمانية، وما فيه من الفخامة والبذخ، ويأخذ عليهم بعض الممارسات "ومنها أنهم في الاحتفالات إذا أكلوا وشربوا وتطيبوا كسروا الأواني جميع."
    وبعد أن أدى السفير ـ المكناسي ـ مهمته في بلاط السلطان العثماني، جاء وقت سفره من العاصمة التي أعجبته كثيراً: "وفي يوم الثاني والعشرين من الشهر استدعانا الوزير بقصد الملاقاة والوداع، وتم ترتيب موكب على نحو موكب الاستقبال يوم وصولنا، وفي مجلس الوزير تدارس مع السفير المغربي علاقات الدولة العثمانية بأوروبا، ثم خلع الوزير خِِلعاً على المكناسي ورفاقه "وكان السلطان العثماني قد عين الخيام والبهائم لحمل أثاثنا وأثقالنا والمحامل لركوبنا، فتأهبنا للسفر، وقطعنا البحر إلى البر الآخر يوم الجمعة 23 من رجب، مبتدئين الرحلة إلى الحجاز عبر طريق الحج العثماني."
    الرحلة إلى الحجاز
    ويحــــدد المكناسي خمس مراحل بين القســـطنطينية والشام، يقطعها ركب الحجيــــج العثماني، بحيث يستريح بعد نهاية كل مرحلة، ويريــــح الدواب، ويســــتكمل الركب تأمــــين وشــــراء وكراء ما يحــــتاج من مـــؤن لبقية مراحل الرحلة.
    وكان منطلق الرحلة بعد عبور البوسفور من أسكدار، مروراً على التوالي بـ: قرطل، كبزة، ديل سقال سي، خارسك كوي، "ثم رحلنا فســــرنا بين جبــــال يتخللها وادي يقال له "كاور كو" أي قرية الكفــــار، وتمادينا في المسير في الوادي يعترضنا في دورانه بينها، فقد عبرناه نحو 12 مرة حتى وصلنا للقرية السابقة، وأهلها كلهم نصارى تحت رعـاية السلطان عبد الحميد، وعليـــها بساتين كثيرة وجلها شجر التوت الذي يعلف بورقه دود الحرير، ومنها وصلنا إلى "جنزنك" أي مدينة الرخام، ولها سور من أعظم الأسوار وأمنعها وأعظمها حجارة إلا أن به خراباً، ومنها إلى "لفك" التي أخذت اســـمها من نهر تقع عليه، ومنها إلى "خان الوزير" الذي ابتـــناه ســنان باشا بقصد أن ينزل به ركب الحجاج زمن الشتاء والثلج والوحل."
    "ومنذ أن غادرنا العاصمة ونحن نمر ببلاد ليست سهلة ولا صعبة بل هي وسط بين ذلك، ماؤها كثير، وأثرها كبير، وظلها من كثرة الأغصان ظليل، ونسيمها عليل، ولا تمر بساقية فضلاً عن واد إلا على قنطرة، ولا بمكان ذي وحل إلا على جسر بحجارة مرصفة منصوبة."
    ومنها إلى مدينة السكوت، فمدينة أسكي شهر، وهنا تنتهي المرحلة الأولي من مراحل قوافل الحج، "فأقمنا بها يومين، بقصد الاستراحة وإراحة الدواب، وفيها يأتي في العادة جميع الخدمَة من سقائين وطباخين وفراشين وأصحاب المحامل ودواب الحمل وغير ذلك يطلبون من مخدوميهم إكراماً زيادة على الأجرة المعلومة، وصار ذلك عادة لازمة ويسمون ذلك "البقشيش" بلغتهم، وبها حمام مبني على ماء يخرج من الأرض في غاية الحرارة، وجعلوا له حوضاً كبيراً عمقه أقل من القامة فهو مثل المغطس يصب فيه الماء ويخرج منه، والناس يغتسلون فيه، وعليه من يخدم الزبائن مقابل أجر يعطى على الفوطة، وقد اغتسلت فيه ولم أستطع المكوث فيه كثيراً لحرارة الماء."
