لاشك أن لكل أمة سجلاً تاريخياًحافلاً بشتى الدراسات، وبخاصة ما تعلق منها بعلوم اللغة، فقد استرعت الظاهرة اللغوية، صوتاً وتركيباً ودلالة انتباه واهتمام الإنسان، فالحضارة الهندية على سبيل المثال لا الحصر، بحثت في مجال الصوتيات اللغوية، منذ أربعة آلاف سنة على يد «بانيني»، واليونان استفادوا من بحوث الإغريق اللغوية التي قدمها أفلاطون و«أرسطو» و«المدرسة الرواقية»، ويظهر ذلك بخاصة في المجالين الدلالي والبلاغي، وأسهم العرب بقسط وافر في التغيير والتحويل الكبيرين في مسيرة التراث اللغوي العالمي، بما خلفوه من تراث لغوي ضخم، ضم كتب النحو، والتجويد، والصوتيات والبلاغة... إلخ، تناثر في تاريخ الحضارة العربية؛ ذلك أن العرب القدامى أرادوا تفسير الظاهرة اللسانية، مثلما فسروا الظواهر الإنسانية، والطبيعية؛ خدمة للنص القرآني.
وما تجب الإشارة إليه هو أن التطور الذي عرفه العرب، شمل بحوث اللسانيات الحديثة، فصار كثير من الأفكار اللسانية التي يدعو إليها علم اللسان الحديث، لا يقل أهمية عما تنبه إليه الأوائل من علمائنا الأجلاء، أمثال العلامة الجليل «الخليل بن أحمد الفراهيدي ت175هـ»، وتلميذه «سيبويه ت180هـ» في كتابه «الكتاب» الذي عدَّ قرآن النَّحو؛ لشموليته مختلف مستويات اللغة، وسعته المعرفية، واحتوائه مختلف الآراء الخليلية، في شتى نواحي المعرفة، حتى شبهت مكانة سيبويه من نحو العربية بمكانة بانيني في نحو الهندية القديمة ومكانة «دو سوسير- ت1913م» في اللسانيات المعاصرة. وأقام الجاحظ «ت255 هـ» في كتابيه «البيان والتبيين» و«الحيوان» نظرية لسانية وبلاغية، فكان لنظام المنازل الخمسة عنده الأثر الكبير في تشكل نظريته في الكلام، ففيها حدد موقفه من اللفظ والمعنى، معتبراً أن الألفاظ محدودة، يمكننا إحصاؤها وعدها، خلافا للمعاني التي لا نهاية لها، جاعلاً مدار العملية التبليغية على الفهم والإفهام الذي يبنى على دقة المعنى، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال ومقامات المتلقين.
وتناول «أبو الفتح عثمان بن جني- ت392هـ» في مؤلفاته العديدة- ذات الكنوز المعرفية الضخمة- كثيراً من الأفكار في حقل الدلالة وعلم أصوات العربية،وهنا كانت جهود المعغاربة أيضا في الرس اللساني بعتبارهم أخذوا ما درسوه عن علماء اللسانيات فحالوا تطبيقه على السان المغربي الخق، نذكر منهم الأستاذ: أحمد بوكوس الذي قام بدراسة اللسان الأمازيغي دراسة صوتية فقطع الأصوات وأثبت بعض القواعد التي سأقوم بنشرها لاحقا مترجمة إلى العربية() (على اعتباره قام بدراسة فرنسية)، وأيضا بسيط الذي وضع خريطة لسانية لمناطق المغرب...ولازالت الرسائل الجامعية تضاعف من هذه المجهوات الجبارة التي يقوم بها باحثونا الأجلاء في سبيل النهوض بالدرس اللساني المغربي، ونحن هنا نطالب كل باحث بتضعيف البحث في الأدب المغربي بمختلف إبدالاته حتى تتحقق الذات المغربية في معزل عن كل ذات،
وحتى تتحقق هذه الذات ، ويعاد لها الاعتبار ، يجب علينا الرجوع إلى أصالتنا التي هي فضيلة، مادمنا أمة إسلامية عربية، تحمل في صدرها هوية وقيماً سامية ، غرسها فينا خير البرية جمعاء ، نبي الرحمة «محمد عليه الصلاة وأزكى السلام»، وينبغي ألا نفرط في تراثنا، بل إن العودة إليه ضرورة من ضرورات المعاصرة حتى نقي أنفسنا من كل ريب أو شك، و نحافظ على قيمنا، فهو يبعث فينا نفسا جديدا ، و يسهم إحياؤه في تقوية هويتنا، ولذا ندعو إلى ضرورة قراءة تراثنا الذي لا ينضب معينه قراءة واعية، بمعزل عن الأحكام الانطباعية أو العاطفية، فالدراسات المغربية لها من الثراء والنضج ما يجعلنا نفتخر به أيَّما افتخار، وننهل منه، لطالما أن كثيراً من الأفكار العلمية التي أوردوها في مؤلفاتهم النفيسة تضاهي مثيلاتها في الدرس الحديث.( فاطمة عزابي)