(أدب الرحلة)





أدب الرحلة فن معروف في الآداب العالمية، له سماته وخصائصه المتميزة، وقد حفل التاريخ بأسماء الكثير من أعلام هذا الأدب ورواده، الذين قاموا برحلات متعددة، خارج ديارهم أوداخلها، وطافوا بأنحاء شتى من العالم، من أمثال الرحاليْن العربييْن: ابن بطوطة وابن جبير الأندلسي، ومن الغرب: كريستوفر كولمبس وماركو بولو، وغيرهم.




وللعلامة الإدريسي كتاب مشهور، يحمل عنوان: (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، وهو من أهم وأمتع كتب الرحلات، وفي عصرنا الحديث، نجد الأديب السعودي الكبير عبدالسلام هاشم حافظ، يقوم بعمل استفتاء في نهاية كتابه الذي يحمل عنوان (العذراء السجينة)(1) عن الوسائل التي يراها صفوة من رجال الفكر والأدب في المملكة، للنهوض بأدب بلاده، وتعريفه للعالم.


ويستهل الأستاذ الكبيرعبد الله بلخير الإجابة في هذا الاستفتاء، بقوله: ".. وهناك الرحلات والاحتكاك بالحضارات الشرقية والغربية، سواء منها الأدبية أو الفنية أو العلمية"

ولسنا في صدد الحديث بإفاضة عن أدب الرحلة اليوم، ولذا نقتصر على ذكر إسهام بعض كبار أدبائنا المعاصرين، بمؤلفات ضافية لهم في هذا الموضوع.. فللدكتور محمد حسين هيكل كتاباه: (ولدي)،
و(في منزل الوحي) وللمازني (رحلة الحجاز) وللدكتور زكي مبارك: (ذكريات بغداد) و(ذكريات باريس) وللدكتور حسين فوزي: (السندباد البحري)،وللدكتور عزام: (رحلات عبد الوهاب عزام).
هذا، وينفرد الأستاذ العقاد، برأيمخالف في (أدب الرحلة)، حيث يقول: «أعتقد أن ملكة الرحلة غالبة على الرحّالين، وغيرالرحالين، ولكنها تظهر في صور كثيرة، غير صورة الرحلة الخارجية، ومنها الرحلة إلى داخل النفس، أو في عالم الخيال.. والظاهر ــ لا.. بل المحقق ـ أنني أنا أحد الرحالين بغير انتقال.. ومع هذا، يحلو لي أن أقول: إنني طفت العالم من مكاني الذي لا أبرحه، لأنني رأيت من هذا المكان، مالا يراه الرحالة المتنقلون"
ولعل العقاد، في قوله هذا، يحاول أن يبرز إيثاره للعزلة والانفراد، مع أقلامه وأوراقه.. على القيام برحلات إلى العالم الخارجي، تكبّده مشقات ونفقات، هو في غنى عنها.. إلا أن من قرأ فحسب، ليسكمن قرأ ورأى وسمع، وانفعل.. ومزج كل شيء حوله، في شتى الأصقاع، بمشاعره، وتأملاته، وخواطره.. ومن هذا المنطلق، نحاول أن نلج إلى عالم الفريق يحيى بن عبدالله المعلمي رحمه الله، كتحية ووفاء له، وهو في أكرم جوار، وقد اخترنا كتابه: «رحلة علمية: ورحلات أخرى»(2)، الذي كان يعتز به كثيراً.