    ومنها مر الرحالة على "سيدي الغازي" وهي مؤسسة على ربوة من الأرض أسفلها نهر عذب وعليه كان نزولنا، وهي شديدة البرد كالبلاد التي مررنا عليها من قبل، وبعد عدة قرى في الطريق مررنا على "بياض كوي" فوجدناها خالية من أهلها، لأن أهلها يرحلون في طلب الكلأ لماشيتهم، لأن بلادهم باردة، وربيعهم متأخر.
    وبعد قرى بلودم، تاي ـ سقلي، "سافرنا في بلاد منفسحة وفجاج ومياه وطيور وأزهار على أنواع متعددة، ما رأيت مثل هذه الأرض مياهاً عذبة، حتى وصلنا "أق شهر" ويقول أهل البلد إنها مدينة "جحا" صاحب الحكايات المعروفة، وأرونا قبره، ومررنا على "اللاذق شمال قونية" وأهلها يصنعون الزرابي الكثيرة، وجاء أهلها إلينا يعرضون بيعها، ومنها إلى "قنية" الشهيرة بين عمورية وأنطاكية، وقبل وصولنا إليها مررنا بفجاج وصحارى كثيرة الغبار والعجاج قليلة النبات، وقُنية هي بداية المرحلة الثانية من مراحل قافلة الحج العثمانية إلى الشام، وأقمــنا فيــها يومين للراحة، وفيـها شــــيخ من عــــادة العثــمانيين أن يذهب للســلطان الجديد ليبايعه ويأخذ عليه العهد في أن يسير بالمسلمين بالعدل، ويقلــــده الســــيف علامة على تمام البيعة والانقياد لحكمه وأمره ونهـيه، وبعده يبايع السلطان الجديد الأعيان والناس."
    ومر الرحالة في المرحلة الثالثة من مراحل الطريق بقرى منها "قربنار" "لم يستقر لنا فيها مقــام ولا اســــــتراحة ولا منام، لرياحها الشديدة وعجاجها، وتصنع في هذه القرية الجوارب التي تجعل في الأرجل من الصوف ومنها تصدر للبلاد."
    ووصـــلنا لقرية "كُجُك شام" وهي ذات بســـاتين وأزهار وجداول وأنهار وأغصان وأطيار، والجداول تتلوى في القــــرية كالثعبان، ومعنى اسمها بالتركية "الشــــام الصغير" لكثرة مياهها وأنهارها.
    "ووصلنا إلى قرية "ألن قشلة" وبها خان "فندق" عظيم ومسجد شيد بقصد نزول الحجاج إذا صادفوا فصل الشتاء لشدة البرد، وكان بردها شديداً عندما مررنا بها في شهر مايو، ومنها إلى "الصندقلي" وفيها نزلنا من المحامل وركبنا الخيل لصعوبة أرضها، وكان بردها شديداً وبها رعود، ونزلت صاعقة قتلت واحداً من مرافقينا، فدفناه في مكانه، ولم يصب بجرح ولا كسر وإنما مات من قوة الصيحة."
    وسار موكب الحجاج في طريق صعبة وخطرة "فمررنا بطريق محفور في حاشية الجبل، والوادي أسفله، مع توالي صب البرد والأمطار حتى وصلنا إلى "أوابل" وفي هذا الطريق عدد من الفــــنادق يأوي إليها الحجاج والمسافرون إذا أعاقهم المطر والثلج، حتى وصــلنا إلى أدنة، وهي بداية المرحلة الرابعة من المراحل الخمس إلى الشام، بحيث يستريح فيها المسافرون ودوابهم، ويشترون ما يحتاجون للمرحلة التالية."
