موسوعة مغربية عن الرحلات المكية
***
صدر حديثا باللغة العربية في لندن كتاب بعنوان "رحلة الرحلات ـ مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة" للكاتب المغربي عبد الهادي التازي.
يقول التازي في مقدمة الموسوعة: «إن الرحالين المغاربة مكنونا من معرفة التاريخ العلمي لمكة المكرمة بما تركوه من لوائح لعدد من العلماء والمشايخ الذين كانوا يعقدون لهم مجالس طوال اليوم حتى الليل على ضوء الشموع والمصابيح، وليس الرجال فقط، ولكن السيدات العالمات من أمثال الشيخة صباح المكية والشيخة كريمة المروزية التين كانتا حاضرتين في المجالس العلمية بالحرم الشريف.
وأولئك الرحالة مكنونا أيضا من معرفة الفئات الحاكمة والمتنفذة في المنطقة ممن عرفوا في التاريخ بأشراف الحجاز، بما عرف عنهم ـ أحيانا ـ من احتكاكات مع السلاطين، وكيف أن بعضهم التجأ إلى ملوك المغرب للاحتكام إليهم وأحيانا لبيعة رجاله، أملا في التخلص من هيمنة المماليك.
ومن بين هؤلاء الرحالين قوم ينتسبون إلى الغرب الإسلامي بما في ذلك بلاد الأندلس، وبلاد المغرب العربي الكبير، ومناطق جنوب الصحراء المغربية، بل كذلك من بين ما حرر عن الرحلات المغربية إلى مكة بأقلام غير إسلامية تمكن أصحابها من الدخول لمكة المكرمة متنكرين تحت أسماء إسلامية، فقدموا صورة عن تلك الديار من وجهة نظرهم».
ومن أشهر هؤلاء الرحالة أبو الحسن بن جبير الأندلسي الذي أصبح مرجعا لمعظم الحجاج المغاربة الذين كتبوا في الرحلة الحجازية، وبخاصة منهم الفقهاء والكتاب، من أمثال الرحالة الشهير ابن بطوطة.
وبات ابن جبير دليلا حول المعلومات التي قدمها عن البيت الحرام والطرق التي يسلكونها للوصول إلى مكة، وإذا كان ابن جبير، وابن بطوطة مرجعين في الفترة السابقة من التاريخ، فإن أبا سالم العياشي غدا بالنسبة للمغاربة مرجعا في الفترات اللاحقة.
ومن بين الأسماء التي وردت في المائة رحلة ورحلة موسوعة التازي، نذكر: الشريف الإدريسي، الرحالة والجغرافي المغربي الشهير صاحب كتاب «نزهة المشتاق»، ورحلة ابن العربي إلى مكة رغم إنها تعد مفقودة.
بيد أن ما نقلته عنها بعض أمهات الكتب يعطي فكرة عن أهمية المعلومات التي تضمنتها، وابن خلدون الذي كتب عن البلاد المقدسة بعبارات عميقة الدلالة، وتتبع آثار مكة منذ عهد آدم قبل أن يهدمها الطوفان بعد ذلك، وأسهم ابن خلدون في مناقشة الفقهاء في أمر الطواف بناء على تلك التغيرات في مساحة البيت الحرام.
ومع هذا يؤكد التازي أن ابن بطوطة لا يوجد مثله من كتب عن مكة المكرمة كما وكيفا، فقد ظلت مكة شاخصة في مذكراته عند كل منعرج من تحركاته في ارض الحجاز، ويكفي أن لديه أربع رحلات إلى مكة المكرمة، وسبع حجات، وأنه صام فيها ثلاثة رمضانات، وهذا ما لم يتيسر لغيره...
واعتبر التازي رحلته الأولى لمكة المكرمة سنة 1959م بمثابة حدث يجب ذكره، لأنها كانت تدشينا لعهد جديد في أدب الرحلات المغربية، فهي أول رحلة لحجاج مغاربة بالطائرة، أختار لها عنوان [التحليق إلى البيت العتيق].
ويتساءل التازي هنا: هل هذا النمط الجديد من رحلات الحج سيؤدي إلى انقراض أدب الرحلات البرية، وعن طريق البحر؟ والذي كان يستغرق أياما عديدة أو شهورا، بل أحيانا سنوات، إذ يقضي أصحابها فترة طويلة وهم يذرعون الأرض ويقاومون لجج البحار...
وأورد التازي في خاتمة الموسوعة فوائد ما كتب عن الرحلات المغربية إلى الحجاز، باعتبارها مصدرا ثريا لنوازل الحج في الفقه الإسلامي، إذ أن بعض تلك الرحلات تزخر بالفتاوى حول ما يمكن أن يحصل أثناء هذا التجمع الإسلامي الكبير، وقد ازدادت أهمية تلك الفتاوى كونها لا تنتمي إلى رأي معين، فهي بمثابة موسوعة فقهية جديرة بالاطلاع.
ومن الأمور اللافتة في موضوع النوازل ما كان له خصوصية مغربية، حيث اعتبرها المغاربة جنحا لا يمكن السكوت عليها، وعدها حجاج مشرقيون أمرا غير ذي بال، كتدخين التبغ، فقد كان الرحالة المغاربة لا يتصورون أن يقوم زميلهم الحاج بإشعال سيجارة، وعدوا ذلك أمرا غريبا، ومنكراً من المنكرات.
وأهمية انطباعات الرحالة المغاربة لا تقتصر على أمور الدين فحسب، بل تتعداه إلى نواح أخرى كثيرة، مثل حدث خسوف القمر أثناء أداء الفريضة، فقد أسهب الرحالة المغاربة في الكتابة عن هذا الحدث العلمي الفلكي، وكذلك اهتمامهم بضبط تواريخ الأوبئة التي كانت تفتك بالحجاج، والعملات التي تروج في أسواق مكة من شتى جهات العالم.
وأطلق الرحالة المغاربة العنان لأقلامهم للكتابة في مواضيع أخرى كالحياة في مدينة ينبع وما عليها من مظاهر الرفاهة والبذخ كميناء بحري تتعايش فيه سائر الشعوب والحضارات لدرجة أن أحد الحجاج المغاربة عبر عن وجهة نظره بقوله إن أسواق ينبع تتوفر حتى على «لبن النمل».
ويؤكد التازي أن كل تلك الفوائد التي اختزنتها الرحلة المغربية إلى الحجاز جعلتنا نتأسف اليوم على مستقبل أدب الرحلات، وخاصة الرحلات الحجازية، فقد اقترب العالم بعضه من بعض واختفت الرحلة عموما في التأليف العربي، وفي الأدب المغربي على الخصوص.
وأخيرا يرى التازي أن في عناوين رحلات المغاربة ما يعبر عن خصوصية الرحلة المغربية كالتي تركها ابن بطوطة عنوانها «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وبعضهم اختار «ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة إلى الحرمين: مكة وطيبة»، وهناك من أطلق على رحلته عنوان «أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب سيد الأعجام والأعارب».


*****
د. أبو شامة المغربي