وبادىء ذي بدء، يلفتنا حرصه، في الصفحة الأولى من كتابه هذا، على إثبات أبيات الشاعر المشهورة، التي يقول فيها:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر، ففي الأسفارخمس فوائد:
تفرّج همّ واكتساب معيشة
وعلم وآداب، وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار همّ وكربة
وتشتيت شمل وارتكاب شدائد
فموت الفتى خير له من حياته
بدار هوان، بين واش وحاسد

ثميقول في مقدمة كتابه، ما يدلنا على مناسبة تأليفه له: «هذه مجموعة من المقالات، كنتقد نشرتها في جريدة (البلاد) السعودية
(3)، وكانت تتحدث عن رحلة علمية، قمت بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عندما ابتعثت للتخصص في إدارة الأمن العام، وحصلت على شهادة الماجستير». وواكب ذلك، لحسن حظ المعلمي، تفضل خادم الحرمين الشريفين (الملك فهد بن عبدالعزيز) ـ وكان يعمل وزيراً للداخلية في ذلك الحين ـ بالموافقة على الابتعاث إلى أمريكا، للتخصص في علوم الشرطة، لنهاية الشوط.. وآثر المعلمي أن يدخل الولايات المتحدة من غربها، فبدأ رحلته بالاتجاه إلى بيروت، ومنها إلى إيران، ثم باكستان، فالهند.


وتم له مشاهدة إحدى عجائب العالم السبع في الهند: (تاج محل)، الذي أنشأه الملك شاه جيهان، ليكون ضريحاً لزوجته، وقد وصفه وصفاً تفصيلياً لما شاهده، باعتبار أنه إعجاز معماري، يقوم شاهداً على عظمة الحضارة الإسلامية، وأدهشه في (تاج محل) جمال النقوش، وروعة الخط العربي ويستمر المعلمي في تقديم تصوير بديع، بلغة سلسة فكهة، عن: (الحلاقة في بانكوك) وعن مشاهداته في (تايبيه) (التي بدأوا رحلتهم منها في يوم السبت) وأخبرهم الطيّار أنهم سيصلون إلى (هونولولو) في يوم الجمعة.







وتفسير ذلك، أن قائد الطائرة أخبرهم أنه قد عبر بهم خط التاريخ الدولي، وأنهم عادوا مرة أخرى إلى يوم الجمعة، لأن الشمس لم تغب عن أمريكا، ومن ثم اخترقوا الزمن، عائدين إلى الخلف، وأنهم قد كسبوا 24 ساعة من حياتهم.


وحينما وصلوا إلى (لوس أنجلوس) ـ وهي من أكبر الموانىء في المحيط الهادىء، بل وفي العالم بأسره ـ بدأت رحلته إلى أمريكا.

ثم يصحبنا إلى «ديزني لاند» ومدينة السينما العالمية (هوليود) ولولا خشية الإطالة، لأثبتنا الوصف التفصيلي الممتع، الذي قدّمه لمشاهداته، وخاصةفي الفصل الذي حرّره عن (سان فرانسيسكو) إلى أن نصل معه، بخيالنا وتصورنا، إلى محطة الوصول الأولى لتحصيله العلمي في (شيكاغو).. وفي حديثه عن الغرفة التي استأجرها بها، ويغلب عليه المرح وخفة الظل، بما يذكّرنا بمصطفى أمين، في كتابه الرائع ( أمريكا الضاحكة)..





ثم يصطحبنا معه، إلى جولة على شاطىء بحيرة (متشجان)، حيث نشاهد معه، بعين الخيال، أسراباً من الحسان حولها، يستمتعن بدفء الشمس، على رمال الشاطىء، أو يتلاعبن على أمواج البحر، على حد تعبير المعلمي.


وأخيراً، انتظم في سلك الطلاب، وحقق نجاحاً باهراً، بعد إتقان اللغة الإنجليزية، وحصل على (الماجستير) التي أتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجلها.. ولهذا حديث شيّق يتعين إثباته، لفائدة من يمرون بمثل تجربته هذه، إذ يقول: «ومع أني أدعو إلى أن يتذرع الطالب بالهدوء، عند أداء الامتحان، وأن ينبذ شعور القلق، فإني لا أكتم القراء سراً، إذ أخبرهم بأنني قد شعرت بالقلق، وأنا أمثل بين يدي ثلاثة من كبار الخبراء فيعلوم الشرطة في العالم، لكي يناقشوا رسالتي للماجستير، التي كانت عن «تطور أجهزة الأمن»، ولكنني ـ بعد دقائق من بدء المناقشة ـ هدأ جأشي، وسكنت نفسي، وشعرت بالطمأنينة والسكينة، لأنني كنت، ولله الحمد، متمكناً من الموضوع الذي تحدثت عنه في الرسالة، ملماً بكل وقائعه وتفاصيله، حاضر الذهن للإجابة عن أي سؤال، وللاشتراك في أي حوار حول الموضوع».