    "وأدنة" هذه فيها ما يدل على أنها كانت من أعظم المدن، ومن بديع ما رأيت بها القنطرة المقامة على نهرها، تتكون من 16 قوساً في غاية الكبر، بين كل قوسين منفذ للماء، ومن غريب ما رأيت بالوادي: بيوت كبار كلها من الخشب على متن الوادي مربوطة بسلاسل في القنطرة، وفي داخلها مطاحن للقمح تدور بدواليب مربوطة فيها يديرها الماء، فإذا كثر الماء في موسم الأمطار وخشي عليها ترخى السلاسل ويؤتى بها إلى شاطئ الوادي، ومنها توجه موكب الحجاج إلى "المصيصة" قرب أنطاكية، "وهي كثيرة القطن ولأهلها اعتناء به فنزلنا بأرض يقال لها "قرطقراط" تلقّانا عند قنطرتها رجل ثائر في شرذمة من خيله، له شيء معين يأخذه من الركب كل سنة، ويمر مع الركب حتى يخرجه من بلاده في مسيرة يومين، وأكرمه كبير الركب وخلعوا عليه، وأخذ من الركب ما شاء من الخيام وما أشبه ذلك مقابل الخفارة في أرضه، وسار أمام القافلة حتى بلغ بها قلعته "بيّاس" وهي كثيرة البساتين إلا أنها مهدمة خربة، وبعدما خرجنا من أرضه مررنا بجماعات من أصحابه متفرقين يهنئون الركب بالسلامة ويقولون لهم: هاتوا حق السلامة، فيعطونهم."
    في الشام
    ومرّ موكب الحجاج بقرية الإسكندرونة، ويقال لها "مرسى حلب"، "وأهل الجبال التي مررنا بها لم تنلهم الأحكام، فقد تعرضوا للركب يأخذون منه لا على وجه الطلب، ولكن بالقوة، وربما يمدون يدهم إلى بعض البهائم الحاملة حتى يستنقذها أصحابها بما يطلبونه منهم، وإسكندرونة بنيت بين جبال وعرة ذات أنهار وعيون ثرة، طرقاتها في غاية الصعوبة، مررنا بها ليلاً بالمشاعل على خطر، وربما سقط بعض الإبل من بعض جرفاتها فما أمكن استنقاذها< ومر الركب بأنطاكية المشهورة "وهي مدينة كبيرة وأرضها أرض حراثة وفلاحة، على وادي العاصي، وقد جرى على لسان العامة خرافة أنه من النيل، ولا أصل لذلك، وهي اليوم ليست بالحال الذي يناسب شهرتها، فقد غيرها توالي القحط والوباء، وقد وجدنا بقيته، وصلناها في الصيف والزرع في سنبله لم يحصد لقلة الناس، فقد أبادهم الوباء، ودخلت حماماً بها فأخبرني واحد من عماله أنهم كانوا قبل ذلك 60 شخصاً، وهم اليوم اثنان فقط، وزاد من سوء حالها ظلم حكامها، الذين يأكلون اللحم ويمتشون العظم، جبر الله حال المسلمين."
    ويقال إن بها قبر الرجل الصالح "حبيب النجار" الذي وردت قصته في القرآن الكريم في سورة يس، وهي من وقفات الراحة في مراحل الطريق الخمس إلى الشام.