وهكذا حصل على درجة الماجستير بامتياز، وبدأ يفكر في الحصول، بعد ذلك، على درجة الدكتوراه، وتقدم إلى الجامعة في واشنطن، بطلب قبوله للدراسة فيمنهج (الدكتوراه)، في مادة (الإدارة الحكومية أو العامة) وكم كانت دهشته وفرحته،عندما تلقى من الجامعة الأمريكية خطاباً بقبول طلبه.. وقد زكاه أساتذته، وأوصوا بقبوله، وأشادوا به.. إلا أن (المعلمي) تردد في الأمر: هل يواصل تعليمه أم يكتفي بما حصّل من علم.. ويستجيب لدواعي الشوق والحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء وعوّل على التريث، حتى يصل إلى القرارالحاسم في هذا الشأن، مؤثراً أن يستمتع بإجازة، لمدة ثلاثة أشهر، يجوب خلالها الولايات المتحدة الأمريكية، طولاً وعرضاً.. فإذا جاء موعد الدراسة للدكتوراه، يحزم أمره، بالالتحاق بالجامعة، أو العودة إلى أرض الوطن.


ثم آثراختصار المدة (الثلاثة شهور) والاكتفاء بالتجول في مدن أوروبا.. وركب أول طائرة متجهة إلى (لندن)، وما أن وصل إلى مطار (هيثرو) حتى قال لنفسه: لماذا أبقى في لندن، وقد زرتها من قبل، وعشت فيها فترة من الزمن.. » ومن ثم ركب تواً أول طائرة متجهة إلى ألمانيا، وما أن وصلت الطائرة إلى (فرانكفورت)، حتى قال لنفسه: إن (جنيف) أروع من (فرانكفورت) و(سويسرا) أجمل من (ألمانيا).. فلتكن إجازته في (جنيف)، التي قال فيها الشاعر الدكتور مختار الوكيل:

الله أكبر ياجنيف
فوق الجمال دم خفيف

وما أن استقل الطائرة، التي أوصلته إلى (جنيف)، حتى عاد يقول لنفسه: « ياشيخ فلتكن الرحلة القادمة الآن، إلى (جدة) حتى أشتري منها ما كنت أعتزم شراءه من أسواق أوروبا من هدايا.. ومن ثم، استقل أول طائرة متجهة إلى جدة، وشعر براحة نفسية غامرة، كما أخبرني فيما بعد، بعد أن وصل إلى أرض الوطن في جدة، وتساءل: هل لي أن أبقى في (جدة) وليس بيني وبين (الرياض) ـ التي كان يقيم فيها إقامة دائمة ـ إلا ساعة واحدة.. أرى بعدها الأهل والأصدقاء..
فحزم أمره، وشد رِحْله إلى الرياض، وهو يردد قول الشاعر:

فألقت عصاها، واستقر بها النوى
كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

ومن ثم لم تعد به رغبة في السفر مرة أخرى، ولا في مواصلة الدراسة، بعد أن شدته أرض الوطن، ولقيا الأحباب، والاندماج في غمار العمل.

********************************************
الهوامش


أحد فصول كتابي: «الفريق يحيى بن عبد الله المعلمي: رحلة حياة وإبداع» المعد تحت الطبع.


1
ــ طبع بالقاهرة سنة 1957م.
2
ــ طبعة دار المعلمي للنشر بالرياض، سنة 1412هـ الموافق 1992م.
3
ــ ونشر بعضها أيضاً بمجلة (أهلاً وسهلاً) التي تصدرها إدارة العلاقات العامة بالخطوط الجوية السعودية.
دراسة / أحمد مصطفى حافظ




من قراءات
(السندباد)