    ومع انطلاق الركب في المرحلة الأخيرة قبل الوصول إلى الشام، "مر ركب الحجاج بأرض الزنبق على وادي العاصي، ومنها إلى جسر الشغر، وبها بساتين كثيرة وزيتون، ومنها إلى قلعة المضيق وهي أقرب إلى أغادير بالمغرب قائمة على جبيل تحتها فندق كبير لنزول الحجاج، ومنها توجه الركب إلى "حماة" وهي مدينة كبيرة مؤسسة على نهر العاصي يشقها، وعليه دواليب كثيرة لاستخراج الماء في غاية الكبر، ويزرع بها القطن، وينسج على ألوان وأشكال، ولما حططنا الرحال بظاهرها، خرج أهل البلد بجميع الأشياء للبيع، والفواكه الموجودة في الوقت لاسيما المشمش الحموي فهو في غاية الحلاوة، وكذا الأردية والأُزر التي يحرم بها الحجاج فهي تشترى من هذه المدينة، فاشترينا منها كما فعل الناس<. ومنها توجه الركب إلى "حمص" وكانت فيما تقدم من الزمان "محفوفة بالمياه الجارية في السواقي، والغدران، فكأنها جزيرة في بحر، أو قلادة في نحر، فوجدنا فيها قبور المشاهير: سيف الله خالد بن الوليد، عبد الله بن عمر بن الخطاب - على حسب ما يزعم أهل حمص-، والصحيح أنه رضي الله عنه توفي ودفن بمكة، وكعب الأحبار من التابعين، وجعفر الطيار أخي الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وعكاشة بن محصن، والصحيح أنه استشهد في حروب الردة في اليمامة، وعمرو بن أمية الضمري، والصحيح أنه دفن بالمدينة، وسعد بن أبي وقاص، والصحيح أنه دفن بالبقيع بالمدينة، وأبو موسي الأشعري ويقال إنه دفن بالكوفة، ودحية الكلبي والراجح أنه مدفون في دمشق بقرية المزة، وعبد الله بن مسعود والصحيح أنه دفن بالمدينة، وغيرهم من الصحابة ممن يقال إنهم دفنوا في حمص."
    ويصـــف المكناسي مدينة حمص فيقول: لها سور من أعظم الأسوار، وأزقتها وأســــواقها مرصوفة بالحجــــارة من عمل الروم، ولها القلعة الحصينة، ويقال إن بها المصحف العثماني يخـــرجونه للناس يوم الجمعة، ولم نصـــادف بها جمـــعة حتي نراه.
    ومن حمص توجه الركب إلى دمشق "فنزل الركب خارجها، ثم تقدم إلى البلدة فوجدنا أهلها جميعاً خرجوا لملاقاة ركب الحجاج بالفرح والإجلال، والطبول والمزامير، والخيول في مهرجان عظيم، فأنزلونا داراً فيها مياه كثيرة في عدة مواضع، لكون أرض الشام من أكثر البلاد مياهاً، إذ يشقها سبعة أنهر، وأجروا علينا من المؤن والعلوفات ما هو فوق الكفاية في إكرام عظيم، ووجدنا فيها قبوراً للمشاهير مثل قبر نبي اللّه يحيى بن زكرياء، وتبركنا بمصحف الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، فقد أخرجه لنا القيّم من خزانته."، وبها قبر بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد بن عقيل بن أبي طالب، أسماء بنت أبي بكر الصديق، عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، أبو الدرداء عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي وزوجته أم الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، وأويس بن أويس الثقفي، محمد بن مالك الجياني النحوي صاحب الألفية، وغيرهم كثير.
    وينهي المكناسي رحلة ركب الحج من العاصمة العثمانية إلى الشام بوصف مقتضب لدمشق: هي مدينة عظيمة بما أضيف إليها، فعدد حماماتها نحو 60 ، ومناسج الحرير تزيد على 15000، عامرة الأسواق، قريبة من جبل قاسيون، كثيرة المياه والبساتين، وكلها على السقي.
    ----------------------------------
    * كاتب سعودي
    المرجع:
    1- رحلة المكناسي ـ إحراز المعلي والرقيب في حج بيت الله الحرام، حققها وقدم لها: محمد بوكبوط ـ الناشر: دار السويدي للنشر والتوزيع ـ أبو ظبي ـ الإمارات العربية المتحدة ـ والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت لبنان ـ ط أولى عام 3002 م.
    2- الأعلام ـ خير الدين الزركلي.



    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  12. #96 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    رحلة سلام الترجمان
    بحثا عن سد ذي القرنين
    أحمـــد محـمّد محمود*
    قال تعالى:{ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً. إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً} "الكهف: 83-98".
    اختلف المؤرخون والرواة والمفسرون في شأن ذي القرنين على أقوال عديدة يصعب الجمع بينها، كما يصعب القطع بصحتها كلها لتباعد تفسيراتها وتعليلاتها، ونقل ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) بعضاً من هذه الأقوال عن ذي القرنين: "قيل ملكاً من الملوك العادلين، وقيل نبياً وقيل رسولاً، وقيل إنه ملك فارس والروم، وقيل الإسكندر المقدوني، وقيل إنه كان من حمير وأمهرومية"، وقد خرج بعض المفسرين بمحاولة للجمع بين الروايات فقالوا "ملك صالح، نصح اللّه فأيده".
    نقل القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) عن ابن إسحاق "أنه أوتي ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضاً إلا سُلط على أهلها، قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مشرقاً ومغرباً حتى وصل إلى جرمها فمسه لأنها تدور مع السماء حول الأرض، ولكن المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهتي المشرق والمغرب".
    آراء متباينة
    ونقل ابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان): "أن الجبلين اللذين بنى عليهما السد هما: أرمينية وأذربيجان، وفيما ذو القرنين يسير إذ وجد أمة صالحة يهدون بالحــق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية ويحكمون بالعدل، ويتأسون ويتراحمون، حالهم واحدة وكلمتهم واحدة وأخلاقهم متشابهة، قلوبهم متآلفة، ســيرتهم حســـنة، قبـــورهم على أبــــوابهـــم، وليس لبيــــوتهم أبواب، وليــــس عليهم أمراء وليـــــس بينـهم قضــــاة، وليـــــس بينــهم أغنــياء، ولا مــلوك ولا أشــراف، لا يتفـاوتـــون ولا يتفاضلون، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يستبون ولا يقتتلون ولا يقحطون ولا يحردون ولا تصيبهم الآفات، وهم أطول الناس أعماراً، ليس فيهم مسكين ولا فقير ولا فظ ولا غليظ، وجدوا آباءهم يواسون فقراءهم ويرحمونهم.. إلخ".
    ونقل الفخر الرازي في تفسيره الكبير عن أبي الريحان الهروي: أن الســـد في ناحية الشمال، لا بين الصين ولا أذربيجان، ويـــــرى الحافظ ابن كثير في تاريخه: أن ذا القرنين بنى السد من الحديد والنحـــاس، وسـاوى بين الجبال الصــم الشــامخات الطوال، فلا يعرف بناء على وجه الأرض أجل منه، ولا أنفــع للخلق في دنياهم.
    ويرى الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) أن اليهود الذين كانوا منفردين بمعرفة أخبار أهل الكهف وذي القرنين والروح: أرادوا اختبار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فجعلوا مشركي قريش يسألونه صلى اللّه عليه وسلم عنها، فأذن اللّه لنبيه بأن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون الصلاح والعدل، وفي عجيب صنع اللّه تعالى في اختلاف أحوال الخلق، ولم يتجاوز القرآن ذكر ذي القرنين بغير ما اشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شـــؤون أهل القصص والتاريخ وليس من أغراض القرآن.
    وعرض المفسر الجليل الاختلاف بين المفسرين في تعيين من هو ذو القرنين :"اختلافاً تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وتاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللغوية، وهو اختلاف يتصل باختلاف القصاص الذين عنوا بأخبار الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق".
    ويستبعد ابن عاشور أن يكون هو الإســكندر المقـدوني، لأنه لم يكن ملكاً صالحاً، ويستبعد أن يكون الملك الفارسي أفريدون "والذي يظــهر لي أن ذا القرنين ملك من ملوك الصين هو تســـــين شـــي هـــوانق تي، لأسباب، منها أن أعظم الســدود موجود في الصين اليوم يفصــل بينها وبـــين المغول، وبـلاد الصـــين في عهد هذا الملك كانت تدين بالكونفوشـيسية فلا جــــرم أن كــان أهلـــها قـــومــاً صالحين".
    واقعة تاريخية
    نعود الآن إلى "سلام الترجمان" الذي اشتهرت رحلته إلى الأصقاع الشمالية من قارة آسيا بحثاً عن سد ذي القرنين، فقد اعتبر المستشرق "دي خويه"رحلته واقعة تاريخية لاشك فيها وأنها جديرة بالاهتمام، وأيده في هذا الرأي خبير ثقة في الجغرافيا التاريخية هو "توماشك"، وفي الآونة الأخيرة يرى عالم البيزنطيات "فاسيلييف "أن سلاماً نقل ما شاهده في رحلته للخليفة العباسي الذي أوفده لهذه المهمة، وبعد أن نقل المستشرق الروسي "كراتشكوفسكي" هذه الآراء مع آراء المشككين في الرحـــلة، قــال: ويـــــلوح لي أن رأي - فاسـيلييف - هذا لا يخلو من وجاهة رغماً من أن وصف الرحــــلة لا يمكن اعتباره رسالة جغرافية، بل مصنف أدبي يحفل بعناصر نقلية من جهة وانطباعات شخصية صيغت في قالب أدبي من جهة أخرى.


    وبدأت قصة الرحلة عندما رأى الخليفة العباسي الواثق باللّه (232- 722م) في المنام حلماً تراءى له فيه أن السد الذي بناه الإســـكندر ذو القـــرنين ليحــول دون تســــرب يأجـــوج ومأجوج، قــد انفتـــح، فـــــأفـــــزعه ذلك، فكلف ســلام التــرجمان بالقيام برحـــلة ليسـتكشف له مــكان سد ذي القرنين.
    ويروي لنا المسعودي في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، وابن خرداذيه في كتابه (المسالك والممالك) قصة هـــذه الرحلة على النحو التالي:
    "إن الواثق باللّه لما رأى في المنام أن السد الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج مفتوحاً، أحضر سلاماً الترجمان الذي كان يتكلم ثلاثــــين لســــاناً، وقال له: إذهب وانظر إلى هذا الســــد وجئني بخبره وحاله، وما هو عليه، ثم أمر له بأصحاب يســيرون معـــه وعــــددهم 60 رجلاً ووصله بخمسة آلاف دينار وأعطاه ديتـــه عشرة آلاف درهم، وأمر لكل واحد من أصحابه بخمسين ألف درهـــم ومؤونة ســــنة ومئة بغـــل تحمل الماء والــــزاد، وأمر للرجال باللبـــابيــد وهي أكســـية من صـــــوف وشعر.
    وحمل سلام رسالة من الخليفة إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية بتفليس، وكتب صاحب أرمينية توصية لهم إلى صاحب السرير، وذلك كتب لهم إلى صـاحب اللان، وهكذا إلى فيلا شاه وطرخان ملك الخزر، الذي وجه معهم خمسة أدلاء ساروا معهم 25 يوماً حتى انتهوا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة، "فسرنا فيها عشرة أيام، ثم وصلنا إلى مدن خراب فسرنا فيها عشرين يوماً وسألنا عن خبرها فقيل لنا هي المدن التي خربها يأجوج ومأجوج، ثم صرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذي في شعبة منه السد، وفي تلك الحصون قوم يتكلمون العربية والفارسية، مسلمون يقرؤون القرآن ولهم كتاتيب ومساجد، وبين كل حصن وآخر فرسخان، ثم صرنا إلى مدينة يقال لها (إيكة) لهـا أبواب من حديد وفيها مزارع وهي التي كان ينزلها ذو القرنين بعسكره، بينـها وبين الســـد مســـيرة ثلاثة أيام، ثم صرنا إلى جبل عال، عليه حصن، والسد الذي بناه ذو القرنين هو فج بين جبلين عرضه 200 ذراع، وهو الطريق الذي يخرجون منه، فيتفرقون في الأرض، فحفر أساسه 30 ذراعاً وبناه بالحديد والنحاس، ثم رفع عضادتين مما يلي الجبل من جنبتي الفج عرض كل منهما 25 ذراعاً في ســمك 50 ذراعاً، وكله بناء بلبن مغيّب في نحاس، وعلى العضادتين عتبة عليا من حديد طولها 120 ذراعاً، وفوقـــها بناء بذلك اللبن الحــــديد إلى رأس الجبل وارتفاعه مد البصر".
    "فيكون البناء فوق العتبة 60 ذراعاً وفوق ذلك شرف من حديد، في كل شرفة قرنتان تنثني كل واحدة على الأخرى، طول كل شرفة خمسة أذرع في أربعة، وعليه سبع وثلاثون شرفة، وباب من حديد بمصراعين معلقين عرض كل مصراع 50 ذراعاً في 75 ذراعاً في ثخن خمسة أذرع، وقائمتان في دوارة على قدر العتبة، لا يدخل من الباب ولا الجبل ريح، وعلى الباب قفــل طوله سبعة أذرع في غلظ باع في الاسـتدارة، والقفل لا يحتضنه رجلان وارتفاع القفل من الأرض 25 ذراعاً، وفوق القفل بخمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفــل، وقفــيزاه كل واحد ذراعان وعلى الغلق مفتاح معلق طوله ذراع ونصف، وله 21 سناً من الأســـنان واستدارة المفتاح 4 أشبار معلق في سلسلة ملحومة بالبـــاب طولها 8 أذرع في 4 أشـــبار، والحلقة التي فيــها الســلسلة مثــل المنجنيـق، وعتبة البـــاب عرضها 10 أذرع في بســـط مائة ذراع، ومـــع الباب حصـــنان يُكوِّن كل منهــما 200 ذراع.
    "وفي أحد الحصنين آلة البناء التي بني بها السد، من قدور الحديد ومغارف حديد، وهناك بقية من اللبن الذي التصق ببعضه بسبب الصدأ، ورئيس تلك الحصون يركب في كل يومي إثنين وخميس، وهم يتوارثون ذلك الباب كما يتوارث الخلفاء الخلافة، يقرع الباب قرعاً له دوي، والهدف منه أن يسمعه مَن وراء الباب فيعلموا أن هناك حفظة وأن الباب مازال سليماً، وعلى مصراع الباب الأيمن مكتوب {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً}، والجبل من الخارج ليــــس له مـــتن ولا ســـفح، ولا عليه نبات ولا حشيش ولا غير ذلك، وهــو جبل مســطح، متســع، قـائم أملس أبيض".
    وبعد تفقد سلام الترجمان للسد انصرف نحو خراسان ومنها إلى طبانوين، ومنها إلى سمرقند في ثمــــانية أشهر، ومنهــا إلى أســــبيشاب، وعبر نهر بلخ ثم صار إلى شروسنة فبخــــارى وترمذ ثـم إلى نيسابور، ومات من الرجال في الــــذهاب 22 رجـــلاً وفي العــودة 24 رجلاً.
    وورد نيسابور وبقي معه من الرجـــــال 14 ومن البــــغال 23 بغلاً، وعاد إلى (سر من رأى) فأخبر الخليفة بما شاهده، بعد رحـــلة استمرت 16 شهراً ذهاباً و12 شهراً في الإياب".
    ----------------------
    * كاتب سعودي
    المراجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــع:
    1-البداية والنهاية للحافظ ابن كثير، النــــاشر: مكتبة المعـــــارف بيـــروت ط2 عام 1977م.
    2- تاريخ الأدب الجغرافي العربي كراتشكوفسكي، الناشر: جامعة الدول العربية القاهرة.
    3-المسالك والممالك لابن خردا ذبه، الناشر: وزارة الثقافة السورية عام 1999م.
    4-الشريف الإدريسي ودور رحلته وجغرافيته للدكتور محمد مرسي الحريري، الناشر: دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1965م.

    د. أبو شامة المغربي

    رد مع اقتباس  
     

ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •